الفقرة الخامسة والثلاثون:
کتاب تعلیقات د أبو العلا عفیفی على فصوص الحکم الشیخ الأکبر ابن العربی 1385 هـ :
قبل أن تقرا لـ د. أبو العلا عفیفی رحمه الله:
د أبو العلا عفیفی رحمه الله لیس متصوف سالک فى الله وإنما تعلم التصوف بفهم وعیون الغرب العلمانی للعمل والإرتزاق ولبناء مستقبل علمی وسطهم لیحظی بتقدیرهم والاعتراف به کخبیر متخصص وأستاذ فى علوم و مخطوطات الشیخ الأکبر ابن العربی فى وسطهم الفلسفی والعلمی على مستوى العالم وکان له ذلک.
لکن لا ینکر فضله الکبیر فی البحث و جمع ومقارنة و تحقیق مخطوطات الشیخ الأکبر وتراثه العلمی فضل کبیر فی البحث وجمع ومقارنة وتحقیق مخطوطات الشیخ الأکبر ومحاولة شرحها جل عمره .
لکنه تشبع و إنصبغ بما تعلمه من التصوف العقلی فی الغرب العلمانی حیث حصل على الدکتوراه فی الفلسفة من جامعة کمبردج 1930 برسالته عن "فلسفة ابن عربی الصوفیة " تحت اشراف المستشرق البریطانی رینولد نیکلسون.
فی أن التصوف ووحدة الوجود وأصوله الآفلوطونیة والغنوصیة وغیرها من نتائج أفکار العقل النظری والواردات الشیطانیة التی لا ضوابط حاکمة لها من قواعد وقیود الشرع الحنیف المنزل من عند الله سبحانه.
فالحق سبحانه وإن تجلی أو تنزل أو ظهر فی کل شیء وعلى کل شیء وفى کل وجهه فـ هو الله الأحد الفرد الصمد لاشریک له لیس کمثله شیء.
والعبد عبد وإن تجلی الله علیه أو کلمه أو اتخذه أو ولیا أو نبیا او رسولا وعلمه الأسماء کلها وجعله خلیفة له یتصرف فى الأکوان فهو مازال عبدا مفتقرا إلى الله تعالى دائما فی کل شیء. فالرب رب وإن تنزل . و العبد عبد وإن علا.
فقراءة تعلیقات د أبو العلا عفیفی عادة مهمة ولکن تجاوز عن تفسیراته وتعریفاته الفلسفیة الغربیة العلمانیة لوحدة الوجود فهى خطأ ولیس ما یریده الشیخ رضی الله عنه یقینا وکذلک کل الأئمة الأولیاء الکمل منذ رسول الله صلى الله علیه وسلم والصحابة والإمام علی ابن أبی طالب رضی الله عنهم جمیعا وحتى الآن والى یوم یبعثون وما بعد یوم یبعثون .
فالعقل وحده وهو أعظم أدوات الفلاسفة فی التأمل عاجزا تماما بل هو أعمى عن إدراک کل الحقائق والمخلوقات فى عالم الملک والملکوت والجبروت و اللاهوت .
کذالک السموات على ما هی علیه مفتقرا لسلطان الله لینفذ فی معارجها . کذلک لمشاهدة التجلیات والحضرات الإلهیة لکی الأسماء والصفات والأفعال ألهیة ببصر وسمع الله سبحانه فضلا عن التأیید الإلهی للفهم عنه.
فالحق سبحانه القدیم الأزلی السر و النور الساری فی کل ما خلق وإلا صار للعدم. والى ذلک أعلمنا سبحانه فأشار بـالحقیقة الساریة فی کل شیء " لا حول ولا قوة الا بالله" وحدها الحقیقة الحاکمة ازلا وسرمدا على الوجود کله و کافیة لإثبات سریان انوار قدرته وحکمته وارادته تعالى فی کل شیء و کل وجهه لمن أراد الدلیل وتفهم مراد الرسول والأنبیاء والشیخ وکل الأولیاء أن کل الکون مفتقر تعالى إلیه دائما أبدا فى کل لحظة .
قال تعالى :" إِنَّ اللَّهَ یُمْسِکُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَکَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ کَانَ حَلِیمًا غَفُورًا (41) سورة فاطر".
