الفقرة الرابعة والثلاثون:
نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص الشیخ عبد الرحمن أحمد الجامی 898 هـ :
02 - نقش فص حکمة نفثیة فی کلمة شیثیة
قال الشیخ ابن العربی الطائی الحاتمی : (اعلم أن عطیات الحق على أقسام : منها أنه یعطی لینعم خاصة من اسمه الوهاب وهی على قسمین : هبة ذاتیة ، وهبة أسمائیة . فالذاتیة لا تکون إلا بتجلٍ للأسماء ، وأما الذاتیة فتکون مع الحجاب . ولا یقبل القابل هذه الأعطیة إلا بما هو علیه من الاستعداد وهو قوله : " أَعْطَى کُلَّ شَیْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى " [طه : 50] . فمن ذلک الاستعداد یکون العطاء عن سؤال امتثال للأمر اإلهی ، وسؤال بما تقتضیه الحکمة والمعرفة لأنه أمیرٌ مالک یجب علیه أن یسعى فی إیضال کل ذی حقٍ حقه . مثل قوله علیه السلام : " إن لبدنک علیک حقاً ولنفسک ولعینک .. الحدیث " .)
02 - شرح نقش فص حکمة نفثیة فی کلمة شیثیة
قال رضی الله عنه : (اعلم أن أعطیات الحق سبحانه على أقسام )
لما سبق ذکر معنى «الفص» و«الحکمة» و«الکلمة »، لم یبق ما یجب التنبیه علیه فی ترجمة کل فص إلا معنی انصاف کل حکمة بصفتها وسبب اختصاص تلک الحکمة بالنبی الذی نسبت إلیه الکلمة .
فأقول «النفث» لغة إرسال النفس رخوا "به بخار ماء النفس"، وههنا عبارة عن إرسال النفس الرحمانی، أعنی إفاضة الوجود على الماهیات القابلة له والظاهرة به؛ أو عن إلقاء العلوم الوهبیة والعطایا الإلهیة فی روع من أستعد لها وقلبه .
قال رسول الله صلى الله علیه وسلم :" إن روح القدس نفث فی روعی أن نفسا لن تموت حتى تستکمل رزقها؛ ألا فأجملوا فی الطلب ".
أو عن النفث المخصوص بأهل علم الروحانیة والنیرنج والعزائم والرقی، شرعیها وحکمیها : وهو بث الروحانیة وبسطها فی النفس وإرسالها صورة إلى الأمر المتوجه إلیه.
وإنما خضت الحکمة النفثیة بالکلمة الشبثیة لأنه أول إنسان حصل له العلم بالأعطیات الحاصلة من مرتبة المصدریة والمفیضیة، ونزلت علیه العلوم الوهبیة الدینیة، ونزلت علیه علوم الروحانیات والملائکة الخصیصة بالتسخیر والتصریف والتصرف فی الأکوان بالأسماء والحروف والکلمات والآیات وما شاکل ذلک.
ولما کان أول المراتب المتعقلة التعین الجامع للتعینات کلها، وله أحدیة الجمع ؛ وکان المرتبة التی تلیه مرتبة المصدریة والفیاضیة؛ وکان آدم علیه السلام صورة المرتبة الأولى، کما کان شیث علیه السلام مظهر الثانیة، قدم الفص الآدمی فی الذکر وجعل الشیئی تلوه، موافقة للوجود الخارجی.
(اعلم أن أعطیات الحق سبحانه) - "الأعطیات" إما بفتح الهمزة وتخفیف الیاء
جمع «أعطیة»، وهی جمع "عطاء" ، فهی جمع الجمع ؛ وإما بضم الهمزة وتشدید الیاء جمع «أعطیة»، على وزن أمنیة .
وبالجملة، فأعطیات الحق سبحانه وتعالى مشتملة (على أقسام) جمة وأنواع کثیرة.قال رضی الله عنه : (منها أنه یعطی لینعم خاصة من اسمه «الوهاب»، وهی على قسمین:
هبة ذاتیة وهبة أسمائیة. فالذاتیة لا تکون إلا بتجلی. وأما الأسمائیة، فتکون مع الحجاب .)
(منها)، أی من تلک الأقسام، (أنه)، أی الحق سبحانه وتعالى، (یعطی) عطاء (لینعم)، أی یظهر إنعامه وجوده، بأن یکون مقصوده تعالى إظهار الإنعام (خاصة) بلا طلب عوض من المعطی له من حمد أو شکر أو غیر ذلک.
ولا یکون هذا العطاء إلا من اسمه «الوهاب»، الذی هو المعطی ابتداء من غیر مقابلة وجزاء، بحیث یتملک الموهوب له الشیء الموهوب بعد قبوله إیاه ووقوعه عنده بأطیب موقع.
