عرفان شیعی

عرفان اسلامی در بستر تشیع

عرفان شیعی

عرفان اسلامی در بستر تشیع

الفقرة الخامسة عشر:


کتاب تعلیقات د أبو العلا عفیفی على فصوص الحکم الشیخ الأکبر ابن العربی 1385 هـ :

الفص السابع فص حکمة علیة فی کلمة إسماعیلیة

(1) فص الحکمة العلیة فی الکلمة الإسماعیلیة

(1) یشرح هذا الفص بعض نواحی العلاقة بین الحق و الخلق- أو بین الواحد و الکثیر- و هو الموضوع الذی أشار إلیه المؤلف فی أواخر الفص السابق.

و لکنه یزیده هنا تفصیلًا بالإضافة إلى الأسماء الإلهیة التی یطلق علیها اسم الأرباب، و ما یقابل هذه الأسماء من مظاهر العالم الخارجی، و هی ما یطلق علیه اسم العبید. و فی خلال مناقشته لهذا الموضوع یشیر المؤلف- لا سیما فی الأبیات الواردة فی آخر الفص- إلى بعض آرائه الهامة فی مسألة الثواب و العقاب و النعیم و الشقاء فی الدار الآخرة.

إن الموجود الذی نطلق علیه اسم «اللَّه» أحدیٌّ بذاته کلٌ بأسمائه: أعنی أننا إذا نظرنا إلیه من حیث ذاته حکمنا بواحدیته و وحدته، و إذا نظرنا إلیه من ناحیة ظهوره فی الموجودات بصورة الأسماء، حکمنا بکثرته. و هذا هو معنى «کل» إذ الکل هو المجموع المؤلف: أی الواحد الذی یحتوی الکثرة.

و قد سبق أن ذکرنا أن کل موجود إنما هو مجلى أو مظهر من مظاهر الحق فی صور اسم أو أکثر من اسم من الأسماء الإلهیة، بل ذکرنا أن العالم الذی هو جماع الموجودات کلها هو عین الأسماء التی سمَّى اللَّه بها نفسه و سمیناه نحن بها.

و نزید هنا أن کل اسم خاص من الأسماء التی تظهر فی موجود من الموجودات هو «ربّ» هذا الموجود.

و لکنا قلنا إن کل اسم إلهی هو فی الوقت نفسه عین الذات الإلهیة لا غیرها، و على هذا کان کل موجود مظهراً لربه الخاص (الذی هو الاسم الإلهی) و مظهراً للذات الإلهیة المسماة بهذا الاسم. و یستحیل أن یکون أی موجود من الموجودات المتعینة المتکثرة مظهراً للحق الذی هو «الکل» أو مظهراً لجمیع الأسماء الإلهیة (الأرباب). و لهذا قال «و کل موجود فما له من اللَّه إلا ربُّه خاصةً: یستحیل أن یکون له «الکل».


(2) «فأحدیته مجموع کله بالقوة».

(2) الضمیر فی کله عائد إلى «مسمَّى اللَّه»: أی فأحدیة مسمى اللَّه هی عبارة عن کونه مجموع الأسماء الإلهیة کلها المتعینة فیه بالقوة. و قلنا المتعینة فیه بالقوة دون الفعل لأنها کالکلیات لا تتعین بالفعل إلا فی مظاهرها الخارجیة التی هی الموجودات.

فهی موجودة فی الذات الإلهیة بالقوة و الإجمال و فی العالم الواقعی بالفعل و التفصیل و إلیه الإشارة بقول القائل:

کل الجمال غذاء وجهک  ..... مجملًا لکنه فی العالمین مفصل

و فی استعمال کلمة الأحدیة بالنسبة لمسمى اللَّه الجامع لجمیع الأسماء خروج على الاصطلاح الذی جرى علیه المؤلف فی مواضع أخرى، إذ أنه یقصر صفة «الأحدیة» على وحدة الذات المجردة عن جمیع الأسماء و الصفات، و یستعمل «الواحدیة» لوصف الذات المتصفة بالأسماء و الصفات، و یتکلم عن حضرتین: حضرة الأحدیة و حضرة الواحدیة.

