عرفان شیعی

عرفان اسلامی در بستر تشیع

عرفان شیعی

عرفان اسلامی در بستر تشیع

الفقرة السابعة والثلاثون :


کتاب نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص الشیخ عبد الرحمن أحمد الجامی 898 هـ :

بسم الله الرحمن الرحیم

1. نقش فص حکمة إلهیة فی کلمة آدمیة

قال الشیخ ابن العربی الطائی الحاتمی : ( اعلم أن الأسماء الحسنى تطلب بذواتها وجود العالم.

فأوجد الله العالم جسداً مسوى . وجعل روحه آدم علیه السلام .

وأعنی بآدم وجود العالم الإنسانی وعلمه بالأسماء کلها .

فإن الروح هو مدبر البدن بما فیه من القوى . وکذلک الأسماء للإنسان الکامل بمنزلة القوى .

لهذا یقال فی العالم : " إنه الإنسان الکبیر " . ولکن بوجود الإنسان فیه .

وکان الإنسان مختصراً من الحضرة الإلهیة .

ولذلک خصه بالصورة فقال : " إن الله خلق آدم على صورته " وفی روایة : " على صورة الرحمن " .

وجعل الله العین المقصودة من العالم کالنفس الناطقة من الشخص الإنسانی .

ولهذا تخرب الدنیا بزواله وتنتقل العمارة إلى الآخرة من أجله .

فهو عبد الله ورب بالنسبة للعالم . ولذلک جعله خلیفة وابناءه خلفاء .

ولهذا ما ادعى أحد من العالم الربوبیة إلا الإنسان لما فیه من القوة .

وما أحکم أحد من العالم مقام العبودیة فی نفسها إلا الإنسان .

فعبد الحجارة والجمادات التی هی أنزل الموجودات .

فلا أعز من الإنسان بربوبیته . ولا أذل منه بعبودیته .

فإن فهمت فقد أبنت لک عن المقصود بالإنسان فانظر إلى عزته بالأسماء الحسنى وطلبها إیاه تعرف عزته . ومن ظهوره بها تعرف ذلته . فافهم .

ومن هنا تعلم أنه نسخة من الصورتین : الحق والعالم .)

1 - شرح نقش فص حکمة إلهیة فی کلمة آدمیة

"فص الشیء" خلاصته وزبدته.

و"فض الخاتم" ما بنزین به الخاتم ویکتب علیه اسم صاحبه.

وقال ابن السکیت، «کل ملتقى عظمین، فهو فص».

و«الحکمة» هی العلم بحقائق الأشیاء وأوصافها وأحکامها على ما هی علیه وبالأقوال والأفعال الإرادیة على وجه یقتضی سدادها.

و"الإلهیة" اسم مرتبة جامعة لمراتب الأسماء والصفات کلها.

فإن الفص کما أنه قد انطوى على قوسی حلقة الخاتم واشتمل على أحدیة جمعهما، وکما أنه یختم بما ینطبع فیه من الصور ویعرب عن کلیتها.

وکما أنه تابع لقالبه من الخاتم فی التربیع والتثلیث والتدویر وغیرها ومستتبع لما یرد علیه.

کذلک قلب الإنسان الکامل له الانطواء على قوسی الوجوب والإمکان والانطباق على أحدیة جمعهما؛ وله أن یعرب عما فیه من صور الحقائق وینبئ عن أحدیة جمعها.

وکذلک له صورة تابعة المزاج الشخص، کما أن له أن یستتبع تجلی الحق ویصوره بصورته ، على ما نص علیه الشیخ رضی الله عنه فی القص الشعیبی من فصوص الحکم.

وقوله : «فص حکمة إلهیة» بناء على أن أحدیة جمع الأشیاء زبدتها وخلاصتها ؛ أو على أن الفص - الذی هو ملتقى قوسی حلقة الخاتم أو ملتقى کل عظمین - بمنزلة أحدیة جمعهما.

فالحاصل أن خلاصة العلوم والمعارف المتعلقة بمرتبة الألوهیة، أو المحل القابل لها، أو أحدیة جمعها، متحققة فی کلمة آدمیة.

والمراد بـ "الکلمة" فی کل موضع من هذا الکتاب عین النبی المذکور فیه من حیث خصوصیته وحظه المتعین له ولأمته من الحق سبحانه.

وهی فی عرف التحقیق عبارة عن هیئة اجتماعیة حرفیة من حروف النفس الرحمانی.

قال رضی الله عنه : (اعلم أن الأسماء الإلهیة الحسنى تطلب بذواتها وجود العالم. فأوجد الله العالم جسدا مسوی وجعل روحه آدم ؛ وأعنی ب «آدم» وجود العالم الإنسانی .)

وفی کلام بعضهم : إن الحقائق العلمیة إن کانت معتبرة لا بأحوالها، سمی "حروفا غیبیة"، ومع أحوالها، «کلمات غیبیة» ؛ والحقائق الوجودیة إن کانت معتبرة لا بأحوالها، تسمى «حروف وجودیة » ، ومع أحوالها، «کلمات وجودیة».

(اعلم أن الأسماء الإلهیة الحسنی)، التی کلیاتها تسع وتسعون أو ألف وواحد؛ وأما جزئیاتها، فغیر محصورة، لأن الأسماء هی التعیینات الإلهیة فی حقائق الممکنات وهی غیر متناهیة لعدم تناهی الممکنات.

(تطلب) وتقتضی تلک الأسماء (بذواتها وجود العالم) روحا ومثالا وحا، لیکون مرائی لأنوارها المکنونة و مجالی لأسرارها المخزونة التی باعتبارها قال سبحانه ، کنت کنزا مخفیا» الحدیث .

وإنما أسند ذلک الطلب والاقتضاء إلى الأسماء .

