الفقرة التاسعة عشر :
شرح فصوص الحکم من کلام الشیخ الأکبر ابن العربی أ. محمد محمود الغراب 1405 هـ:
05 - فص حکمة مهیمیة فی کلمة إبراهیمیة
قال الشیخ رضی الله عنه : ("1"إنما سمی الخلیل خلیلا لتخلله و حصره جمیع ما اتصفت به الذات الإلهیة. قال الشاعر:
قد تخللت مسلک الروح منی ... و به سمی الخلیل خلیلا "2"
کما یتخلل اللون المتلون، فیکون العرض بحیث جوهره ما هو کالمکان و المتمکن، أو لتخلل الحق وجود صورة إبراهیم علیه السلام.
وکل حکم یصح من ذلک، فإن لکل حکم موطنا یظهر به لا یتعداه.
ألا ترى الحق یظهر بصفات المحدثات، وأخبر بذلک عن نفسه، وبصفات النقص وبصفات الذم؟ "3" . ألا ترى المخلوق یظهر بصفات الحق من أولها إلى آخرها "4" وکلها حق له کما هی صفات المحدثات)
....
1 - المناسبة
المناسبة فی هذه الحکمة فی قوله تعالى : « واتخذ الله إبراهیم خلیلا » فجعل الخلة فی هذا الفص هی المناسبة .
کما أوضح ذلک فی آخر الفص بتوضیح المناسبة بین الخلة والغذاء الذی هو القوت فیقول : « فإذا تخلل الرزق ذات المرزوق بحیث لا یبقى فیه شیء إلا تخلله ، فإن الغذاء یسری فی جمیع أجزاء المتغذی کلها » فجعل الخلة الإبراهیمیة المناسبة بینها وبین قوة الأسماء الإلهیة فی هذا الفص ، وجعلها مهیمیة فإن الهیام من لوازم الخلة والمحبة.
2 - إذا تخللت المعرفة بالله أجزاء العارف من حیث ما هو مرکب
فلا یبقى فیه جوهر فرد إلا وقد حلت فیه معرفة ربه ،فهو عارف به بکل جزء فیه.
ولولا ذلک ما انتظمت أجزاؤه ولا ظهر ترکیبه ، ولا نظرت روحانیته طبیعته ، فبه تعالی انتظمت الأمور معنی وحسا وخیالا.
راجع الفتوحات ج2/ 362
3 - الحق یظهر بصفات المحدثات وأخبر بذلک عن نفسه
مثل قوله تعالى : « جعت فلم تطعمنی .. مرضت فلم تعدنی - الحدیث ».
ومثل قوله تعالى « الله یستهزىء بهم » و « سخر الله منهم ».
4 - المخلوق یظهر بصفات الحق من أولها إلى آخرها
یعنی العلم والإرادة والقدرة والکرم والرأفة والرحمة إلى غیر ذلک .
ص 82
قال الشیخ رضی الله عنه : (حق للحق. «الحمد لله»: "5" فرجعت إلیه عواقب الثناء من کل حامد و محمود. «و إلیه یرجع الأمر کله» فعم ما ذم و حمد، و ما ثم إلا محمود و مذموم.)
.......
5 - کل الأسماء والصفات الله تعالى بالأصالة
لما رأیت ما ینبغی الله وما ینبغی للعبة، ورأیت ما حجب الله به عباده المنسوبین إلیه من حیث أنه جعل لهم فی قلوبهم أنهم یعتقدون أن لهم أسماء حقیقة .
وأن الحق تعالى قد زاحمهم فیها ، وحجبهم عن العلم بأن تلک الأسماء أسماؤه تعالی ، زاحموه بالتخلق بالأسماء الإلهیة.
وقابلوا مزاحمة بمزاحمة ، وما تفطنوا لما لم یزاحمهم فیه من الذلة والافتقار الذی نبه لأبی یزید علیها ولنا اعتناء من الله .
فهذه أسماؤهم إلا ما ادعوها ، فزاحموه فیما تخیلوا من الأسماء أنها لهم وهم لا یشعرون .
ولقد کنت مثلهم فی ذلک قبل أن یمن الله علی بما من به علی من معرفته ، فعلمنی أن الأسماء أسماؤه وأنه لابد من إطلاقها علینا فأطلقناها ضرورة لا اعتقادا.
