عرفان شیعی

الفقرة الثالثة والعشرون:

شرح فصوص الحکم من کلام الشیخ الأکبر ابن العربی أ. محمد محمود الغراب 1405 هـ:

06 - فص حکمة حقیة فی کلمة إسحاقیة

فداء  نبی ذبح  لقربان ...   وأین ثؤاج الکبش من نوس إنسان

وعظمه  الله العظیم  عنایة ... بنا  أو به لا أدر من أی میزان

_______________________________

1 ۔ المناسبة (*)

المناسبة فی هذه الحکمة هی أنه عالم الخیال عالم حقیقی وهو حق کله وإنما یقع الخطأ فی تأویل وتعبیر الرؤیا التی هی جزء من عالم الخیال ، ولما کان الجمهور من العلماء یذهب إلى أن الذبیح هو إسحاق علیه السلام لذلک سمیت الحکمة حقیة لأنها جاءت فی حق إسحاق علیه السلام.

أما مذهب الشیخ فی هذا الموضوع فهو مخالف لما علیه الجمهور ویثبت أن إسماعیل علیه السلام هو الذبیح .

فیقول فی کتاب الإسفار عن نتائج الأسفار ، فی سفر الهدایة ، وهو سفر إبراهیم الخلیل علیه السلام ، ما هذا نصه : لما بشر فی إجابة دعائه فی قوله:« رب هب لی من الصالحین » ابتلى فیما بشر به لأنه سأل من الله سواه ، والله غیور ،فابتلاه بذبحه وهو أشد علیه من ابتلائه بنفسه.

وذلک أنه لیس له فی نفسه منازع سوى نفسه.

فبادنی خاطر یردها ، فیقل جهاده ، وابتلاؤه بذبح ابنه لیس کذلک.

لکثرة المنازعین فیه ، فیکون جهاده أقوى ، ولما ابتلى بذبح ما سأله من ربه ، وتحقق نسبة الابتلاء وصار بحکم الواقعة، فکأنه قد ذبح وإن کان حیا.

بشر پاسحاق علیه السلام من غیر سؤال.

فجمع له ( أی لإبراهیم علیه السلام) بین الفداء وبین البدل مع بقاء المبدل منه، فجمع له بین الکسب والوهب ، فالذبح مکسوب من جهة السؤال وموهوب من جهة الفداء .

فإن فداءه لم یکن مسؤولا ، وإسحاق موهوب، ولما کان إسماعیل قد جمع له بین الکسب والوهب فی العطاء ، فکان مکسوبا موهوبا لأبیه ، فکانت حقیقة کاملة.

لذلک کان محمد صلى الله علیه وسلم فی صلبه ، بل لکون، محمد صلى الله علیه وسلم فی صلبه صح الکمال والتمام الإسماعیل ، فکانت فی شریعتنا ضحایانا فداء لنا من النار.

ص 91

ولا شک أن البدن أعظم قیمة ... وقد نزلت عن ذبح کبش لقربان

فیا لیت شعری کیف ناب بذاته ... شخیص کبیش عن خلیفة رحمان

ألم تدر أن الأمر فیه مرتب ... وفاء لإرباح ونقص لخسران؟

فلا خلق أعلى من جماد وبعده ... نبات على قدر یکون وأوزان

وذو الحس بعد النبت والکل عارف ... بخلاف کشفا وإیضاح برهان

وأما المسمى آدما فمقید ... بعقل وفکر أو قلادة إیمان

___________________________________

2 - أربعة الأبیات الأولى موجودة فی الفتوحات ج 1 ص 596

3  - شرف الجماد

قال تعالى : "لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأیته خاشعا متصدعا من خشیة الله"، الآیة ، وصف الحق الجبل بالخشیة ، وعین وصفه بالخشیة عین وصفه بالعلم بما أنزل علیه .

قال تعالى : "إنما یخشى الله من عباده العلماء" ،فهذه الآیة تشیر إلى شرف الجماد على الإنسان ، أترى خشوعه وتصدعه لجهله ما أنزل علیه ؟

لا والله إلا بقوة علمه بذلک وقدره ، ألا تراه عز وجل یقول فی هذه الآیة « وتلک الأمثال نضربها للناس لعلهم یتفکرون » .

فإنهم إذا تفکروا فی ذلک علموا شرف غیرهم علیهم ، فإن شهادة الله بمقدار المشهود له بالتعظیم کالواقع منه ، لأنه قول حق .