التی هی الذات مقیدة بالصفات - لا إلى الذات نفسها، لأن الذات من حیث إطلاقها لا یضاف إلیها حکم، ولا تتعین بوصف ولا رسم.

لیس نسبة الاقتضاء إلیها أولى من نسبة الاقتضاء، لأن کل ذلک یقضی بالتعین والتقید ؛ ولا شک أن تعقل کل تعین یقضی بسبق اللاتعین علیه.

ثم اعلم أن ثبوت الکمال للحق سبحانه من وجهین: أحدهما کماله من حیث الذات . وهو عبارة عن ثبوت وجودها منها، لا من غیرها ، فهی غنیة فی وجودها وبقائها ودوامها عما سواها.

والکمال الثانی هو کمال تفصیلی للحق سبحانه من حیث أسماؤها الحسنى.

وذلک إنما یکون بظهور آثار النسب المرتبیة والحقائق الأسمائیة ونفوذ أحکامها فی عوالمها ومظاهرها.

وکان الحق الواجب الوجود فی کماله الذاتی وغناه الأحدی یرى ذاته فی ذاته رؤیة ذاتیة غیر زائدة على ذاته ولا متمیزة عنها.

ویرى أسماءه وصفاته أیضا نسبة ذاتیة لها وشؤونا غیبیة مستهلکة الأحکام تحت قهر الأحدیة غیر ظاهرة الآثار ولا متمیزة الأعیان بعضها عن بعض.

لکنه شاء أن یظهرها من حیث کماله الأسمائی ویراها فی مظاهرها متمیزة الأعیان والآثار.

(فأوجد) من حیث الاسم («الله» العالم)، وبسط نوره الوجودی على الممکنات المعلومة فی الخلاء المتوهم، فصار مظهرة تفصیلیا لحقائق الأسماء ومجلى فرقانیا لصفات الاعتلاء.

لکنه کان بدون وجود آدم (جسدا مسوی) ومزاج معدلا، لا روح فیه.

وبیان ذلک أن المقصود الأصلی والعلة الغائیة من إیجاد العالم أن یحصل کمال الجلاء والاستجلاء.

اللذین هما عبارة عن ظهور ذاته سبحانه ورؤیته إیاها فی کل شأن سبق فی علمه الذاتی ظهوره فیه متعینا بحسبه، متنوعة بموجب حکمه.

ویظهر کل فرد من أفراد مجموع الأمر کله بصورة الجمیع ووصفه وحکمه بحیث یضاهی کل شأن من الشؤون الشأن الکلی الذی هو مفتاح مفاتیح الغیب، أعنی التعین الأول.

فإذا لم یحصل الکمال المذکور على النحو المطلوب فی العالم، لم یکن له سر و روح.

ولا شک أن ذلک لا یحصل إلا فی المظهر الأحدی الجمعی الکمالی الإنسانی .

فالعالم من غیر وجود الإنسان فیه کان کمزاج معدل وجسد مسوى، لا روح فیه.

ومن شأن الحکم الإلهی أنه ما سوى جسدا ولا عدل مزاجأ إلا وکمله بنفخ الروح فیه.

فانبعث انبعاثا إرادیا إلى تکمیل جسد العالم، (وجعل روحه)، أی روح العالم وسره المطلوب منه، (آدم).

وحیث لم یکن هذا الحکم مختصا بآدم أبی البشر علیه السلام؛ بل یشارکه فیه أولاده الکاملون، عمم الحکم وقال، (وأعنی بـ «آدم» وجود العالم الإنسانی)، أی الحقیقة النوعیة الإنسانیة الکمالیة الموجودة فی ضمن أی فرد کان من أفرادها.

قال رضی الله عنه : (وعلمه الأسماء کلها، فإن الروح هو مدبر البدن بما فیه من القوى، وکذلک الأسماء)

(وعلمه)، أی علم الله سبحانه آدم، یعنی الإنسان الکامل، (الأسماء کلها)، علم ذوق ووجدان بأن جعله جامعة لجمیع الأسماء الإلهیة الفعلیة الوجوبیة و مشتملا على جمیع الصفات والنسب الربوبیة، فهو واجب الوجود بربه، عرش الله بقلبه، حی، عالم، قدیر ، متکلم، سمیع ، بصیر ؛ وهکذا جمیع الأسماء .

وقال بعضهم فی قوله تعالى: "وعلم آدم الأسماء کلها" [البقرة: 31].

"أی رکب فی فطرته من کل اسم من أسمائه لطیفة، وهیأه بتلک اللطائف للتحقق بکل الأسماء الجمالیة والجلالیة". وعبر عنهما بـ "یدیه" .

فقال لإبلیس: "ما منعک أن تسجد لما خلقت بیدی " [سورة ص: 75].

وکل ما سواه "آدم" مخلوق بید واحدة.

لأنه إما مظهر صفة الجمال، کملائکة الرحمة.

أو الجلال، کملائکة العذاب والشیطان .

أعلم أنک لا تعرف الغائب إلا بالشاهد.

ومعناه أنه کلما سألت عن کیفیته ، فلا سبیل إلى تفهیمک إلا أن یقرر لک مثال من مشاهدتک الظاهرة أو الباطنة فی نفسک بالعقل.

فإذا قلت : "کیف یکون الأول عالما بنفسه؟"

فجوابک الشافی أن یقال :" کما تعلم أنت نفسک". فتفهم الجواب.

وإذا قلت: "کیف یعلم الأول غیره؟"

فیقال : "کما تعلم أنت غیرک". فتفهم.

وإذا قلت: "کیف یعلم بعلم واحد بسیط سائر المعلومات؟".