وأطلقتها أنا ومن خصه الله بهذا العلم على الله اعتقادا .
وأطلقها غیرنا اضطرارا إیمانا لکون الشرع ورد بها لا اعتقادا .
فحفظنا علیه ما هو له حین لم یحفظه ومکر بعباده ، فمن حفظ على نفسه ذله وافتقاره وحفظ على الله أسماءه کلها التی وصف بها نفسه والتی أعطى فی الکشف أنها له . فقد أنصف فاتصف بأنه على کل شیء حفیظ .
والکل أسماء الحق تعالى والعید لا اسم له ، حتى إن اسم العبد لیس له وهو متخلق به کسائر الأسماء الحسنى .
فالسیر إلى الله والدخول علیه والحضور عنده لیس إلا بأسمائه ، وإن أسماء الکون أسماؤه ، وهو مجلی عزیز فی منصة عظمى .
کانت غایة أبی یزید البسطامی دونها فإن غایته ما قاله عن نفسه ،" تقرب إلی بما لیس لی"، فهذا کان حظه من ربه ورآه غایة .
وکذلک هو فإنه غایته لا الغایة ، وهذه طریقة أخرى ما رأیتها الأحد من الأولیاء ذوقا إلا للأنبیاء والرسل خاصة.
فکل اسم للکون فأصله للحق حقیقة وهو للخلق لفظا دون معنى وهو به متخلق ، فکل وصف صفة کمال الله تعالی فهو موصوف بها کما تقتضیه ذاته ، وأنت موصوف بها کما تقتضیها ذاتک.
والعین واحدة والحکم مختلف ….. و العبد یعبد و الرحمن معبود
الفتوحات ج2 / 350 , ج3 / 228 .
ص 83
قال الشیخ رضی الله عنه : (اعلم أنه ما تخلل شی ء شیئا إلا کان محمولا فیه. فالمتخلل - اسم فاعل- محجوب بالمتخلل- اسم مفعول. فاسم المفعول هو الظاهر، واسم الفاعل هو الباطن المستور. وهو غذاء له کالماء یتخلل الصوفة فتربو به وتتسع.
فإن کان الحق هو الظاهر فالخلق مستور فیه، فیکون الخلق جمیع أسماء الحق سمعه و بصره و جمیع نسبه و إدراکاته.
وإن کان الخلق هو الظاهر فالحق مستور باطن فیه، فالحق سمع الخلق و بصره و یده و رجله و جمیع قواه کما ورد فی الخبر الصحیح.
ثم إن الذات لو تعرت عن هذه النسب لم تکن إلها.
وهذه النسب أحدثتها أعیاننا: فنحن جعلناه بمألوهیتنا إلها، فلا یعرف حتى نعرف.
قال علیه السلام: «من عرف نفسه عرف ربه» وهو أعلم الخلق بالله.
فإن بعض الحکماء وأبا حامد ادعوا أنه یعرف الله من غیر نظر فی العالم وهذا غلط. نعم تعرف ذات قدیمة أزلیة لا یعرف أنها إله حتى یعرف المألوه. فهو الدلیل علیه.
ثم بعد هذا فی ثانی حال یعطیک الکشف أن الحق نفسه کان عین الدلیل على نفسه و على ألوهیته، و أن العالم لیس إلا تجلیه فی صور أعیانهم الثابتة التی یستحیل وجودها بدونه ، وأنه یتنوع و یتصور بحسب حقائق هذه الأعیان و أحوالها، "6" و هذا بعد العلم به منا أنه إله لنا.)
......
6 - وحدة الوجود - الظاهر فی المظاهر
الموجودات على تفاصیلها فی ظهور الحق فی مظاهر أعیان الممکنات بحکم ما هی الممکنات علیه من الاستعدادات ، فاختلفت الصفات على الظاهر لأن الأعیان التی ظهر فیها مختلفة ، فتمیزت الموجودات وتعددت لتعدد الأعیان وتمیزها فی نفسه فما فی الوجود إلا الله وأحکام الأعیان ، وما فی العدم شیء إلا أعیان الممکنات مهیأة للاتصاف بالوجود .
فهی لا هی فی الوجود ، لأن الظاهر أحکامها فهی ، ولا عین لها فی الوجود فلا هی ، کما هو لا هو .
