الفقرة الثانیة والعشرون:
کتاب تعلیقات د أبو العلا عفیفی على فصوص الحکم الشیخ الأکبر ابن العربی 1385 هـ :
الفص السادس فص حکمة حقیة فی کلمة إسحاقیة
(1) یبحث الجزء الأکبر من هذا الفص فی الأحلام و منزلتها من المذهب الفلسفی العام الذی وضعه ابن عربی، و لذا وجب مقارنة ما ورد عن الأحلام هنا بما ذکره عنها فی الفص التاسع لأن کلًا من الفصین یکمل الآخر.
و موضوع الأحلام متعدد النواحی، متصل بمسائل کثیرة أثارها المؤلف فی الفصوص و الفتوحات و فی غیرهما من مؤلفاته فهو متصل بنظریته فی الوجود و مراتبه التی یسمیها بالحضرات الخمس، و متصل بنظریته فی النفس الإنسانیة و قواها و مظاهر حیاتها، و متصل کذلک بالوحی و الإلهام و مظاهر النبوءة عامة.
و لهذا کان لهذا البحث قیمته و خطره.
و قد ذکرت الأحلام هنا مقترنة باسم «إسحاق» لأن ابن العربی یعتقد أن «إسحاق» هو الابن الذی رأى إبراهیم فی منامه أنه یذبحه ثم فداه اللَّه بالذبح العظیم و ابن العربی واحد من عدد قلیل جداً من المسلمین الذین یرون هذا الرأی، و یشارکه فیه أبو العلاء المعری فی قوله فی سقط الزند:
فلو صح التناسخ کنت عیسى .... و کان أبوک إسحاق الذبیحا
أما جمهور المفسرین فیرون أن الابن المذکور فی القصة هو إسماعیل لا إسحاق و یستشهدون على هذا بقول النبی صلى اللَّه علیه و سلم «أنا ابن الذبیحین» یرید أباه عبد اللَّه الذی وقعت علیه القرعة من بین اخوته عند ما أراد أبوه عبد المطلب أن یفی بنذر کان نذره فی قصة مشهورة.
و الأب الثانی الذی أشار إلیه الحدیث هو إسماعیل الذی یعتبره العرب أباً لهم جمیعاً.
و یتفق رأی ابن العربی و المعری مع الرأی السائد عند العبرانیین: (راجع سفر التکوین الفصل 22). أما القرآن فلا یبین اسماً خاصاً: راجع س 37، الآیات 101 - 111.
(2) «فداء نبی ذبح ذبح لقربان» الأبیات.
(2) ترد الأبیات الأربعة الأولى منها فی الفتوحات (ج 1 ص 749) فی معرض الکلام عن زکاة الغنم. و هی تشرح بوجه عام مراتب الموجودات المختلفة و قیمة کل منها إذا قدم قرباناً إلى اللَّه. و فی الأبیات الختامیة مقارنة بین صفتی الإنسان:
صفة العبودیة و صفة الربوبیة. و لذلک یجب مقارنتها بما یذکره المؤلف فی موضوع التصرُّف فی الفص الثالث عشر. «أ لم تدر أن الأمر فیه مرتب وفاء لأرباح و نقص لخسران؟»
یصح أن نفهم «فیه» بمعنى فی الفداء أو بمعنى فی اللَّه. و على الأول یکون معنى البیت: أ لم تعلم أن الامر فی القرابین أنها مرتبة بحسب قیمتها لاختلافها فی الدرجة، فمنها العظیم الذی یتقرّب به صاحبه إلى اللَّه و ینال رضى اللَّه به، و منها الحقیر الذی یبوء صاحبه بالخسران.
و یصحّ أن یکون معنى الترتیب هنا الموازاة التامة بین القربان و الجزاء المعطى علیه، أو بینه و بین الغایة المقصودة منه: أی أن أمر القرابین مرتّب بحیث إن أعظمها هو ما عظم الباعث علیه و الغایة منه، و أحقرها هو ما حقر الباعث علیه و الغایة منه، و فی وفاء النوع الأول أرباح و فی نقص النوع الثانی خسران.
و أعظم القرابین کلها هی النفس و أعظم تضحیة هی التضحیة بها.
فالفداء المذکور فی الأبیات إنما هو رمز للفناء الصوفی فی اللَّه، و کبش الفداء هو النفس، و ذبح الکبش صورة فناء النفس.