و حضرة الواحدیة هذه هی أیضاً حضرة الأعیان الثابتة التی تجلى فیها الحق لنفسه فی صور أعیان هذه هی أیضاً حضرة الأعیان الثابتة التی تجلى فیها الحق لنفسه فی صور أعیان الممکنات الثابتة: و هی التجلی العلمی و الفیض الأقدس الذی أشرنا إلیه (قارن الفص الأول).

و مما یدل على أنه یقصر الوصف بالأحدیة على الذات الإلهیة قوله فی الجملة السابقة «و أما الأحدیة الإلهیة فما لواحد فیها قدم لأنه لا یقال لواحد منها شی ء و لآخر منها شی ء لأنها لا تقبل التبعیض». فالحق من حیث ذاته لا یوجد على سبیل التجزئة و التبعیض فی أی شی ء لأن هذا یتنافى مع وحدته المطلقة.


(3) «و لهذا قال سهْل إن للربوبیة سراً و هو «أنت»، یخاطب کل عین، لو ظهر لبطلت الربوبیة».

(3) کلمة ظهر هنا بمعنى زال لا بمعنى وضح أو برز أو خرج إلى الوجود. و للکلمة هذا المعنى فی اللغة العربیة کما أن لها المعنى الثانی.

قال الشاعر:

و عیَّرها الواشون أنی أحبها و تلک ....  شکاة ظاهر عنک عارها أی زائل.

قارن شرح القیصری (ص 153 - 154) و بالی (ص 130).

و المراد «بأنت» عالم الخلق إذ «أنت» ضمیر المخاطب و هو إشارة إلى الظاهر: و لذلک رمزوا لعالم الغیب بهو الذی هو ضمیر الغائب. و یصح أن یکون المراد ب «أنت» الأعیان الثابت للموجودات. و سواء أرید عالم الخلق الظاهر أو أعیان الموجودات الثابتة، فالربوبیة صفة تزول عن الحق إذا زال أثرها و هو المربوبون. و قد سبق أن قلنا إن الأسماء الإلهیة هی الأرباب المتجلیة فی الأشیاء.

فالربوبیة إذن هی حضرة الأفعال: أو المجال الذی تظهر فیه آثار الأسماء الإلهیة.

فهی قائمة ما قامت الموجودات أو ما قامت أعیانها الثابتة، کما أن العلة قائمة ما قام معلولها: فإن زال المعلول زالت علته (على فرض عدم وجود علة غیرها).

و لکن أعیان الموجودات الثابتة لا تزول عن الوجود أبداً و إن زالت صورها الخارجیة العارضة. إذن لن تزول الربوبیة عن الحق.

و قد أشار ابن العربی  إلى هذا المعنى فی الفص الخامس عشر فی قوله:

فلولاه و لولانا ..... لما کان الذی کانا

أی فلو لا الحق الذی هو علة وجودنا، و لولانا أی لو لا أعیاننا التی هی علة ظهوره لما وُجد هذا النظام الکونی على النحو الذی وُجد علیه، و لما سمی الحق حقاً و لا رباً.


(4) «و کذا کل موجود عند ربه مرضی»

(4) کل موجود- من حیث هو مظهر لاسم من الأسماء الإلهیة (رب من الأرباب) مرضی عند ذلک الرب، و کیف لا یکون مرضیاً عند ربه و هو سر ربوبیته؟

و لا فرق فی ذلک بین من یظهر بصور العاصی و من یظهر بصورة المطیع، و من یظهر بصورة الکافر و من یظهر بصورة المؤمن، لأن للَّه نوعین من الصفات:

صفات الجمال و صفات الجلال. فللعصاة و الکفار و نحوهم أربابُهم کالجبار و القهار و المضل و المعذب و هی ظاهرة فیهم.

و للطائعین و المؤمنین و نحوهم أربابهم کالهادی و الرحیم و الودود و هی ظاهرة فیهم.

