عرفان شیعی

عرفان اسلامی در بستر تشیع

عرفان شیعی

عرفان اسلامی در بستر تشیع

الفقرة التاسعة عشر :


کتاب تعلیقات د أبو العلا عفیفی على فصوص الحکم الشیخ الأکبر ابن العربی 1385 هـ :

الفص الرابع فص حکمة قدوسیة فی کلمة إدریسیَّة

(1) إدریس: أشار إلیه فی الفص الثانی و العشرین باسم إلیاس و نسب إلیه الحکمة الإیناسیة.

(1) تضارب أقوال مؤرخی الإسلام و المفسرین کل أنواع التضارب فی وصف هذا النبی، و جعلوا منه شخصیة أسطوریة أکثر منها حقیقیة.

و قد بلغ تناقضهم فی الرأی أقصاه عند ما تکلموا فی الزمن الذی عاش فیه و الحیاة التی حییها.

ویظهر أنهم نقلوا ما ورد إلیهم عنه من المعلومات نقلًا خلا من کل نقد و تحلیل.

وربما کان لهم بعض العذر فی ذلک: فإدریس أقدم من الإسلام و المسلمین.

و قد وقع الخلط فی أمره منذ بدأ الناس یکتبون عنه، أو عن الشخصیة الأسطوریة الأخرى المعروفة باسم «هرمیس» الذی قال کتاب العرب إنه النبی إدریس.

فإن الکتابات التی کتبت عن «هرمیس» فی القرنین الأولین بعد المیلاد ملأى بالفوضى و الاضطراب و لا غرابة فی ذلک فقد کان ذلک العصر أحفل عصور الثقافة الهلینیة جمیعها بأنواع المزج و التلفیق الفکری.

کان «هرمیس» عند الإغریق اسماً لعطارد الذی سموه فیما بعد باسم «طوط» الإله المصری القدیم المعروف بإله القمر، و المشهور بعلوم الریاضة و الفلک و علوم الحکمة بوجه عام.

ثم أصبح فی وقت من الأوقات إله العالم العقلی عند الإغریق و المصریین على السواء، و إن کان المصریون أضافوا إلى مهماته مهمة اختبار أرواح الموتى لمعرفة مدى أهلیتها و استحقاقها للدخول فی فلک الشمس.

و قد لعب «هرمیس» دوراً هاماً فی تطور الفکر الهلینی المتأخر، و نسب إلیه

عدد غیر قلیل من الکتب فی الحکمة و علوم الأسرار- السحر و علم النجوم و الکیمیاء.

و بعض هذه الکتب مزیج غریب من الفلسفة الأفلاطونیة و الفلسفة المصریة القدیمة مع شیء من الأساطیر الیونانیة.

فلما فتح العرب مصر و الشام وجدوا تلک المؤلفات الهرمیسیة، لا فی صورتها الأصلیة، بل بعد أن عمل فیها التفکیر الیهودی عمله و ترک فیها طابعه الخاص. وسرعان ما اقتبسوا منها وتمثلوا أفکارها و أضافوا إلى هذه الأفکار أو نقصوا منها.

فبعد أن کان هناک هرمیس واحد أصبح الهرامسة عند العرب ثلاثة:

الأول هرمیس الذی هو «أخنوخ» و هذا هو الذی سموه إدریس.

یحکی القفطی و الیعقوبی و ابن أبی أصیبعة أنه عاش فی صعید مصر قبل الطوفان، و أنه جاب أقطار الأرض باحثاً عن الحکمة ثم رفعه اللَّه إلیه.

قالوا و قد کان أول من تکلم فی الجواهر العلویة و حرکات الأفلاک إلخ إلخ. و لا داعی لذکر باقی الهرامسة لعدم حاجتنا إلیهم هنا.

و لیس هناک من شک فی أن العرب قد عرفوا بعض الکتب الهرمیسیة، و الکتب التی ترجمت حیاة هرمیس. یقول القفطی إنه نقل بعض صفحات من کتاب لهرمیس فی الحدیث الذی دار بینه و بین طوط.

