الفقرة الثانیة والعشرون :
کتاب تعلیقات د أبو العلا عفیفی على فصوص الحکم الشیخ الأکبر ابن العربی 1385 هـ :
03 - الفص الثالث فص حکمة سبُّوحیَّة فی کلمة نُوحِیَّة
(1) حکمة سبُّوحیَّة فی کلمة نُوحِیَّة
(1) فلیس المراد بالتشبیه و التنزیه هنا ما أراده المتکلمون عند ما تحدثوا فی الصفات الإلهیة فنفوها أو أثبتوها، و على أی نحو أثبتها المثبتون أو نفاها النافون، بل المراد بهما معنى آخر لم یسبق ابن عربی إلیه سابق، و هو المعنى الوحید الذی یتمشى مع نظریته العامة.
أما المتکلمون فقصدوا بتنزیه اللَّه أنه یتعالى عن کل وصف و کل حد.
لأن الصفات التی یمکننا أن نصفه بها إما منتزعة من صفات المحدثات أو سلوب لها، فإذا وصفناه بصفات المحدثات ألحقناه بها و هذا محال، و إن وصفناه بسلوبها لم نصفه بشی ء، فالأوْلى بنا ألّا نصفه بوصف ما.
فإن ورد فی القرآن من الآیات ما یصف اللَّه بصفة تشعر بالتشبیه أو التمثیل وجب تأویله. و کذلک فعل المعتزلة أکبر المدافعین عن التنزیه مستندین إلى قوله تعالى «لَیْسَ کَمِثْلِهِ شَیْ ءٌ». فاللَّه یجب ألّا یوصف بصفة من صفات المخلوقات، و إن وصفه واصف فیجب ألا یکون ذلک إلا بصفة المخالفة للحوادث و ما یلزم عنها لزوماً منطقیاً کالقدم و البقاء و الضرورة و الإطلاق و ما شاکل ذلک.
أما التشبیه فکان قولَ أهل السنة الذین أخذوا آیات التشبیه على ظاهرها سواء منها ما أشعر بالتمثیل أو التجسیم، و لو أنهم- تحاشیاً للوقوع فی تجسیم صریح- قالوا إن اللَّه یتصف بهذه الصفات، و لکن على نحو لا نعرفه- بلا کیف.
أما ابن عربی فیستعمل کلمتی التنزیه و التشبیه بمعنى «الإطلاق» و «التقید».
فاللَّه منزه بمعنى أنه إذا نظر إلیه من ناحیة ذاته فهو یتعالى عن کل وصف و کل حد و تقیید. و هو بهذا المعنى غنی عن العالمین یحیط بکل شی ء و لا یحیط به شی ء و لا عِلْم، سار فی کل موجود غیر متعین فی موجود دون آخر. فلا یصدق علیه وصف إلا الإطلاق، و فی الإطلاق تنزیهه.
و لکن اللَّه من ناحیة أخرى مشبه، و ذلک إذا نظرنا إلیه من حیث تعینات ذاته فی صور الوجود. فهو یسمع و یبصر مثلًا- لا بمعنى أن سمعه و بصره یشبهان سمع المخلوقات و بصرهم، بل بمعنى أنه متجل فی صورة کل من یسمع و ما یسمع، و کل من یبصر و ما یبصر، أو أنه جوهر کل ما یسمع و یبصر. و هذا تفسیر للتنزیه و التشبیه یخرجهما لا شک عن معناهما الأصلی، و لکنه تفسیر لا غنى عنه- لابن عربی- فی تکوین فلسفته العامة فی طبیعة الوجود. هذا التفسیر هو أساس قوله بأن الحقیقة وحدة و کثرة، ظاهرة و باطنة، و حق و خلق، و رب و عبد، و أنها قدیمة و حادثة، و خالقة و مخلوقة إلى غیر ذلک من المتناقضات التی لا یکل قلمه عن تردیدها.
و التنزیه و التشبیه بهذا المعنى متضایفان متکاملان لا یقوم أحدهما بدون الآخر. هذا إذا قلنا بثنویة الصفات: حق و خلق، إله و عالم، وحدة و کثرة.