فیقال : "کما تعرف جواب مسألة دفعة واحدة من غیر تفصیل، ثم تشتغل بالتفاصیل"

وإذا قلت: «کیف یکون علمه بالشیء مبدأ وجود ذلک الشیء؟»

فیقال : "کما یکون توهمک للسقوط على الجذع عند المشی علیه مبدأ السقوط ".

قال رضی الله عنه : (للإنسان الکامل بمنزلة القوی، ولهذا یقال فی العالم، إنه الإنسان الکبیر، ولکن)

وإذا قلت : کیف یعلم الممکنات کلها؟

فیقال : «یعلمها بالعلم بأسبابها، کما تعلم حرارة الهواء فی الصیف القابل بمعرفتک تحقیقا أسباب الحرارة».

وإذا قلت: «کیف یکون ابتهاجه بکماله وبهائه؟»

فیقال : کما یکون ابتهاجک إذا کان لک کمال تتمیز به عن الخلق، واستشعرت بذلک الکمال» .

والمقصود أنک لا تقدر أن تفهم شیئا عن الله تعالى إلا بالمقایسة إلى شیء فی نفسک. نعم، تدرک فی نفسک أشیاء تتفاوت فی النقصان والکمال، فتعلم مع هذا أن ما فهمته فی حق الأول سبحانه أعلى وأشرف مما فهمته فی حق نفسک ؛ فیکون ذلک إیمان بالغیب مجملا.

وإلا، فتلک الزیادة التی توهمتها لا تعرف حقیقتها، لأن مثل تلک الزیادة لا یوجد فی حقک

فإذن إن کان الأول سبحانه أمر لیس له نظیر فیک، فلا سبیل لک إلى فهمه ، البتة. وذلک هو ذاته ، فإنه وجود بلا ماهیة، هو منبع کل وجود.

فإذا قلت: «کیف یکون وجود بلا ماهیة؟ »

فلا یمکن أن یضرب لک مثل من نفسک؛ فلا یمکنک إذن أن تفهم حقیقة الوجود بلا ماهیة وحقیقة.

وإن الاول سبحانه وخاصته هو أنه وجود بلا ماهیة زائدة على الوجود، لأن إنیته وماهیته وأحدة.

وهذا لا نظیر له فیما سواه؛ فإن ما سواه جوهر أو عرض، وهو لیس بجوهر ولا عرض , وهذا أیضا لا یتحققه الملائکة : فإنهم أیضا جواهر وجودها غیر ماهیتها، وإنما وجود بلا ماهیة لیس إلا الله تعالى.

فإذن لا یعرف الله إلا الله.

وإنما علم الله سبحانه الإنسان الکامل أسماء الحسنى وأودعها فیه، فإن الإنسان الکامل روح العالم، والعالم جسده . کما سبق.

(وإن الروح هو مدبر البدن) والمتصرف فیه (بما) یکون فیه من القوى الروحانیة والجسمانیة.

(وکذلک)، أی مثل ذلک المذکور من القوى، (الأسماء الإلهیة للإنسان الکامل)؛ یعنى، إنها له بمنزلة تلک القوى الروحانیة والجسمانیة .

فکما أن الروح بدتر البدن ویتصرف فیه بالقوی، کذلک الإنسان الکامل یدبر أمر العالم ویتصرف فیه بواسطة الأسماء الإلهیة .

اعلم أن کل حقیقة حقیقة من حقائق ذات الإنسان الکامل، ونشأته برزخ من حیث أحدیة جمعها بین حقیقة ما من حقائق بحر الوجوب وبین حقیقة مظهریة لها من حقائق بحر الإمکان هی عرشها.

وتلک الحقیقة الوجوبیة مستویة علیها، فلما ورد التجلی الکمالی الجمعی على المظهر الکمالی الإنسانی، تلقاه بحقیقته الأحدیة الجمعیة الکمالیة.

وسری سر هذا التجلی فی کل حقیقة من حقائق ذات الإنسان الکامل. ثم فاض نور التجلی منها على ما یناسبها من العالم.

فما وصلت الآلاء والنعماء الواردة بالتجلی الرحمانی على حقائق العالم إلا بعد تعینه فی الإنسان الکامل بمزید صبغة لم تکن فی التجلی قبل تعیینه فی مظهریة الإنسان الکامل.

فحقائق العوالم وأعیانها رعایا له، وهو خلیفة علیها، وعلى الخلیفة رعایة رعایاه على الوجه الأنسب الألیق ؛ وفیه یتفاضل الخلائف بعضهم على بعض.

لهذا قال تعالى : "إنا عرضنا الأمانة" [الأحزاب: ۷۲]، أی مظهریة هذه الجمعیة وکمال الظهور، "على السماوات" أی ما علا من العالم، "والأرض" أی ما أسفل منه ،"والجبال" أی ما بینهما، "فأبین أن یحملنها" ، لعوز فی کمال القابلیة بغلبة حکم القید والجزئیة علیها، "وحملها الإنسان " [الأحزاب: ۷۲]، أی بهذه الصورة العنصریة لکمال القابلیة .

(ولهذا)، أی لکون العالم بمنزلة الجسد وکون الإنسان الکامل بمثابة روحه، یقال فی (حق العالم، «إنه الإنسان الکبیر»).

فإنه کما أن الإنسان عبارة عن جسد وروح یدبره، کذلک العالم عبارة عنهما مع أنه أکبر منه صورة.

قال رضی الله عنه : (بوجود الإنسان فیه.  وکان الإنسان مختصرا من الحضرة الإلهیة، ولذلک خصه)

(ولکن) هذا القول إنما یصح ویصدق (بوجود الإنسان) الکامل (فیه)، أی فی العالم، فإنه لو لم یکن موجودة فیه، کان کجسد ملقى، لا روح فیه.

ولا شک أن إطلاق "الإنسان" على الجسد الذی لا روح فیه لا یصح إلا مجازا.