قال تعالى: "وإن منها لما یهبط من خشیة الله" ، فإن الحجارة عبید محققون ، ما خرجوا عن أصولهم فی نشأتهم ، فالحجر یهرب من مزاحمة الربوبیة فی العلو فیهبط من خشیة الله ، ومن خشی فقد علم من یخشى .

ووصفها الله تعالى بالقساوة ، وذلک لقوتها فی مقام العبودیة فلا تتزلزل عن ذاتها ، لأنها لا تحب مفارقة موطنها لما لها فیه من العلم والحیاة اللتین هما أشرف الصفات.

وهذه الآیة تدل على أن الله أخذ بأکثر أبصار جنس الإنس والجان عن إدراک النفوس المدیرة الناطقة التی تسمى جمادا ونباتا وحیوانا ، وکشف لبعض الناس عن ذلک ، فإن الخشبیة المنعوت بها الأحجار هی التی أدتها إلى الهبوط ، وهو التواضع من الرفعة التی أعطاها الله .

ف ج 1  / 529 ، 710 -  ج 2 / 228 ، 552

ص 92

بذا قال سهل والمحقق مثلنا ... لأنا وإیاهم بمنزل إحسان

فمن شهد الأمر الذی قد شهدته ... یقول بقولی فی خفاء وإعلان

ولا تلتفت قولا یخالف قولنا ... ولا تبذر السمراء فی أرض عمیان

هم الصم والبکم الذین أتى بهم ... لأسماعنا المعصوم فی نص قرآن

اعلم أیدنا الله وإیاک أن إبراهیم الخلیل علیه السلام قال لابنه: «إنی أرى فی المنام أنی أذبحک» والمنام حضرة الخیال فلم یعبرها.

وکان کبش ظهر فی صورة ابن إبراهیم فی المنام فصدق إبراهیم الرؤیا، ففداه ربه من وهم إبراهیم بالذبح العظیم الذی هو تعبیر رؤیاه عند الله تعالى وهو لا یشعر.

فالتجلی الصوری فی حضرة الخیال محتاج إلى علم آخر یدرک به ما أراد الله تعالى بتلک الصورة.

ألا ترى کیف قال رسول الله صلى الله علیه وسلم لأبی بکر فی تعبیر الرؤیا:

«أصبت بعضا وأخطأت بعضا» فسأله أبو بکر أن یعرفه ما أصاب فیه وما أخطأ فلم یفعل.

وقال الله تعالى لإبراهیم علیه السلام حین ناداه:

«أن یا إبراهیم قد صدقت الرؤیا» وما قال له صدقت فی الرؤیا أنه ابنک: لأنه ما عبرها، بل أخذ بظاهر ما رأى، والرؤیا تطلب التعبیر.

ولذلک قال العزیز «إن کنتم للرؤیا تعبرون».

ومعنى التعبیر الجواز من صورة ما رآه إلى أمر آخر.

فکانت البقر سنین فی المحل والخصب.

فلو صدق فی الرؤیا لذبح ابنه، وإنما صدق الرؤیا فی أن ذلک عین ولده، وما کان عند الله إلا الذبح العظیم فی صورة ولده ففداه

_______________________________________

4 -  لا أعلى فی الإنسان من الصفة الجمادیة

قال سهل بن عبد الله التستری ، لا أعلى فی الإنسان من الصفة الجمادیة ، فلا أعلى منها فی الإنسان ثم بعدها النباتیة ثم بعدها الحیوانیة ، وهی أعظم تصریف فی الجهات من النبات .

ف ح 1 / 710

5 ، 6  - المنام وحضرة الخیال

النوم جامع أمر لیس یجمعه   ..... غیر المنام ففکر فیه واعتبر

أن الخیال له حکم وسلطنة   ..... على الوجودین من معنى ومن صور

ولیس یدرک فی غیر المنام ولا   ..... تبدو له صور فی حضرة السور

یختص بالصاد لا بالسین حضرته   ..... فهو المحیط بما فی الغیب من صور

من لا یکیف یأبى النوم یحصره   ..... بالکیف والکم للتحدید بالعبر

ص 93

لما وقع فی ذهن إبراهیم علیه السلام: ما هو فداء فی نفس الأمر عند الله.

فصور الحس الذبح وصور الخیال ابن إبراهیم علیه السلام.

فلو رأى الکبش فی الخیال لعبره بابنه أو بأمر آخر.