و لیس هناک من شک أیضاً أن بعض مؤلفات کبار المسلمین مثل رسالة حی ابن یقظان لابن سینا و مؤلفات ابن العربی  و السهروردی المقتول تمت بصلة وثیقة إلى الکتابات الهرمیسیة. فحی بن یقظان مثلًا لیس إلا اسماً وضعه ابن سینا للعقل الفعال الذی یشرح أسرار الکون على نحو ما یشرح بومندریس فی الکتابات الهرمیسیة أسرار الوجود لابنه طوط.

و لیس إدریس فی فصنا هذا سوى روح مجرد یَسکن فلک الشمس، و هو الفلک الذی قال قدماء المصریین إنه مقام روحانیة هرمیس و وکلوا إلى هرمیس اختیار أرواح الموتى قبل دخولهم فیه.

و یبحث هذا الفص فی بعض نواحی المسألة الکبرى التی بحث فیها الفص السابق، أعنی مسألة التنزیه الإلهی، و لذلک سمی بالحکمة القدوسیة فی حین سمی سابقة بالحکمة السبُّوحیة:

و القدوس و السبُوح من أسماء اللَّه و معناهما المنزه، و إن کانوا یقولون إن القدوس أخص فی معنى التنزیه من السبّوح .

و أبلغ: إذ التسبیح تنزیه اللَّه عن الشریک و عن صفات النقص کالعجز و أمثاله، فی حین أن التقدیس تنزیه اللَّه عما سبق و عن کل صفات الممکنات و لوازمها- حتى کمالاتها- و عن کل ما یتوهم و یتعقل فی حقه تعالى من الأحکام الموجبة للتحدید و التقیید.

بعبارة أخرى التقدیس هو نهایة التجرید، و لا یقول به إلا النفوس المجردة التی لا صلة لها بالعلائق المادیة.

ولذلک نسب فی هذا الفص إلى إدریس، و هو النبی الذی رفعه اللَّه إلى السماء بعد أن خلع عنه بدنه و قطع علاقته بالعالم المادی کما تقول بذلک الأخبار.

والفرق بین تنزیه نوح و تنزیه إدریس أن تنزیه الأول عقلی و تنزیه الثانی ذوقی.

و الذی لا شک فیه عندی أن ابن العربی  لا یذکر نوحاً أو إدریس أو غیرهما من الأنبیاء، على أنها شخصیات تاریخیة حقیقیة، و لا یصورها لنا التصویر الذی نعرفه فی القرآن أو غیره من الکتب المقدسة، و إنما هی مثل یضربها و أدوات یستخدمها فی شرح أجزاء مذهبه.

فلیس نوح عنده إلا مثالًا للرجل الذی یقول بتنزیه اللَّه تعالى متبعاً فی ذلک مجرد العقل، غیر ناظر إلى ما ورد فی القرآن من آیات التشبیه، و غیر مؤمن بأن للحق صوراً و مجالی فی الوجود العالمی.

و لیس إدریس عنده کذلک إلا مثالًا لما یمکن أن تکون علیه النفس المجردة فی موقفها من اللَّه.

و هذه النفس- إن وجدت- لا یمکن أن تقف من اللَّه إلا موقف التقدیس بالمعنى الذی شرحناه.


(2) العلو:

(2) ومن لوازم القول بالتقدیس وصف اللَّه بالعلو: و هو وصف ورد فی القرآن الکریم:و العلی من أسماء اللَّه الحسنى.

و لکن ما ذا عسى أن یکون معنى «العلی» و معنى «العلو» فی مذهب یقول بوحدة الوجود؟ نظر ابن العربی  إلى الخلق فوجد أن اتصاف أی مخلوق بالعلو إما من أجل المکان أو من أجل المکانة (أی المنزلة).

و أن علو المخلوق لا یکون له لذاته، بل یوصف به لعلو مکانه أو مکانته، بحیث لو زالت صفة العلو عنهما زالت عنه.

بل إن الوصف بالعلو قد یأتی نصاً فی المکان أو المکانة. یقول اللَّه تعالى «وَ رَفَعْناهُ مَکاناً عَلِیًّا». و نقول نحن فی فلان إنه فی مکانة عالیة من قومه.

