الفقرة الثامنة والثلاثون :
کتاب تعلیقات د أبو العلا عفیفی على فصوص الحکم محمد ابن العربی 1385 هـ :
قبل أن تقرا لـ د. أبو العلا عفیفی رحمه الله:
د أبو العلا عفیفی رحمه الله لیس متصوف سالک فى الله وإنما تعلم التصوف بفهم وعیون الغرب العلمانی للعمل والإرتزاق ولبناء مستقبل علمی وسطهم لیحظی بتقدیرهم والاعتراف به کخبیر متخصص وأستاذ فى علوم و مخطوطات الشیخ الأکبر ابن العربی فى وسطهم الفلسفی والعلمی على مستوى العالم وکان له ذلک.
لکن لا ینکر فضله الکبیر فی البحث و جمع ومقارنة و تحقیق مخطوطات الشیخ الأکبر وتراثه العلمی فضل کبیر فی البحث وجمع ومقارنة وتحقیق مخطوطات الشیخ الأکبر ومحاولة شرحها جل عمره .
لکنه تشبع وانصبغ بما تعلمه من التصوف العقلی فی الغرب العلمانی حیث حصل على الدکتوراه فی الفلسفة من جامعة کمبردج 1930 برسالته عن "فلسفة ابن عربی الصوفیة " تحت اشراف المستشرق البریطانی رینولد نیکلسون.
فی أن التصوف ووحدة الوجود وأصوله الآفلوطونیة والغنوصیة وغیرها من نتائج أفکار العقل النظری والواردات الشیطانیة التی لا ضوابط حاکمة لها من قواعد وقیود الشرع الحنیف المنزل من عند الله سبحانه.
فالحق سبحانه وإن تجلی أو تنزل أو ظهر فی کل شیء وعلى کل شیء وفى کل وجهه فـ هو الله الأحد الفرد الصمد لاشریک له لیس کمثله شیء.
والعبد عبد وإن تجلی الله علیه أو کلمه أو اتخذه أو ولیا أو نبیا او رسولا وعلمه الأسماء کلها وجعله خلیفة له یتصرف فى الأکوان فهو مازال عبدا مفتقرا إلى الله تعالى دائما فی کل شیء. فالرب رب وإن تنزل . و العبد عبد وإن علا.
فقراءة تعلیقات د أبو العلا عفیفی عادة مهمة ولکن تجاوز عن تفسیراته وتعریفاته الفلسفیة الغربیة العلمانیة لوحدة الوجود فهى خطأ ولیس ما یریده الشیخ رضی الله عنه یقینا وکذلک کل الأئمة الأولیاء الکمل منذ رسول الله صلى الله علیه وسلم والصحابة والإمام علی ابن أبی طالب رضی الله عنهم جمیعا وحتى الآن والى یوم یبعثون وما بعد یوم یبعثون .
فالعقل وحده وهو أعظم أدوات الفلاسفة فی التأمل عاجزا تماما بل هو أعمى عن إدراک کل الحقائق والمخلوقات فى عالم الملک والملکوت والجبروت واللاهوت.
کذالک السموات على ما هی علیه مفتقرا لسلطان الله لینفذ فی معارجها . کذلک لمشاهدة التجلیات والحضرات الإلهیة لکی الأسماء والصفات والأفعال ألهیة ببصر وسمع الله سبحانه فضلا عن التأیید الإلهی للفهم عنه.
فالحق سبحانه القدیم الأزلی السر و النور الساری فی کل ما خلق وإلا صار للعدم. والى ذلک أعلمنا سبحانه فأشار بـالحقیقة الساریة فی کل شیء " لا حول ولا قوة الا بالله" وحدها الحقیقة الحاکمة ازلا وسرمدا على الوجود کله و کافیة لإثبات سریان انوار قدرته وحکمته وارادته تعالى فی کل شیء و کل وجهه لمن أراد الدلیل وتفهم مراد الرسول والأنبیاء والشیخ وکل الأولیاء أن کل الکون مفتقر تعالى إلیه دائما أبدا فى کل لحظة .
قال تعالى :" إِنَّ اللَّهَ یُمْسِکُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَکَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ کَانَ حَلِیمًا غَفُورًا (41) سورة فاطر".
قال تعالى : " قُلْ فَمَنْ یَمْلِکُ مِنَ اللَّهِ شَیْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ یُهْلِکَ الْمَسِیحَ ابْنَ مَرْیَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِی الْأَرْضِ جَمِیعًا وَلِلَّهِ مُلْکُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَیْنَهُمَا یَخْلُقُ مَا یَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى کُلِّ شَیْءٍ قَدِیرٌ (17) سورة المائدة"
قال تعالى : " لَیْسَ کَمِثْلِهِ شَیْءٌ وَهُوَ السَّمِیعُ الْبَصِیرُ (11) سورة ".
قال تعالى : "وَمَا کَانَ لِبَشَرٍ أَنْ یُکَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْیًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ یُرْسِلَ رَسُولًا فَیُوحِیَ بِإِذْنِهِ مَا یَشَاءُ إِنَّهُ عَلِیٌّ حَکِیمٌ (51) سورة الشورى " .