ثم قال «إن هذا لهو البلاء المبین» أی الاختبار المبین أی الظاهر یعنی الاختبار فی العلم: هل یعلم ما یقتضیه موطن الرؤیا من التعبیر أم لا؟

لأنه یعلم أن موطن الخیال یطلب التعبیر: فغفل فما وفى الموطن حقه، وصدق الرؤیا لهذا السبب کما فعل تقی بن مخلد الإمام صاحب المسند، سمع فی الخبر الذی ثبت عنده أنه علیه السلام قال: «من رآنی فی النوم فقد رآنی فی الیقظة فإن الشیطان لا یتمثل على صورتی» فرآه تقی بن مخلد وسقاه النبی صلى الله علیه وسلم فی هذه الرؤیا لبنا فصدق تقی بن مخلد رؤیاه فاستقاء فقاء لبنا.

ولو عبر رؤیاه لکان ذلک اللبن علما. فحرمه الله علما کثیرا على قدر ما شرب.

ألا ترى رسول الله صلى الله علیه وسلم أتی فی المنام بقدح لبن: «فشربته حتى خرج الری من أظافیری ثم أعطیت فضلی عمر».  قیل ما أولته یا رسول الله؟

_______________________________

فالنوم حالة تنقل العبد من مشاهدة عالم الحس إلى البرزخ ، فإذا نام الإنسان نظر بالبصر بالوجه الذی له إلى عالم الخیال ، وهو أکمل العالم فلا أکمل منه ، هو أصل مصدر العالم ، له الوجود الحقیقی والتحکم فی الأمور کلها .

یجسد المعانی ویرد ما لیس قائما بنفسه قائما بنفسه ، وما لا صورة له یجعل له صورة ، ویرد المحال ممکنا ، ویتصرف فی الأمور کیف یشاء ، فالخیال له قدرة على المحال .

واعلم أن مبدأ الوحی الرؤیا الصادقة ، وما هی أضغاث أحلام، وهی لا تکون إلا فی حال النوم .

والرؤیا ثلاث :

منها بشری .

ورؤیا مما یحدث المرء به نفسه فی الیقظة فیرتقم فی خیاله .

والرؤیا الثالثة من الشیطان ، فمن اعتبر الرؤیا یرى امرا هائلا ، وتبین له مالا یدرکه من غیر هذا الوجه .

ولهذا کان رسول الله صلى الله علیه وسلم إذا أصبح فی أصحابه سألهم :

هل رأى أحد منکم رؤیا ؟

لأنها نبوة ، فکان یحب أن یشهدها فی أمته ، وکل رؤیا صادقة ولا تخطیء، فاذا أخطأت الرؤیا فالرؤیا ما أخطأت .

ولکن العابر الذی یعبرها هو المخطىء، حیث لم یعرف ما المراد بتلک الصورة ، ألا تراه مع ما قال لأبی بکر حین عبر رؤیا الشخص المذکور ، أصبت بعضا وأخطأت بعضا ،

ص  94

قال العلم، وما ترکه لبنا على  صورة ما رآه لعلمه بموطن الرؤیا وما تقتضیه من التعبیر.

وقد علم أن صورة النبی صلى الله علیه وسلم التی شاهدها الحس أنها فی المدینة مدفونة، وأن صورة روحه ولطیفته ما شاهدها أحد من أحد ولا من نفسه.

کل روح بهذه المثابة فتتجسد له روح النبی فی المنام بصورة جسده کما مات علیه لا یخرم منه شیء.

فهو محمد صلى الله علیه وسلم المرئی من حیث روحه فی صورة جسدیة تشبه المدفونة لا یمکن للشیطان أن یتصور بصورة جسده صلى الله علیه وسلم عصما من الله فی حق الرائی.

ولهذا من رآه بهذه الصورة یأخذ عنه جمیع ما یأمره أو ینهاه عنه أو یخبره کما کان یأخذ عنه فی الحیاة الدنیا من الأحکام على حسب ما یکون منه اللفظ الدال علیه من نص أو ظاهر أو مجمل أو ما کان فإن أعصاه شیئا فإن ذلک الشیء هو الذی یدخله التعبیر، فإن خرج فی الحس کما کان فی الخیال فتلک رؤیا لا تعبیر لها.

وبهذا القدر وعلیه اعتمد إبراهیم علیه السلام

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فالعابر للرؤیا هو الذی له جزء من أجزاء النبوة ، حیث علم ما أرید بتلک الصورة ، فقد یکون الرائی هو الذی یراها لنفسه وقد یراها له غیره.

والعابر هو صاحب علم تعبیر الرؤیا ، فلا یعلم مرتبة الخیال إلا الله ، ثم أهله من نبی أو ولی مختص، غیر هذین فلا یعرف قدر.