فالإنسان، و هو أعلى الموجودات، ینسب له العلو بالتبعیة إما إلى المکان و إما إلى المکانة.

و قد وصف اللَّه تعالى نفسه بالعلو فقال: «سَبِّحِ اسْمَ رَبِّکَ الْأَعْلَى»، و قال «وَ هُوَ الْعَلِیُّ الْعَظِیمُ» *. و لکن ابن العربی  یتساءل: «على مَنْ و ما ثم إلا هو؟»

و «عن ما ذا و ما هو إلا هو»؟

أی على أی شی ء من الموجودات عَلَا الحق و لیس فی الوجود إلا هو؟ و عن أی شی ء استفاد الحق العلو و لا شی ء إلا و هو هو؟ إنه عین الموجودات من حیث وجودها، فلا یمکن إذن أن نفاضل بینه و بینها، لأن العلو الذی یسمح بالمفاضلة هو العلو بالاضافة، و علو الحق علو بذاته لا بالاضافة.

و لکن للأمر ناحیة أخرى فإن هذه الکثرة الوجودیة التی نسمیها العالم و ننسب إلیها العلو الإضافی لیس لها فی ذاتها وجود حقیقی، و إنما یرجع وجودها إلى الذات الواحدة أو العین الواحدة التی لها العلو بالذات. إن الکثرة وهمیة لا حقیقیة، و کذلک ما نصفها به من العلو. و لذلک ینفی ابن العربی  عن العالم علو الإضافة من هذه الناحیة.

و خلاصة القول أننا إذا راعینا الوحدة فی ذاتها، نسبنا إلیها العلو المطلق الخالی من کل مفاضلة و من کل إضافة، و نفینا العلو الإضافی بین الموجودات. و إذا راعینا الوحدة فی الکثرة أثبتنا العلو الإضافی، و لکن نسبناه إلى الوحدة من حیث تعدد وجودها.

و إذا راعینا الکثرة وحدها نسبنا إلیها العلو الإضافی. أما العلو الذی یقتضی المفاضلة

بین اللَّه و العالم، فلا مکان و لا معنى له فی مذهب ابن العربی .


(3) وهو فکل الشمس .... و کرة التراب

(3)  بعد أن ذکر المؤلف أن اللَّه لما رفع إدریس إلیه أسکن روحه المجردة فی فلک الشمس، أراد أن یبین أن هذا الفلک أعلى الأفلاک کلها. أی أعلاها فی المکانة لأنه المحور أو القطب الذی تدور علیه جمیعها.

وذکر خمسة عشر فلکاً- منها ما هو فلک بالمعنى العلمی الاصطلاحی و منها ما هو فی الحقیقة غیر فلک، و لکنه عد الجمیع أفلاکاً کما سنرى. تصور فلک الشمس فی وسط الأفلاک، و ذکر سبعة فوقه، هی فلک المریخ (الأحمر)، و فلک المشتری، و فلک کیوان (زحل)، و فلک المنازل، و الفلک الأطلس (أی الذی لا کوکب فیه) و هو فلک البروج، و فلک الکرسی، و فلک العرش.

و الظاهر- کما یقول القاشانی- أنه یرید بهذین الأخیرین النفس الکلیة و العقل الکلی و هما من مراتب الوجود و لکنه سماهما فلکین مجازاً، کما سمى کرة الماء و کرة التراب إلخ أفلاکاً مجازاً.

وتحت فلک الشمس سبعة أفلاک أخرى هی: فلک الزهرة، و فلک الکاتب (أی عطارد) و فلک القمر، و کرة الأثیر، و کرة الهواء، و کرة الماء، و کرة التراب.

لیس لهذا الوصف نظیر فی کلام الفلکیین و لا کلام الفلاسفة بل هو مزیج غریب من الفلک و الفلسفة و القرآن فقد أضاف صاحبنا إلى أفلاک الکواکب العناصر الأربعة التی قال بها أنباذقلیس، کما أضاف العرش و الکرسی اللذین ذکرهما القرآن.