فالله سبحانه وتعالى یکلم ویخاطب من یشاء من عباده بما شاء کیفما شاء وأینما شاء ولاقید ولاحد لهذا او یرسل رسولا عدا الوحی الذی رفعه الله سبحانه بعد خاتم المرسلین صلى الله علیه وسلم ویعلم من یشاء بما یشاء فلا سلطان لأحد من الخلق علیه.
فالله سبحانه وتعالى النور والسر الساری فی کل شیء أزلا وسرمدا خلقا وایجادا واظهارا ومحوا وإحفاء واعداما و زولا غیر مفتر للشیء . وکل الکون مفتقر الیه دائما فى کل شیء.
أین کل هذا من علوم أفلاطون والغنوصیة والبوذیة وغیرها من تلک العلوم الشیطانیة النفسیة التی أوجدها لیسلبوا عقول الناس و یضیعوا أعمارهم "لیضلوا عن سبیل الله" , فمن أراد الله سبحانه أخذ آیات وشرع الله وتجرد له وأخلص له وصدق معه وینتظر ما سیفتح الله به وقتما یشاء سبحانه .
وعرضت کلامه لأهمیته لاکتمال الموسوعة فی إیراد أهم التفاسیر المتاحة ولأن النص الأساسی للموسوعة هو الذی أورده من دراسته معتمدا على عدد کبیر من المخطوطات الموثقة عن کتاب فصوص الحکم للشیخ الأکبر رضی الله عنه.
أخیرا فطالب الحق یکفیه دلیل لیعرف أما المعاند النزق أوالجاهل أو من ران على قلبه لا یکفیه الف دلیل.
وَاللَّهُ یَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ یَهْدِی السَّبِیلَ.
الفص الأول "حکمة ألهیة فى کلمة آدمیة:"
(1) الکلمة الآدمیة.
(1) لا یقصد بآدم هنا آدم أبو البشر، و إنما الجنس البشری برمته: الإنسان من حیث هو إنسان أو الحقیقة الإنسانیة. یدل على ذلک ما یورده المؤلف عن النشأة الإنسانیة و أنها النشأة الوحیدة التی تتجلى فیها الکمالات الإلهیة فی أعظم صورها، و ما یذکره من أمر خلافة الإنسان فی الکون و فضله على الملائکة و استحقاقه مرتبة الخلافة دونهم، و کلامه عن الکون الجامع و العالم الصغیر الذی یقابله بالعالم الکبیر و نحو ذلک.
(2) «لما شاء الحق سبحانه ... و لا تجلیه له».
(2) «لما» لا تشیر إلى زمان لأن المشیئة الإلهیة لا تتعلق بزمان دون آخر:
و لکن المسألة تقریب للأذهان و شرح للحکمة الإلهیة فی ظهور الإنسان بالصورة التی ظهر بها.
و قد شاء الحق سبحانه أن یظهر الإنسان على هذه الصورة، لا لأن الذات الإلهیة تطلب وجود الخلق، فإن الذات الإلهیة غنیّة عن العالمین، بل لأن الأسماء الإلهیة تطلب ذلک الوجود و تفتقر إلیه إذ لا وجود لها إلا به و لا معنى لها إلا فیه.
ألیس ذلک الوجود إلا مظهر تلک الأسماء و مجالیها؟ بل أ لیس الکون کما یقول ابن عربی سوى الأسماء التی أطلقها اللَّه على نفسه؟ و لهذا قال «لما شاء الحق سبحانه من حیث أسماؤه الحسنى إلخ» أی لما شاء ظهور الخلق عامة و ظهور الإنسان بوجه خاص و کانت هذه المشیئة من حیث أسماؤه لا من حیث ذاته، أظهر الوجود فبِهِ عُرف، و أظهر الإنسان فکان أعرف مخلوق بربه. «کنت کنزاً مخفیاً فأحببت أن أعْرَفَ فخلقت الخلق فبِه عرفونی».
هذا هو سر الخلق کما یقول به الحدیث القدسی أو ما یدعی الصوفیة أنه حدیث قدسی.
فغایة الخلق إذن هی أن یرى اللَّه سبحانه نفسه فی صورة تتجلى فیها صفاته و أسماؤه، أو بعبارة أخرى یرى نفسه فی مرآة العالم. و لیست رؤیة الشی ء نفسه فی نفسه مثل رؤیته نفسه فی أمر آخر یکون له کالمرآة لأن هذه الرؤیة الثانیة یعطیها المحل المنظور فیه أی تعطیها طبیعة المرآة. ففی العالم تجلى الوجود الإلهی و بالعالم عرفت صفات اللَّه و أسماؤه أی عرفت ألوهیّته. فنحن نعرفه فی أنفسنا بقدر ما نعرف من حقیقة تلک النفوس و بقدر ما یتجلى فی تلک النفوس من صفات الکمال الإلهی: و هذا معنى قول القائل «من عرف نفسه فقد عرف ربه».
شاء الحق إذن أن یرى أعیان أسمائه- أی یرى تعینات هذه الأسماء فی الوجود الخارجی، و إن شئت قلت أن یرى عینه إذ لیست عینه سوى ذاته المتصفة بالأسماء، فظهر فی الوجود ما ظهر و على النحو الذی ظهر علیه و کشف عن «الکنز المخفی» الذی هو الذات المطلقة المجردة عن العلاقات و النسب، و لکن لم یکشف عنها فی إطلاقها و تجردها، بل فی تقییدها و تعینها.