وکما یقال للعالم: «الإنسان الکبیر»، کذلک یقال للإنسان: "العالم الصغیر" .

وکل من هذین القولین إنما یصح بحسب الصورة.

وأما بحسب المرتبة ، فالعالم هو الإنسان الصغیر، والإنسان هو العالم الکبیر ..

قال أمیر المؤمنین کرم الله تعالى وجهه :

"دواؤک فیک وما تشعر        …… و داؤک منک و ما  تبصر

وتزعم أنک جرم صغیر        …… وفیک انطوى العالم الأکبر

وأنت الکتاب المبین الذی       …… بأحرفه یظهر المضمر"

وکان الإنسان الکامل کتابا (مختصرا) منتخبا (من) أم الکتاب، التی هی عبارة عن (الحضرة) الأحدیة الجمعیة (الإلهیة)، مشتملا على حقائقها الأسمائیة الفعلیة الوجوبیة ومنطویة على رقائق نسب صفاتها الربوبیة بحیث لا یشذ عنه شیء منها سوى الوجوب الذاتی.

فإنه لا قدم فیه للممکن الحادث، وإلا لزم قلب الحقائق.

(ولذلک)، أی لکون الإنسان مختصرة من الحضرة الإلهیة ، مشتملا على ما فیها من حقائق الصفات والأسماء اشتمالا أحدیا جمعیا.

(خصه)، أی الله سبحانه الإنسان، (بالصورة الإلهیة)، أی جعل الصورة مختصة به - بحسب الذکر .

وإن کان العالم أیضا على الصورة ؛ لأن کل ما إلى الوحدة أقرب، فإضافته إلى الحق أولى؛ وصورة الإنسان صورته الأحدیة الجمعیة، وصورة العالم صورته التفصیلیة.

قال رضی الله عنه : (بالصورة، فقال: «إن الله خلق آدم على صورته»، وفی روایة : على صورة الرحمن». وجعله الله العین المقصودة من العالم، کالنفس الناطقة من الشخص)

(فقال) على لسان نبیه صلى الله علیه وسلم : ( إن الله خلق آدم»)، أی قدره أولا فی العلم و أوجده ثانیة فی العین، («على صورته») الألوهیة الکاملة وصفته الربوبیة الشاملة .

وحیث احتمل أن یعود الضمیر فی صورته» إلى آدم، کما ذهب إلیه بعض، أردفه بقوله، (وفی روایة أخرى)، («على صورة الرحمن")، تفیا لذلک الاحتمال، لیکون نصا فی مقصوده

وفی روایة معانی الأخبار للشیخ أبی بکر بن إسحاق رحمه الله : «لا تقبحوا الوجوه، فإن ابن آدم على صورة الرحمن».

وفی الصحیح: إنه صلى الله علیه وسلم قال فی وصیته بعض أصحابه فی الغزو : «إذا ذبحت، فأحسن الذبحة؛ وإذا قتلت ، فأحسن القتلة واجتنب الوجه ، فإن الله خلق آدم على صورته ».

قیل : «الصورة» هی الهیئة، وذلک لا یصح إلا على الأجسام.

فمعنى الصورة "الصفة"، یعنی،" خلق آدم على صفة الله عز وجل"، أی حیا، عالما، مریدا، قادرا سمیعا، بصیرا، متکلما.

ولما کان الحقیقة تظهر فی الخارج بالصورة، أطلق «الصورة» على الأسماء والصفات مجازا، لأن الحق سبحانه بها یظهر فی الخارج.

هذا باعتبار أهل الظاهر

وأما عند المحققین، فی «الصورة» عبارة عما لا تعقل الحقائق المجردة الغیبیة ولا تظهر إلا بها.

و"الصورة الإلهیة" هو الوجود المتعین بسائر التعینات التی بها یکون مصدرا لجمیع الأفعال الکمالیة والآثار الفعلیة .

(وجعله)، أی جعل الله الإنسان الکامل، (العین المقصودة) والغایة المطلوبة (من) إیجاد (العالم) وإبقائه، (کالنفس الناطقة)، التی هی المقصود (من) تسویة جسد

(الشخص الإنسانی) وتعدیل مزاجه الطبیعی الجسمانی.

الحقیقة الساریة فی الکل تدرک ذاتها بذاتها وما عدا ذاتها من لوازم ذاتها علما عینیة إجمالیة فی الإنسان الکامل والکون الجامع المتضمن لسائر المظاهر المشتمل على جملة المراتب .

ثم إنها تدرک الأمرین جمیعا فیه ببعض التعینات والأسماء الإلهیة إدراکا عقلیا تفصیلیة على حسب ما فیه من القوابل.

وتدرکهما أیضا ببعض تعیینات وأسماء أخر إدراکا وهمیا وخیالیا على حسب ما فیه من قوابل آخر.

وتدرک أیضا ببعض تعینات وأسماء أخر إدراکات حسیة على حسب ما فیه من القوابل التی تتعلق بها تلک التعیینات.

فهی إنما تدرک الکل بالکل بحسب ما فیه من الکل إدراکا تاما کاملا لا مزید علیه أصلا. (الإنسانی. ولهذا تخرب الدنیا بزواله، وینتقل العمارة إلى الآخرة من أجله .)

(ولهذا)، أی لأن المقصود من إیجاد العالم وإبقائه الإنسان الکامل، کما أن المطلوب من تسویة الجسد النفس الناطقة.

(یخرب) الدار (الدنیا بزواله)، أی بزوال الإنسان الکامل وانتقاله عنها.

کما أن الجسد یبلى ویفنى بمفارقة النفس الناطقة عنه فإنه تعالى لا یتجلى على العالم الدنیوی إلا بواسطته .