وتمام ذلک لا یکون إلا فی النشأة الجنانیة أو فیما یدوم أثره، کالإیمان والتوفیق للأعمال الصالحة، فإن ما عداها مما یتعلق بهذه النشأة الدنیویة کلها أمانة ورعایة واجب ردها، فلا یتملکها الموهوب له حقیقة .
(وهی)، أی الأعطیة الحاصلة الواصلة من اسمه «الوهاب» إلى القابلین المستعدین لها، منطویة (على قسمین) مندرجین تحتها : أحدهما (هبة) وعطیة (ذاتیة)، أی مستندة إلى ذات الألوهیة، أحدیة جمع جمیع الأسماء؛ إذ الذات من حیث هی هی لا تعطی عطاء ولا تتجلى تجلیا.
(و) ثانیهما (هبة) وعطیة (أسمائیة) من حیث حضرة من حضرات الأسماء، بحسب قبول المتجلی له وخصوص قابلیته ومقامه .
فإن قلت: «العطایا الحاصلة من الاسم الوهاب» أسمائیة. فکیف تنقسم إلى الذاتیة والأسمائیة؟»
قل : المراد به «العطایا الذاتیة» ما یکون مبدأه الذات من غیر اعتبار صفة من الصفات معها.
وإن کان لا یحصل ذلک إلا بواسطة الأسماء والصفات، إذ لا یتجلى الحق سبحانه من حیث ذاته للموجودات إلا من وراء حجاب من الحجب الأسمائیة - وبـ "الأسمائیة" ما یکون مبدأه صفة من الصفات من حیث تعینها وامتیازها عن الذات. فعلى هذا یمکن أن یکون بعض العطایا الحاصلة من الاسم «الوهاب» ذاتیة.
(فالذاتیة)، أی فالعطایا الذاتیة ، (لا تکون) أبدا (إلا بتجلی) إلهی، أی بتجلی حضرة هذا الاسم الجامع الذی هو أحدیة جمع جمیع الأسماء، لا بتجلی الذات الأحدیة، لما عرفت غیر مرة أن لا حکم ولا رسم ولا اسم ولا تجلی ولا غیر ذلک فی الأحدیة الذاتیة .
فیکون تعیین التجلی من حضرة الألوهیة ، فیضاف التجلی لهذا السر إلى ذات الألوهیة، لا إلى مطلق الذات.
والتجلی من الذات لا یکون إلا على صورة المتجلى له - وهو العبد - وبحسب استعداده ، کما أن الحق یظهر فی مرایا الأعیان بحسب استعداداتها وقابلیتها بظهور أحکامه بها. غیر ذلک لا یکون.
(وأما) العطایا (الأسمائیة، فتکون) أبدأ (مع الحجاب)، أی مع حجابیة التعین الاسمی، بما به یمتاز أحد الأسماء عن الآخر و یغایره، لا غیر،
وأهل الذوق والوجدان یفرق بینهما، أی بین العطایا الذاتیة والأسمائیة، عند حصول الفیض والتجلی. ویعرف منبع فیضانه بمیزانه الخاص له الحاصل من کشفه . والمراد ب «أهل الذوق» من یکون حکم تجلیاته نازلا من مقام روحه وقلبه إلى مقام نفسه وقواه، کأنه یجد ذلک حتة ویدرکه ذوقة؛ بل یلوح ذلک من وجوههم.
قال تعالى: "تعرف فی وجوههم نضرة النعیم" [المطففین : 42].
وهذا مقام الکمل والأفراد، ولا یتجلى الحق بالأسماء الذاتیة إلآ لهم.
قال رضی الله عنه : (ولا یقبل القابل هذه الأعطیة إلا بما هو علیه من الاستعداد، وهو قوله، "أعطى کل شیء" خلقه.)
(ولا یقبل القابل هذه الأعطیة)، أی أعطیات الحق سبحانه، ذاتیة کانت أو أسمائیة، (إلا بما هو علیه)، أی إلا بمقدار ما یکون القابل علیه، (من الاستعداد) ، فإن التجلیات فی حضرة القدس وینبوع الوحدة وحدانیة النعت، هیولانیة الوصف .
لکنها تنصبغ عند الورود بحکم استعدادات القوابل ومراتبها الروحانیة والطبیعیة والمواطن والأوقات وتوابعها، کالأحوال والأمزجة والصفات الجزئیة.
فیظن لاختلاف الآثار أن التجلیات متعددة بالأصالة فی نفس الأمر، ولیس کذلک. قال سبحانه وتعالى: "وما أمرنا إلا واحدة کلمح بالبصر" [القمر: 50].