قال تعالى : " قُلْ فَمَنْ یَمْلِکُ مِنَ اللَّهِ شَیْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ یُهْلِکَ الْمَسِیحَ ابْنَ مَرْیَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِی الْأَرْضِ جَمِیعًا وَلِلَّهِ مُلْکُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَیْنَهُمَا یَخْلُقُ مَا یَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى کُلِّ شَیْءٍ قَدِیرٌ (17) سورة المائدة"
قال تعالى : " لَیْسَ کَمِثْلِهِ شَیْءٌ وَهُوَ السَّمِیعُ الْبَصِیرُ (11) سورة ".
قال تعالى : "وَمَا کَانَ لِبَشَرٍ أَنْ یُکَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْیًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ یُرْسِلَ رَسُولًا فَیُوحِیَ بِإِذْنِهِ مَا یَشَاءُ إِنَّهُ عَلِیٌّ حَکِیمٌ (51) سورة الشورى " .
فالله سبحانه وتعالى یکلم ویخاطب من یشاء من عباده بما شاء کیفما شاء وأینما شاء ولاقید ولاحد لهذا او یرسل رسولا عدا الوحی الذی رفعه الله سبحانه بعد خاتم المرسلین صلى الله علیه وسلم ویعلم من یشاء بما یشاء فلا سلطان لأحد من الخلق علیه.
فالله سبحانه وتعالى النور والسر الساری فی کل شیء أزلا وسرمدا خلقا وایجادا واظهارا ومحوا وإحفاء واعداما و زولا غیر مفتر للشیء . وکل الکون مفتقر الیه دائما فى کل شیء.
أین کل هذا من علوم أفلاطون والغنوصیة والبوذیة وغیرها من تلک العلوم الشیطانیة النفسیة التی أوجدها لیسلبوا عقول الناس و یضیعوا أعمارهم "لیضلوا عن سبیل الله" , فمن أراد الله سبحانه أخذ آیات وشرع الله وتجرد له وأخلص له وصدق معه وینتظر ما سیفتح الله به وقتما یشاء سبحانه .
وعرضت کلامه لأهمیته لاکتمال الموسوعة فی إیراد أهم التفاسیر المتاحة ولأن النص الأساسی للموسوعة هو الذی أورده من دراسته معتمدا على عدد کبیر من المخطوطات الموثقة عن کتاب فصوص الحکم للشیخ الأکبر رضی الله عنه.
أخیرا فطالب الحق یکفیه دلیل لیعرف أما المعاند النزق أوالجاهل أو من ران على قلبه لا یکفیه الف دلیل.
وَاللَّهُ یَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ یَهْدِی السَّبِیلَ.
***
الفص الثانی حکمة نفثیة فی کلمة شیئیة
(1) «شیث».
(1) رأینا فی الفص السابق أن المراد بآدم هو الصورة الإلهیة الجامعة لکل حقائق الوجود، و أن الحق سبحانه لما أحب أن یُعرف تجلى لنفسه فی نفسه فی هذه الصورة التی کانت بمثابة المرآة و رأى جمیع کمالاته فیها فجعلها الغایة من الوجود و خلق العالم الأکبر من أجلها. فآدم بهذا المعنى هو الحق متجلیاً بصورة العالم المعقول و حاویاً فی نفسه جمیع صفات عالم الممکنات.
و هنا نرى ابن عربی یرمز بشیث ابن آدم إلى تَجَلٍ آخر للحق: و هو تجلیه فی صورة المبدأ الخالق الذی یمنح الوجود لکل موجود- أو باصطلاح المؤلف- یظهر فی وجود کل موجود. و لما کان من طبیعة الحق أن یخلق- أی أن الخلق فعل ضروری له- و الخلق هنا معناه الظهور بالوجود لا الإیجاد من العدم- کان هذا التجلی الثانی- نتیجة لازمة عن التجلی الأول کما أن الابن نتیجة طبیعیة و لازمة للأب.
و لیس الخلق إیجاداً من عدم کما قلنا و إنما هو ظهور أو خروج أو تجل:
و لذلک اختار له المؤلف کلمة النفخ أو النفث و سمى حکمة شیث بالحکمة النفثیة.
و کلمة النفخ أو النفث تشیر إلى خروج شی ء من شی ء أو فیض شی ء عن شی ء.
أما الوجود ذاته الذی یمنحه الحق لأعیان الموجودات فکثیراً ما یشار إلیه «بنَفَسِ الرحمن» أو «النَّفَس الرحمانی» و من هنا جاء استعمال الرحمة بمعنى منح الوجود.
(2) «العطایا و المنح الإلهیة».