لأنه الظاهر فهو والتمیز بین الموجودات معقول ومحسوس لاختلاف أحکام الأعیان فلا هو ، فیا أنا ما هو أنا ولا هو ما هو هو .
مغازلة رقیقة وإشارة دقیقة ردها البرهان ونفاها ، و أوجدها العیان وأثبتها .
ما من شیء فی تفاصیل العالم إلا وفی الحضرة الإلهیة صورة تشاکل ما ظهر ، أی یتقید بها، ولولا هی ما ظهر .
فإذا تأملت فما ثم وجود إلا الله خاصة ، وکل موصوف بالوجود مما سوى الله فهو نسبة خاصة ، والإرادة الإلهیة إنما متعلقها
ص 84
قال الشیخ رضی الله عنه : (ثم یأتی الکشف الآخر فیظهر لک صورنا فیه، فیظهر بعضنا لبعض فی الحق، فیعرف بعضنا بعضا، و یتمیز بعضنا عن بعض.)
......
إظهار التجلی فی المظاهر ، أی فی مظهر ما ، وهو نسبة .
فان الظاهر لم یزل موصوفا بالوجود ، والمظهر لم یزل موصوفا بالعدم ، فإذا ظهر أعطى المظهر حکما فی الظاهر بحسب حقائقه النفسیة .
فانطلق على الظاهر من تلک الحقائق التی هو علیها المظهر المعدوم حکم یسمى إنسانا أو فلکا أو ملکا أو ما کان من أشخاص المخلوقات .
کما رجع من ذلک الظهور للظاهر اسم یطلق علیه یقال به خالق وصانع ، وضار ونافع ، وقادر.
وما یعطیه ذلک التجلی من الأسماء ، وأعیان الممکنات على حالها من العدم کما أن الحق لم یزل له حکم الوجود .
فحدث لعین الممکن اسم المظهر ، و للمتجلی فیه اسم الظاهر .
فأعطى استعداد مظهر ما أن یکون الظاهر فیه مکلفا ، فیقال له افعل ولا تفعل ، ویکون مخاطبا بأنت وکاف الخطاب .
واعلم أن التجلی الذاتی ممنوع بلا خلاف بین أهل الحقائق فی غیر مظهر .
فوقتا یکون المظهر جسمیا و وقتا یکون جسمانیا ووقتا جسدیا ، ووقتا یکون المظهر روحیا ووقتا روحانیا.
فالتجلی فی المظاهر هو التجلی فی صور المعتقدات وهو کائن بلا خلاف.
والتجلی فی المعقولات کائن بلا خلاف . وهما تجلی الاعتبارات .
لأن هذه المظاهر سواء کانت صور المعقولات أو صور المعتقدات فإنها جسور یعبر علیها بالعلم .
أی یعلم أن وراء هذه الصور أمرا لا یصح أن یشهد ولا أن یعلم .
ولیس وراء ذلک المعلوم الذی لا یشهد ولا یعلم حقیقة ما یعلم أصلا .
وأما التجلی فی الأفعال ففیه خلاف بین أهل هذا الشأن لا یرتفع دنیا ولا آخرة .
فما فی المسائل الإلهیة ما تقع فیها الحیرة أکثر ولا أعظم من مسألة الأفعال ، ولاسیما فی تعلق الحمد والذم بأفعال المخلوقین.
فیخرجها ذلک التعلق أن تکون أفعال المخلوقین لغیر المخلوقین حین ظهورها عنهم ، وأفعال الله کلها حسنة فی مذهب المخالف الذی ینفی الفعل عن المخلوق ویثبت الذم للفعل بلا خلاف .
ولا شک عنده فی تعلق الذم، بذلک الفعل من الله، فمن الشدائد على أهل الله إذا أوقفهم فی حضرة الأفعال ، من نسبتها إلى الله ونسبتها إلى أنفسهم ،
ص 85
قال الشیخ رضی الله عنه : ( فمنا من یعرف أن فی الحق وقعت هذه المعرفة لنا بنا، و منا من یجهل الحضرة التی وقعت فیها هذه المعرفة بنا: أعوذ بالله أن أکون من الجاهلین.