فکما أن الحق سبحانه واحد من جمیع الوجوه، کذلک فیضه وأمره - کما أخبر - لا کثرة فیه إلا بالنسبة إلى القوابل.
اعلم أن من المتفق علیه عند أهل الکشف وأهل النظر الصحیح من الحکماء أن حقائق العالم المسماة عند بعضهم بـ "الماهیات الممکنة" غیر مجعولة، وکذلک استعداداتها الکلیة - التی بها تقبل الفیض الوجودی من المفیض الحق سبحانه. والوجود الفائض واحد بالاتفاق بیننا وبینهم، وهو مشترک بین جمیع الماهیات الممکنة.
فإذا کان کذلک، فالتقدم والتأخر الواقع بین الأشیاء فی قبول الوجود الفائض من الحق لا موجب له إلا تفاوت استعدادات تلک الماهیات.
فالتامة الاستعداد منها قبلت الفیض أسرع وأتم وبدون واسطة، کالقلم الأعلى المسمى بـ «العقل الأول».
وإن لم یکن الاستعداد تام جدا، تأخر القبول، وکان بواسطة أو وسائط، کما وقع وثبت شرعا وکشفا وعقلا. والموجب للتفاوت بالنقص والتمام الاستعدادات، لا غیر.
والفیض واحد ، والاستعدادات مختلفة متفاوتة، مثل ورود النار على النفط والکبریت و الحطب الیابس والأخضر .
فلا شک أن أولها وأسرعها قبولا للاشتعال والظهور بصورة النار النفط، ثم الکبریت، ثم الحطب الیابس، ثم الأخضر .
فأنت إذا أمعنت النظر فیما ذکرنا، رأیت أن علة سرعة قبول النفط الاشتعال قبل غیره، ثم الکبریت - کما ذکر - لیست إلا قوة المناسبة بین مزاج النفط والنار واشتراکهما فی بعض الأوصاف الذاتیة، التی بها کانت النار نارة.
وکذلک سبب تأخر قبول الحطب الأخضر الاشتعال إنما موجبه حکم المباینة التی تضمنها الحطب الأخضر من البرودة والرطوبة المنافیة لمزاج النار وصفتها الذاتیة. (وهو)، أی الاستعداد، (قوله)، أی ما یدل علیه قوله عز وعلا، (" أعطى کل شیء" [طه: 50]) ۔ سواء کانت شیئیته شیئیة ثبوتیة أو وجودیة .
فإنه کما أن الحق سبحانه أعطى الأشیاء الثبوتیة فی مرتبة العلم الاستعدادات الکلیة الغیر المجعولة التی بها تقبل الوجود.
قال رضی الله عنه : (فمن ذلک الاستعداد . وقد یکون العطاء عن سؤال بالحال، لا بد منه، أو عن سؤال بالقول.)
کذلک أعطى الأشیاء الوجودیة فی مرتبة العین الاستعدادات الجزئیة المجعولة التی بها تقبل الأحوال الوجودیة .
فی «الاستعداد الکلی» ما به قبلت مثلا الوجود من الحق سبحانه حال تعیین الإرادة لک من بین الممکنات وتوجیه الحق نحوک للإیجاد.
و"الاستعداد الجزئی" ما تلبست به بعد الوجود من الأحوال الوجودیة، إذ کل منها یعدک لما یلیه، کما قال تعالى : " لترکبن طبقا عن طبق" [الانشقاق : 19]، أی حالا هو متولد عن حال.
والکلی الذی به قبلت وجودک لیس وجودیة ؛ بل هو عبارة عن حالة غیبیة لعینک الثابتة.
وما سواه من الاستعدادات الجزئیة المشار إلیها، فوجودیة.
وبالجملة، فهو سبحانه "أعطى کل شیء" [طه: 50] علما وعینا ("وخلقه") [طه: 50]، أی ما قدر له من الاستعداد الکلی والجزئی وما یتبعهما.
فمن ذلک، أی من قبیل ما قدره الله سبحانه وأعطاه کل شیء، الاستعداد، کلیة کان أو جزئیا .
(وقد یکون العطاء)، ذاتیا کان أو أسمائیة، (عن سؤال) واقع من المعطى له بالحال الاستعدادی، أو الحال الباعث على السؤال باللسان.
ولم یرد رضی الله عنه ههنا (بـ «الحال») ما یقابل الاستعداد ؛ بل ما یشملهما جمیعا : أما أولا، فلأنه لم یکن حینئذ أحد الأقسام الذی هو "السؤال بالاستعداد" مذکورا.