و قد اختار الکبش رمزاً للنفس و لم یختر غیره من الحیوانات لأن الغنم أولى الحیوانات کلها بالذبح لأنها خلقت له دون غیره، و لذلک قال فی بیت سابق إن البُدْن و لو أنها أعلى قیمة من الغنم- أی من ناحیة ثمنها- أقل منها قیمة فی القرابین لأنها لیست للذبح وحده بل تستعمل فی الرکوب و جرّ الأثقال مثلًا. فالشاة الوادعة الألیفة التی تستسلم للذبح هی صورة النفس الصوفیة الوادعة التی تستسلم للفناء. أما «الأرباح» المذکورة فی القربان فیقابلها «البقاء» (الذی هو ضد الفناء).
و البقاء فی عرف أصحاب وحدة الوجود هو الحال التی یتحقق فیها الصوفی من اتحاده الذاتی بالحق. هذا إذا حصل «الوفاء» أی إذا تم الفناء على وجهه الأکمل، فإن فناء الصوفی عن نفسه لیس أمراً سلبیاً محضاً، و لیس أمراً عدمیاً، بل یعقبه «بقاء» أی بقاء بالحق.
و کل فناء غیر هذا ناقص لا یؤدی الغرض المقصود منه و لهذا کانت عاقبته الخسران المبین.
أما أخذ «فیه» بمعنى «فی الحق» أو «فی اللَّه» ففیه شی ء من التعسف لأن اللَّه لم یُذْکر فی الأبیات السابقة فیعاد علیه الضمیر، و لکنه مع ذلک فهم یستقیم مع ما یلی من الأبیات. و إذا أخذنا به أصبح معنى البیت: أن أمر الخلق- أو أمر الوجود کله مرتّب فی الحق على درجات. فمن وفَّى بالمیثاق الذی أخذه اللَّه علیه (و هو المیثاق المشار إلیه فی قوله تعالى: وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّکَ مِنْ بَنِی آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّیَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّکُمْ؟ قالُوا بَلى: قرآن س 7 آیة 179) و هو میثاق الربوبیة- بأن حقق فی نفسه کل معانی العبودیة- فقد ربح. و من قصر فی الوفاء بذلک العهد فقد خسر.
و لهذا یذکر المؤلف بعد ذلک مباشرة أنواع المخلوقات و درجاتها فی العبودیة و ما یقابل هذه الدرجات من درجات القرب من اللَّه. فأرقى المخلوقات عبودیة أدناها فی سلّم التطور، و أرقى المخلوقات فی سلم التطور أبعدها من العبودیة الکاملة و أبعدها من اللَّه. و لن یرقى الإنسان إلى درجة العبودیة الکاملة- فی نظر ابن العربی- حتى یحقق حیوانیته، بل جمادیته، أی حتى ینمحی فیه کل أثر للعقل و للصفات التابعة له الممیزة للإنسان عن غیره من أنواع الحیوان الأخرى، ثم یفنى عن صفاته الحیوانیة و النباتیة.
یقول إن أکمل صفات العبودیة فی الإنسان صفة الجمادیة (الفتوحات ج 1 ص 893).
(3) «بذا قال سهل و المحقق مثلنا فإنا و إیاهم بمنزل إحسان»
(3) الإشارة هنا إلى سهل بن عبد اللَّه التستری الصوفی الکبیر المتوفى سنة 283.
و یذهب ابن عربی إلى أن التستری کان یرى أن الإنسان قد امتاز عن سائر الحیوانات بل عن سائر المخلوقات بالعقل، و أنه لذلک قد اختلف عنهم جمیعاً بأنه لا یعرف اللَّه معرفة فطریة کما یعرفونه، و إنما یعرف الإنسان اللَّه بطریق النظر العقلی، و هی معرفة مکتسبة غیر فطریة و غیر موصلة للیقین. أما معرفة سائر الخلق ففطریة (راجع الفتوحات ج 3 ص 53، ج 1 ص 893).
أما منزل «الإحسان» فمقام من مقامات الصوفیة، و هو مقام الکشف و الشهود. سمّی بذلک لما ورد فی الحدیث من أن النبی صلى اللَّه علیه و سلم سُئل عن الإحسان ما هو؟ فقال: «الإحسان أن تعبد اللَّه کأنک تراه» و من قوله تعالى: «ثُمَّ اتَّقَوْا وَ آمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَ أَحْسَنُوا». فمقام الإحسان وراء مقامی التقوى و الإیمان و أعلى منهما. و لکن أصحاب وحدة الوجود لا یقصدون هنا مجرد الحضور بالقلب فی العبادة و الإقبال بجمیع الهمة على اللَّه حتى لکأن العابد یراه متمثلًا فی محرابه، بل یریدون المقام الذی تنکشف فیه وحدة الحق و الخلق و یشاهد فیه الصوفی الحقیقة المطلقة شاملة لکل شی ء لا فرق فیها بین مشاهِد و مشاهَد. هذا هو المقام الذی صاح فیه الحلاج بقوله أنا الحق!