فعند انقطاعه ینقطع عنه الإمداد الموجب لبقاء وجوده وکمالاته، فینتقل الدنیا عند انتقاله، ویخرج ما کان فیها من المعانی والکمالات إلى الآخرة.

قال رضی الله عنه فی کتابه المسمى به "القسم الإلهی بالاسم الربانی": «ألا ترى أن الدنیا باقیة ما دام هذا الإنسان فیها، والکائنات تتکون، والمسخرات تتسخر؟

فإذا انتقل إلى الدار الأخرى، مارت هذه السماء مورا، وسارت الجبال سیرا، ودکت الأرض دکا، وانتثرت الکواکب، وکورت الشمس إلى غیر ذلک.

وفی کتاب "الفکوک فى أسرار مستندات حکم الفصوص"  : «الإنسان الکامل الحقیقی هو البرزخ بین الوجوب والإمکان والمرآة الجامعة بین صفات القدم وأحکامه وبین صفات الحدثان، وهو الواسطة بین الحق والخلق.

وبه ومن مرتبته یصل فیض الحق والمدد الذی هو سبب بقاء ما سوى الحق إلى العالم کله، علوا وسفلا.

ولولاه من حیث برزخیته التی لا تغایر الطرفین، لم یقبل شیء من العالم المدة الإلهی الوحدانی لعدم المناسبة والارتباط، ولم یصل إلیه ، فکان یفنى، وإنه عمد السماوات والأرض.

ولهذا السر برحلته من مرکز الأرض - التی هی صورة حضرة الجمع وأحدیته ومنزل خلافة الإلهیة - إلى الکرسی الکریم والعرش المجید المحیطین بالسموات والأرض، ینخرم نظامها. فبدل الأرض غیر الأرض والسماوات .

ولهذا نبه أیضا علیه السلام على ما ذکرنا بقوله: «لا تقوم الساعة وفی الأرض من یقول: «الله الله » » .

وأکده بالتکریر، یرید، وفی الأرض من یقول: «الله» ، قوة حقیقیا»، إذ لو أراد من یقول کلمة : «الله»، لم یؤد بالتکرار .

ولا شک أنه لا یذکر الله ذکرة حقیقیة - وخصوصا بهذا الاسم الجامع الأعظم المنعوت بجمیع الأسماء - إلا الذی یعرف الحق المعرفة التامة.

وأتم الخلق معرفة بالله فی کل عصر خلیفة الله ، وهو کامل ذلک العصر .

فکأنه یقول صلى الله علیه وسلم : "لا تقوم الساعة وفی الأرض إنسان کامل».

وهو المشار إلیه بأنه العمد المعنوی الماسک ؛ وإن شئت، فقل : «الممسوک لأجله». فإذا انتقل، انشقت السماء، وکورت الشمس، وانکدرت النجوم وانتثرت، وسیرت الجبال ، وزلزلت الأرض، وجاءت القیامة .

ولولا ثبوته من حیث مظهریته فی الجنة التی محلها الکرسی والعرش المجید، لکان الحال فیهما کالحال فی الأرض والسموات.

وإنما قید ثبوته بقولی: «من حیث مظهریته»، من أجل ما أطلعنی الله علیه من أن الجنة لا تسع إنسانا کاملا؛ وإنما یکون منه فی الجنة ما یناسب الجئة، وفی کل عالم ما یناسب ذلک العالم وما یستدعیه ذلک العالم من الحق من حیث ما فی ذلک العالم من الإنسان.

بل أقول: «ولو خلت جهنم منه، لم تبق ؛ وبه امتلأت».

و إلیه الإشارة بـ «قدم الجبار» المذکور فی الحدیث عند قوله علیه السلام:

«إن جهنم لا تزال تقول: «هل من مزید؟».

حتى یضع الجبار فیها قدمه ؛ فإذا وضع الجبار فیها قدمه، ینزوی بعضها إلى بعض.

وتقول: «قط قط»، أی «حسبی «حسبی» » .

وأخبر من جانب الحق أن القدم الموضوع فی جهنم هو الباقی فی هذا العالم من صور الکمل مما لا یصحبهم فی النشأة الجنانیة.

وکنی عن ذلک الباقی ب "القدم" المناسبة شریفة لطیفة : فإن القدم من الإنسان آخر أعضاء صورته ؛ فکذلک نفس صورته العنصریة آخر أعضاء مطلق الصورة الإنسانیة، لأن صور العالم بأجمعها کالأعضاء المطلق صورة الحقیقة الإنسانیة .

وهذه النشأة آخر صورة ظهرت بها الحقیقة الإنسانیة ، وبها قامت الصور کلها التی قلت: "إنها کالأعضاء". التجلیات الإلهیة لأهل الآخرة إنما هی بواسطة الکامل، کما فی الدنیا.

والمعانی المفضلة لأهلها متفرعة من مرتبته ومقام جمعه أبدا، کما تفرع منه أزلا.

وما للکامل من الکمالات فی الآخرة لا یقاس على ما له من الکمالات فی الدنیا، إذ لا قیاس النعم الآخرة على نعم الدنیا.

وقد جاء فی الخبر الصحیح: «إن الرحمة مائة جزء، جزء منها لأهل الدنیا، وتسعة وتسعون لأهل الآخرة".

واعلم أن دار الوجود واحدة، وانقسامها إلى الدنیا والأخرى بالنسبة إلیک، لأنهما صفتان للنشأة الإنسانیة، فأدنی نشأتها الوجودیة العینیة النشأة العنصریة.

فهی الدنیا، لـ "دناءتها" بالنسبة إلى نشأتها النوریة الإلهیة ، أول "دنوها" عن فهم الإنسان الحیوان.