وأما ثانیا، فلأنه لا یصح حینئذ قوله، (لا بد منه)، أی من السؤال بالحال، فإنه قد یصل العطاء إلى المعطى له من غیر سؤال منه بلسان الحال ، کما إذا صادف کنزا بغتة؛ فإن ذلک مما یسأله بلسان الاستعداد، لا بلسان الحال.
ومثال السؤال بلسان الاستعداد سؤال الأسماء الإلهیة ظهور کمالاتها؛ وسؤال الأعیان الثابتة وجوداتها الخارجیة.
ومثال السؤال بلسان الحال سؤال الجائع یطلب بجوعه الشبع، والعطشان یسأل بعطشه الری.
وإلى لسان الحال أشار من قال : وفی النفس حاجات وفیکم فطانة …… سکوتی بیان عندکم وخطاب
وأیضا لا بد فی العطاء من سؤال الاستعداد، ولا یتخلف عنه العطاء.
وأما الحال، فهو الباعث على الطلب، وهو أیضا من الاستعداد .
فلو لم یکن فی الاستعداد الطلب، لم یحصل الداعیة. ولکن قد یکون العطاء بدونه، وهو لا یقتضی حصول العطاء على القطع.
قال رضی الله عنه : (والسؤال بالقول على قسمین : سؤال بالطبع، وسؤال امتثال للأمر الإلهی وسؤال بما یقتضیه الحکمة والمعرفة، لأنه أمیر مالک یجب علیه أن یسعى فی إیصال کل ذی).
(أو عن سؤال)، أی وقد یکون العطاء عن سؤال، (بالقول) باللسان.
(والسؤال بالقول) مشتمل (على قسمین): أحدهما (سؤال بالطبع)، بأن یکون الباعث على السؤال الاستعجال الطبیعی، فإن الإنسان خلق عجولا؛ یسأل ویطلب الکمال قبل حلول أوانه.
وذلک لأن من شأن الطبیعة وطین قابلیتها اللازب أن یلتصق بما یستشعر فیه کماله عاجلا. وهذا القسم من السؤال إما أن یوافقه سؤال الاستعداد أو لم یوافقه.
فإن وافق، فلا بد من وقوع المسؤول فی الحال ؛ وإن لم یوافق، فلا یقع فی الحال ، البتة .
وثانیهما سؤال بغیر الطبع، وهو أیضا قسمان : الأول (سؤال امتثال للأمر الإلهی) فی قوله تعالى : "أدعونی أستجب لکم " [غافر : 60]. فهذا السائل هو العبد المحض الذی لا یشوب صرافة عبودیته نسبة اختیار ولا إرادة مطلوب ولا طلب مراد، کما قیل: سقط اختیاری مذ قنیت بحبکم …… عنی فلا أرجو ولا أتطلب
لیس المحب حقیقة من یشتهی …… أو یشتکی أو یرتجی أو یرهب
(و) الثانی (سؤال بما یقتضیه الحکمة والمعرفة)،أی بسبب اقتضاء الحکمة والمعرفة السؤال.
وذلک (لأنه)، أی السائل بمقتضى الحکمة والمعرفة، (أمیر) منصرف فی رعایاه - سواء کان رعیته أهل العالم کله أو أهل مملکته أو أهل داره أو بدنه - بقواه العلمیة والعملیة على حسب مرتبة السائل، (مالک) أزمة أمورهم، کفیل لمصالحهم، عالم بأن عند الله أمورا من مصالحهم قد سبق العلم الإلهی بأنها لا تنال إلا بعد سؤال ؛ فیسأل الله سبحانه ویدعوه لیحصل تلک الأمور ویوصلهم إلیها، لأنه (یجب علیه)، أی على ذلک السائل، (أن یسعی) حسب المقدور (فی إیصال کل ذی حق) من رعایاه (إلى حقه).قال رضی الله عنه : (حق إلى حقه، مثل قوله: «إن لأهلک علیک حقا ولنفسک ولعینک ولزورک» الحدیث.)
والذی یدل على هذا الوجوب (مثل قوله صلى الله علیه وسلم : «إن لأهلک»)، الذین یستاهلون لتربیتک، کالأزواج والأولاد فی الآفاق وکالقوى الروحانیة والجسمانیة فی الأنفس، («علیک حقا") ینبغی أن توصلهم إلیه.
(و) کذلک («لنفسک»)، أمارة کانت أو لوامة أو مطمئنة، فإن لها فی کل مرتبة علیک حقا یجب إیصالها إلیه.
(«و») کذلک («لعینک»)؛ فلا تمنعها عن حقها، کالنوم مثلا، کل منع .
(«و») کذلک (لزوارک») الذین یزورونک - الحدیث .
فالأمر کله یرجع إلیه سبحانه ، منه ابتداؤه وإلیه انتهاؤه ؛ ولا إله غیره .