(4) «و لا تلتفت قولًا ... فی نص قرآن».
(4) أی و لا تلتفت إلى قول أصحاب النظر من المتکلمین الذین لا یعرفون الحق إلا بالبرهان و لا یشاهدونه مشاهدة أصحاب الأذواق.
«و لا تبذر السمراء فی أرض عمیان» مثال یُضرب لمن یضع الشی ء فی غیر
موضعه: أی و لا تبذر الحنطة السمراء فی أرض من لا یستطیع رؤیتها، و هم المحجوبون عن العلم الذوقی. فهؤلاء صمٌ مع أنهم یسمعون، و بکمٌ مع أنهم یتکلمون، و عمیٌ مع أنهم یبصرون: صم عن الحق، و بکم لأنهم لا یتکلمون بما هو حق، و عمی لأنهم لا یشاهدون الحق. و قد أخبرنا عنهم اللَّه تعالى فی نص قرآنی هو «صُمٌّ بُکْمٌ عُمْیٌ فَهُمْ لا یَرْجِعُونَ».
(5) الرؤیا (الأحلام).
(5) من الصعب الوصول إلى فکرة واضحة عن الأحلام و منزلتها من المذهب الفلسفی العام الذی وضعه ابن عربی فی طبیعة الوجود لأن کلامه فیها مزیج من الفلسفة و علم النفس و التصوف، و کثیراً ما یتردد الإنسان فی اعتبار نظریته فی الأحلام نظریة فی طبیعة الوجود، أو نظریة فی علم النفس، أو جزءاً من نظریته العامة فی الکشف الصوفی.
و لا شک أن الناحیة السیکولوجیة أظهر من غیرها فیما ذکره فی هذا الفص عن الأحلام، و لکن بعض النواحی المیتافیزیقیة یجب شرحها لیستطیع القارئ فهم النظریة فی جملتها.
یقسم ابن العربی الوجود إلى خمس مراتب یسمیها الحضرات الخمس و یعتبر الأحلام- أو بعبارة أدق بعض الأحلام و هی الرؤیا الصادقة- من مظاهر حضرة من هذه الحضرات هی حضرة الخیال أو حضرة المثال. و عالم المثال عنده عالم حقیقی توجد فیه صور الأشیاء على وجه بین اللطافة و الکثافة: أی بین الروحانیة المحضة و المادیة الصرفة. و هذا هو الذی یسمیه عالم المثال المطلق أو عالم المثال المنفصل. و لکنه یتحدث کذلک عن عالم المثال المقید أو المتصل و یقصد به عالم الخیال الإنسانی.
و یجب ألا نخلط بین عالم المثال المطلق و بین عالم المثل عند أفلاطون على الرغم من ورود کلمة المثال فی التعبیرین، فإن عالم المثال المطلق لا یحتوی معانی مجردة،
بل یحتوی صوراً مقداریة محسوسة تشبه المعانی المجردة (التی هی أشبه بالمثل الأفلاطونیة) فی العالم المعقول، کما تشبه الموجودات الخارجیة فی العالم المحسوس.
و لیس عالم المثال المقید- أو عالم الخیال- سوى المرآة التی تنعکس علیها صور عالم المثال المطلق فی العقل الإنسانی: فالمخیلة هی القوة التی تصل الإنسان بعالم المثال، و لیست القوة التی تخلق ما لا وجود له أو تستحضر فی الذهن صورة الموجود المحسوس. نعم قد تفعل المخیلة ذلک أحیاناً فتخلق صوراً لیس لها ما یقابلها من الحقائق فی عالم من العوالم الخمسة التی أشرنا إلیها: لأنها فی حرکة دائمة و نشاط مستمر فی النوم و الیقظة. فإذا أثرت فیها الحواس أو قوى أخرى اضطربت وظیفتها الحقیقیة فخلقت صوراً على غیر مثال. أما إذا تحررت تماماً من أثر الحواس و القوى النفسیة الأخرى و بلغ نشاطها کماله- و لا یکون ذلک إلا فی النوم- فإن صور العالم المثالی تنطبع علیها کما تنطبع صور الشی ء المرئی على المرآة و تحصل الرؤیا الصادقة.
و لیس بغریب أن یعدّ ابن عربی المخیلة التی وصفناها بهذا الوصف قوة من قوى القلب، فإنه یقول إن قلب النائم یصبح- و قد اتصل بالعالم العلوی هذا الاتصال- أشبه شی ء بمجرى غیر مضطرب من الماء الصافی ینعکس علیه جمیع ما هنالک من صور الحقائق النورانیة.