(2) ما ذا تکون العطایا و المنح التی یهبها اللَّه للعالَم فی مذهب یقول بوحدة الوجود سوى الذات الإلهیة و صفاتها؟ فذاته تعالى ساریة فی ذوات جمیع الموجودات، و صفاته هی الصور الأولى المتعینة فی صفات العالم الخارجی. لهذا قسم المؤلف العطایا و المنح إلى ذاتیة و أسمائیة. و یستوی فی مذهب کهذا أن یسأل العبد ربه أن یمنحه کیت و کیت من صفات الوجود بأن یتجلى له فیها و أن لا یسأل، فإن الحق یتجلى فی کل موجود بحسب الاستعداد الأزلی لذلک الموجود لا یغیّر من ذلک سؤال و لا دعاء. و کل موجود له عینه الثابتة فی الأزل یظهر وجوده الخارجی بمقتضاها. هذا هو القانون العام فی فلسفة ابن عربی لا یتحول عنه قید شعرة مهما اختلفت الأسالیب التی یعبر بها عنه.
من الجهل إذن السؤال أو الدعاء، فإن کل شی ء قد قدِّر أزلًا و سیکون على نحو ما قدر: طاعة أو معصیة، خیراً أو شراً، حسناً أو قبحاً، اللهم إلا إذا قدر کذلک أن شیئاً ما لا ینال إلا بالسؤال أو الدعاء. أما الصوفی الکامل فلا یسأل شیئاً بل یراقب قلبه فی کل آن لیقف على مدى استعداده الروحی، لأن قلب الصوفی- و هو مرآته التی التی یرى فیها تجلی الحق- یتغیر فی کل لحظة مع تغیر التجلی الإلهی.
و اللحظة التی یکون فیها الصوفی حاضراً بقلبه مع اللَّه و یدرک فیها ناحیة من نواحی استعداده الروحی هی التی یسمیها الصوفیة «الوقت». و لذلک قالوا: الصوفی بِحُکْم وقته، و الصوفی ابن وقته.
و من الصوفیة- و هم الصنف الأدنى- من یسأل لا للاستعجال و لا غیره و إنما امتثالًا لأمر اللَّه فی قوله «ادْعُونِی أَسْتَجِبْ لَکُمْ»: و لیس المراد بالاستجابة منح الشی ء المسئول فیه دائماً، فإن المسئول فیه لا یتحقق إلا إذا اقتضته طبیعة الشی ء نفسه و وافق السؤال فیه الوقت المقدَّر له. أما إذا اختلف الوقت فلا استجابة إلا الاستجابة بلفظ «لبَّیک» التی یفرق ابن عربی بینها و بین الاستجابة الحقیقیة التی یلزم عنها منح المطلوب.
(3) «فالاستعداد أخفى سؤال».
(3) ذکر المؤلف ثلاثة أنواع من السؤال: السؤال باللفظ أو الدعاء، و السؤال بالحال، و السؤال بالاستعداد. أما السؤال باللفظ فقد شرحناه و بینا أنه لا أثر له مطلقاً فی الإجابة عن المسئول. و أما السؤال بالحال فراجع فی الحقیقة إلى السؤال بالاستعداد، فإن الحال التی تطلب شیئاً ما تتوقف على طبیعة استعداد صاحبها، فلحال الصحة أو المرض مثلًا مطالب، و لکن الصحة و المرض یتوقفان على طبیعة الصحیح و المریض. فلم یبق بعد السؤال باللفظ إذن إلا السؤال بالاستعداد: أی ما تتطلبه طبیعة کل موجود من صفات الوجود. هذا هو السؤال بالمعنى الصحیح، و هذا هو السؤال الذی یستجیب له الحق استجابة حقیقیة.
فإذا قدر لشی ء ما أزلًا أن یکون على نحو ما من الوجود و طلبت طبیعة ذلک الشی ء ما قدِّر لها، تحقق فی الحال ما طلبت. و لیس ما یجری من الأحداث على مسرح الوجود إلا ذاک.
هنا تظهر جبریة ابن عربی واضحة جلیة. و لکنها لیست جبریة میکانیکیة أو مادیة ترجع لطبیعة جامدة غیر عاقلة، بل هی نوع من الانسجام الأزلی Pre -established harmony الذی قال به لیبنتز. کما أنها لیست الجبریة التی قال بها غیر ابن عربی من المسلمین، لأن الجبریة الاسلامیة ثنویة تفترض وجود اللَّه و العالم، أما ابن عربی فیدین بحقیقة وجودیة واحدة. فنظام الوجود القائم و ما طبع فی جبلته من القوانین التی هی فی واقع الأمر قوانین إلهیة و طبیعیة معاً، کل ذلک هو الذی یقرر مصیر العالم فی أیة لحظة من لحظاته. و هذه النزعة أقرب ما تکون إلى نزعة الرواقیة فی إلهیّاتهم.