أما إذا وقفنا عند الوحدة الوجودیة فقط، فلیس هنالک ما یقال!. و هذا ما یدفع بنا إلى ذکر نوع آخر من التنزیه تکلم عنه ابن عربی، و هو التنزیه الذی تتصف به الذات الإلهیة فی ذاتها، بعیدة عن کل تعین، مجردة عن کل نسبة إلى الوجود الخارجی. و لکن هذا التنزیه- و یظهر أنه یشیر به إلى التنزیه المطلق الذی أشرنا إلیه- لا یدرکه عقل، و لا یمکن أن یدرکه عقل، بل إن مجرد إدراک العقل له تحدید، و هو فوق کل تحدید. و لهذا قال: «اعلم أیدک اللَّه بروح منه أن التنزیه عند أهل الحقائق فی الجناب الإلهی عین التحدید و التقیید». و لیس هذا التنزیه الذی یشیر إلیه إلا التنزیه المطلق. لأن التنزیه حکم، و الحکم تقیید و تحدید للمحکوم علیه. و غایة المنزِّه أن یقول إن اللَّه تعالى
مخالف لجمیع الحوادث، و هذا القول فی نفسه تحدید و تقیید.
و لذلک لم یرتض من معانی التنزیه إلا المعنى الذی شرحناه.
و المنزه فی نظره- إذا فهم التنزیه بالمعنى الثانی- إما جاهل و هو الفیلسوف الذی ینکر الشرائع و ما ورد فیها، و إما سیِّئُ الأدب و هو المعتزلی الذی یقول بالتنزیه المطلق و کأنه یتجاهل ما ورد فی القرآن من آیات صریحة تشعر بالتشبیه.
(2) «فإن للحق فی کل خلق ظهوراً ... فالحق محدود بکل حد».
(2) هذه الجملة من أصرح ما قال به ابن عربی فی التعبیر عن وحدة الوجود و عن ناحیتی التنزیه و التشبیه اللتین أسلفنا ذکرهما.
یقول: فهو (أی الحق) الظاهر فی کل مفهوم (أی مدرک بالفهم) و هو الباطن عن کل فهم إلا عن فهم من قال إن العالم صورته و هویته». فظهور الحق تقییده و هذا هو التشبیه، و بطونه إطلاقه و هو التنزیه. و لذلک إذا أردنا أن نضع له تعریفاً وجب أن یؤخذ فی التعریف الظاهر و الباطن جمیعاً. و قوله «فیؤخذ فی حد الإنسان مثلًا ظاهره و باطنه» یمکن أن یفسر بمعنى فإن أرید تعریف الإنسان مثلًا وجب أن یؤخذ فی التعریف ظاهره (أی الإنسان) و باطنه، بأن یشیر التعریف إلى حیوانیته و عقله.
و یمکن أن تفسر على أن الضمیر فی ظاهره و باطنه یعود على الحق: أی یؤخذ فی تعریف الإنسان ما بطن فیه من الحق و ما ظهر.
و على الاعتبار الأول یکون تعریف الإنسان بأنه الحیوان الناطق مثالًا لما یجب أن یکون علیه تعریف الحق أو تعریف أی شی ء من أنه یشمل الظاهر و الباطن.
و على الاعتبار الثانی یکون تعریف الإنسان مثالًا یتبین فیه کیف تدخل صفات الحق الظاهرة و الباطنة فی تعریفات الأشیاء، إذ أن النطق فی الإنسان مظهر من مظاهر الاسم «الباطن» و الحیوانیة مظهر من مظاهر الاسم «الظاهر»: و هما من الأسماء الإلهیة. هذا هو التفسیر الذی ارتضاه کل من القیصری و بالی فی شرحهما على الفصوص. راجع الأول ص 82 و الثانی ص 68. و إذا أخذ فی تعریف الشی ء ظاهره و باطنه، وجب أن نأخذ فی تعریف الحق ظاهره و باطنه أیضاً.
أما باطنه فهو الذات الأحدیة، و أما ظاهره فالعالم بجمیع ما فیه. فیلزم منه أن یحتوی تعریف الحق جمیع تعریفات الموجودات.
و إلى ذلک الإشارة فی قوله «فالحق محدود بکل حد» أی أن حدّه مجموع حدود الأشیاء.