أما هذه الصور فلیست إلا أشباحاً و ظلالًا أو رموزاً لتلک الحقائق التی وراءها. و لذلک یرى وجوب تأویل الأحلام و تعبیر الرؤیا.
لم یرَ إبراهیم إذن فی منامه إلا رمزاً- رأى کبش القربان یتمثل فی مخیلته بصورة ابنه، و لم یرَ ابنه مطلقاً، و لکن خیل إلیه أنه رآه کانت رؤیاه صادقة بمعنى أنها کانت رمزاً لحقیقة من الحقائق، و لکن کان یعوزها التأویل. غیر أن إبراهیم لم یؤول ما رأى و همَّ بذبح ابنه ففداه اللَّه بالکبش.
فالذی کان له وجود فی العالم المثالی، و الذی وجد بالفعل فی العالم المحسوس، هو الکبش المقدّم للقربان، و قد ظهرت صورته فی مخیلة إبراهیم فاستبدلتها بصورة
ابنه. و لهذا قال: «ففداه لما وقع فی ذهن إبراهیم علیه السلام، ما هو فداء فی نفس الأمر عند اللَّه».
و هناک طائفة من الأحلام تنکشف فیها حقائق الأشیاء للقلب مباشرة من غیر وساطة القوة المتخیلة، و مثل هذه الأحلام لا رمزیة فیها، فهی فی غنى عن التأویل.
(6) «علمنا فی رؤیتنا الحق تعالى فی صورة یردها الدلیل العقلی أن نعبِّر ... ».
(6) لما فرغ من الکلام فی تأویل الصور فی الأحلام شرع یتحدث عن تأویل صور الحق فی الموجودات، فقال کل تقیید للحق فی صورة من الصور یرده الدلیل العقلی، و ذلک لما بیناه من أن العقل لا یثبت للحق إلا التنزیه المطلق أی التحرر التام من کل تقیید و تحدید فی أی صورة من الصور مهما کان نوعها. هذا هو رأی الفلاسفة و قد ذکرنا رده علیهم. و لکن بعض الناس لا یذهب إلى ذلک الحد من التنزیه، بل یقبلون أن یروا اللَّه فی بعض الصور و یردونه فی صور أخرى، و هؤلاء هم المؤمنون الذین یؤمنون بما جاء فی القرآن مُشعِراً بالتشبیه، إلا أنهم یؤولون الصور التی توجب النقصان بالصور الکمالیة التی جاء بها الشرع. و هذا معنى قوله بالحق المشروع أی الثابت فی الشرع. و قد ورد فی الحدیث أن الحق یتجلى یوم القیامة فی بعض الصور فیقبل ثم یتجلى فی بعض الصور الأخرى فینکر.
و لیست هذه الصور سوى صور معتقداتنا فیه. فکل منا یقبله یوم القیامة فی صورة معتقدة و ینکره فی صورة معتقد غیره.
هذا هو «الحق المشروع»: أی اللَّه کما وصفه الشرع: لا اللَّه کما هو علیه فی ذاته. أی هذا هو الحق الذی یتجلى لنا فی هذا العالم فی صور الأحلام و الذی ندرکه فی صور الموجودات، و هو الذی یتجلى لنا یوم القیامة (و لیوم القیامة معنى خاص عند ابن عربی) فی صور معتقداتنا. فالمؤمن یرى من الواجب علیه أن یسلم بتجلی الحق فی الصور. فإذا ما تجلى له فی صورة لا تلیق بالجناب الإلهی
- کما یحدث ذلک فی الأحلام مثلًا- رد هذه الصورة أو أوَّلها إلى غیرها أکمل منها، و نسب النقص إما إلى نفسه (و هو المراد بالرائی) أو إلى المکان و الزمان اللذین رأى الصورة فیهما، أو إلى الاثنین معاً. و أغلب ما یکون النقص فی الصورة من الرائی نفسه لأن الصورة من عمله کما أن الاعتقاد من عمله. أ لیست الصور التی یتجلى فیها الحق لکل منا هی الأسماء و الصفات الإلهیة الظاهر أثرها فینا، المکیفة بأحوالنا العقلیة و الروحیة؟ فإذا جاءت هذه الصور موافقة للعقل مقبولة عنده فلا تأویل، کما أن صور الحق التی یتجلى فیها یوم القیامة لا تؤول و لا تنکر إذا أتت مطابقة لصور المعتقدات.
(7) «فللواحد الرحمن فی کل موطن» الأبیات.
(7) بعد أن ذکر أن للحق صوراً یقبلها العقل و صوراً أخرى یردها و ینکرها، شرع یقول إن للحق صوراً لا نهایة لعددها و لا نهایة للمواطن التی تظهر فیها.