أما النتیجة العملیة لهذا المذهب من الناحیة الصوفیة، فالرضا المطلق بقضاء اللَّه و قدره، و محاولة الصوفی التخلص- ما أمکنه- من ربقة العبودیة الشخصیة، لیحقق فی نفسه الوحدة الذاتیة مع الحق.
(4) «و من هنا یقول اللَّه تعالى «حَتَّى نَعْلَمَ» ... الکشف و الوجود».
(4) تشعر العبارة «حَتَّى نَعْلَمَ» - إذا أخذت على ظاهرها- بأن علم اللَّه بالأشیاء غیر
أزلی لأنه متعلق بالموجودات الکائنة الفاسدة الموجودة فی الزمان و المکان. و قد حاول بعض المتکلمین نفی هذا عن العلم الإلهی بأن نسبوا الحدوث فی العلم للتعلق لا للعلم نفسه. أما العلم الإلهی فهو قدیم. و لکن ابن عربی یرد علیهم فی هذه النقطة بقوله إنهم أثبتوا صفة العلم زائدة على الذات الإلهیة و جعلوا تعلق العلم بالمعلوم للعلم لا للذات. و لکن الذات و صفاتها شی ء واحد فی نظر المحققین أمثاله (و فی نظر المعتزلة أیضاً)، فالتعلق للذات المتصفة بالعلم لا للعلم. و کذلک الحال فی القدرة و الإرادة و الصفات الأخرى. فإذا قیل تعلق علم اللَّه بکیت و کیت کان معنى ذلک تعلقت الذات الإلهیة المتصفة بالعلم بکیت و کیت. و لکن ذات الحق هی فی الواقع- فی مذهبه- ذات المعلوم: و على ذلک لا یرى أن الحق یکتسب علماً بالمعلوم عند ما یظهر ذلک المعلوم فی الوجود، کما لا یرى بَعْدیةً زمانیة فی العلم الإلهی، و إن افترض قبلیة و بعدیة اعتباریة فی الذات الإلهیة التی تُصوِّرت على أنها کانت ثم أصبحت. فعلم اللَّه بالأشیاء فی العالم العقلی هو علمه بأعیانها الثابتة التی هی ذاته المفصلة فی علمه. أی هی علمه بذاته فی هذا المقام.
و علمه تعالى بالموجودات الخارجیة هو نفس ذلک العلم منکشفاً له فی صفحة الوجود: أو هو علم بذاته متجلیاً فی أعیان الموجودات، فالبعدیة موجودة بهذا المعنى. و علیه یلزم أن نفهم «حَتَّى نَعْلَمَ» على ظاهرها و ألا نؤولها.
(5) «و الأمر کما قلناه و ذهبنا إلیه. و قد بینا هذا فی الفتوحات المکیة».
(5) الأمر الذی قد بینه هو أن الحق سبحانه قد منح من ذاته و صفاته کل موجود ذی ذات و صفات. و هذا هو التجلی الإلهی: أی الظهور فی الصور أو التعینات الکونیة.
و لا یکون التجلی الإلهی لشی ء إلا بحسب استعداد المتجلی له، و لهذا لا یرى إنسان إلا صورته فی مرآة الحق. أما الحق فی ذاته فلا یُرَى و لا یُعْلَم لأنه لا یتجلى فی صورة مطلقة. و قد ضرب المؤلف لهذه الرؤیة الإلهیة مثلًا بالمرآة و الصورة المشاهدة فیها، فإن الناظر إلى نفسه فی المرآة یرى صورته هو و لا یرى جرم المرآة مهما حاول ذلک.
فکذلک الحق الذی هو مرآة الوجود لا یرى إلا صوره المتجلیة فی مرایا الوجود. و لکن التشبیه بالمرآة و الصورة قد استُغِلَّ فی معنى آخر، فشبه الخلق بالمرآة و الحق بالصورة الظاهرة فیها.
فکما أن الحق مرآة الخلق، کذلک الخلق مرآة الحق. و فی هذا یقول المؤلف: فهو (أی الحق) مرآتک فی رؤیتک نفسک، و أنت مرآته فی رؤیته أسماءه و ظهور أحکامها: و لیست (أی هذه الأسماء و أحکامها» سوى عینه.