هذه المرتبة ، والعلم بها أول مقامات النبوة ،ولهذا کان رسول الله لا إذا أصبح وجلس مجلسه بین أصحابه یقول لهم "هل فیکم من رأى رؤیا ؟".

وذلک لیرى ما أحدث الله البارحة فی العالم ، أو ما یحدثه فی المستقبل وقد أوحی به إلى هذا الرائی فی منامه ، إما صریح وحی وما وهی فی صورة یعلمها الرائی ولا بعلم ما أرید بها، فیعبرها رسول الله صلى الله علیه وسلم مع لما أراد الله بها.

فی ج 1/ 307  - ج 2 / 183 ، 375 ، 367 ، 380  - ج 3 / 38 ، 507.

7 -  رؤیة رسول الله صلى الله علیه وسلم فی المنام (*)

المبشرات إن جاءت إلى العبد من الله فی رؤیاه على ید رسوله صلى الله علیه وسلم، فإن کان حکما تعبد نفسه به . ولابد، بشرط أن یرى رسول الله صلى الله علیه وسلم وعلى الصورة الجسدیة التی کان علیها فی الدنیا کما نقل إلیه من الوجه الذی صح عنه .

حتى إنه إنه رأى رسول الله لا یراه مکسور الثنیة العلیا ، فإن لم یره بهذا الأثر فما هو ذاک ، وإن

ص 95

وبقی بن مخلد. ولما کان للرؤیا هذان الوجهان.

وعلمنا الله: فیما فعل بإبراهیم وما قال له: الأدب لما یعطیه مقام النبوة، علمنا فی رؤیتنا الحق تعالى فی صورة یردها الدلیل العقلی أن نعبر تلک الصورة بالحق المشروع إما فی حق حال الرائی أو المکان الذی رآه فیه أو هما معا.

وإن لم یردها الدلیل العقلی أبقیناها على ما رأیناها کما نرى الحق فی الآخرة سواء.

فللواحد الرحمن فی کل موطن ... من الصور ما یخفی وما هو ظاهر

فإن قلت هذا الحق قد تک صادقا ... وإن قلت أمرا آخرا أنت عابر

وما حکمه فی موطن دون موطن ... ولکنه بالحق للخلق سافر

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تحقق أنه رسول الله صلى الله علیه وسلم ورآه شیخا أو شابا مغایرا للصورة التی کان علیها فی الدنیا ومات علیها .

ورآه فی حسن أزید مما وصف له ، أو قبح صورة ، أو یرى الرائی إساءة أدب فی نفسه معه ، فذلک کله الحق الذی جاء به رسول الله صلى الله علیه وسلم مع ما هو رسول الله .

فیکون ما رآه هذا الرائی عین الشرع ما فی البقعة التی یراه فیها عند ولاة أمور الناس ، وإما أن یرجع ما یراه إلى حال الرائی ، أو إلى المجموع .

غیر ذلک فلا یکون فیکون تغیر صورته صلى الله علیه وسلم  مع عین إعلامه وخطابه إیاه بما هو الأمر علیه فی حقه أو حق ولاة العصر بالموضع الذی یراه فیه.

فإن جاءه بحکم فی هذه الصورة فلا یأخذ به إن اقتضى ذلک نسخ حکم ثابت بالخبر المنقول الصحیح المعمول به ، وکل ما أتى به من العلوم والأسرار مما عدا التحلیل والتحریم فلا تحجیر علیه فیما یأخذه منها .

الا فی العقائد ولا فی غیرها ، وذلک بخلاف حکمه لو رآه صلى الله علیه وسلم  على صورته فیلزمه الأخذ به ولا یلزم غیر ذلک ، فمن رآه صلى الله علیه وسلم فی المنام فقد رآه فی الیقظة ما لم تتغیر علیه الصورة ، فإن الشیطان لا یتمثل على صورته أصلا .

فهو "صلى الله علیه وسلم " معصوم الصورة حیا ومیتا ، فمن رآه فقد رآه فی أی صورة رآه .

هذا یخالف ما جاء فی هذه الفقرة من قوله : « لا یمکن للشیطان أن یتصور بصورة جسده صلى الله علیه وسلم عصمة من الله فی حق الرائی »،ف ج 4 / 27.

ص 96

إذا ما تجلى للعیون ترده ... عقول ببرهان علیه تثابر

ویقبل فی مجلی العقول وفی الذی ... یسمى خیالا والصحیح النواظر

_____________________________

8 - رؤیة الحق تعالى فی صورة

ما أوسع حضرة الخیال ، فیها یظهر وجود المحال ، بل لا یظهر فیها على التحقیق إلا وجود المحال .