وقد ذکر هو نفسه أنه خرج على المألوف عند أصحاب الفلک و الفلاسفة فی کتابه الفتوحات المکیة (ج 2 ص 895) حیث یشرح المسألة بالتفصیل.

فهو یسمی الفلک الأطلس مثلًا فلک التکوین- أی فلک الکون و الفساد- و یقول إنه هو فلک البروج. و الفلکیون یسمون فلک البروج فلک المنازل.

و لکن الظاهر أن ابن العربی  لا یرید أن یضع نظریة فلکیة هنا، و إنما یرید أن یشیر إلى مراتب الوجود أعلاها و أدناها.


(4) وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَ اللَّهُ مَعَکُمْ

(4)  لم یشأ ابن العربی  أن یفهم «وَ اللَّهُ مَعَکُمْ» على معنى و اللَّه فی عونکم، أو و اللَّه ینصرکم أو ما شاکل ذلک، بل فهم المعیة فی قوله «مَعَکُمْ» بمعنى المشارکة- فأصبح معنى الآیة و أنتم الأعلون و اللَّه معکم فی هذا الوصف أو فی هذا العلو.

و لکن هذا الفهم للآیة لا یستقیم حتى مع ما ذکره هو نفسه من أنواع العلو، و ما قرره من الصلة بین اللَّه و العالم.

فإنه قسّم العلو إلى إضافی و ذاتی، و قال إن العلو الإضافی لا یکون إلا فی الموجودات الممکنة- فیقال هذا الشی ء أعلى من ذلک- أو فی الحق إذا نظر إلى ذاته الظاهرة بصور الموجودات الممکنة.

و لکن هذه الموجودات المتکثرة لیست شیئاً آخر غیر الذات، فالمعیة إذن لا معنى لها لأن المعیة تشیر إلى الاثنینیة و لیس فی الأمر اثنینیة على الحقیقة.

أما إذا فهمنا «العلو» على أنه العلو الذاتی، فلا یکون إلا للحق الظاهر بصور الموجودات لا للموجودات نفسها.

و على هذا الوجه لا معنى للمعیة أیضاً لأنه لا مشارکة فی هذا النوع من العلو.


(5) والعین واحدة من المجموع فی المجموع .

(5) بعد أن أفاض فی شرح العلو الإضافی والعلو الذاتی وقال إن الأول توصف به الموجودات الحادثة کالملائکة والناس من أجل مکانة عالیة وضعهم اللَّه فیها، وإن العلو الذاتی لا یوصف به إلا الحق، نظر إلى المسألة نظرة أخرى فی ضوء مذهبه فی وحدة الوجود.

قال: إن الحقیقة واحدة وإن تکثرت بالصور و التعینات.

بل إن تکثرها بالصور تکثر وهمی قضى به حکم العقل القاصر غیر المستند إلى الکشف والذوق.

ولو کشف الحجاب عن العقل لرأى الکل فی واحد، و لرأى «أن العین واحدة

من المجموع فی المجموع» لیست الکثرة الوجودیة إلّا صوراً للمرایا الأزلیة التی ترى فیها ذات الحق و صفاته و أسماؤه.

و هذه المرایا الأزلیة هی الأعیان الثابتة للموجودات و هی على ما هی علیه من العدم- ما شمَّت رائحة للوجود الخارجی، لأنها لیست سوى صور معقولة فی العلم الإلهی.

فالکثرة الخارجیة إذن- إن قلنا بوجودها- حقیقة واحدة فی جوهرها، أو هی مجالٍ کثیرة لحقیقة واحدة.

فالعلو إذن لیس قاصراً على شی ء دون شی ء- لأن کل شی ء مظهر للحق العلی- بل هو صفة عامة لجمیع الأشیاء، و لکن فی ذات واحد.

و لذلک قال: «فما فی العالم (أی فی جملته) من هذه الحیثیة- أی من ناحیة وحدته الذاتیة- علو إضافة، لکن الوجوه الوجودیة متفاضلة.