أما المرجع المشار إلیه فی الفتوحات المکیة فوارد فی الجزء الأول ص 397 فی الکلام عن المراة و صورتها.
(6) فالمرسلون، من کونهم أولیاء، لا یرون ما ذکرناه إلا من مشکاة خاتم الأولیاء».
(6) یعتبر ابن عربی «الولایة» أساس المراتب الروحیة کلها. فکل رسول ولی و کل نبی ولی. و أخص صفات الولی أیاً کان المعرفة: أی العلم الباطن الذی یلقى فی القلب إلقاء و لا یکتسب بالعقل عن طریق البرهان، و هو مختلف عن العلم الموحى به فی مسائل التشریع. و قد یستعمل ابن عربی کلمة «الإنسان الکامل» مرادفة لکلمة «ولی» بهذا المعنى، فالأنبیاء أولیاء لأنهم فوق معرفتهم الکاملة باللَّه یعلمون شیئاً من عالم الغیب. و الرسل أولیاء لأنهم یجمعون بین معرفتهم الکاملة باللَّه و بین العلم الخاص بالشرائع التی أرسلوا بها.
و النبوة و الرسالة تنقطعان لأنهما مقیدتان بالزمان و المکان، أما الولایة فلا تنقطع أبداً، لأن المعرفة الکاملة باللَّه لا تحد بزمان أو مکان و لا تتوقف على أی عامل عرضی.
و هناک فرق آخر و هو أن العلم الشرعی یوحى به إلى الرسول على لسان المَلک، أما العلم الباطن عند الولی- سواء أ کان رسولًا أو نبیاً أو محض ولی، فهو إرث یرثه الولی من خاتم الأولیاء الذی یرثه بدوره من منبع الفیض الروحی جمیعه: روح
محمد أو الحقیقة المحمدیة. و خاتم الأولیاء وحده من بین ورثة العلم الباطن هو الذی یأخذ علمه مباشرة عن روح محمد التی یرمز إلیها الصوفیة عادة باسم «القطب» و لا یقصد بالحقیقة المحمدیة أو روح محمد، محمدٌ النبی بل حقیقته القدیمة التی تقابل العقل الأول عند أفلاطون و «الکلمة» عند المسیحیین، و التی یقول ابن عربی إنها المقصودة فی الحدیث کنت نبیاً و آدم بین الماء و الطین، لا بمعنى قدِّر لی أن أکون نبیاً قبل خلق آدم کما یدل علیه ظاهر الحدیث، بل بمعنى وجدت حقیقتی أو روحی التی هی العقل الإلهی قبل أن یوجد آدم.
(7) «و فی هذا الحال الخاص تقدم (أی محمد) على الأسماء الإلهیة».
(7) یقتبس الصوفیة عادة فی هذا المقام الحدیث القائل إن رسول اللَّه صلى اللَّه علیه و سلم هو أول من یفتح باب الشفاعة فیشفع فی الخلق، ثم الأنبیاء ثم الأولیاء ثم المؤمنون، و آخر من یشفع هو أرحم الراحمین». و إذا فهمنا أن ابن عربی یقصد بالاسم الرحمن الاسم الجامع للأسماء الإلهیة کلها مستشهداً على ذلک بقوله تعالى «قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ»، و إذا کانت شفاعة «الرحمن» ستکون یوم القیامة آخر الشفاعات: إذا کان کل ذلک، أدرکنا کیف قدم محمد الشفیع على الأسماء الإلهیة. و لیس التقدم المذکور تقدماً بالإطلاق، بل هو فی هذا المقام الخاص الذی هو مقام الشفاعة. أما حکمة تأخر الاسم الرحمن فلکی تعم الشفاعة کل شی ء لقوله تعالى «وَ رَحْمَتِی وَسِعَتْ کُلَّ شَیْ ءٍ».
(8.) «و أسماء اللَّه لا تتناهى لأنها تعلم بما یکون عنها ... أو حضرات الأسماء».
(8.) سبق أن ذکرنا فی تعلیقاتنا على الفص الأول کیف اعتبر ابن عربی الموجودات صفات للحق وصف بها نفسه و وصفناه نحن بها. و لما کانت الموجودات لا تتناهى عدداً، کانت الأسماء الإلهیة التی تتجلى فی هذه الموجودات لا تتناهى عدداً أیضاً.