فإن الواجب الوجود وهو الله تعالى لا یقبل الصور وقد ظهر بالصور فی هذه الحضرة ، فقد قبل المحال الوجود الوجود فی هذه الحضرة .

فما قبل شیء من المحدثات صور الحق سوى الخیال ، فما أوجد الله أعظم من الخیال منزلة ولا أعم حکما ، یسری حکمه فی جمیع الموجودات والمعدومات ، من محال وغیره .

فلیس للقدرة الإلهیة فیما أوجدته أعظم وجودا من الخیال ، فیه ظهرت القدرة الإلهیة والاقتدار الإلهی ، وهو حضرة المجلى الإلهی فی القیامة وفی الاعتقادات .

فالخیال من جملة ما خلق الله ، وهو رحم یصور الله فیه ما یشاء ، فظهر لنا سبحانه فیه بأسمائه وصفاته صورة ، فإن المواطن تحکم بنفسها على کل ما ظهر فیها .

فمن مر على موطن انصبغ به ، والدلیل الواضح فی ذلک رؤیتک الله تعالى فی النوم وهو موطن الخیال ، فلا ترى الحق فیه إلا صورة جسدیة .

کانت تلک الصورة ما کانت ، فهذا حکم الوطن حکم علیک فی الحق أنک لا تراه إلا کذا ، والحکم على الله أبدا بحسب الصورة التی یتجلى فیها .

فما یصح لتلک الصورة من الصفة التی تقبلها فإن الحق یوصف بها ویصف بها نفسه.

وهذا فی العموم إذا رأى الحق أحد فی المنام فی صورة أی صورة کانت حصل علیه ما تستلزمه تلک الصورة التی رآه فیها من الصفات.

وهذا ما لا ینکره أحد فی النوم ، واعلم أن للحق سبحانه فی القلوب تجلیین :

التجلی الأول فی الکثائف وهو تجلیه فی الصور التی تدرکها الأبصار والخیال ، مثل رؤیة الحق فی النوم ، ویعرف أنه الحق ولا یشک الرائی .

وکذلک فی الکشف ، ویقول له عابر الرؤیا حقا رأیت ، وهو فی الخیال المتصل ، فیظهر تجلی الحق فی الصور التی ینکر فیها أو یرى فی النوم ، فیرى الحق فی صورة الخلق بسبب

ص 97

یقول أبو یزید فی هذا المقام لو أن العرش وما حواه مائة ألف ألف مرة فی زاویة من زوایا قلب العارف ما أحس بها.

وهذا وسع أبی یزید فی عالم الأجسام. بل أقول لو أن ما لا یتناهى وجوده یقدر انتهاء وجوده مع العین الموجدة له فی زاویة من زوایا قلب العارف ما أحس بذلک فی علمه.

فإنه قد ثبت أن القلب وسع الحق ومع ذلک ما اتصف بالری فلو امتلأ ارتوى.

وقد قال ذلک أبو یزید. ولقد نبهنا على هذا المقام بقولنا:

یا خالق الأشیاء فی نفسه ... أنت لما تخلقه جامع

تخلق ما لا ینتهی کونه فیه ... بک فأنت الضیق الواسع

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

حضرة الخیال ، فإن صاحب الرؤیا إذا رأى ربه تعالی کفاحا فی منامه فی أی صورة یراه ، فیقول رأیت ربی فی صورة کذا وکذا .

ویصدق مع قوله « لیس کمثله شیء » فنفى عنه المماثلة فی قبول التجلی فی الصور کلها التی لا نهایة لها لنفسه ، فإن کل ما سواه تعالی ممن له التجلی فی الصور لا یتجلى لشیء منها لنفسه .

وإنما یتجلى فیها بمشیئة خالقه وتکوینه ، وفی نسبة الصور لله یقال فی أی صورة شاء ظهر من غیر جعل جاعل .

والتجلی الآخر فی حال التخیل فی عبادتک ، فإنه صلى الله علیه وسلم ما ینطق عن الهوى ، وقد صح عنه أنه قال لجبریل علیه السلام « الإحسان أن تعبد الله کأنک تراه » ، فهذا تنزیل خیالی ، فأدخل سبحانه نفسه فی التخیل من أجل کاف التشبیه ، فإن الإحسان عیان وفی منزلة کأنه عیان.

الفتوحات:  ج 1 / 383 ، 384  ج 2 / 124 ، 312 ، 472  ج 3 / 507 ، 508 ، 538 ج 4 / 19 ، 108 ، 200 .