و إذا کان الأمر على ما وصفنا، و أن الوجود کله حقیقة واحدة: إن نظرنا إلیه من وجه قلنا إنه حق و إن نظرنا إلیه من وجه آخر سمیناه خلقاً. أو إن نظرنا إلیه من حیث الذات قلنا إنه واحد، و إن نظرنا إلیه من حیث الصفات و الأسماء قلنا إنه کثیر و متعدد،

و إذا کان الأمر کما قلنا: إن نظرنا إلى الوجود من حیث وحدته قلنا إنه علیٌّ بالذات، و إن نظرنا إلیه من حیث کثرته، قلنا إنه علیُّ بالإضافة. أقول: إذا فهمنا کل ذلک أدرکنا لم وُصِف الحق بالأضداد و لِمَ وُصِفَ أی شی ء فی الوجود بالأضداد.

تقول فی الحق إنه کذا من الموجودات- أی من حیث تعینه- و لیس بکذا، أی من حیث ذاته.

فهو هو بتقییده، و لیس هو بإطلاقه. و کذلک الحال فی صفات الأضداد التی وُصِفَ بها الحق، کوصفه بأنه الأول و الآخر و الظاهر و الباطن.

فهو الأول و الباطن من حیث الذات، و هو الآخر و الظاهر من حیث الصفات و الأسماء، أو هو الأول و الباطن من حیث وحدته، و هو الآخر و الظاهر من حیث کثرته.

و هذا هو معنى قول أبی سعید الخراز: «إن اللَّه لا یعرف إلا بجمعه بین الأضداد».

و ابن العربی  أشد ما یکون جرأة و أقرب ما یکون إلى القول بوحدة الوجود المادیة حیث یقول: «فهو (أی الحق) ظاهر لنفسه باطن عنه، و هو المسمى أبا سعید الخراز و غیر ذلک من أسماء المحدثات».

أما قوله «و هو عین ما بطن فی حال ظهوره» فمعناه أن الحق إذا ظهر فی صورة من صور الوجود کان عین ما بطن و عین ما ظهر من ذلک الشی ء الذی ظهر بصورته، لأن الظهور و البطون أمران اعتباریان بالنسبة إلینا فی حال نظرنا إلى الأشیاء. أما فیما یتعلق بالحق فلا ناظر و لا منظور فالحق ظاهر. بنفس المعنى الذی هو باطن، و هو باطن بنفس المعنى الذی هو ظاهر. و کذلک الحال فی صفات الأضداد الأخرى التی وصف الحق بها نفسه.


(6) فاختلطت الأمور و ظهرت الأعداد بالواحد .

(6) سبق أن أشرنا إلى التمثیل بالمرآة و الصور فی شرح العلاقة بین الحق و الخلق أو الواحد و الکثرة، و هنا یشرح المؤلف نفس هذه العلاقة بتمثیل آخر هو التمثیل بالواحد و الأعداد.

فالموازاة تامة فی نظره بین الواحد الحسابی والأعداد المتفرعة عن الواحد و المعدودات، و بین الذات الإلهیة و الأسماء (أو أعیان الأسماء التی هی الأعیان الثابتة) و الموجودات الخارجیة فی العالم.

و کما أن الواحد الحسابی أصل جمیع الأعداد لأن الأعداد لیست سوى مظاهر أو صور أو درجات فیه، کذلک الکثرة الوجودیة لیست سوى مظاهر أو صور للذات الواحدة.

و لکن الأعداد حقائق معقولة لا وجود لها إلا فی الذهن، فإذا وصفناها بالوجود الخارجی، وجب أن یکون ذلک من أجل وجودها فی المعدودات.

کذلک الحال فی الذات الواحدة و الأعیان الثابتة و الموجودات الخارجیة.

فظهور الذات فی صور الأعیان الثابتة هو ظهور لها فی صور معقولة صرفة لیس لها وجود عینی خارجی.

فإذا وصفنا هذه الأعیان الثابتة بالوجود، وجب أن یکون ذلک من أجل وجودها فی صور الموجودات الخارجیة.