و شاء الحق أن تظهر أعیان أسمائه- أو أن تظهر عینه- فی صورة جامعة شاملة تحصر صفات الموجودات کلها فی نفسها فخلق الإنسان، ذلک الکون الجامع الذی ظهرت فیه حقائق الوجود من أعلاه إلى أسفله کما سیتبیّن فیما بعد.
(3) «و من شأن الحکم الإلهی ... و القابل لا یکون إلا من فیضه الأقدس».
(3) هذا شروع فی وصف ما یسمیه ابن عربی بالخلق، و فی الحقیقة لا معنى لفعل الخلق فی مذهب یقول بوحدة الوجود کمذهبه، و لکنه یستعمل کلمة الخلق و غیرها مجاراة للعرف و یقرأ فیها من المعانی ما یشاء مما یتفق و مذهبه.
من شأن الحکم الإلهی فی الخلق أن یحصل التهیؤ و الاستعداد من الأمر المخلوق فتفیض علیه روح من اللَّه عبّر عنها فی قصة خلق آدم بالنفخ، و لو لا ذلک الاستعداد من المخلوق و تهیؤه لقبول الفیض الوجودی ما وُجد. فکل محل تمَّ فیه الاستعداد للوجود على نحوٍ ما، قَبِلَ روحاً إلهیاً فوجد فی العالم الخارجی على هذا النحو. أی أن روح اللَّه ساریة فی الموجودات جمیعها، و لیست الموجودات الخارجیة سوى صور و أشباح اتصفت بصفة الوجود بفضل سریان تلک الروح الإلهیة فیها.
و قد یفهم من هذا الکلام أن ابن عربی یقول باثنینیة الخالق و المخلوق أو الحق و الخلق: أو الوجود الظاهر و اللَّه. و لیس فی الحقیقة أثر للاثنینیة فی مذهبه.
و کل ما یشعر بالاثنینیة یجب تفسیره على أنه اثنینیة اعتباریة. فلیس فی الوجود- فی نظره- إلا حقیقة واحدة إذا نظرنا إلیها من جهة سمیناها حقاً و فاعلًا و خالقاً، و إذا نظرنا إلیها من جهة أخرى سمیناها خلقاً و قابلًا و مخلوقاً. و لیس على وجه التحقیق فی مذهبه خلق بمعنى الإیجاد من العدم، إذ یستحیل فی اعتقاده الوجود عن العدم المحض. و إنما أصل کل وجود و سبب کل وجود فیض إلهی دائم (یعبر عنه أحیاناً بالتجلی الإلهی) یمد کل موجود فی کل لحظة بروح من اللَّه فیراه الناظر فی الصور المتعددة التی یظهر فیها. ذلک هو الخلق فی اصطلاح ابن عربی: تجل إلهی دائم فیما لا یحصى عدده من صور الموجودات، و تغیر دائم و تحول فی الصور فی کل آن. ذلک هو الذی یطلق علیه أحیاناً اسم «الخلق الجدید» و یقول إنه هو المشار إلیه فی قوله تعالى «بَلْ هُمْ فِی لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِیدٍ».
«و القابل لا یکون إلا من فیضه الأقدس»:
القابل هو الصورة، و قوابل الموجودات صورها المعقولة التی لیس لها وجود عینی و إن کان لها وجود غیبی: فهی بهذا المعنى وجودات ممکنة أو وجودات بالقوة. و قد تکلم ابن عربی عن نوعین من الفیض الإلهی: الفیض الأقدس و الفیض المقدس، و الأول سابق على الثانی فی منطق النظام الوجودی لا فی الواقع، إذ الفیض الأقدس هو تجلی الذات الأحدیة لنفسها فی صور جمیع الممکنات التی یتصور وجودها فیها بالقوة. فهو أول درجة من درجات التعینات فی طبیعة «الوجود المطلق»، و لکنها تعینات معقولة لا وجود لها فی عالم الأعیان الحسیة بل هی مجرد قوابل للوجود. و هذه الحقائق المعقولة، أو الصور المعقولة للممکنات هی التی یطلق علیها ابن عربی اسم «الأعیان الثابتة» للموجودات و هی شی ء أشبه ما یکون بالصور الأفلاطونیة و إن کانت تختلف عنها من بعض الوجوه. و سیأتی مزید شرح لهذه الأعیان الثابتة فی مواضع أخرى.
أما الفیض المقدس: و هو الذی یوصف عادة باسم «التجلی الوجودی» أو تجلی الواحد فی صور الکثرة الوجودیة، فهو ظهور الأعیان الثابتة من العالم المعقول إلى العالم المحسوس: أو هو ظهور ما بالقوة فی صورة ما بالفعل، و ظهور الموجودات الخارجیة على نحو ما هی علیه فی ثبوتها الأزلی. و لیس فی الوجود شی ء یکون فی ظهوره على خلاف ما کان علیه فی ثبوته.