9 -  وذلک أن قلبا وسع القدیم کیف یحس بالمحدث موجودا ، فکان أبو یزید فی هذا القول تحت حکم الاسم الواسع ، فما فاض عنه شیء ، وذلک أنه تحقق .

بقوله « وسعنی قلب عبدی » فلما وسع الحق قلبه ، وسع قلبه کل شیء ، إذ لا یکون شیء إلا عن الحق ، فلا تکون صورة شیء إلا فی قلبه ، یعنی فی قلب ذلک العبد الذی وسع الحق .

ص 98

لو أن ما قد خلق الله ما لاح ... بقلبی فجره الساطع

من وسع الحق فما ضاق عن ... خلق فکیف الأمر یا سامع؟

بالوهم یخلق کل إنسان فی قوة خیاله ما لا وجود له إلا فیها، وهذا هو الأمر العام.

والعارف یخلق بالهمة ما یکون له وجود من خارج محل الهمة و لکن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

10 - الخیال هو الواسع الضیق

شرح الأبیات - قوله « یا خالق الأشیاء » یعنی به الخیال

لما کان الخیال یصور من یستحیل علیه بالدلیل العقلی الصورة والتصور ، لهذا کان واسعا ، قال رسول الله صلى الله علیه وسلم « اعبد الله کأنک تراه » « والله فی قبلة المصلی » أی تخیله فی قبلتک وأنت تواجهه لتراقبه وتستحی منه وتلزم الأدب معه.

وأما ما فی الخیال من الضیق فإنه لیس فی وسع الخیال أن یقبل أمرا من الأمور الحسیة والمعنویة والنسب والإضافة وجلال الله وذاته إلا بالصورة .

ولو رام أن یدرک شیئا من غیر صورة لم تعط حقیقته ذلک ، فمن هنا هو ضیق فی غایة الضیق ، فإنه لا یجرد المعانی عن المواد أصلا .

ولهذا کان الحس أقرب شیء إلیه ، فإنه من الحس أخذ الصور ، وفی الصور الحسیة یجلی المعانی ، فهذا من ضیقه .

فالخیال أوسع المعلومات ومع هذه السعة العظیمة التی یحکم بها على کل شیء عجز أن یقبل المعانی مجردة عن المواد کما هی فی ذاتها .

فیرى العلم فی صورة لبن أو عسل ، ویرى الإسلام فی صورة قبة وعمد ، ویرى القرآن فی صورة سمن وعسل ، ویرى الدین فی صورة قید ، ویری الحق فی صورة إنسان وفی صورة نور ، فهو الواسع الضیق.

أما قوله فی البیت الأخیر فهو عود إلى قول أبی یزید ، فکیف الأمر یا سامع ؟!

الفتوحات : ج 1 / 36.

11 - ما لا قدرة للانسان ولا قوة له علیه أن یکون منه فی الحس هنا فی الدار الدنیا ، فإنه یقوى على إیجاده خیالا فی نفسه . ف ج 4 /  282

ص 99

لا تزال الهمة تحفظه. ولا یئودها حفظه، أی حفظ ما خلقته.

فمتى طرأ على العارف غفلة عن حفظ ما خلق عدم ذلک المخلوق، إلا أن یکون العارف قد ضبط جمیع الحضرات وهو لا یغفل مطلقا، بل لا بد من حضرة یشهدها.

فإذا خلق العارف بهمته ما خلق وله هذه الإحاطة ظهر ذلک الخلق بصورته فی کل حضرة، وصارت الصور یحفظ بعضها بعضا.

فإذا غفل العارف عن حضرة ما أو عن حضرات وهو شاهد حضرة ما من الحضرات، حافظ لما فیها من صورة خلقه، انحفظت جمیع الصور بحفظه

_______________________________

12 - الفعل بالهمة والتحول فی الصور

یشترک الإنسان الحیوان مع الکامل فی الأدوات الصناعیة التی بها یتوصل إلى مصنوع ما مما یفعل بالأیدی ، ویزید الکامل علیه بالفعل بالهمة ، فأدواته همته ، وهی له بمنزلة الإرادة الإلهیة إذا توجهت على إیجاد شیء .

فمن المحال أن لا یکون ذلک الشیء المراد ، ولیس الفعل بالهمة محسوسة فی الدنیا لکل أحد، وهو لغیر الولی کصاحب الهمة والغرانیة بإفریقیة .

ولکن ما تکون بسرعة تکوین الشیء فی الدار الآخرة ، وهذا فی الدنیا نادر شاذ کقضیب البان وغیره ، وهو فی الدار الآخرة للجمیع ، ففی قوة الإنسان ما لیس فی قوة عالم الغیب .