و بعض هذه الصور خفی و بعضها جلی. فإن قلت إن هذه الصورة أو تلک هی الحق فقد قلت صدقاً لأنها مجلى من مجالیه و مظهراً من مظاهره. و إن قلت إنها شی ء آخر غیر الحق أوَّلتها کما تؤول الصورة المرئیة فی الأحلام: و هذا معنى قوله «أنت عابر» و لیس قولک أن الصورة المرئیة غیر الحق إنکاراً لها، بل هو إثبات لها من حیث هی رمز یدل على مرموز إلیه و المرموز إلیه هو الحق. و من هنا نستطیع أن نقول مع المؤلف.
إنما الکون خیال و هو حق فی الحقیقة فمن حیث هو خیال وجب تأویل الصور التی تظهر فیه وردها إلى حقیقتها.
فهو خیال و هو حق فی آن واحد. و لیس ظهور الحق فی صورة من الصور بأولى من ظهوره فی صورة أخرى لأن الحکم فی المواطن التی تظهر فیها الصور واحد فی الجمیع: إذ أنه ظهور للحق فی صور الخلق. و هذا معنى قوله «و لکنه (أی الحکم) بالحق للخلق سافر».
غیر أن العقول التی لا یؤیدها الکشف و لا ینعم أصحابها بنعمة الذوق تنکر
بعض صور الحق إذا تجلت لها فی نومها أو فی یقظتها. و بعضها یقبل هذه الصور إذا التمس لها دلیلًا من الشرع: فیقبلون الصور المجردة البحتة و یقبلون الصور المتخیلة. و هو قوله: «فیقبل فی مجرى العقول و فی الذی یسمى خیالًا .... »
و لکن أهل الکشف الذین یشیر إلیهم باسم «النواظر» و یشاهدون الحق فی کل شی ء و یقبلونه فی کل صورة هم وحدهم الذین یدرکون الأمر على حقیقته.
فأهل الکشف أصحاب الذوق یرون اللَّه فی کل شی ء و یعبدونه فی کل مجلى و تتسع قلوبهم لکل صورة من صوره. أ لا یقول الحدیث القدسی: «ما وسعنی أرضی و لا سمائی و لکن وسعنی قلب عبدی المؤمن»؟ هذه هی سعة قلب المؤمن فی مذهب وحدة الوجود: لا یسع إلا الحق لأنه یشاهد الحق فی کل صورة ترد علیه، و لا یشاهد هذه الصور أبداً من حیث هی صور أو من حیث هی خلق، و لا یحسّ لها من هذه الناحیة وجوداً. و لهذا قال فی الأبیات التالیة:
لو أن ما قد خلق اللَّه ما لاح بقلبی فجره الساطع
أی لو أن جمیع ما خلق اللَّه کان موجوداً بقلبی ما شعرت بنوره الساطع و هو وجوده لأننی لا أشعر إلا بوجود الحق. و فی البیت تقدیم و تأخیر تقدیره ما ذکرت.
( 8 ) «و العارف یخلق بالهمة ما یکون له وجود من خارج محل الهمة».
( 8 ) من وظیفة القوة المتخیلة الخلق و الابتکار، فهی تخلق من الأشیاء ما لا وجود له إلا فیها، و هذا أمر عام یدرکه کل إنسان من نفسه. و لکن ابن عربی یتکلم عن قوة أخرى لا وجود لها إلا فی «العارف» یسمیها «الهمة» تستطیع أن تخلق أموراً وجودیة خارجة عن محلها: أی أن العارف یستطیع أن یخلق أشیاء- لا فی خیاله و لا فی خیال غیره کما یفعل السحرة و المشعوذون- بل فی العالم الخارجی.
و لکننا قد ذکرنا مراراً أن «عملیة الخلق» لا مکان لها و لا معنى فی مذهب یقول بوحدة الوجود، و بیَّنَّا فی مناسبات کثیرة أن ابن عربی لا یفهم من خلق اللَّه للأشیاء أکثر من أنه یمنح الوجود الخارجی للأعیان التی لها وجود بالعمل فی العالم المعقول- أو بعبارة أخرى- إن الدور الذی یقوم به الخالق فی الخلق هو أن یجعل ما هو موجود بالقوة موجوداً بالفعل و لکن فی ذاته. أما الخلق بمعنى الإیجاد من العدم فأمر غیر معقول و غیر ممکن فی نظره.