هذا هو سر القدر الذی یشیر إلیه المؤلف فی الفص السادس عشر و غیره و هو یذکرنا فی بعض نواحیه «بالانسجام الأزلی» الذی یتحدث عنه «لیبنتز».
و کما قلنا إن الفیض الأقدس هو تجلی الحق لذاته فی الصور المعقولة للکائنات، نستطیع أن نقول هنا إن الفیض المقدس هو تجلی الحق فی صور أعیانها، فهو بذلک الدرجة الثانیة من درجات التعین فی طبیعة الوجود المطلق.
و قد تشیر کلمة «الفیض» إلى تأثر ابن عربی بالفلسفة الأفلاطونیة الحدیثة و نظام الفیوضات فیها، و لکن على الرغم من استعماله لکثیر من مصطلحات هذه الفلسفة و أسالیبها لا نزال نجد مذهبه الخاص قائماً بنفسه متمیزاً عن هذه الفلسفة فی أخص صفاتها.
و یکفی أن نقرر هنا أن مذهب ابن عربی صریح فی القول بوحدة الوجود و الفلسفة الأفلاطونیة الحدیثة لیست مذهب وحدة وجود بالمعنى الدقیق، و أن الفیوضات التی یتکلم عنها ابن عربی لیست إلا تجلیات لحقیقة واحدة فی صور مختلفة أو بطرق مختلفة، فی حین أنها فی فلسفة أفلاطون سلسلة من الموجودات یفیض کل منها عن الوجود السابق علیه و یتصل به اتصال المعلول بعلته.
(4) «فکانت الملائکة له ... العالم أعلاه و أسفله».
(4) لما اقتضت الإرادة الإلهیة ظهور العالم، أو ظهور مرآة للوجود یرى الحق فیها نفسه، اقتضى الأمر جلاء تلک المرآة لتتحقق فیها معانی الرؤیة فکان آدم (الإنسان) عین ذلک الجلاء: إذ لولاه لظلت مرآة الوجود مظلمة معتمة لا ینعکس علیها کمال إلهی فیُرَى أو یُعرَف. و غایة الخلق- کما قلنا- أن یعرف اللَّه و تدرک آثاره و کمالاته. و إذا عرفنا أن جلاء المرآة فی لغة ابن عربی معناه کشف أسرار الوجود بنور العقل و القلب، و لا یکون ذلک إلا للإنسان، أدرکنا منزلة الإنسان عنده من اللَّه و من الوجود عامة. فالإنسان من اللَّه بمنزلة إنسان العین من العین، و هو من الوجود قلب الوجود النابض و عقله المدرک لحقائقة.
و فی الإنسان قوى کثیرة روحیة و حسیة، و کذلک فی العالم مثل هذه القوى.
و کل قوة سواء أ کانت فی الإنسان أم فی العالم محجوبة بذاتها، مشغولة بنفسها لا ترى فی الوجود أفضل منها. و لهذا الحجاب زعمت الملائکة أنهم أفضل من آدم فلم یسجدوا له.
و لهذا الحجاب أیضاً عمیت قوى الإنسان فلم تنظر کل منها إلى کمالات الأخرى و لم تنظر إلى کمالات النشأة الانسانیة فی جملتها، و هی النشأة التی فیها- فیما یزعم أهلها- الأهلیةُ لکل منصب عال و درجة رفیعة عند اللَّه.
ذلک لأن النشأة الانسانیة هی المظهر الأسمى للجمعیة الإلهیة التی هی أسماء اللَّه و صفاته، و فیها وحدها تتجلى جمیع الصفات التی توجد فی العالم متفرقة فی أجزائه.
ففیها أولًا- ما یرجع إلى الجناب الإلهی: أی الذات الإلهیة متصفة بالأسماء.
و ثانیاً- ما یرجع إلى حقیقة الحقائق- و هی بمثابة العقل الأول فی فلسفة أفلوطین. أی فیها العقل الذی هو مظهر العقل الإلهی الکلی.
و ثالثاً- ما یرجع إلى الطبیعة الکلیة التی قبلت صور الوجود من أعلاه إلى أسفله.
و رابعاً- فیها فوق ذلک الناحیة العنصریة و هی الجسم البشری المراد بقوله «النشأة الحاملة لهذه الأوصاف».
ففی الإنسان جسم و طبیعة و عقل و روح: أو هو کائن جسمانی و طبیعی و عقلی و إلهی. و لا یدانیه فی هذه الصفات کائن آخر و لذلک استحق الخلافة عن اللَّه و استحق أن یسمى العالم الأصغر.
و قد وضع شراح الفصوص على هذه الفقرة شروحاً کثیرة کلها غامضة و مضطربة لصعوبة النص و التفافِه و تعقده، و لکنی آثرت أن أقرأ النص و أفسره على النحو الآتی:
«فکل قوة منها (أی من قوة النشأة الانسانیة) محجوبة بنفسها لا ترى أفضل من ذاتها، و أن فیها (أی و لا ترى أن فیها- أی فی النشأة الانسانیة) فیما تزعم الأهلیةَ لکل منصب عال و منزلة رفیعة عند اللَّه، لما عندها (أی عند النشأة الانسانیة) من الجمعیة الإلهیة مما یرجع من ذلک (أی من الجمعیة الإلهیة) إلى الجناب الإلهی، و إلى حقیقة الحقائق، و إلى ما تقتضیه الطبیعة الکلیة التی حصرت قوابل العالم کله- أعلاه و أسفله- فی النشأة (أی البدنیة) الحاملة لهذه الأوصاف (الثلاثة).»