و بالکشفین معا ما یحکم علینا إلا بنا، لا، بل نحن نحکم علینا بنا و لکن فیه، و لذلک قال «فلله الحجة البالغة»: یعنی على المحجوبین إذ قالوا للحق لم فعلت بنا کذا و کذا مما لا یوافق أغراضهم، «فیکشف لهم عن ساق»: و هو الأمر الذی کشفه العارفون هنا، فیرون أن الحق ما فعل بهم ما ادعوه أنه فعله و أن ذلک منهم، فإنه ما علمهم إلا على ما هم علیه، فتدحض حجتهم و تبقى الحجة لله تعالى البالغة.
فإن قلت فما فائدة قوله تعالى: «فلو شاء لهداکم أجمعین» قلنا «لو شاء» لو حرف امتناع لامتناع: فما شاء إلا ما هو الأمر علیه.
و لکن عین الممکن قابل للشیء و نقیضه فی حکم دلیل العقل، و أی الحکمین المعقولین وقع، ذلک هو الذی کان علیه الممکن فی حال ثبوته.
و معنى «لهداکم لبین لکم: و ما کل ممکن من العالم فتح الله عین بصیرته لإدراک الأمر فی نفسه على ما هو علیه: فمنهم العالم و الجاهل. فما شاء ، فما هداهم أجمعین، و لا یشاء، و کذلک «إن یشأ»: فهل یشاء؟ هذا ما لا یکون. فمشیئته ).
.....
فیلوح لهم ما لا یمکن لهم معه أن ینسبوها إلى أنفسهم ، ویلوح لهم ما لا یتمکن معه أن ینسبوه إلى الله .
فهم هالکون بین حقیقة وأدب ، والتخلص من هذا البرزخ من أشد ما یقاسیه العارفون ، فإن الذی ینزل عن هذا المقام یشاهد أحد الطرفین فیکون مستریحا لعدم المعارض.
فمذهبنا العین الممکنة إنما هی ممکنة لأن تکون مظهرا ، لا لأن تقبل الاتصاف بالوجود فیکون الوجود عینها .
إذن فلیس الوجود فی الممکن عین الموجود ، بل هو حال لعین الممکن ، به یسمى الممکن موجودا مجازا لا حقیقة ، لأن الحقیقة تأبى أن یکون الممکن موجودا ، فلا یزال کل شیء هالک .
الفتوحات ج1 / 694 , ج2 / 40,42,99,160,435,606
7 - راجع فص 2 رقم 4 ص 44
"" أضاف الجامع : عن علم الافتقار إلى الله بالله . فص 2 رقم 4 ص 44
قال الشیخ فی الفتوحات الباب الثالث والستون وأربعمائة :
وأما القطب الثالث وهو على قدم موسى علیه السلام فسورته "إِذا جاءَ نَصْرُ الله والْفَتْحُ" ومنازله بعدد آیاتها ولها ربع القرآن.
وهذا القطب کان من الأوتاد ثم نقل إلى القطبیة کما کان القطب الثانی من الأئمة ثم نقل إلى القطبیة وهو صاحب جهد ومکابدة لا ینفک عن الاشتغال بالخلق عند الله أعطاه الله فی منزل النداء اثنی عشر ألف علم ذوقا فی لیلة واحدة ومنزل النداء من أعظم المنازل وقد عیناه فی منزل المنازل من هذا الکتاب ولنا فیه جزء مفرد أعنی فی طبقات المنازل وکمیاتها فمن علوم هذا القطب علم الافتقار إلى الله بالله وهو علم شریف ما رأیت له ذائقا لما ذقته ومعنى هذا وسره .
إن الله أطلعه على إن حاجة الأسماء إلى التأثیر فی أعیان الممکنات أعظم من حاجة الممکنات إلى ظهور الأثر فیها .
وذلک أن الأسماء لها فی ظهور آثارها السلطان والعزة والممکنات قد یحصل فیها أثر تتضرر به وقد تنتفع به وهی على خطر فبقاؤها على حالة العدم أحب إلیها لو خیرت فإنها فی مشاهدة ثبوتیة حالیة ملتذة بالتذاذ ثبوتی منعزلة کل حالة عن الحالة الأخرى لا تجمع الأحوال عین واحدة فی حال الثبوت.
فإنها تظهر فی شیئیة الوجود فی عین واحدة فزید مثلا الصحیح فی وقت هو بعینه العلیل فی وقت آخر . والمعافی فی وقت هو المبتلى فی وقته ذلک بعینه .