یقول:
یا خالق الأشیاء فی نفسه .... أنت لما تخلقه جامع
تخلق ما لا ینتهی کونه ..... فیک فأنت الضیق الواسع
إذا کان الأمر کذلک بالنسبة لخلق اللَّه الأشیاء، فما معنى نسبة قوة خالقه إلى العارف أو إلى أی إنسان؟
إن أداة الخلق عند العارف هی «الهمة» و هی قوة غریبة لا نعرف بالضبط ماهیتها یُسَلطها العارف على أی شیء یرید أن یحدث به أثراً فیحدث ذلک الأثر، أو أی شیء یرید وجوده فیحدث ذلک الوجود.
و یقول فی فتوحاته (ج 1 ص 77) إنها معروفة عند المتکلمین باسم «الإخلاص»، و عند الصوفیة باسم «الحضور»، و عند العارفین باسم «الهمة» و لکنه یفضّل أن یسمیها «بالعنایة الإلهیة».
و لکن هذه لقوة لا یمکن أن یفهمها أو یدرک عملها إلا الذین منحوها و جربوها مهما کانت الأسماء التی نسمیها بها. و هؤلاء الذین منّ اللَّه علیهم بها قلیلون.
و یبدو لی أننا نستطیع أن نفهم قوة الخلق عند الصوفی على وجهین:
الوجه الأول: أن الصوفی فی الحال الخاصة التی یسمونها حال «الفناء» یستطیع أن یخلق، أو یحدث أی أثر فی العالم الخارجی یرید إحداثه، بمعنى أن اللَّه یخلق على یدیه ذلک الأثر المطلوب.
فالفعل فعل الحق، و لکن بوساطة العارف الذی فنی عن صفاته البشریة و بقی بصفاته الإلهیة و تحقق بها.
و لیس للعارف- على هذه النظریة- سوى الوساطة فی إظهار قوة الخلق عند اللَّه.
و لهذا التفسیر نظیر فی رأی الأشاعرة فی خلق العبد لأفعاله، و هو قریب أیضاً من رأى ملبرانش فی صدور الأفعال الإنسانیة و غیرها، و من النظریة الفلسفیة التی تُعرف فی العصر الحدیث باسم نظریة الظروف أو المناسبات Occasionalism : و معناها أن کل فعل إنما هو فی الحقیقة للَّه، و لکنه یظهر على نحو ما یظهر إذا تحققت ظروف خاصة- إنسانیة أو غیر إنسانیة- حتى لکأنما یخیل إلینا أن الظروف هی التی أوجدته، و فی الحقیقة لم یوجده سوى اللَّه.
و قد یقال: و لِمَ خُص «العارف» بهذا فی نظریة ابن العربی و هو میسور لکل إنسان، بل لکل موجود، إذ یُجری الحق على أیدی الموجودات ما یشاء و یفعل ما یرید بوساطتها؟
و الجواب على هذا أن الخلق الانسانی یحتاج إلى جمعیة الهمة: أی التوجه التام بقوى الإنسان الروحیة فی أعلى مظاهرها و أصفى حالاتها، إلى خلق ما یرید خلقه أو تغییر ما یراد تغییره. و لا یتسنى ذلک إلا للعارف أو الإنسان الکامل کما یُسمى أحیاناً.
و لعل هذا هو المعنى الذی أشار إلیه ابن عربی فی قوله فی الفص الخامس عشر: «و هذه مسألة لا یمکن أن تعرف إلا ذوقاً کأبی یزید حین نفخ فی النملة التی قتلها فحییت فعلم عند ذلک بمن ینفخ فنفخ».
و قوله فی الفص السادس عشر:
«و إنما قلنا ذلک لأنا نعرف أن أجرام العالم تنفعل لهمم النفوس إذا أقیمت فی مقام الجمعیة و قد عاینا ذلک فی هذا الطریق».
و الوجه الثانی فی فهم خلْق العارف هو الذی یشرحه المؤلف فی عرض کلامه عن الحضرات الخمس.
و هنا یفسر أیضاً کیف یحفظ العارف ما خلق من الأشیاء.
کل ما هو موجود إنما یوجد فی حضرة أو أکثر من حضرة من الحضرات الخمس التی هی حضرة الغیب المطلق- أو حضرة الذات- و حضرة العقول، و حضرة الأرواح، و حضرة المثال، و حضرة الحس.
و قد سمَّى شراح الفصوص هذه الحضرات أو هذه العوالم بأسماء مختلفة، و لکن لا أثر لهذا الاختلاف فی فهمنا للنظریة العامة التی وصفها ابن العربی (راجع مثلا شرح القیصری ص 148، و شرح القاشانی ص 166، و قارن ما ذکره الجرجانی فی التعریفات ص 61).
و تشبه هذه الحضرات من بعض الوجوه الفیوضات الأفلوطینیة، و هی مرتّبة ترتیباً تنازلیاً بحیث إن کل حضرة من الحضرات ینعکس علیها ما فی الحضرة التی فوقها و ینعکس ما فیها هی فی الحضرة التی دونها.