(5) «فلهذا سمی إنساناً فإِنه به ینظر الحق إلى خلقه فیرحمهم».
(5) یستعمل ابن عربی کلمة «الرحمة» هنا بمعنى منح اللَّه الوجودَ للأشیاء. و هو یتکلم عن نوعین من الرحمة سیأتی ذکرهما فی الفص السادس عشر. و قد سبق أن ذکرنا أن الإنسان فی نظره هو الغایة القصوى من الخلق، أو هو الوسیلة لتحقیق
هذه الغایة لأن اللَّه خلق العالم لکی یُعرَف، و الإنسان وحده هو الذی یعرفه المعرفة اللائقة به و المعرفة الکاملة. و من هنا ندرک سر کون الإنسان سبباً فی نزول الرحمة بکل مخلوق- أو سبباً فی وجود کل مخلوق، لأن الکمال الإلهی الذی شاء اللَّه أن یُعْرَف و الذی لا یعرفه حق معرفته إلا الإنسان، لا یدرَک إلا فی العالم و فی الإنسان معاً: یدرَک تفصیلًا فی الأول و جملة فی الثانی. و بهذا المعنى یمکن أن یقال إن الإنسان علة فی وجود هذا الکون.
(6) «فهو الإنسان الحادث الأزلی ... و الکلمة الفاصلة الجامعة».
(6) فی الإنسان الذی أسلفنا وصفه ناحیتان: ناحیة حادثة و هی ما یتصل منه بالصورة البدنیة العنصریة، و ناحیة أزلیة أبدیة، و هی ما یتصل منه بالجانب الإلهی. فهو حق و خلق، و قدیم و حادث و سرمدی و فانٍ و ما إلى ذلک من صفات الأضداد. و قد جمع الإنسان- بل کل ما فی الوجود- بین صفات الأضداد هذه من أجل أن فیه الناحیتین: اللاهوتیة و الناسوتیة. و هذه الفکرة من الأفکار الأساسیة فی مذهب ابن عربی لا یکاد یغفل ذکرها فی کل فصل من فصول کتابه، بل علیها یقوم کل مذهبه فی وحدة الوجود.
أما کون الإنسان «الکلمة الفاصلة الجامعة» فلأنه یقف حداً فاصلًا بین اللَّه و العالم لأنه صورة اللَّه و العالم هو المرآة التی تنعکس علیها هذه الصورة، و اللَّه هو الذات التی الإنسان صورة لها.
و لهذا یطلق علیه ابن عربی أحیاناً- أو بعبارة أدق- یطلق على الإنسان الکامل لا مطلق إنسان- اسم البرزخ و هو اسم یظهر أنه استعارة من فلسفة فیلون الیهودی الاسکندری لأن فیلون یصف الإنسان بهذا الوصف. و أما کونه «کلمة جامعة» فلأنه یجمع فی نفسه- کما قلنا- کل الأسماء الإلهیة بمعنى أنه مجلى لها.
(7) «فلا یزال العالم محفوظاً ما دام فیه هذا الإنسان الکامل ... أبدیاً».
(7) لیس الإنسان- الإنسان الکامل- هو العلة الغائیّة من الوجود فحسب، بل هو الحافظ للوجود و السبب فی استمراره. أما أنه العلة الغائیّة من الوجود فقد شرحناه، و أما کونه سبب استمرار الوجود فلأن العلة إذا وجدت وجد معلولها، و إذا انعدمت انعدم معلولها الخاص، فإذا زال الإنسان من العالم، و هو المقصود بالذات من خلق العالم، لزم أن یزول العالم: أی لزم أن تنحل الصور الکونیة و ترجع إلى أصلها و هو الذات الإلهیة الواحدة. و هذا معنى قول المؤلف «و انتقل الأمر إلى الآخرة» إذ المراد بالآخرة ذات الحق التی عنها صدر کل شی ء و إلیها یرجع کل شی ء، بالدنیا، العالم الخارجی: عالم الظواهر. و خلاصة الفقرة أنه إذا زالت علة ظهور الحق فی صور الوجود زال العالم الذی هو مجموع هذه الصور و بقیت الذات الإلهیة وحدها غیر ظاهرة فی شی ء و لا معروفة لأحد.
( 8.) «و لیس للملائکة جمعیة آدم ... تقدیس آدم».
( 8.) لیس للملائکة جمعیة آدم لأنهم لا تتمثل فیهم جمیع الأسماء الإلهیة التی تتمثل فی الجنس البشری. و لذلک لما علَّم اللَّه آدم الأسماء کلها- و علَّم هنا مأخوذة بمعنى أظهرها فیه- و جعله خلیفة عنه فی أرضه، أنکر الملائکة الذین لم یدرکوا سر ذلک الأمر منزلة آدم و قالوا «أَ تَجْعَلُ فِیها مَنْ یُفْسِدُ فِیها وَ یَسْفِکُ الدِّماءَ؟» و کل شی ء فی الوجود یسبح اللَّه و یقدسه بحسب منزلته من الوجود و بحسب ما أودع اللَّه فیه من مظاهر أسمائه، لأن التسبیح و التقدیس هنا لیس معناهما إلا إظهار الکمال الإلهی الذی یتجلى فی الموجود بمقتضى طبیعة الموجود نفسه.