وفی الثبوت لیس کذلک فإن الألم فی الثبوت ما هو فی عین المتألم وإنما هو فی عینه فهو ملتذ بثبوته کما هو ملتذ بوجوده فی المتألم والمحل متالم به .
وسبب ذلک أن الثبوت بسیط مفرد غیر قائم شیء بشیء وفی الوجود لیس إلا الترکیب فحامل ومحمول فالمحمول أبدا منزلته فی الوجود مثل منزلته فی الثبوت فی نعیم دائم والحامل لیس کذلک.
فإنه إن کان المحمول یوجب لذة التذ الحامل وإن أوجب ألما تألم الحامل ولم یکن له ذلک فی حال الثبوت .
بل العین الحاملة فی ثبوتها تظهر فیما تکون علیه فی وجودها إلى ما لا یتناهى فکل حال تکون علیها هو إلى جانبها ناظر إلیها لا محمول فیها .
فالعین ملتذة بذاتها والحال ملتذ بذاته فحال الأحوال لا یتغیر ذوقه بالوجود وحال الحامل یتغیر بالوجود وهو علم عزیز وما تعلم الأعیان ذلک فی الثبوت إلا بنظر الحال إلیها ولکن لا تعلم أنه إذا حملته تتألم به .
لأنها فی حضرة لا تعرف فیها طعم الآلام بل تتخذه صاحبا فلو علمت العین أنها تتألم بذلک الحال إذا اتصف به لتألمت فی حال ثبوتها بنظره إیاها .
لعلمها أنها تتلبس به وتحمله فی حال وجودها فتألفها به فی الثبوت تنعم لها .
وهذا الفن من أکبر أسرار علم الله فی الأشیاء شاهدته ذوقا إلهیا لأن من عباد الله من یطلعه الله کشفا على الأعیان الثبوتیة فیراها على صورة ما ذکرناها من المجاورة والنظر ما یرى فیها حالا ولا محلا
بل کل ذات على انفراد ..... من غیر شوب ولا اتحاد
ولا حلول ولا انتقال ..... ولا اتفاق ولا عناد
فإذا فهمت الفرق بین الوجود والثبوت وما للاعیان فی الوجود وما لها فی الثبوت من الأحکام علمت إن بعض الأعیان لا ترید ظهور الأثر فیها بالحال .
ما لها فی ذلک ذوق فهی بالحال لو عرض علیها ذوق الألم فی حال الثبوت لضجت .
فإن أمرها فی حال الوجود إذا حملت الألم قد تحمل الصبر وقد لا تحمله وفرضناها فی حال الثبوت حاملة فاقدة للصبر .
فما لها بلسان الحال ذلک الافتقار إلى طلب الوجود وإن طلبته بالقول الثبوتی من الله فإذا وجدت تقول کما قد نقل عن بعضهم لیتنی لم أخلق لیت عمر لم تلده أمه لیتها کانت عاقرا وأمثال هذا .
فتکون الأعیان أقل افتقارا من الأسماء والأسماء أشد افتقارا لما لها فی ذلک من النعیم ولا سیما وهی تشاهد من الحق الابتهاج الذاتی بالکمال من حیث استصحاب الممکنات فی ثبوتها لذاته .
وإنه منزه عن أثرها والتأثر بسببها فهو من حیث ذاته فی کمال عن التأثر فی حال ثبوت الأعیان وحال وجودها .
لأنه ما زاد فی نفسه علما بما لم تکن علیه فیها فإنها أعطته العلم بشأنها أزلا وبتلک الصورة توجد فالمجاورة فی الثبوت حلول فی الوجود ففی الثبوت إلى جانبها وفی الوجود حال فیها فهذا علم واحد من تلک العلوم فاعلم ذلک أهـ ""
8 - راجع فص 2 رقم 3 ص 42
ص 86
قال الشیخ رضی الله عنه : (أحدیة التعلق "9" و هی نسبة تابعة للعلم و العلم نسبة تابعة للمعلوم و المعلوم أنت و أحوالک. فلیس للعلم أثر فی المعلوم، بل للمعلوم أثر فی العلم فیعطیه من نفسه ما هو علیه فی عینه.
و إنما ورد الخطاب الإلهی بحسب ما تواطأ علیه المخاطبون و ما أعطاه النظر العقلی، ما ورد الخطاب على ما یعطیه الکشف.
و لذلک کثر المؤمنون و قل العارفون أصحاب الکشوف.