و لکن لما کانت صور العالم لا تتناهى و لا یحاط بها، و لا تعلم حدود کل صورة إلا بقدر ما حصل لکل عالم من العلم بصورته، استحال الوصول إلى حد للحق، کما استحالت المعرفة الکاملة به. فعلى قدر علم العالم بنفسه یکون علمه بربه، و على قدر معرفته بحده لنفسه و لغیره یکون حده لربه. و هذا معنى العبارة المأثورة: «من عرف نفسه فقد عرف ربه»
و معنى قوله تعالى: «سَنُرِیهِمْ آیاتِنا فِی الْآفاقِ وَ فِی أَنْفُسِهِمْ حَتَّى یَتَبَیَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ».
یقول ابن العربی: «من حیث إنک صورته و هو روحک» فیفهم «الحق» على أنها اللَّه لا الحقیقة: أی حتى یظهر للناظر فی الآفاق و فی نفسه أن الذی رآه هو الحق.
(3) «و صور العالم لا یمکن زوال الحق عنها أصلًا ... لا بالمجاز» .
(3) یقول: «و صور العالم لا یمکن زوال الحق عنها أصلًا» لما سبق أن ذکرناه من أن الصورة لا تقوم بذاتها، و أن کل صورة فی الوجود تفتقر إلى الحق.
فلا یمکن أن یزول الحق عن العالم و یبقى العالم عالماً، کما لا یمکن أن تزول الحیاة عن الإنسان و یبقى إنساناً، أو یقال فیه إنه إنسان إلَّا على سبیل المجاز فقط. و قوله:
«فحد الألوهیة له بالحقیقة لا بالمجاز» یمکن أن تفهم على وجهین، فإن الهاء فی له إما أن تعود على العالم و إما أن تعود على الحق. فإن أعدنا الضمیر على العالم کان معنى الجملة أن العالم له صفة الإلهیة من جهة أن الحق فیه على الدوام لا یزایل صورته، و أن صفة الإلهیة تطلق على العالم بطریق الحقیقة لا المجاز، لأن الحق موجود بالفعل فی صورة العالم یدبرها کما تدبر الروح جسم الإنسان و هو حی.
فإن زالت الحیاة عن الإنسان لا یقال فیه إنه إنسان على الحقیقة.
و کذلک إن زال الحق عن صورة العالم لا یقال إنه عالم على الحقیقة. و لکن الحق لا یمکن زواله عن صورة العالم أصلًا، لذلک کان وصف الإلهیة- الذی هو للحق بالأصالة- وصفاً للعالم أیضاً على طریق الحقیقة لا المجاز.
و یظهر أن هذا هو المعنى المراد لأنه یتمشى مع ما یلی من النصوص.
و یمکن أن یعود الضمیر فی «له» على الحق، و یکون معنى الجملة أن الحق لما کان موجوداً بذاته فی صور العالم لا یُزَالُ عنها أصلًا، و لما کان العالم صورة له تتجلى فیها صفاته و أسماؤه، کان وصف الحق بالألوهیة وصفاً حقیقیًّا لا مجازیاً، لأن العالم مألوه یفتقر فی وجوده إلى إله و وجود المألوه یفترض وجود الإله لا محالة.
غیر أن معنى الحقیقة و المجاز لا یظهر فی هذه الحالة ظهوره فی الحالة الأولى.
و الواقع أنه لا فرق فی مذهب یقول بوحدة الوجود کمذهب ابن عربی أن تنسب الألوهیة للحق من وجه أو إلى العالم من وجه آخر، فإن الحقیقة واحدة فی الحالین و إن اختلفت بالاعتبار. یؤید ذلک ما یقوله فی الفقرة التالیة مباشرة من أن اللَّه هو المثنِی و المثنَى علیه. فإن جمیع ما فی الوجود من کائنات ناطقة و غیر ناطقة روحیة أو مادیة، حیة أو غیر حیة، تلهج بالثناء على اللَّه بمعنى أنها مظاهر تتجلى فیها عظمته و کماله، و لکنه ثناء صامت لا یدرکه الإنسان عادة- و لذلک قال: «وَ لکِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِیحَهُمْ» (قرآن س 17 آیة 46). و لکن إلى الحق ترجع عواقب ذلک الثناء. فالثناء منه و علیه: منه لأنه الظاهر فی صورة المثنی: و علیه لأنه الباطن الذی یوجه کل الثناء إلیه.
(4) «فإن قلت بالتنزیه ... الأبیات».