و لذلک قال تعالى «وَ إِنْ مِنْ شَیْ ءٍ إِلَّا یُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لکِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِیحَهُمْ» لأن الشی ء لا یفقه تسبیح غیره و تقدیسه للَّه إلا إذا کان ذلک الغیر مماثلًا له فی طبیعته، و لهذا لم تفقه الملائکة تسبیح آدم و لا تقدیسه، و لا هی سبحت اللَّه و قدسته تسبیح آدم و تقدیسه.
و کلما کان الکائن أعلى درجةً فی الوجود من غیره، أی کلما کان مظهراً لعدد أکبر من صفات اللَّه و أسمائه، کان أعظم فی تسبیحه و تقدیسه للَّه. و الإنسان من بین الکائنات کلها هو الذی یسبح اللَّه و یقدسه أعلى مراتب التسبیح و التقدیس، لأنه مظهر الکمالات الإلهیة جمیعها.
غیر أن ما یسمیه ابن عربی «کمالًا» یجب ألا یفهم منه الکمال الخلقی وحده، بل الکمال عنده کل صفة وجودیة، أو کل صفة تحقق الوجود فی ناحیة من نواحیه سواء أ کانت الصفة أخلاقیة أم غیر أخلاقیة، خیراً أم شراً. فالطاعة من العبد کمال و هی من مظاهر اسم المنعم أو اسم الرحیم أو ما شاکلهما من أسماء الجمال.
و المعصیة من العبد کمال أیضاً لأنها صفة وجودیة و هی من مظاهر اسم الجبار أو المنتقم أو المعذب أو ما شاکلها. و من هنا کانت الطبیعة الانسانیة أکمل من طبیعة الملائکة لأنها تحقق من معانی الوجود ما لا تحققه الطبیعة الملائکیة.
فطبیعة الإنسان بدنیة روحیة معاً، و طبیعة الملائکة روحیة فقط.
قارن الفص السابع عشر فی شرح المؤلف للآیة «وَ إِنْ مِنْ شَیْ ءٍ إِلَّا یُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ» (س 17 آیة 44).
(9) «اعلم أن الأمور الکلیة ... فهی باطنة لا تزال عن الوجود العینی».
(9) الأمور الکلیة هی المعقولات أو المثل فی فلسفة أفلاطون، و المراد بها هنا الصفات الإلهیة المتجلیة فی الخلق على نسب متفاوتة. و لابن عربی رأی خاص فی وجودها یختلف تماماً عن رأی أفلاطون فی المثل. فالأمور الکلیة فی مذهبه معان عقلیة لیس لها وجود عینی- أی خارجی- مستقل عن الأشیاء التی لها حکم فیها و نسبة إلیها، و لکن لها أثراً فی کل ما له وجود عینی. و قوله «فهی باطنة لا تزال عن الوجود العینی» یمکن قراءته فهی باطنة لا تزال (بفتح تاء تزال) أی فهی باطنة عن الوجود العینی لا تزال کذلک. و یمکن قراءتها لا تزال (بضم التاء) أی لا تنمحی
أو لا تفارق الوجود العینی. أی أن الکلی إن کان له وجود خارجی فوجوده فی أفراده لا یفارقها.
و نسبة الأمر الکلی إلى أفراده نسبة واحدة سواء أ کان المتصف به شیئاً مؤقتاً أم غیر مؤقت، حادثاً أم قدیماً. فنسبة العلم مثلًا إلى جمیع من یتصفون به واحدة إذ نقول فی کل من اتصف بالعلم إنه عالم، و کذلک نقول فی الحیاة و فی الإرادة. و لکن الأمر الکلی من ناحیة أخرى یعود إلیه حکم من الموجودات العینیة التی یتحقق فیها بحسب طبیعة تلک الموجودات، فیوصف بالقدم إذا اتصف به القدیم و بالحدوث إذا اتصف به الحادث.
(10) «ثم لتعلم أنه لما کان الأمر على ما قلناه ... إلا للوجوب الذاتی»:
(10) لما شرح معنى المحدَث (و المراد به العالم) و أنه هو الممکن المفتقر فی وجوده إلى غیره لا الذی له أولیة فی الزمان، أخذ یشرح الصلة بینه و بین محدِثه الذی هو واجب الوجود. فقال إن طبیعة واجب الوجود اقتضت وجود المحدَث لذاتها، و لذا کان المحدَث واجب الوجود بغیره. و اقتضت طبیعة الواجب الوجود کذلک أن یکون المحدَث (العالم) على صورة من أوجده فیظهر فیه کل شی ء من اسم و صفة عدا وجوب الوجود الذاتی و هی الصفة التی انفرد بها اللَّه.
و لما کان العالم صورة واجب الوجود بهذا المعنى أحالنا اللَّه فی العلم به على النظر فی الحادث بما فیه أنفسنا، و بذلک عرفناه و استدللنا بأنفسنا علیه.