من هذا یتبین أننا لن ندرک حقیقة الوجود إدراکاً تاماً إلا إذا فهمنا الصلة بین الذات الإلهیة و بین أسمائها و مظاهرها- کما أننا لن ندرک حقیقة معنى العدد إلا إذا فهمنا الصلة بین الواحد الحسابی و بین الأعداد و مظاهر الأعداد التی هی المعدودات.

و لکن یجب ألا یخرج هذا عن کونه مجرد تمثیل یرید ابن العربی  أن یوضح به نظریته، و هو مع ذلک تمثیل مع الفارق: فإن الواحد العددی معنى مجرد یوجد بجملته فی کل عدد، و لا کذلک الحق فی تعینه بصور الأعیان الثابتة، اللهم إلا إذا اعتبر الحق فی إطلاقه مجرد معنى و هذا لم یقل به صراحة.

کل مرتبة من مراتب العدد حقیقة واحدة تتمیز عن غیرها، و لیست مجرد مجموع من الآحاد. فالثلاثة مثلًا مجموع من الآحاد، و کذلک الأربعة و المائة و ما فوق ذلک و ما دونه، و لکن کلًا من هذه الأعداد حقیقة معقولة واحدة تختلف عن غیرها من الحقائق العددیة الأخرى.

و یختلف کل عدد عن غیره بخصوصیة فیه کما یختلف النوع عن غیره من الأنواع الداخلة تحت جنس واحد بخصوصیة فیه هی الفصل النوعی.

وتشترک الأعداد کلها فی أنها مجموع آحاد کما تشترک أنواع الجنس الواحد فی صفات ذلک الجنس.

وبهذا المعنى نستطیع أن نقول إن عدداً ما هو عین عدد آخر ونستطیع أن نقول فی الوقت نفسه إنه غیره. فهو عینه من حیث تکرر الواحد فی کلیهما، وهو غیره من حیث خصوصیة کل منهما.

وهذا معنى قوله: «فما تنفک تُثْبِتُ عین ما هو منفی عندک لذاته».

ولکن یجب ألا یتبادر إلى الذهن أن النفی والإثبات واقعان على شی ء واحد باعتبار واحد وإلا کان فی الحکم تناقض، بل هما واقعان على شی ء واحد باعتبارین مختلفین.

فإذا قلنا إن العدد «خمسة» هو عین العدد «ستة» کان ذلک باعتبار أن کلًا منهما هو «الواحد» مکرراً.

وإذا قلنا إنهما متغایران، کان ذلک باعتبار خصوصیة کل منهما.

بل إن «العینیة» نفسها مختلفة فی الاعتبارین. فإذا قلنا إن خمسة عین ستة کانت العینیة جزئیة (أو غیر مطلقة) وإذا قلنا إن خمسة لیست عین ستة کان المقصود هو العینیة المطلقة.

على أن العبارة: «فما تنفک تثبت عین ما هو منفی» یمکن أن تفسر تفسیراً آخر على أن المراد بالمثبت والمنفی هو العدد «واحد»: فأنت تثبت وجود الواحد فی الأعداد المرکبة منه ولکنک تنفی وجوده فی ذاته.

وهذا راجع إلى أنهم لا یعتبرون «الواحد» عدداً و إن کانوا یعتبرونه أصل جمیع الأعداد.


(7) فَمَن الطبیعة و من الظاهر منها؟

(7) بعد أن انتهى من تشبیه العلاقة بین الحق والخلق بالعلاقة بین «الواحد» والأعداد و ذکر فی عبارات جریئة وحدة الحق و الخلق بقوله فالأمر الخالق المخلوق والأمر المخلوق الخالق: کل ذلک من عین واحدة:

لا، بل هو العین الواحدة وهو العیون الکثیرة سأل: «مَنِ الطبیعة و من الظاهر منها»

و قال من الطبیعة؟

ولم یقل ما الطبیعة؟ دلالة على أنه یرید الإشارة إلى عاقل.

الطبیعة عنده اسم آخر للَّه، هی أشبه بقوة عامة ساریة فی الکون بأسره، سواء منه ما کان عنصری النشأة أو غیر عنصری.

ویستعمل الفلاسفة «الطبیعی» فی مقابلة العنصری ویقصرون الأول على الأجرام السماویة وحدها.