ولما کانت النشأة الإنسانیة الکلیة فی الدنیا نشأتین، نشأة تفصیلیة فرقانیة ونشأة أحذیة جمعیة قرآنیة ؛ وهذه النشأة الدنیویة کثیفة، وصورتها مقیدة سخیفة من مادة جامعة بین النور والظلمة.

والنفس الناطقة المتعلقة بها من بعض قواها القوة العملیة ، وهی ذاتیة لها وبها ؛ یعمل الله سبحانه لأجلها فی کل نشأة وموطن صورة هیکلیة تنزل معانیها فیها ویظهر قواها وخصائصها وحقائقها بها.

وکانت هذه النشأة الجامعة بین النور والظلمة لا تقتضی الدوام؛ بل لا بد لها من الانخرام والانصرام لکونها حاصلة من عناصر مختلفة متباینة متضادة تقتضی بحقائقها الانفکاک،وکون قوى مزاجها العنصری غیر وافیة بجمیع ما فی النفس من الحقائق والدقائق .

فإن فی النفس ما لا یظهر بهذه النشأة العنصریة، مثل ما یظهر بنشأتها الروحانیة النورانیة ؛ وقد حصل لها بحمد الله سبحانه فی مدة عمرها التی کانت تعمر أرض جسدها من الأخلاق الفاضلة والملکات الکاملة والعلوم والأعمال الصالحة الحاصلة کمال فعلی، لما صار بها جمیع ما کان بالقوة بالفعل.

فینشئ الله سبحانه للنفس بالقوة العملیة - إذا خرجت عن الدنیا - صورة أخرویة روحانیة ملائمة لها فی جمیع أفاعیلها وخصائصها من مادة روحانیة حاصلة لها من تلک الأخلاق والملکات والعلوم والأعمال ؛ فتظهر بحقائقها وخصائصها وآثارها فی تلک الصورة ظهورة یقتضی الدوام إلى الأبد، لأن مادتها روحانیة وحدانیة نوریة.

فاقتضت تلک النشأة الروحانیة الدوام والبقاء لرسوخ حقائقها وأصولها الروحانیة فی جوهر الروح ودوام التجلی النفسی الإلهی فیها.

فإذا انتقل الأمر إلى الآخرة ، فهو الأول بالقصد والآخر بالإیجاد والظاهر بالصورة والباطن بالسورة، أی المنزلة. فهو عبد الله رب بالنسبة إلى العالم، ولذلک جعله خلیفة وأبناءه خلفاء .

وظهرت النفوس والأرواح الإنسانیة فی صورها الروحانیة البرزخیة والمثالیة أو الحشریة، وغلبت الروحیة على الصور، والنوریة على الظلمة، واختزن الحق الأسرار والأنوار والحقائق فی تلک الصور الأخرویة، کان الإنسان بأحدیة جمعه ختمة على تلک النشأة الأخرویة، حافظة لها إلى الأبد. فافهم.

الممکنات کلها شؤون الحق فی غیب ذاته وأسمائه .

ووقع اسم الغیر علیها بواسطة التعین والاحتیاج إلى من یوجدها فی العین، وبعد الاتصاف بالوجود العینی صار واجبة بالغیر لا یتعدم أبدا ؛ بل یتغیر ویتبدل بحسب عوالمه وطریان الصور علیه.

(فهو)، أی الإنسان الکامل هو، (الأول بالقصد) والإرادة، لما جعله الله سبحانه العین المقصودة والعلة الغائیة من إیجاد العالم؛ ومن شأن العلة الغائیة التقدم فی العلم والإرادة ، کما أن من شأنه أیضا التأخر فی الوجود، کما أشار إلیه بقوله.

(والآخر)، أی ذلک الإنسان هو المتأخر عما عداه ، (بالإیجاد) فی سلسلة الموجودات، فإن أول ما أوجد بالوجود العینی هو القلم الأعلى، ثم اللوح المحفوظ، ثم العرش العظیم ، ثم الکرسی الکریم، ثم العناصر، ثم السماوات السبع، ثم المولدات ، ثم الإنسان : فإنه منتهی تلک الآثار ومجتمعها.

(و) هو (الظاهر) المحسوس (بالصورة) الجسمیة العنصریة.

(و)هو (الباطن) الغیر المحسوس أیضا، لکن (بالسورة)، (أی المنزلة) والشرف، فإنها باعتبار روحانیته . أو نقول، هو الظاهر فی عرصة الوجود العینی بالصورة الأحدیة الجمعیة من جسم وروح وعقل وقوى وغیرها مما یصدق علیه إطلاق «الخلقیة»، وهو أیضا الباطن، لکن بمرتبته التی هی الخلافة، فإن المراتب لا تزال أمورة معقولة لا وجود لها إلا بالمتعینات المترتبة فیها وجودة تتمیز به عن المتعین بها وفیها.

کالسلطنة مثلا: فإن العقل یمیز بینها وبین صاحبها - أعنی السلطان - ولا یظهر لها فی الخارج صورة زائدة على صورة صاحبها، لکن یشهد أثرها ممن ظهر بها ما دام له الظهور بها. ومتى انتهى حکمها، لم یظهر عنه أثژها، وبقی کسائر من لیست له تلک المرتبة .

(فهو) من حیث صورته الجسمیة العنصریة، أو صورته الأحدیة الجمعیة المذکورة آنفا، (عبد) مخلوق مربوب (لله) سبحانه وتعالى ؛ (و) من حیث معناه وروحه أو مرتبته (رب) یتحقق ربوبیته (بالنسبة) والإضافة إلى أفراد العالم کله، غیبه وشهادته، روحانیة وجسمانیة .

(ولهذا ما ادعى أحد من العالم الربوبیة إلا الإنسان لما فیه من القوة ؛ وما أحکم أحد)

قال الشیخ "ابن العربی" رضی الله عنه فی إنشاء الدوائر:

«الإنسان نسختان : نسخة ظاهرة ونسخة باطنة.