(4) هذه الأبیات تلخص لنا مذهب ابن عربی فی التشبیه و التنزیه، و قد شرحنا معناهما فلا داعی للمزید فی هذا الشرح.
و لکنا سنجمل معنى الأبیات إجمالًا فی صورة أبسط و أدنى إلى الفهم.
إن قلت بالتنزیه المطلق وحده قیدت الحق لأن کل تنزیه فیه معنى التقیید.
و إن قلت بالتشبیه وحده، قیّدت الحق و حصرته.
و الصحیح أن تقول بالتنزیه و التشبیه معاً من وجهین مختلفین، و هذا هو ما تقتضیه المعرفة الصوفیة.
إن الذین یثبتون وجود الحق و الخلق- اللَّه و العالم- على أنهما وجودان مختلفان و حقیقتان منفصلتان مشرکون. و الذین یقولون بوجود حقیقة واحدة مفردة موحدون.
فإن قلت بالاثنینیة فاحذر التشبیه و إلا وقعت فی التجسیم.
و إن قلت بالفردیة، فاحذر التنزیه المطلق، لأن فی ذلک إغفالًا لوجود العالم الذی هو أحد وجهی الحقیقة الفردیة.
و إذا فهمت من التنزیه الإطلاق، و من التشبیه التقیید، و نظرت إلى الحق على أنه فی عین الوجود مسرَّحاً و مقیداً، أدرکت أنک هو من وجه، و أنک لست هو من وجه. قارن ما ورد فی الفص السابع فی الصلة بین الحق و الخلق.
و یلتمس ابن العربی- کعادته- أساساً من القرآن یبنی علیه نظریته فی التنزیه و التشبیه فیقول: إن قوله تعالى «لَیْسَ کَمِثْلِهِ شَیْ ءٌ، وَ هُوَ السَّمِیعُ الْبَصِیرُ» تعبر عن هذا المعنى أحسن تعبیر. فإننا إما أن نعتبر الکاف فی قوله «کَمِثْلِهِ» زائدة و بذلک یصبح معنى الآیة لیس مثله شی ء و هو تنزیه- و باقی الآیة و هو قوله «وَ هُوَ السَّمِیعُ الْبَصِیرُ» تشبیه لأنه وصف للحق بأوصاف المحدثات التی تسمع و تبصر. و إما أن نعتبر الکاف فی قوله «کَمِثْلِهِ» غیر زائدة، و بذلک یصبح الجزء الأول من الآیة لیس مثل مثله شی ء، و هذا تشبیه لأنه أثبت المثل للَّه و نفى مثل المثل. و قوله «وَ هُوَ السَّمِیعُ الْبَصِیرُ» تنزیه بمعنى أنه وحده الذی یسمع و یبصر فی صورة کل من یسمع و یبصر. فالآیة- فی نظره- تجمع بین التنزیه و التشبیه فی کلتا الحالتین.
(5) «فإن القرآن یتضمن الفرقان».
(5) استعملت الکلمتان فی القرآن للدلالة على التنزیل الحکیم، أما ابن العربی فیستعملهما هنا بمعنى التفرقة و الجمع، کما لا یفهم الصوفیة عادة من مقامی التفرقة (أو الفرق) و الجمع - بل بمعنى أن الفرقان هو الدعوة إلى تنزیه اللَّه تعالى دون تشبیهه، و أن القرآن هو الدعوة إلى الجمع بین التنزیه و التشبیه.
فمن یدعو إلى تنزیه اللَّه- کما فعل نوح- و لا یلتفت إلى التشبیه، کان فرقانیاً.
و من یدعو إلى تنزیهه و تشبیهه معاً- کما فعل محمد- کان قرآنیاً.
و لا أظن أن ابن العربی استعمل کلمة القرآن بهذا المعنى لأن المنزَّل علیه القرآن جمع فی دعوته بین التنزیه و التشبیه، بل وجد أن من معانی «قرأ» الجمع و الضم فاستعمل کلمة القرآن هذا الاستعمال الغریب.