ولکن ابن العربی  یستعمل اسم الطبیعة ذلک الاستعمال الشامل ویقصد بها تلک القوة التی تعطی کل موجود صفاته وخصائصه- أو تعطیه على حد قولهم «طبیعته» من غیر أن یعتریها فی ذاتها نقص أو تغیر.

هذا هو تعبیره الفلسفی، أما تعبیره الصوفی فهو أن الطبیعة هی الذات الإلهیة متجلیة فی صورة الاسم «الموجد».

فکل ما ظهر فی الوجود کان عن هذه «الطبیعة»، بل هو عینها لا تزید شیئاً بما یظهر عنها ولا تنقص شیئاً بما لا یظهر.

وهذا کلام یذکرنا بما یقال الیوم من استحالة فناء المادة أو الطاقة. الطبیعة إذن هی الذات الإلهیة الساریة فی الوجود بأسره. «وعالم الطبیعة صور فی مرآة واحدة.

لا، بل صورة واحدة فی مرایا مختلفة». وقد سبق أن شرحنا معنى هذا کله.


( 8 )  و من عرف ما قلناه لم یَحَرْ، و إن کان فی مزید علم فلیس إلا من حکم المحل .

( 8 )  یقول القیصری ص 116 «إنْ هنا یجوز أن تکون شرطیة: وعلى الأول (و هو أخذها بمعنى لو) یکون معناه و من عرف ما قلناه لم یحر.

و إن کان هذا العارف فی مزید العلم بالوجوه الإلهیة کما قال علیه السلام رب زدنی علماً، فلیس عدم الحیرة هنا إلا من حکم المحل و هو العین الثابتة التی لهذا العارف ...

وعلى الثانی یکون معناه و إن کان التحیر حاصلًا فی مزید العلم فلیس ذلک التحیر إلا من حکم المحل و هو عین الحائر».

و سواء فهمنا المعنى الأول و هو أن الذی عرف حقیقة الوجود على الوجه الذی شرحناه لا تعتریه حیرة حتى و لو کان فی مقام الاستزادة من العلم، لأن عدم الحیرة حال ثابتة له من الأزل فی عینه الثابتة.

أو على المعنى الثانی وهو أن الذی عرف حقیقة الوجود على نحو ما وصفناه لا تعتریه حیرة. فإن کانت حیرته حاصلة فی استزادته من العلم فلیست هذه الحیرة إلا حالًا ثابتة له أزلًا: سواء أکان هذا أم ذلک، فإن المؤلف یرید أن یقرر هنا حقیقة طالما أشار إلیها.

و هی أن کل شی ء مقدر أزلًا لا انفکاک عنه و لا محیص منه حتى حالات النفس من حیرة أو عدم حیرة- من علم أو جهل. کل ذلک مقدر أزلًا فی العین الثابتة لکل موجود، وهی المشار إلیها هنا باسم المحل.


(9)  فالعلی لنفسه هو الذی یکون له الکمال ... و لا هی غیره

(9)  رجع إلى الکلام فی العلو من ناحیة جدیدة: فذکر أن العلو الذاتی لا یکون إلا للَّه من حیث له الکمال المطلق المستغرق لجمیع الموجودات و النسب.

وهذا معناه أنه یفهم الکمال على أنه التحقق الوجودی لا على أنه الکمال الأخلاقی، أی الأمر

المحمود عرفاً أو عقلًا أو شرعاً. بل الکمال عنده یشمل هذه کما یشمل الأمور الوجودیة غیر المحمودة عرفاً أو عقلًا أو شرعاً. فاللَّه هو العلی بذاته من ناحیة أنه الموجود المطلق المتصف بکل نعت الظاهر بصورة کل منعوت.

و لذلک قال: «و لیس ذلک (أی العلو) إلا لمسمى اللَّه خاصة». وأما غیر مسمى اللَّه فإما أن یکون مجلى له أو صورة فیه.

فإذا کان مجلى وقع التفاضل بینه و بین غیره من المجالی فی صفة العلو.