و قد یکون للأشیاء وجود فی حضرة من الحضرات العلیا و لا یکون لها وجود فی الحضرات الدنیا، و قد یکون للشی ء وجود فی جمیع الحضرات.
فإذا قلنا إن العارف یخلق بهمته شیئاً من الأشیاء، کان معنى هذا أنه یُظْهِر فی حضرة الحس شیئاً له وجود بالفعل فی حضرة أخرى أعلى منها- لا أنه یخرج إلى الوجود شیئاً لم یکن موجوداً من قبل.
فهو بترکیزه همته فی صورة شی ء من الأشیاء فی حضرة من الحضرات یستطیع أن یخرجها إلى حیز الوجود الخارجی فی صورة محسوسة، و بحفظه لصورة شیء فی حضرة من الحضرات العلویة یحفظ صورته فی الحضرات السفلیة.
والعکس صحیح أیضاً: أی أنه إذا حفظ بقوة همته صورة شیء فی حضرة من الحضرات السفلیة، یحفظ صورة ذلک الشیء فی حضرة علویة، فإن بقاء المعلول یقتضی بقاء علته.
و لهذا قال: «فإذا غفل العارف عن حضرة ما- أو عن حضرات- و هو شاهد حضرة ما من الحضرات، حافظ لما فیها من صورة خلقه، انحفظت جمیع الصور بحفظه تلک الصورة الواحدة فی الحضرة التی ما غفل عنها».
و یفسر ابن العربی قوة الخلق عند اللَّه على هذا النحو أیضاً- إلا أن الفرق بین خلْق اللَّه و خلْق الإنسان هو أن الإنسان لا بدّ أن یغفل عن واحدة أو أکثر من واحدة من الحضرات الخمس، فی حین أن اللَّه لا یغفل عن مشاهدة صور ما یخلق من الأشیاء فی أیة حضرة من الحضرات.
هکذا تصور ابن العربی مسألة الخلق الصادر عن اللَّه أو عن أی إنسان منحه اللَّه قوة الخلق، و هو لا یرى تناقضاً فی افتراض وجود صور مختلفة للشیء الواحد فی عوالم مختلفة، و لا فی وجود الشیء الواحد فی مکانین مختلفین، و لا فی وجود شیخه فی مکان ما و وجود روح ذلک الشیخ ماثلة أمامه تحدثه.
بل هو یفسر بنظریته هذه کثیراً من المعجزات و خوارق العادات.
و أما قوله: «فإن تلک الحضرة التی یبقى لک الحضور فیها مع الصورة، مثلها مثل الکتاب ... إلخ.
فمعناه أن حضور العارف فی حضرة من الحضرات یتحقق بترکیز جمیع قواه الروحیة فی صورة ما من صور تلک الحضرة: فإذا تم له ذلک الحضور أصبحت له هذه الحضرة بمثابة المرآة التی یرى فیها جمیع ما فی الحضرات الأخرى، أو کالکتاب الذی قال اللَّه فیه: «ما فَرَّطْنا فِی الْکِتابِ مِنْ شَیْءٍ»، لأنه یرى فی هذا الکتاب جمیع ما فی الوجود من واقع و غیر واقع أی ما هو موجود بالفعل و ما هو موجود بالقوة.
(9) «و لا یعرف ما قلناه إلا من کان قرآناً فی نفسه».
(9) أی و لا یفهم هذه المسألة إلا «الإنسان الکامل» الذی هو الکون الجامع لحقائق الوجود کلها فی نفسه و الذی تتمثل فیه جمیع الصفات و الأسماء الإلهیة. فهو کالقرآن یحوی کل شیء.
وهنا نجد المؤلف یستعمل کلمتی القرآن و الفرقان- کما استعملهما فی الفص الثالث- بمعنى الجمع و الفرق.
والمراد بالجمع الحال التی لا تتمیز فیها بین العبد و الرب- و هی حال الفناء الصوفی، و المراد بالفرق الحال التی یقع فیها هذا التمییز.
و أما قوله: «فإن المتقی اللَّه یجعل له فرقاناً» فإشارة إلى الآیة: «یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ یَجْعَلْ لَکُمْ فُرْقاناً» (س 8 آیة 27)، و لکنه یفسر التقوى و الفرقان بطریقته الخاصة.
وقد أشرنا إلیها فیما سبق و لا بأس من أن نزید المسألة شرحاً هنا.