و یدور هذا الجزء من الفص- من قوله: «لو أن نوحاً علیه السلام جمع لقومه بین الدعوتین» إلى الآخر حول مشکلة التنزیه و التشبیه مستخلصة من الآیات القرآنیة الواردة فی سورة نوح من الآیة 5 - 28، بعد أن یلجأ المؤلف فی تفسیرها إلى نوع غریب حقاً من التأویل یشهد له بالعبقریة، و لکنه کان فی غنى عنه- هنا و فی أی مقام آخر استشهد بالقرآن لیؤید نظریته فی وحدة الوجود- لو أنه فضل الصراحة فی القول و جهر به بدلًا من الدوران حول النصوص و تأویلها إلى غیر معانیها و تحمیلها ما لا تحتمل.
یتمثل لنا نوح فی هذه الآیات فی صورة الرجل الذی یدعو قومه إلى مطلق التنزیه فیتصامون عنه و لا یعیرونه التفاتاً، لأنها دعوة إلى مستحیل- إلى شی ء مجرد لا یمت لهم بصلة و لا یعرفون عنه شیئاً، بل لا یمکنهم أن یعرفوا عنه شیئاً.
دعاهم إلى «الفرقان» - إلى إله منزَّه مخالف لجمیع المحدثات- فلم یفهموا دعوته، و لو دعاهم إلى «القرآن» فجمع فی دعوته بین التنزیه و التشبیه، و بیَّن لهم وجهی الحقیقة للبّوا دعوته و فهموا مقصده.
و یلتمس ابن العربی کل سبب لیجعل من الإسلام مذهباً فی وحدة الوجود و ینسب إلى نبی الإسلام القول بهذه النظریة.
و هنا موقف من المواقف التی أراد أن یسجل فیها على القرآن و صاحب القرآن الدعوة إلى الحقیقة الواحدة التی هی من وجه منزهة و من وجه مشبهة.
و لکن القرآن و إن قال بالتنزیه و التشبیه، لا یستعملهما فی المعنى الذی یقول به أصحاب وحدة الوجود. فقرآن ابن عربی الذی یقابله بالفرقان غیر قرآن المسلمین، و إن کان التلاعب بالألفاظ قد یؤدی إلى الخلط بینهما.
یقول: «و لهذا ما اختص بالقرآن إلا محمد صلى اللَّه علیه و سلم و هذه الأمة التی هی خیر أمة أخرجت للناس. فلیس کمثله شی ء یجمع الأمرین (أی التنزیه و التشبیه) فی أمر واحد». و لکن المعنى لیس بخاف الآن بعد الذی ذکرناه.
(6) «دعاهم لیغفر لهم».
(6) معنى الآیة دعاهم نوح إلى اللَّه لیغفر اللَّه لهم ذنوبهم. و لکن «یغفر» هنا مأخوذة بمعناها الحرفی من غفر بمعنى ستر. و الستر ضد الکشف و الظهور.
و على ذلک یفهم ابن عربی الآیة على معنى أن نوحاً علیه السلام دعا قومه إلى الستر المطلق لا إلى مقام الکشف و الظهور، لأن الحق المنزَّه سترٌ أو غیب محض لا تدرکه العقول و لا الأبصار- و لم یَدْعُهُمْ إلى مقام الظهور و هو تجلی الحق فی صور الموجودات.
و لذلک کان جوابهم سلسلة من أعمال الستر، فإنهم وضعوا أصابعهم فی آذانهم و استغشوا ثیابهم إلخ، فکانت إجابتهم من مثل دعوته.
(7) «و هو فی المحمدیین «وَ أَنْفِقُوا ... » إلى قوله: کما قال الترمذی.
(7) الفرق بین قوم نوح و قوم محمد فی نظر ابن عربی هو أن النوحیین ادعوا لأنفسهم الحق فی المُلک الذی هو العالم و اعتبروا اللَّه وکیلًا عنهم متصرفاً فیهم.
و هذا ما جعل نوحاً یدعوهم إلى التنزیه. لأنهم من العالم و العالم منهم: أما الحق فهو الوکیل المنزه عن شئونهم. أما المحمدیون (فیما یزعم ابن العربی) فادعوا أن المُلک للَّه و أن الإنسان خلیفة اللَّه على المُلک أو وکیل اللَّه عنه فیه.
و هذا ما دعاهم إلى القول بالتنزیه و التشبیه. أما التنزیه فمن ناحیة نسبة الملک إلى اللَّه على الحقیقة، و أما التشبیه فلنسبة الخلافة إلى الإنسان فی مُلک اللَّه. قال تعالى «وَ أَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَکُمْ مُسْتَخْلَفِینَ فِیهِ».