«و ما منا إلا له مقام معلوم»: و هو ما کنت به فی ثبوتک ظهرت به فی وجودک، "10" هذا إن ثبت أن لک وجودا. فإن ثبت أن الوجود للحق لا لک، فالحکم لک بلا شک فی وجود الحق. و إن ثبت أنک الموجود فالحکم لک بلا شک. و إن کان الحاکم الحق، فلیس له إلا إفاضة الوجود علیک و الحکم لک علیک.)
.....
9 - أحدیة المشیئة ونسبة الاختیار الى الله تعالى
اعلم أن الإمکان للممکن هو الحکم الذی أظهر الاختیار فی المرجح ، والذی عند المرجح أمر واحد ، وهو أحد الأمرین لا غیر ، فما ثم بالنظر إلى الحق إلا أحدیة محضة لا یشوبها اختیار .
ألا تراه تعالى یقول « لو شاء » کذا لکان کذا، فما شاء فما کان ذلک ، فنفى عن نفسه تعلق هذه المشیئة ، فنفى الکون عن ذلک المذکور .
فالإختیار تعلق خاص للذات أثبته الممکن لإمکانه فی القبول لأحد الأمرین على البدل ولولا معقولیة هذین الأمرین، ومعقولیة القبول من الممکن، ما ثبت للإرادة ولا للاختیار حکم .
إن المشیئة الإلهیة ما عندها إلا أمر واحد فی الأشیاء ، ولا تزال الأشیاء على حکم واحد معین من الحکمین .
فمشیئة الحق فی الأمور عین ما هی الأمور علیه..
نزال الحکم ، فإن المشیئة إذ جعلتها خلاف عین الأمر فإما أن تتبع الأمر وهو محال ، وإما أن یتبعها الأمر.وهو محال.
وبیان ذلک أن الأمر لنفسه کان ما کان، فهو لا یقبل التبدیل ، فهو غیر مشاء بمشیئة لیست بعینه.
فالمشیئة عینه فلا تابع ولا متبوع.، فتحفظ من الوهم.
فمحال على الله الاختیار فی المشیئة ، لأنه محال علیه الجواز , لأنه محال أن یکون الله مرجح یرجح له أمرا دون أمر ، فهو المرجح لذاته ، فالمشیئة أحدیة التعلق لا اختیار فیها .
الفتوحات ج3/ 356 ,357 - ج4 / 30 , 201
10 - راجع الظاهر فی المظاهر رقم 6 وفص 2 رقم 3 .
ص 87
قال الشیخ رضی الله عنه : (فلا تحمد إلا نفسک و لا تذم إلا نفسک، و ما یبقى للحق إلا حمد إفاضة الوجود لأن ذلک له لا لک. فأنت غذاؤه بالأحکام، ... و هو غذاؤک بالوجود. "11" فنعین علیه )
.....
11 - الغذاء
کل غذاء أعلا من حیاته المتولدة عنه ، فلا تزال من العالم الأدنۍ ترتقی فی أطوار العوالم أغذیة وحیاة حتى تنتهی إلى الغذاء الأول الذی هو غذاء أغذیة الأغذیة.
وهی الذات المطلقة ، والأسماء الإلهیة أقواتها أعیان آثارها فی الممکنات .
فبالآثار تعقل أعیانها ، فلها البقاء بآثارها .
فقوت الاسم أثره، وتقدیره مدة حکمه فی الممکن أی ممکن کان ، ولما لم یکن فی الکون إلا علة و معلول ، علمنا أن الأقوات العلویة والسفلیة أدویة لإزالة أمراض ، ولا مرض إلا الافتقار .
فقوت القوت الذی یتقوت به هو استعماله .
فالمستعمل قوت له لأنه ما یصح أن یکون قوتا إلا إذا تقوت به ، فاعلم من قوتک ومن أنت قوته .
من قدر القوت فقد قدرا …… والقوت ما اختص بحال الوری
بل حکمه سار فقد عمنا …… ونفسه فانظر تری ما تری
کل تغذی فیه قام فی …… وجوده حقا بغیر افتری
فأول رزق ظهر عن الرزاق ما تغذت به الأسماء من ظهور آثارها فی العالم ، وکان فیه بقاؤها ونعیمها و فرحها وسرورها .