یأخذ «المتقی» على أنها مشتقة من الوقایة لا من التقوى:
و من یتقی اللَّه بهذا المعنى لیس هو من یخاف اللَّه، بل هو الذی یتخذ اللَّه وقایة له: أی یعتبر الذات الإلهیة وقایة و حمایة لصورته الانسانیة، و بذلک یفرِّق (من الفرقان) بین الناحیتین اللتین فیه و هما ناحیة اللاهوت و ناحیة الناسوت. هذا هو مقام الفرقان.
أما مقام «القرآن» فلیس فیه هذا التمییز أو هذه التفرقة.
غیر أن «الفرقان» قد یحصل قبل دخول الصوفی فی حال الفناء (و هی حال القرآن) و قد یحصل بعد خروجه منها.
أما إذا فرّق بین لاهوته و ناسوته قبل الفناء فهو جاهل بوحدته الذاتیة مع الحق: أی جاهل بالوحدة التی لا انفصام لها بین اللاهوت و الناسوت.
و أما إذا فرَّق بعد الفناء فلعلمه بأن الحق و الخلق (اللاهوت و الناسوت) و لو أن بینهما اتحاداً ذاتیاً- کما دلت علیه حال الفناء.
إلا أن الخلق متمیز من الحق امتیاز الصورة من الجوهر الذی هی صورة له.
و هذا ما دلّ علیه حال «البقاء». هذا «فرقان» أیضاً و لکنه «فرقان» بعد «قرآن» أو هو کما یقول الصوفیة «بقاء بعد فناء» أو «صحو بعد محو».
قال ابن الفارض فی تائیته:
و فی الصحو بعد المحو لم أکُ ..... غیرها و ذاتی بذاتی إذ تحلت تجلت
(10) «فوقتاً یکون العبد رباً بلا شک» الأبیات.
(10) نشرح هذه الأبیات جهتی الحق و الخلق فی الإنسان و هما الجهتان اللتان یعبر عنهما أحیاناً باسم اللاهوت و الناسوت و أحیاناً باسم الربوبیة و العبودیة.
و قد سبق أن ذکرنا أنهما جهتان اعتباریتان لحقیقة واحدة و أن لا ثنویة فی مذهب ابن عربی.
فبأحد الاعتبارین نستطیع أن نقول إن الإنسان عبد لربه، و بالاعتبار الآخر نستطیع أن نقول إنه هو الرب.
فهو عبد فی مقام الفرق أو الفرقان، و ربّ فی مقام الجمع أو القرآن کما قدمنا.
و فی المقام الأول لا یتحقق العبد من اتحاده الذاتی بربه:
فهو لا یزال یفرّق بین عبودیته و ربوبیة الرب، مع أن اللاهوت جزء من حقیقته کالناسوت تماماً و إن کان لا یعرف ذلک.
و هذا هو المقام الذی یدفع بصاحبه إلى طلب مقام أعلى و هو معنى قوله: فمن کونه عبداً یرى عین نفسه و تتسع الآمال منه بلا شک و هی الآمال فی الوصول إلى مقام الوحدة.
أما إذا حصل فی المقام الثانی فإنه یحِسُّ بربوبیته و یشعر أن الکون کله طوع أمره. هذا هو المقام الذی صاح فیه الحلاج بقوله أنا الحق!
ینمحی فی هذا المقام الفرق بین العبد و الرب و یشعر صاحبه أن کل ما فی الوجود یطالبه بحاجاته.
فإذا غفل لحظة واحدة عن هذا المقام «و رأى عینه» کما یقول- أی لاحظ جانب عبودیته، أدرک عجزه المطلق عن أن یجیب مطالب الوجود و أدرک افتقاره المطلق إلى اللَّه.
و هذا معنى قوله:
و یعجز عما طالبوه بذاته .... لذا ترَ بعض العارفین به یبکی
و لما کان المقام الثانی هو مقام الفناء التام و محو جمیع آثار العبودیة، و هذا مستحیل فی هذا العالم، لأن العارف مهما بلغ من درجات الفناء لا یتحرر تماماً من نفسه، نصح ابن عربی الصوفیة ألا یدعوا مقام الربوبیة و أن یبقوا على عبودیتهم فی قوله:
فکن عبد رب لا تکن رب عبده .... فتذهب بالتعلیق فی النار و السبک
أی فتفنى بواسطة تعلقک بالربوبیة فی نارها المحرقة التی لا تبقی على شیء من عبودیتک.
و لأصحاب وحدة الوجود عبارات کثیرة فی هذا المعنى منها أن الحق غیور و أن الرب غیور- أی لا یحب أن یرى غیره، فإذا ظهر بطلت الغیریة.
و منها کلامهم فی سبحات وجه اللَّه التی تحرق کل من نظر إلیها و هکذا.