و إذا عرفنا معنى الخلافة الانسانیة فی مذهب ابن عربی، أدرکنا الإشارة بها إلى التشبیه.
فالإنسان خلیفة اللَّه فی العالم بمعنى أنه وحده هو الموجود الذی تتجلى فیه صفات اللَّه و أسماؤه فی صورة کاملة کما شرحناه فی الفص الأول.
أما الإشارة الواردة عن الترمذی فمذکور فی الفتوحات المکیة أیضاً (ج 2 ص 66) فی إجابات ابن عربی عن المائة و الخمسة و الخمسین سؤالًا التی سألها الحکیم محمد بن علی الترمذی المتوفى سنة 285.
و السؤال الخاص بمالک الملک هو السؤال السادس عشر و نصه: «کم مجالس ملک الملک؟»
(8) «فأجابوه مکراً کما دعاهم».
(8) معنى هذه العبارة أن نوحاً لما دعا قومه إلى عبادة اللَّه على سبیل التنزیه قد مکر بهم و خدعهم. و یرى ابن عربی أن کل من یدعو إلى اللَّه على هذا الوجه یمکر بمن یدعوه و یخدعه. و ذلک أن المدعو مهما کانت عقیدته و مهما کان معبوده لا یعبد فی الحقیقة إلا اللَّه، لأنه لا یعبد إلا مجلى من مجالی الحق فی الوجود.
فدعوته إلى اللَّه مکر به، لأنها تحمله على الاعتقاد بأنه یعبد شیئاً آخر سوى اللَّه و ما فی الوجود سوى.
أما مکر قوم نوح فظاهر من عبارتهم: «لا تَذَرُنَّ آلِهَتَکُمْ، وَ لا تَذَرُنَّ وَدًّا وَ لا سُواعاً وَ لا یَغُوثَ وَ یَعُوقَ وَ نَسْراً»: لأنهم إن ترکوا هذه الآلهة، فقد جهلوا من الحق على قدر ما ترکوا. ذلک لأن للحق فی کل معبود وجهاً لا یُعبَد المعبود إلا من أجله.
و هنا یفهم ابن عربی نصاً آخر من القرآن على أنه تقریر لوحدة الوجود من حیث صلتها بعبادة اللَّه فیقول فی (مذهب) المحمدیین: «وَ قَضى رَبُّکَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِیَّاهُ» أی حکم: بمعنى قدَّر أزلًا أنکم لن تعبدوا إلا إیاه، لا بمعنى أمر أ لا تعبدوا سواه.
یدل على ذلک قوله فی العبارة التالیة «فالعالِم یعلم من عُبِدَ، و فی أی صورة ظهر حتى عُبِدَ».
(9) «وَ لا تَزِدِ الظَّالِمِینَ إِلَّا ضَلالًا».
(9) هنا خلط عجیب بین الآیات القرآنیة و تخریج أعجب. یقول المؤلف: «وَ لا تَزِدِ الظَّالِمِینَ» لأنفسهم المصطفین الذین أوتوا الکتاب- أول الثلاثة».
أخذ الظالمین فی قوله: «وَ لا تَزِدِ الظَّالِمِینَ إِلَّا ضَلالًا» (سورة نوح آیة 25) بمعنى الظالمین فی قوله تعالى: «ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْکِتابَ الَّذِینَ اصْطَفَیْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ، وَ مِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَیْراتِ» (سورة فاطر آیة 29).
و لذلک وصفهم بأنهم أول الثلاثة الذین أورثهم اللَّه الکتاب و اصطفاهم من بین عباده.
فهم لیسوا ظالمین على الإطلاق فتحقق علیهم الدعوة بالضلال، و لکنهم ظالمون لأنفسهم، لأنهم حرموا نفوسهم متع الحیاة و زهدوا فی الدنیا و ما فیها و وصلوا إلى مقام الفناء فی اللَّه.
و جعلهم أول الثلاثة المصطفین لأن الذی وصل إلى مقام الفناء فی الذات و اتصف بجمیع صفات الکمالات أفضل من المقتصد و هو المعتدل الذی یلزم طریق التوسط فی الأمور، و من السابق بالخیرات.