و لکن الموجودات مع عدم تناهیها أفراداً و أشخاصاً، یمکن حصرها فی عدد متناه من
الأجناس و الأنواع. و کذلک الأسماء الإلهیة التی لا ینحصر عددها یمکن ردها إلى أصول عامة محصورة العدد، و هذه الأصول هی أمهات الأسماء و هی المعروفة بالأسماء الحسنى أو الحضرات الأسمائیة. و معنى الحضرة هنا هو المجلى الذی یظهر فیه أثر إلهی من نوع خاص، أو هو المجال الذی یظهر فیه فعل إلهی. فحضرة الرحمن هی مجموعة المجالی التی یظهر فیها أثر للرحمة الإلهیة، و إن کانت حالات الرحمة لا تتناهى عدّا لأن الکائنات المرحومة لا تتناهى عدّا. و حضرة الجبار هی المجال الذی یظهر فیه الحق بهذا الوصف و إن کانت حالات الجبروت لا تتناهى عدّا و هکذا. فالذی لا یتناهى عدّا هو فروع الأسماء أو مظاهرها لا أمهاتها.
و أهم مرجع شرح فیه ابن عربی الأسماء الإلهیة و تصنیفاتها هو کتابة «إنشاء الدوائر» الذی نشره الأستاذ نیبرغ. قارن شرح القیصری على الفصوص. المقدمة ص 11 - 15.
(9) «فما فی الحضرة الإلهیة لاتساعها شی ء یتکرر أصلًا».
(9) لیس فی الوجود سوى ذات واحدة و عدد لا یتناهى من نسب و إضافات یکنَّى عنها بالأسماء الإلهیة، و تسمى حین تظهر فی الصور الخارجیة باسم الموجودات أو التعینات. فالوحدة- و هی ما یقع فیه الاشتراک بین جمیع الموجودات- ترجع إلى الذات: إلى الحق فی ذاته. و الکثرة- و هی ما یقع فیه الاختلاف بین الموجودات- ترجع إلى هذه الإضافات و النسب: إلى الخلق. و لکن الحق و الخلق وجهان لوجود واحد أو حقیقة واحدة. و إذا نظرت إلى هذه الحقیقة من ناحیة الکثرة أو التعدد وجدت اختلافاً کبیراً فی مظاهرها و تمایزاً یکفی فی تشخیص کل منها و إعطائه فردیته. و وجدت فوق ذلک أن لا واحد من هذه المظاهر عین الآخر، بل لا مظهر منها فی لحظة هو عینه فی اللحظة التی تلیه.
و هذا هو الذی أشار إلیه المؤلف بقوله «فما فی الحضرة الإلهیة مع اتساعها شی ء یتکرر أصلًا». کل شی ء یخلَقُ خلقاً جدیداً فی کل آن. فالوجود هو المسرح الأکبر الذی تتعاقب فیه الصور فی الظهور علیه أبداً و أزلًا، و لا تظهر صورة منها علیه مرتین.
هذا هو الخلق الجدید الذی یشرحه المؤلف بإسهاب فی الفص السادس عشر و سنعرض له فی موضعه.
(10) «و هذا العلم کان علم شیث، و روحه هو الممد ... »
(10) ذکرنا فی التعلیق الأول على هذا الفص أن «شیث» لیس إلا رمزاً للحق فی التجلی الثانی أو التجلی الأسمائی الذی ظهر فیه الحق بصورة المبدأ الخالق الذی أعطى کل موجود وجوده و أظهر فیه ما أظهر من معانی أسمائه. و من هنا یظهر لِمَ یعتبر ابن عربی العلم بالأسماء الإلهیة و تجلیاتها وقفاً على شیث الذی یستمد من روحه کل من تکلم فی هذا الموضوع. یقول الصوفیة إن شیث وحده هو الذی بیده مفاتیح الغیب. و لیست مفاتیح الغیب هذه إلا الأسماء الإلهیة، لأنها دلالات على الغیب المطلق الذی هو الذات الإلهیة: أو هی مفاتیح الکنز الخفی الذی أحب الظهور فأظهرته.
(11) «فما فی أحد من اللَّه شی ء، و ما فی أحد من سوى نفسه شیء».
(11) تدل هذه العبارة فی ظاهرها على أن ابن عربی قد وقع فی تناقض شنیع مع نفسه و أنکر فی جملة واحدة ما فصله فی وحدة الوجود فی صفحات بل کتب.