فنسخته الظاهرة مضاهیة للعالم بأسره، ونسخته الباطنة مضاهیة للحضرة الإلهیة .

فالإنسان هو الکلی على الإطلاق والحقیقة . إذ هو القابل لجمیع الموجودات، قدیمها وحدیثها.

وما سواه من الموجودات لا یقبل ذلک.

فإن کل جزء من أجزاء العالم لا یقبل الألوهیة، والإله لا یقبل العبودیة ، بل العالم کله عبد، والحق سبحانه وحده إله واحد صمد لا یجوز علیه الاتصاف بما یناقض الأوصاف الإلهیة، کما لا یجوز على العالم الاتصاف بما یناقض الأوصاف الحادثة العبودیة .

فالإنسان ذو نسبتین کاملتین :

نسیة یدخل بها إلى الحضرة الإلهیة ، ونسبة یدخل بها إلى الحضرة الکیانیة .

فیقال فیه : «عبد»، من حیث أنه مکلف ولم یکن، ثم کان، کالعالم.

ویقال فیه: «رب»، من حیث أنه خلیفة ومن حیث الصورة ومن حیث "أحسن تقویم".

قال الشیخ "ابن العربی" فی «عنقاء مغرب» :

حقیقة  الحق لا  تحد ……       و باطن الرب لا یحد

فباطن لا یکاد یخفى         …… وظاهر لا یکاد یبدو

فإن  یکن باطنا فرب         …… و إن  یکن ظاهرا فعبد

(ولذلک)، أی لکون آدم له جهة ربوبیة بها یناسب الحق سبحانه وجه عبودیة بها یناسب الخلق، (جعله) الله سبحانه (خلیفة) فی خلیقته، لیأخذ بجهة الربوبیة ونشأته الروحانیة عن الله سبحانه ما یطلبه الرعایا، ویبلغه بجهة العبودیة ونشأته الجسمانیة إلیهم. فبهاتین الجهتین یتم أمر خلافته.

کما قال سبحانه : "ولو جعله ملکا لجعلناه رجلا وللبسنا علیهم ما یلبسون" [الأنعام: 9]، لیجانسکم، فیبلغکم أمری.

(و) کذلک جعل سبحانه (أبناءه) الکاملین (خلفاء) فی العالم کله والغیر الکاملین فیما یتعلق به، فإن لکل فرد من الأفراد الإنسانیة نصیبا من هذه الخلافة یدبر به ما یتعلق به، کتدبیر السلطان الملکه وصاحب المنزل لمنزله ؛ وأدناه تدبیر الشخص لبدنه .. والخلافة العظمى إنما هی للإنسان الکامل.

(ولهذا)، أی لمعنى اشتمال آدم على جهتی الربوبیة والعبودیة، (ما ادعى أحد من العالم مقام من) أفراد (العالم الربوبیة) والاتصاف بصفاتها فی أعلى درجاتها (إلا الإنسان لما فیه)، أی فی الإنسان، (من القوة) والتمکن من الاتصاف بالأوصاف الربوبیة والنسب الفعلیة الوجوبیة، فمتى شاهدها فی نفسه ، ولم یفتح الله عین بصیرته، لم یهتد إلى أنها صفات الحق انعکست فی مرآة استعداده ؛ فتوهم أنها له على سبیل الأصالة . فظهر بدعوى الربوبیة والألوهیة، کالفراعنة .

قال رضی الله عنه : (العبودیة فی نفسه إلا الإنسان . 

فعبد الحجارة والجمادات، التی هی أنزل الموجودات وأسفلها .

فلا أعز من الإنسان بربوبیته، ولا أذل منه بعبودیته .

فإن فهمت، أنت لک عن المقصود بالإنسان . فانظر إلى عزته بالأسماء)

(و) کذلک (ما أحکم أحد من) أفراد العالم مقام (العبودیة فی نفسه)، أی ما جعله محکمة راسخة بالهبوط فی أقصى درکاته.

(إلا الإنسان)؛ فإنه منی شاهد تلک الأوصاف والنسب فی غیره وتوهم أنها له بالأصالة، أقر له بالعبودیة ، کعبدة الأوثان .

(فعبد الحجارة) وغیرها من (الجمادات التی هی أنزل الموجودات وأسفلها)، لعدم خروج ما فی قوة القابلیة فیها من الصفات الوجودیة - کالحیاة والعلم وما یتبعهما ۔ إلى الفعل.

فلا شیء (أعز) وأرفع مرتبة (من الإنسان بربوبیته) ""ظهور الإنسان فى مرتبة الخلیفة وقیامه بتصاریف الخلافة ""، أی بواسطة اتصافه بصفات الربوبیة وظهورها به ، فإنه لا مرتبة أرفع منها.

(و) کذلک (لا) شیء (أذل) وأنزل مرتبة (منه)، أی من الإنسان، (بعبودیته)، أی بسبب اتصافه بصفات العبودیة ؛ فإنه کما أن الربوبیة أرفع المراتب، کذلک ما یقابلها . أعنی العبودیة - أنزلها.

وفی "کتاب "إنشاء الدوائر :

کأن الإنسان «برزخ بین العالم والحق تعالی وجامع لخلق وحق.

وهو الخط الفاصل بین الظل والشمس، وهذه حقیقته ؛ فله الکمال المطلق فی الحدوث والقدم.

والحق له الکمال المطلق فی القدم، ولیس له فی الحدوث مدخل - تعالی عن ذلک. والعالم له الکمال المطلق فی الحدوث : لیس له فی القدم مدخل. فصار الإنسان جامعا .

فما أشرفها من حقیقة! وما أظهره من موجود!