هذا هو المعنى الذی أراد ابن عربی أن یفهمه من کلمة «الظالمین» الواردة فی الآیة. أما کلمة الضلال، ففهمها على أن المراد بها «الحیرة»، و الحیرة التی هی نوع خاص، هی حیرة الصوفی یرى الحق فی کل شی ء، و یرى الواحد کثیراً، و الکثیر واحداً، و الأول آخراً و الآخر أولًا، و الظاهر باطناً و الباطن ظاهراً إلى غیر ذلک من الأمور المتناقضة التی توقع فی الحیرة.
و لکنها لیست حیرة الارتباک و قصور الفهم، بل حیرة النفس الهائمة على وجهها الدائبة الحرکة فی دائرة الوجود. من أی نقطة بدأت حرکتها على محیط الدائرة وصلت إلى «الحق» الذی هو مرکزها.
و لذلک یقول ابن عربی: «فالحائر له الدور و الحرکة الدوریة حول القطب»، و لیس القطب سوى اللَّه.
أما تسمیة هذه الحیرة بالحیرة المحمدیة فلسببین:
الأول ما ذکرناه من أن ابن عربی یعتبر القول بالتنزیه و التشبیه بالمعنى الذی یفهمه منهما فی مذهبه فی وحدة الوجود عقیدة محمدیة.
و الثانی استناداً إلى الحدیث الذی أورده الصوفیة من أن النبی صلى اللَّه علیه و سلم قال: «رب زدنی فیک تحیراً».
ظهر إذن أن الحیرة حیرتان :
حیرة الجهل التی تورث الارتباک و الألم و تولد الیأس و هی حیرة الفلاسفة الذین یعتمدون فی فهم الوجود على العقل وحده.
و إلیهم أشار ابن العربی بقوله: أصحاب الطریق المستطیل أی غیر الدائری. و لم یستعمل کلمة المستقیم بدلًا من المستطیل لاحتمال أن یفهم من کلمة المستقیم معنى الصواب.
و الحیرة الأخرى حیرة العارف باللَّه- و هی التی طلب النبی الزیادة منها، لأن العارف بالحق، المشاهد لتجلیه فی مرآة الوجود، یفیض قلبه نوراً إذ تنعکس على صفحته تلک التحلیات و یستولی علیه نوع من الحیرة، و لکنها حیرة العجب و الدهشة، و حیرة السعادة العظمى، و حیرة الوصول إلى المأمول لا حیرة الحرمان لعل لحظة من لحظات تلک الحیرة هی التی أنطقت الحسین بن منصور الحلاج حینما قال شطحته المشهورة: «أنا الحق! فإننی ما زلت أبداً بالحق حقاً».
(10) «قال نوح رب ما قال إلهی ... ثبوت التلوین».
(10) الربوبیة صفة للَّه من حیث کونه رباً یُدعى و یستعان به و یتوکل علیه، و من حیث أفعاله و آثاره فی الإنسان و فی العالم برمته.
و الألوهیة صفة للَّه من حیث کونه إلهاً یعبد و یقدس و یجل و یکرم و یخشى إلخ.
و أخص صفات الربوبیة أن الرب مسئول و المربوب سائل، و أخص صفات الألوهیة أن الإله معبود و المألوه عابد.
و لهذا جاءت الشریعة فی العبادة باسم اللَّه و فی السؤال باسم الرب.
فیقول المصلی:
«اللَّه أکبر» «سبحان اللَّه» «لا إله إلا اللَّه».
و یقول فی الدعاء: «رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا» «رَبِّ اغْفِرْ لِی وَ لِوالِدَیَّ» «رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَیَّ فَلَنْ أَکُونَ ظَهِیراً لِلْمُجْرِمِینَ» إلخ.
هذا هو الاصطلاح العام، أما اصطلاح ابن عربی الخاص فالرب هو الحق فی صفة من صفاته. و لهذا یطلق على الأسماء الإلهیة اسم الأرباب.
أما اللَّه فاسم یطلق على الذات العلیة متصفة بجمیع الصفات.
و على هذا التعریف یفرق بین الربوبیة و الألوهیة فیقول إن الألوهیة دائمة التلوین- أی دائمة التغیر لأن اللَّه دائم التجلی فی الصور. أما الربوبیة التی لکل اسم من الأسماء الإلهیة فثابتة له لا تتغیر.