فإن فی قوة الإنسان من حیث روحه التمثل فی غیر صورته فی عالم الشهادة ، فیظهر الإنسان فی أی صورة شاء من صور بنی آدم أمثاله .

وفی صور الحیوانات والنبات والحجر ، فإن الإنسان فی هذا الطریق یعطى من القوة ما یظهر به فی هذه النشأة کما یظهر فی النشأة الآخرة التی یظهر فیها على أی صورة شاء .

ولکن لا یصل کل واحد إلى معرفة هذا الأصل ، فقد أعلمنا الحق أن هذه النشأة تعطی القبول لأی صورة کانت ، فإذا علم الإنسان بالکشف الإلهی أنه على أصل وحقیقة تقبل الصور ، فیتعمل فی تحصیل أمر یتوصل به إلى معرفة الأمر .

فإذا فتح له فیه ظهر فی عالم الشهادة فی أی صورة من عالم الشهادة شاء ، وظهر فی عالم الغیب والملکوت فی أی صورة من صوره شاء.

غیر أن الفرق بیننا وبین عالم الغیب أن الإنسان إذا تروحن وظهر للروحانیین فی عالم الغیب یعرفون أنه جسم تروحن ، والناس فی عالم الشهادة إذا أبصروا روحا تجسد لا یعلمون أنه روح تجسد ابتداء حتى یعرفوا بذلک .

ص 100

تلک الصورة الواحدة فی الحضرة التی ما غفل عنها، لأن الغفلة ما تعم قط لا فی العموم ولا فی الخصوص.

وقد أوضحت هنا سرا لم یزل أهل الله یغارون على مثل هذا أن یظهر لما فیه من رد دعواهم أنهم الحق، فإن الحق لا یغفل والعبد لا بد له أن یغفل عن شیء دون شیء.

فمن حیث الحفظ لما خلق له أن یقول «أنا الحق»، ولکن ما حفظه لها حفظ الحق: وقد بینا الفرق. ومن حیث ما غفل عن صورة ما وحضرتها فقد تمیز العبد من الحق. ولا بد أن یتمیز مع بقاء الحفظ لجمیع الصور بحفظه صورة واحدة

_______________________________

واعلم أن النفس الناطقة التی هی روح الإنسان المسماة زیدا لا یستحیل علیها أن تدبر صورتین جسمیتین فصاعدا إلى آلاف الصور الجسیة ، وکل صورة هی زید عینها ، لیست غیر زید .

ولو اختلفت الصورة أو تشابهت لکان المرئی المشهود عین زبد، کما تقول فی جسم زید الواحد مع اختلاف أعضائه فی الصورة من رأس وجبین وحاجب وعین ووجنة وخد وأنف وفم وعنق وید ورجل وغیر ذلک من جمیع أعضائه.

أی شیء شاهدت منه تقول فیه رأیت زیدا ، وتصدق ، کذلک تلک الصور إذا رفعت ویدبرها روح واحد.

إلا أن الخلل وقع هنا عند الرؤیة لعدم اتصال الصور اتصال الأعضاء فی الجسم الواحد ، فلو شاهد الاتصال الذی بین الصور ، لقال فی کل صورة شهدها هذا زید ، کما یفعل المکاشف إذا شاهد نفسه فی کل طبقة من طباق الأفلاک، لأن له فی کل فلک صورة ، تدبر تلک الصور روح واحدة ، وهی روح زید مثلا .

فالروح الواحد یدبر أجساما متعددة إذا کان له الاقتدار على ذلک ، ویکون ذلک فی الدنیا للولی بخرق العادة ، وفی الآخرة نشأة الإنسان تعطی ذلک ، وکان قضیب البان ممن له هذه القوة ولذی النون المصری کما یدبر الروح الواحد سائر أعضاء البدن من بد ورجل وسمع و بصر وغیر ذلک .

وکما تؤاخذ النفس بأفعال الجوارح على ما یقع منها ، کذلک الأجساد الکثیرة التی یدبرها روح واحد ، أی شیء وقع منها یسأل عنه ذلک الروح الواحد، وإن کان عین ما یقع من هذا الجسم من الفعل متل ما یقع من الجسم الآخر .

فیکون ما یلزمه من المؤاخذة على فعل أحد الجسمین یلزمه على فعل الآخر وإن کان مثله ، وإنما سمی الأبدال أبدلا لکونهم إذا فارقوا

ص 101

منها فی الحضرة التی ما غفل عنها. فهذا حفظ بالتضمن، وحفظ الحق ما خلق لیس کذلک بل حفظه لکل صورة على التعیین.