وهنا یصل ابن عربی إلى النقطة الختامیة فی هذا الموضوع و یعرج مرة أخرى على مذهبه فی وحدة الوجود فیقول «فمما وصفناه بوصف إلا کنا نحن ذلک الوصف إلا الوجوبَ الخاص الذاتی».
بل إن الأنبیاء أنفسهم (ألسِنة التراجم) یصفون اللَّه بهذه الأوصاف و یصف هو نفسه لنا بها أو بنا، فنحن صفاته لأننا مظهره، و علمنا به علمنا بنا و منَّا، لأننا نراه فی المرآة، و یستحیل علینا أن نراه بدونها، و المرآة العالم الذی نحن جزء منه.
(11) «فبهذا صح له الأزل و القدم .. فی عین آخریته»:
(11) ظهر مما تقدم أن الحق و الخلق وجهان لشی ء واحد هو الحقیقة المطلقة أَو الوجود المطلق لا فرق بینهما إلا فی وجوب الوجود الذی یتصف به الحق، و إمکان الوجود أو الافتقار الذاتی الذی هو من طبیعة الخلق. و عن وجوب الوجود تتفرع کل الصفات التی یتمیز بها الحق عن الخلق کالقدم و الأزلیة و الأبدیة و غیرها.
فالحق قدیم أی لا أول لوجوده لأنه یستحیل علیه المسبوقیة بالعدم. فهذا معنى من معانی الأولیة انتفى عنه.
و لکنه یصف نفسه بأنه الأول و الآخر فلا بد أن یکون المراد بالأولیة هنا أنه مبدأ الوجود و الأصل الذی صدر عنه کل وجود، کما أن المراد بالآخریة رجوع کل موجود فی آخر الأمر إلیه کما قال «وَ إِلَیْهِ یُرْجَعُ الْأَمْرُ کُلُّهُ».
و لهذا قال المؤلف «فهو الأول فی عین آخریته» أی أن أولیته و آخریته یرجعان إلى سبب واحد هو افتقار الموجودات إلیه. فالأزل و الأبد إذن من صفات الواحد الحق وحده، و الوجود الزمانی المحدود من صفات الکثرة. و لا یمکن أن تکون أولیة الحق تعالى مثل أولیة الوجود المقید بمعنى افتتاح الوجود عن العدم، و إلا لم یصدق علیه أن یکون آخراً لأن الآخریة حینئذ تکون بمعنى آخریة الموجودات المقیدة أیضاً و الموجودات المقیدة أو الممکنات غیر متناهیة.
(12) «فالعالم بین کثیف و لطیف و هو عین الحجاب على نفسه، فلا یدرک الحق إدراکه نفسه».
(12) فی العالم أجسام و أرواح و هی المرادة بالکثیف و اللطیف، و کلها حُجُبٌ تستر الذات الإلهیة و تمنعها من الظهور عاریة عن کل تعین، کما تحول بیننا و بین إدراک تلک الذات على حقیقتها.
و قد استشهد الصوفیة فی هذا المعنى بحدیث کثیراً ما رددوه و ذهبوا فی تأویله کل مذهب و هو أن للَّه سبعین ألف حجاب من نور و ظلمة لو کشفها لأحرقت سُبُحات وجهه ما انتهى إلیه البصر من خلقه».
قال أصحاب وحدة الوجود المراد بالوجه الذات الإلهیة و بالحجب التعینات الکونیة.
فالعالم الذی هو صورة اللَّه هو عین الحجاب الذی یستر اللَّه، و لا یدرک العالم من اللَّه إلا بمقدار ما یتجلى فیه من أسرار الحق. و لهذا لا یدرک شی ء من العالم الحقَّ کما یدرک الحق نفسه.
و هذا اعتراف صریح من ابن عربی بأن الوجود المطلق بعید المنال حتى على ذوق الصوفی، و منه یتبین أن دعواه فی وحدة الوجود لا تقوم على الکشف و الاستدلال، و إنما هی فرض افترضه و عجز عن تأییده.
و قد یقال إن المراد بالعالم «العالم الأکبر» لا الإنسان و إن الإنسان وحده هو الذی یستطیع إدراک الحق و إدراک الوحدة الوجودیة لأنه الصورة الکاملة للوجود.
و لکن ابن عربی أمیل إلى الأخذ بالمعنى الأول. لا فکاک للإنسان من عقاله و لا تخلص له من صورته إلا بالموت: و ما دام فی تعینه، و ما دامت له إنِّیَّة تمیزه عن غیره فهو عاجز عن إدراک الحق و الوصول إلیه.