و إن کان صورة فیه- و المراد بالصور هنا أسماء اللَّه تعالى- کان للصورة نفس الکمال الذاتی الذی لمسمى اللَّه لأنها عینه، إذ الاسم عین الذات فی رأیه. وهذا رأی قال به المعتزلة من قبل و لکنه یفضل أن ینسبه إلى صوفی هو أبو القاسم بن قَسِی.

أما قوله: «و لا یقال هی هو و لا هی غیره» فالمراد «بهو» مسمى اللَّه خاصة أو الحضرة الأسمائیة و هذا یختلف عن «هو» بمعنى الذات الإلهیة.

و إذا کانت أعیان الموجودات معتبرة صوراً للذات الواحدة کما هی صور للأسماء الإلهیة، أمکننا أن نقول إنها هی الذات بالمعنى الذی أشرنا إلیه سالفاً: أی إذا أردنا أن نقرر وجود الذات. ولکننا یمکننا أن نقول أیضاً إن صور الموجودات هی هو إذا فهمنا هو على أنه مسمى الذات- اللَّه- أی أنها هی هو بمعنى أنها مجال أو مظاهر لوجوده، لا بمعنى أن أی مجلى منها هو الذات إطلاقاً کما قال المسیحیون فی المسیح.

وفی الوقت نفسه لا معنى لقولنا إن أی مجلى من المجالی هو غیر الذات لأنه لا یوجد غیر!

على أن العبارة یمکن فهمها فهماً آخر إذا أعدنا الضمیر «هی» على الصورة الواردة فی قوله: «فالذی لمسمى اللَّه هو الذی لتلک الصورة».

وقد شرحنا إن المراد بالصورة الاسم الإلهی أیاً کان. فمعنى الجملة على هذا أن الاسم الإلهی أیاً کان لا یقال فیه إنه هو عین الذات المتصفة بجمیع الأسماء کما لا یقال إنه غیرها.


(10)  أبو القاسم ابن قسی

(10) هو الصوفی الأندلسی أبو القاسم بن قسی شیخ طائفة المریدین، و من کبار المشایخ الذین کان لهم نفوذ وآمال سیاسیة و روحیة فی عصره.

قاد طائفته فی ثورة جریئة ضد المرابطین فی الأندلس، ولکنه باء بالفشل وقتل فی معرکة سنة 546 هـ.

والذی یهمنا من أمره هنا هو أنه ألف کتاباً فی التصوف سماه «خلع النعلین» إشارة إلى قوله تعالى: « إِنِّی أَنَا رَبُّکَ فَاخْلَعْ نَعْلَیْکَ إِنَّکَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى » (قرآن طه 20 آیة 12) و أن ابن العربی لقی ابن أبی القاسم فی سفرة من سفراته فی تونس سنة  590 هـ و قرأ معه کتاب أبیه ثم وضع علیه شرحاً مفصلًا.

و یوجد الکتاب مع شرح ابن العربی علیه فی نسخة خطیة نادرة فی مکتبة أیا صوفیا باستامبول تحت رقم 1869.  A .S و قد اطلعت علیه فوجدت فیه کثیراً من الخلط و الاضطراب مما حملنی على الاعتقاد بأن کثیراً من التحریف قد أدخل علیه.

و لا نعلم لابن قسی کتاباً آخر غیر هذا.

و قد أشار ابن العربی إلى ابن قسی إشارات عدة فی کثیر من مؤلفاته لا سیما الفتوحات المکیة.

و أغلب هذه الإشارات منصب على فکرة ابن قسی فی أن کل اسم من أسماء اللَّه یتسمى بجمیع الأسماء الإلهیة: و هی الفکرة التی ناقشناها آنفاً.

و أهم المواضع التی أشیر إلیه فیها فی الفتوحات هی:

ف 1 ص 176، 388، 407، 943،

ف 2 ص 68، 79، 211، 340، 907،

ف 3 ص 8 - 9، 18، 428، 465،

ف 4 ص 164 راجع أیضاً حاجی خلیفة

ج 3 ص 171 - 2 و بروکلمان ج 1 ص 434.