و لهذا وجب علینا فی السؤال أن ندعو اللَّه باسم خاص یتصل بقضاء حاجاتنا.
فیجب على المریض مثلًا أن یدعوه باسم الشافی، و على المذنب أن یدعوه باسم العفوّ أو الغفور، و على المحتاج أن یدعوه باسم المعطی و هکذا.
«فثبوت التلوین» إذن من صفات اللَّه الرب، لا من صفات اللَّه إطلاقاً. و المراد بالتلوین هنا الحال.
و هذا الجُزء من الفص رمزی إلى أقصى حد. و قد أشار المؤلف إلى بعض معانی ألفاظه، و بیّن أنه یستعملها فی غیر ما وضعت له عادة، و لکن المعنى الإجمالی لا یزال غامضاً.
لذلک أردنا تلخیصه لیعطی الصورة المرادة منه.
کان قوم نوح عبدة أوثان، فدعاهم إلى عبادة إله واحد منزه عن صفات المحدثات. و لکنهم أعرضوا عن دعوته لأنهم کانوا محجوبین عن الحقیقة المطلقة- اللَّه- بمعبوداتهم التی لم تکن فی واقع الأمر سوى مجالی أسماء اللَّه.
فدعا علیهم نوح بالهلاک و الدمار بقوله: «لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْکافِرِینَ دَیَّاراً». و معنى هذا فی أسلوب المؤلف الرمزی أنه دعا اللَّه أن یحرر هؤلاء القوم من قیود الوثنیة التی تحصر «الحق» فی هذا المجلى أو ذلک «و أن یمن علیهم بشهوده فی کل مجلى معبود أو غیر معبود. فکأنه دعا علیهم بالفناء الصوفی- لا بالدمار و الهلاک.
دعا علیهم بفناء الحجب لتنکشف لهم الحقیقة فی إطلاقها. و قال: «إِنَّکَ إِنْ تَذَرْهُمْ یُضِلُّوا عِبادَکَ» أی إن تترکهم و شأنهم أوقعوا الحیرة فی قلوب الناس- و هی الحیرة المحمدیة التی أشرنا إلیها- بأن یدلوهم على ما فی نشأتهم من عبودیة و ربوبیة، و ما فیها من خَلْقیة و حقیة. و هذه هی الحیرة التی
ینشدها کل صوفی یدین بوحدة الوجود. و هؤلاء الذین یوقعون الناس فی الحیرة لا یلدون «إِلَّا فاجِراً کَفَّاراً». و الفاجر من فجر بمعنى خرج و ظهر- أی الذی یظهر أسرار الربوبیة بأن یظهر فی مجالیها.
و الکافر من کفر بمعنى ستر و أخفى:
أی الذی یستر بصورته الخارجیة ما استتر فیها من الذات الإلهیة. و الواقع أنه لیس فی الوجود إلا فاجر و کافر بهذا المعنى!
«وَ لا تَزِدِ الظَّالِمِینَ إِلَّا تَباراً». سبق أن ذکرنا أن «الظالمین» فهمت على أن المراد بها الظالمون لأنفسهم (راجع هامش 9) و نذکر هنا أنها مشتقة من الظلام.
و الظلام أو العماء اسم لعالم الغیب: و الغیب المطلق هو اللَّه. فقوله لا تَزِدِ الظَّالِمِینَ إِلَّا تَباراً أی هلاکاً أو فناء و هذا دعاء لهم لا علیهم.
(11) «و من أراد أن یقف على أسرار نوح ... »
(11) هذه العبارة تشیر إلى أن ابن عربی یؤمن بنظریة أرواح الکواکب، و أن لکل کوکب روحاً خاصاً به و علماً لا یشارکه فیه غیره. و لقد کان فلک الشمس دائماً منبع الأسرار یمد بها روح من اتصل بروحه من الکائنات الأرضیة.
و قد ذکر المؤلف هذه المسألة فی کتابه المعروف باسم التنزلات الموصلیة، و أشار إلى المعارف و الأسرار التی استمدها نوح من روح فلک الشمس و هی التی یسمیه «یوح».
یوجد کتاب التنزلات مخطوطاً بدار الکتب المصریة رقم 340 مجامیع.