و لهذا أجمع الصوفیة على ضرورة العمل لرفع ذلک الحجاب- حجاب الانِّیة، و جعلوا غایة طریقتهم الفناء عن الصفات البشریة المشار إلیها بالانِّیة. قال الحسین بن منصور الحلاج و قد أشقاه عذاب الحجاب:
بینی و بینک إنِّیِّی ینازعنی ... فارفع بفضلک إنِّیِّی من البین
و لکن الحلاج کان حلولیاً و لم یکن من أصحاب وحدة الوجود فهو یطلب محو صفاته التی یشعر أنها عائق له دون الوصول إلى اللَّه و حلول الصفات الإلهیة محلها. و هذا معنى لا یرمی إلیه أصحاب وحدة الوجود عند ما یتکلمون عن الفناء، بل الفناء عندهم حال یتحقق فیها الصوفی من اتحاد موجود بالفعل کان قد حجبه عنه اشتغاله بإنیته: فلیس فی الامر فی زعمهم تحول فی الصفات و لا صیرورة و لا حلول، و إنما هو تحقق من زوال الصور الفانیة و بقاء الذات الأبدیة. أما حقیقة هذه الذات المطلقة فلا یرقى إلیها إنسان أیاً کان.
و ابن عربی صریح فی هذا کل الصراحة حیث یقول: «فلا یزال الحق من هذه الحقیقة غیر معلوم علم ذوق و شهود، لأنه لا قَدم للحادث فی ذلک» (الفصل الأول).
(13) «فالکل مفتقر ما الکل مستغنی» إلى آخر الأبیات:
(13) المراد بالکل الحق و الخلق أو اللَّه و العالم. و الکل فی نظره مفتقر لأن الحق و الخلق وجهان لحقیقة واحدة مفتقر کل واحد من وجهیها إلى الآخر. أما افتقار الخلق إلى الحق فظاهر إذ قد بینا أن الخلق لیس إلا الصورة و المظهر الخارجی للحق: فبالحق وجوده و من الحق یستمد ذلک الوجود على الدوام.
و لو لا أن الحق سبحانه قد طبع صورته على صفحة العالم، أو کما یقول المؤلف «لو لا سریان الحق فی الموجودات بالصورة»، ما کان للعالم وجود. و قد ذکرنا أیضاً أن العالم من ناحیة أخرى لیس إلا الصفات و الأسماء الإلهیة التی وصف الحق بها نفسه و وصفناه نحن بها. فلیس للعالم وجود، بل لیس له معنى إلا بالإضافة إلى الحق.
أما افتقار الحق إلى الخلق و یقصد ابن العربی بالحق اللَّه لا الذات الإلهیة المجردة عن کل وصف و کل نسبة (و هی التی ترادف فی فلسفة أفلوطین «الواحد») فراجع إلى أن للحق من الأسماء و الصفات ما لا یتحقق إلا عن طریق العالم الذی هو مظهرها.
و لو لا هذا المظهر الأسمائی و الصفاتی لظل الحق ذلک «الکنز المخفی» الذی أشار إلیه الحدیث القدسی الذی أَسلفنا ذکره.
فالافتقار من الخلق إلى الحق و من الحق إلى الخلق فی نظر ابن عربی حقیقة لا کنایة فیها. و لکنه یصف الحق أحیاناً بأنه الغنی على الإطلاق، و بهذا یقصد الذات الإلهیة العاریة عن الصفات و الأسماء، و هذا ما أشار إلیه البیت الثانی.
(14) «فقوله «اتقوا ربکم»: اجعلوا ما ظهر منکم وقایة لربکم ... أدباء عالمین.
(14) مهما یکن التفسیر الذی نأخذ به فی شرح هذه العبارة، فإن کلمتی «اتقوا» و «ربکم» لیستا مستعملتین فی معنییهما للعادیین. «اتقوا» مأخوذة من الوقایة
لا من التقوى، و الرب مأخوذ بمعنى الاسم الإلهی أو الأسماء الإلهیة الظاهرة فی مجلى من مجالی الوجود. و رب کل موجود هو الاسم الإلهی الظاهر فیه على ما سیبینه المؤلف فی الفص الاسماعیلی.
أما قوله «اجعلوا ما ظهر منکم وقایة لربکم» إلخ فیمکن فهمه بمعنیین:
الأول اجعلوا الصورة التی هی مجلى الاسم الإلهی وقایة لذلک الاسم فإنه لا وجود للاسم و لا معنى له إلا بها، ولا تنسوا أن الاسم الإلهی أیضاً وقایة للصورة إذ لا وجود لها إلا به.
و المعنى الثانی وهو أدنى إلى المراد و أکثر تمشیاً مع بقیة الفقرة أن یقال إن الصورة الخارجیة للإنسان هی جسمه و هو المشار إلیه بقوله «ما ظهر» و الصورة الباطنیة له هی ذلک الجزء الإلهی فیه المقوم لصورته و هو المعبر عنه بالرب.
فالمراد أن ینسب الإنسان کل الصفات البدنیة إلى البدن وحده و بذلک یقی ربه لأن صفات البدن ذمیمة، و قصر الوصف بها على البدن وقایة للرب.
و أن ینسب کل الصفات الروحیة إلى الصورة الباطنیة (و هی الرب) و فی هذا وقایة للبدن، لأن صفات الرب صفات حمد أو مدح: و من له صفات الحمد یحتمی به من له صفات الذم.
و معنى العبارة کلها: إن کان ذم فانسبوه لأنفسکم و احموا اللَّه منه، و إن کان مدح فانسبوه إلى اللَّه (الذی هو فیکم) و احتموا به.
و لذلک قال المؤلف «فکونوا وقایته فی الذم و اجعلوه وقایتکم فی الحمد».