و الحقیقة ألا تناقض فی أقواله إذا وقفنا على مرامیه.
قد ذکرنا فی تعلیقات الفص الأول أن الفیض عنده فیضان: الفیض الأقدس و هو تجلى الحق لنفسه فی صور أعیان الممکنات الثابتة، أو فی الصور المعقولة للوجود الممکن. و کل عین من هذه الأعیان الثابتة تحمل فی نفسها مستقبل تاریخها و ما قدر لها أن تکون عند ما تتحقق بالفعل و تأخذ مکانها بین الموجودات الخارجیة. فهی لا تخضع فی تحققها لشی ء ما إلا لقوانینها الذاتیة التی هی جزء من قوانین الوجود العینی الذی نسمیه بالعالم. فهی بهذا المعنى صورة من صور الحق و وجودها العینی عند ما توجد صورة من صور وجوده. و لکن اللَّه- الذات المطلقة- لیس له من حیث إطلاقه وغناؤه الذاتی عنها وعن غیرها نسبة ما إلیها و لا لها هی نسبة إلیه.
فلیس فیها من ذلک المطلق شی ء. و لیس فیها مما یحقق وجودها إلا طبیعتها الخاصة.
فما فی موجود من الموجودات شی ء من اللَّه (المطلق) عینه على النحو الذی تعین به، و إنما وجود کل شی ء راجع إلى نفسه.
و وجود الأشیاء فی الصور التی هی علیها هو الفیض الثانی أو الفیض المقدس. فإذا فهمنا العبارة السابقة من ناحیة صلتها بهذا الفیض، ارتفع التناقض الظاهری بینها و بین مذهب المؤلف فی وحدة الوجود.
على أنه یمکن تفسیر العبارة بمعنى آخر یتمشى تماماً مع مذهب ابن عربی العام و یتأید بما أورده هو بالفص العیسوی.
و ذلک أن اللَّه عنده هو الوجود المطلق، و کل موجود من الموجودات صورة له. و الصورة- إذا أخذت فی جزئیتها- لیست اللَّه فی إطلاقه.
و إذن فلیست الصورة هی اللَّه و إن کانت مجلى له و قد کفر الذین قالوا إن اللَّه هو المسیح عیسى بن مریم لأنهم حصروا الحق الذی لا تتناهى صوره فی تلک الصورة الجزئیة المعینة، و کان الأولى بهم أن یقولوا إن المسیح صورة من صور الحق التی لا تتناهى.
على أن ابن العربی لا یکتفی بنسبة التحقق فی الوجود إلى ذوات الأشیاء نفسها، بل ینسب إلیها أیضاً کل وحی و کل علم إلهامی أو ذوقی. فلا منبع لعلم فی الإنسان إلا نفسه.
و فی هذا یقول: «فأی صاحب کشف شاهد صورة تلقی إلیه ما لم یکن عنده من المعارف، و تمنحه ما لم یکن قبل ذلک فی یده، فتلک الصورة عینه لا غیره».
فالاستعداد الأزلی فی الموجود هو الذی یعین وجوده و یکیّف ما یوحى إلیه من العلم.
و إذا کان الأمر على ما وصفنا، فما معنى القول بأن اللَّه قادر على کل شی ء، و أنه فعال لما یرید؟ ما معنى الإمکان الذی یتکلم عنه المتکلمون؟
ما معنى أن الممکن هو ما یستوی وجوده و عدمه فإن شاء اللَّه أوجده و إن شاء لم یوجده؟
ألیس کل شی ء مقدراً أزلًا فی عینه الثابتة فإذا ظهر فی الوجود کان ظهوره بحسب ما تقتضیه تلک العین؟
ألا تتنافى هذه الجبریة العنیفة مع وجود إله مختار یفعل فی الوجود ما یشاء و کیف یشاء؟
هذه أسئلة یحاول ابن عربی أن یجیب عنها فی الفقرة التالیة عند ما یشرح معنى الإمکان و الممکن. یقول لما ثبت عند بعض النظار أن اللَّه فعال لما یشاء، جوزوا علیه ما یناقض الحکمة و ما علیه الأمر فی نفسه. فالممکن عندهم ما کان وجوده من اللَّه (واجب الوجود بالذات) و فی إمکان اللَّه أن یوجده على أی نحو أراد، حتى و لو کان ذلک الوجود منافیاً للحکمة و لطبیعة الوجود إطلاقاً. و لکن هذا التفسیر دفع ببعض المتکلمین الآخرین إلى إنکار وجود الممکنات، و قالوا لا وجود إلا لواجب الوجود: و واجب الوجود إما واجب الوجود بذاته أو واجب الوجود بغیره. أما الممکن إطلاقاً فلا یمکن تحقق وجوده.