وما أخسها وما أدنسها أیضا فی الوجود!.

إذ کان منها محمد صلى الله علیه وسلم وأبو جهل، وموسى علیه السلام وفرعون.

فتحقق أحسن تقویم، وجعله مرکز الطائعین المقربین؛ وتحقق أسفل سافلین، وجعله مرکز الکافرین الجاحدین.

فسبحان من "لیس کمثله شئ وهو السمیع البصیر" [الشورى : ۱۱]

فإن فهمت ما سبق من البیان، (فقد أبنت) وکشف (لک) حجاب الإبهام (عن وجه المقصود بالإنسان)، أی الحقیقة التی تقصد بلفظ "الإنسان" ویعبر به عنه .

وحاصل ما أبانه رضی الله عنه أنه، أی الإنسان، حقیقة مطلوبا لأسماء الله الحسنى لکونه أحدیة جمع جمیع حقائق مظهریاتها مقصودا من إیجاد العالم.

نسبتها إلیه نسبة الروح إلى البدن ، مدبرة له بما هو لها بمنزلة القوى مما أودع الله سبحانه فیها من أسمائه.

مختصرة من الحضرة الإلهیة ، مخلوقة على صورتها، متوسطة بینه وبین خلقه فی إیصال فیضه إلیه، جامعة بین عز الربوبیة وذل العبودیة .

فسبحان الله ، ما أشرف حال الإنسان وما أعلى أمره إذا عرف قدره ولم یتعد طوره!وإذ فهمت ما أبنت لک، (فانظر) بعین بصیرتک (إلى عزته)، أی عزة الإنسان وشرفه الحاصل له 

قال رضی الله عنه : (الحسنی وطلبها إیاه، فمن طلبها إیاه تعرف عزته ، ومن ظهوره بها تعرف ذلته . فافهم.

ومن ههنا یعلم أنه نسخة من الصورتین : الحق والعالم)

(بالأسماء الحسنى)، أی بسبب اتصافه بها، (و) بسبب (طلبها)، أی طلب تلک الأسماء، (إیاه)، أی الإنسان، لیکون لها مظهرا کاملا ومجلى شاملا.

فمن أجل طلبها، أی طلب تلک الأسماء، إیاه، أی الإنسان، واقتضائها وجوده لما مز،

(تعرف عزته)، أی عزة الإنسان وشرفه ؛ لأن عزة المطلوب وشرفه إنما هی بقدر عزة الطالب وشرفه.

(و) کذلک من أجل ظهوره، أی الإنسان، (بها)، أی بتلک الأسماء ، ووجوده بها مع عدمه فی حد ذاته وخفائه فی نفسه، (تعرف ذلته)، إذ لا ذلة أعلى من الإنقهار تحت حکم العدم والاحتیاج فی الوجود إلى الغیر، ولشدة غموض هذا المقام وصعوبة فهم المرام.

تردد الشیخ رضی الله عنه فی فهم المخاطب أولا وأمره به ثانیة بقوله، (فافهم).

(ومن ههنا)، أی من هذا المقام، حیث یفهم منه کون الإنسان ربا من حیث باطنه، عبدا من حیث ظاهره.

(یعلم أنه)، أی الإنسان، (نسخة) منتسخة (من الصورتین) مطابقة لهما:

صورة (الحق) المشتمل علیها نشأة جمعیته الباطنة.

(و) صورة العالم المشتمل علیها نشأة تفرقته الظاهرة. وهاتان الصورتان هما یدا الحق اللتان خلق بهما آدم .

قال سبحانه لإبلیس: "ما منعک أن تسجد لما خلقت بیدی " [سورة ص: 75].

ولما کان الفاعل والقابل شیئا واحدة فی الحقیقة، ظاهرا فی صورة الفاعلیة تارة والقابلیة أخرى، عبر عنهما ب «الیدین».

فیمناهما الصور الفاعلیة المتعلقة بحضرة الربوبیة، وهی الید المعطیة.

ویسراهما الصور القابلیة المتعلقة بحضرة العبودیة، وهی الید الآخذة.

بل کلتا یدی الرحمن یمین، لأن القابلة فی قوة القبول تساوی الفاعلة فی قوة الفعل، لا تنقص منها.

والأکثر إنهم یفسرون «الیدین» بالصفات الجمالیة والجلالیة.

ویجمع المعنیین تفسیرهما بالصفات المتقابلة :

و الصفتان المتقابلتان هما یدا الحق اللتان توجهنا منه سبحانه على خلق الإنسان.

وخلقه سبحانه الإنسان الکامل بیدیه عبارة عن استتاره بالصورة الإنسائیة وجعل الإنسان الکامل منصف بالصفات الجمالیة والجلالیة .

وإبلیس رأى من آدم صفات العالم من الانفعالات القابلة، کالخوف والرجاء، ولم یر الصفات الفعلیة ولم یعرف أن القابلة أیضا صفات الله سبحانه: فإنها من الاستعداد الفائض عن الفیض الأقدس.

فلو لم یکن لآدم تلک القوابل، لم یعرف الحق سبحانه بجمیع الأسماء ولم یعبده بها. وإبلیس لم یعرف ذلک، لأنه جزء من العالم، لم یحصل له هذه الجمعیة، فما عرف إلا ما هو من العالم.

فاستکبر وتعزز لاحتجابه عن معرفة آدم.

وما عرف أن الذی حسبه نقصا کان عین کماله.

ولم یحصل لإبلیس هذه الجمعیة التی لآدم لأن إبلیس مظهر اسم «المضل»؛ وهو من الأسماء الداخلة فی الاسم «الله» ، الذی مظهره آدم علیه السلام.

فلا یکون لإبلیس استعداد القبول لجمعیة الأسماء والحقائق .

فلذلک شطن، أی بعد.