وهذه مسألة أخبرت أنه ما سطرها أحد فی کتاب لا أنا ولا غیری إلا فی هذا الکتاب:

فهی یتیمة الدهر وفریدته. فإیاک أن تغفل عنها فإن تلک الحضرة التی یبقی لک الحضور فیها مع الصورة، مثلها مثل الکتاب الذی قال الله فیه «ما فرطنا فی الکتاب من شیء» فهو الجامع للواقع وغیر الواقع

________________________

موضعا ویریدون أن یخلقوا بدلا منهم فی ذلک الموضع الأمر یرونه مصلحة وقربة . یترکون به شخصا على صورته .

لا یشک أحد ممن أدرک رؤیة ذلک الشخص أنه عین ذلک الرجل ولیس هو ، بل هو شخص روحانی بترکه بدله بالقصد على علم منه.

فکل من له هذه القوة فهو البدل ، فمن کان تتنوع علیه المقامات والأحوال ویظهر فی کل صورة من صور العالم ، له التروحن إذا شاء والتحول فی الصور .

وإذا کان البشر بهذه النشأة الترابیة العنصریة له قوة التحول فی الصور فی عین الرائی وهو على صورته ، فهذا التحول فی الأرواح أقربه.

واعلم أن أصل هذا الأمر الذی ذکرته ، إنما هو من العلم الإلهی فی التجلی الإلهی ، فمن هناک ظهر هذا الأمر فی عالم الغیب والشهادة ، إذ کان العالم بجملته والإنسان بنسخته والملک بقوته على صورة مقام التجلی فی الصور المختلفة.

ولا یعرف حقیقة تلک الصور التی یقع التحول فیها على الحقیقة إلا من له مقام التحول فی أی صورة شاء وإن لم یظهر بها.

ولیس ذلک المقام إلا للعبد المحض الخالص، فإنه لا یعطیه مقام العبودیة أن یتشبه بشیء من صفات سیده جملة واحدة.

حتى إنه یبلغ من قوته فی التحقق بالعبودیة أنه یفنی وینسی ویستهلک عن معرفة القوة التی هو علیها من التحول فی الصور ، بحیث أن لا یعرف ذلک من نفسه.

تسلیما لمقام سیده إذ وصف نفسه بذلک ، ولولا هذا الأصل الإلهی وأن الحق له هذا وهو فی نفسه علیه ، ما صح أن تکون هذه الحقیقة فی العالم.

إذ یستحیل أن یکون العالم فی أمر لا یستند إلى حقیقة إلهیة فی صورته التی یکون علیها فی ذلک الأمر .

الفتوحات : ج 1/ 182 ، 259 ، 621  - ج 2 / 7 ، 14 ، 333 ، 495 - ج 3 / 42 ، 43 ، 44 ، 298 .

ص 102

البیت الأول : « فوقتا یکون العبد ربا بلا شک » أی یکون سیدا قال یوسف علیه السلام لصاحبه فی السجن " اذکرنی عند ربک" .

البیت الثانی : الشطر الأول یشیر إلى قول الحق فی الحدیث القدسی « ووسعنی قلب عبدی المؤمن » .

ویشیر الشطر الثانی إلى مسؤولیة الخلافة من قوله تعالى : « وحملها الإنسان إنه کان ظلوما جهولا »

البیت الثالث : الشطر الأول یشیر إلى تحقق العبد بمقام العبودیة وهو قوله تعالى :" وما خلقت الجن والإنس إلا لیعبدون " .

والشطر الثانی یشیر إلى الحدیث القدسی « عبدی کن لی کما أرید أکن لک کما ترید » وإلى قوله تعالى : « لهم ما یشاؤون عند ربهم » .

البیت الرابع : یشیر إلى مسؤولیة مقام الخلافة .

البیت الخامس : یؤکده ما روی عن سلیمان علیه السلام أنه طلب من الحق أن یوکل إلیه أرزاق خلقه فأجابه إلى طلبه ، فخرجت له دابة صغیرة من البحر فالتهمت جمیع ما کان أعده على شاطىء البحر من مائدة لدواب البر والطیر ، ثم قالت له ، أکمل لی رزقی .

البیت السادس : « فکن عبد رب » أی کن عبدا محضا للرب الحق، « لا تکن رب عبده » أی سیدا لعبده والضمیر فی عبده یعود على کلمة « الرب » الأولى وهو الإله الحق.