وأول مرزوق فی الوجود الأسماء ، فتأثیر الأسماء فی الأکوان رزقها الذی به غذاؤها وبقاء الأسماء علیها .
وهذا معنى قولهم إن للربوبیة سرا لو ظهر لبطلت الربوبیة ، فإن الإضافة بقاء عینها فی المتضایفین ، وبقاء المضافین من کونهما مضافین إنما هو بوجود الإضافة، فالإضافة رزق المتضایفین، و به غذاؤهما وبقاؤهما متضایفین .
فهذا من الرزق المعنوی الذی یهبة الاسم الرزاق ، وهو من جملة المرزوقین .
فهو أول من تغذى بما رزق ، فأول ما رزق نفسه .
ثم رزق الأسماء المتعلقة بالرزق الذی یصلح لکل اسم منها.
وهو أثره فی العالم المعقول والمحسوس .
الفتوحات ج2 / 462 , ج4 / 248 , 409
ص 88
قال الشیخ رضی الله عنه : ( فتعین علیه ما تعین علیک. فالأمر منه إلیک ومنک إلیه.
غیر أنک تسمى مکلفا و ما کلفک إلا بما قلت له کلفنی بحالک و بما أنت علیه.
و لا یسمى مکلفا: اسم مفعول.
فیحمدنی و أحمده ... و یعبدنی و أعبده
ففی حال أقر به ... و فی الأعیان أجحده
فیعرفنی و أنکره ... و أعرفه فأشهده
فأنى بالغنى و أنا ... أساعده فأسعده؟ "12"
لذاک الحق أوجدنی ... فأعلمه فأوجده
بذا جاء الحدیث لنا ... و حقق فی مقصده
و لما کان للخلیل هذه المرتبة التی بها سمی خلیلا لذلک سن القرى ، و جعله ابن مسرة مع میکائیل للأرزاق ، و بالأرزاق یکون تغذی المرزوقین.
فإذا تخلل الرزق ذات المرزوق بحیث لا یبقى فیه شیء إلا تخلله، فإن الغذاء یسری فی جمیع أجزاء المغتذی کلها وما هنالک أجزاء فلا بد أن یتخلل جمیع المقامات الإلهیة المعبر عنها بالأسماء فتظهر بها ذاته جل وعلا "13" ).
....
12 - یعنی بقبول الممکن أن یکون مظهرا للظاهر .
فلولاه لما کنا ..... ولو لا نحن ما کانا
فإن قلنا بأنا هو ..... یکون الحق إیانا
فأبدانا وأخفاه ..... وأبداه وأخفانا
فکان الحق أکوانا ..... وکنا نحن أعیانا
فیظهرنا لنظهره ..... سرارا ثم إعلانا
الأسماء الإلهیة بنا ولنا ، ومدارها علینا ، وظهورها فینا ، وأحکامها عندنا ، وغایاتها إلینا ، وعباراتها عنا ، وبدایاتها منا.
فلولاها لما کنا ..... ولولانا لما کانت
بها بنا وما بنا ..... کما بانت وما بانت
فإن خفیت لقد جلت ..... وإن ظهرت لقد زانت
الفتوحات ج2 / 45 , 70
13 - راجع الفقرة رقم 2 ص 82
ص 89
قال الشیخ رضی الله عنه : (
فنحن له کما ثبتت ... أدلتنا ونحن لنا
ولیس له سوى کونی ... فنحن له کنحن بنا
فلی وجهان هو وأنا ... و لیس له أنا بأنا
ولکن فی مظهره ... فنحن له کمثل إنا "14"
و الله یقول الحق و هو یهدی السبیل. )
.....
14 - الظاهر فی المظاهر
"فنحن له کما ثبتت أدلتنا" ، أی نحن له مجلی "ونحن لنا" ، من حیث أننا لا تظهر فی الوجود إلا بما کنا علیه فی الثبوت.
« ولیس له سوی کونی » من حیث الظهور « فنحن له کندن بنا » أی لا یظهر إلا بما نحن علیه فی الثبوت .
« فلی وجهان هو وأنا » أی لی مرتبة الوجود والإمکان « ولیس له أنا بأنا » أی لیس له مرتبة الإمکان ولو ظهر بما أنا علیه « ولکن فی مظهره » أی یظهر بما أنا علیه « فنحن له کمثل إنا » کلون الماء لون إنائه.
ص 90