أما ابن عربی فقد توسط بین الأمرین و قسم الوجود إلى واجب و ممکن ثم قال إن الممکن هو واجب الوجود بالغیر.
یقول «و المحقق یثبت الإمکان و یعرف حضرته، و الممکن ما هو الممکن، و من أین هو ممکن، و هو بعینه واجب الوجود بالغیر، و من أین صح علیه اسم الغیر الذی اقتضى له الوجوب».
و الحقیقة أن «الغَیریَّة» هنا غیریة اعتباریة، و أن واجب الوجود بالغیر لیس إلا مظهراً لواجب الوجود بالذات، و أن کل ما یجری على أی شی ء من أحکام الوجود ضروری، و یستوی أن تنسب هذه الضرورة إلى العین أو إلى الذات المتجلیة فی صورة العین لأن الکل واحد. و لم یجب ابن عربی على الإشکال الذی أثاره نظار المتکلمین، و إنما شرح ناحیة من نواحی مذهبه فی وحدة الوجود.
(12) «و على قدم شیث یکون آخر مولود یولد من هذا النوع الإنسانی».
(12) ذهب شراح الفصوص فی تفسیر هذا الفص الرمزی مذاهب شتى و تضاربت فیه آراؤهم. فمنهم من اعتبر «آخر مولود یولد فی النوع الانسانی» ولداً حقیقیًّا یحمل جمیع أسرار شیث على نحو ما حمل شیث أسرار آدم. و لکنهم اختلفوا بعد ذلک:
فذهب بعضهم إلى أن المراد به ختم الولایة العامة الذی قالوا إنه عیسى علیه السلام.
أما ختم الولایة الخاصة (الولایة المحمدیة) فهو ابن عربی نفسه على نحو ما صرح فی کتاب الفتوحات المکیة (الجزء الأول ص 319).
و ذهب البعض الآخر إلى أنه مطلق ولی یولد آخر الزمان، و یدعو الناس إلى اللَّه فلا تجاب دعوته لغلبة حکم الشهوة على عقول بنی الإنسان فی ذلک العهد.
و علیه فهو غیر عیسى، لأن عیسى سینزل آخر الزمان إلى الأرض و یحکم فیها بشریعة محمد و یرد الإسلام إلى سیرته الأولى.
و هذه تفسیرات لا تشبع غلة و لا تتفق مع روح مذهب المؤلف و لا مع أسلوبه. فالأولى أن نعتبر العبارة رمزیة ثم نأخذ فی حل رموزها.
یبدو أن المراد بالولد الذی هو آخر ما یولد للنوع الانسانی هو «القلب» (أو العقل) کما یفهمه الصوفیة، و أن المراد بأخته التی ولدت معه النفسُ الانسانیة، و أن المراد بالصین الذی ولد فیها الولد القرار البعید للطبیعة البشریة أو موضع السر منها: یؤید ذلک أن کلمة الصین استعملت فی غیر هذا المقام للدلالة على البعد فی مثل قول النبی علیه السلام «اطلبوا العلم و لو فی الصین».
و یُشیر قوله «یکون رأسه عند رجلیها» إلى تغلب النفس الحیوانیة على القلب و قهرها له فی وقت ما من أوقات تطور الإنسان. أما الناس الذین دعاهم هذا الولد إلى اللَّه فلم یستجیبوا له، فالمراد بهم قوى النفس و جنودها التی لا تخضع لسلطان العقل.
فإذا قبض اللَّه ذلک الولد إلیه- و قبض مؤمنی زمانه- و هی قوى الإنسان الروحیة التی تستجیب لدعوته- بقی من بقی من الناس مثل البهائم. و مهما کثر النکاح بین رجالهم و نسائهم- أی بین القوى الفاعلة و القوى المنفعلة فی الإنسان- فلن تستطیع أن تلد ذلک المولود لأنه من طبیعة غیر طبیعتها.
و فی الفقرات الأخیرة من الفص ما یشیر إشارة قویة إلى أن المراد بالمولود العقل الانسانی (أو القلب) الذی هو «الفصل» الممیز للإنسان عن سائر أنواع الحیوان، و آخر ما ظهر فی النشأة الإنسانیة من القوى.