یجب إذن أن نفرّق بین کون العبد مرضیاً عند ربه، و کونه مرضیاً فی نظر الدین أو الأخلاق، لأنه یکفی فی الرضا الأول أن یکون فعل العبد مظهراً من المظاهر التی یتحقق فیها معنى اسم من الأسماء الإلهیة مهما کان ذلک الفعل. و یلزم للرضا الثانی أن یأتی فعل العبد مطابقاً لأمر من أمور الدین أو قانون من قوانین الأخلاق.

و لا تناقض بین الاثنین فی رأی المؤلف: أی لا تناقض بین أن یکون العاصی مرضیاً عند ربه الخاص و غیر مرضی عنه فی نظر الدین أو العرف أو الأخلاق.

و قد شرحنا وجهاً من وجوه هذه النظریة فی کلامنا عن نظریة ابن العربی  فی جبریة الأفعال و ما ذکره عن الأمر التکوینی و الأمر التکلیفی (الفص الخامس التعلیق السابع) و سیأتی تفصیل ذلک فی الفص السابع عشر.

و من ناحیة أخرى لا تعارض بین أن یکون العبد مرضیاً عند ربّ من الأرباب غیر مرضی عند ربّ آخر، لأن کل موجود یأخذ مربوبیته من الکل الأسمائی بحسب ما یناسبه و یلائم طبیعته و استعداده.

و لذلک تظهر الأسماء الإلهیة فی الموجودات بحسب ما تقتضیه طبیعة أعیان الموجودات ذاتها.


(5) «و لهذا منع أهل اللَّه التجلی فی الأحدیة».

(5) کل ما هو موجود فی عالم الظواهر إنما هو مجلى أو مظهر للواحد الحق: أی هو صورة جزئیة للکل المطلق.

و لذا لا یقال فی أی موجود إنه الحق إطلاقاً و إنما یقال إن الحق تجلى فیه فی صورة من صوره التی لا تحصى. أما الأحدیة الذاتیة فلا یقع فیها التجلی أبداً: أی أن الحق لا یظهر بأحدیته فی أی شی ء. بل إن من التناقض أن تقول إننی شاهدت الحق فی أحدیته، لأن المشاهدة نسبة بین طرفین:

مشاهِد و مشاهَد، و هذه النسبة تتنافى مع الوحدة. فما دام للأنا وجود فالاثنینیة- لا الأحدیة- موجودة. و لهذا کله ینکر ابن العربی  إدراک الوحدة الوجودیة فی هذا العالم، و من الحمق فی نظره أن نقول إن العبد فی حال الفناء یصیر «حقاً» لأنه لا صیرورة فی مذهبه إذ الصیرورة تقتضی الاثنینیة و الاثنینیة تناقض الوحدة.

فمذهب وحدة الوجود الذی یقول به ابن العربی  إذن دعوى تؤیدها فطرة العقل أکثر مما یؤیدها الذوق الصوفی. هو لا یقول إن الوجود وحدة لأن ذلک ینکشف له فی حاله، فقد رأینا أنه یقرر استحالة تجلی الحق فی الوحدة، و إنما یعتبر القول بالوحدة الوجودیة أولیة من أولیات العقل غنیة عن الدلیل.

أما التجربة الصوفیة فحال تتحقق فیها ذوقاً بوحدتک الذاتیة مع الحق. فالقضیة الأولى و الأساسیة فی مذهبه هی أن الوجود کله واحد و هو وجود الحق. أما إذا ذکرت أنک تشاهد الحق أو تتحد به أو تفنى عن نفسک فیه، أو ما شاکل ذلک من العبارات، فإنک واقع لا محالة فی الاثنینیة.

و ما دام الناس یتکلمون عن الحق و یصفونه، و یتکلمون عن أنفسهم و عن إدراکهم للحق، فهم اثنینیون، و لکن الشعور باثنینیة الذات المدرکة و الموضوع المدرَک شی ء، و القول باثنینیتهما شی ء آخر. و ابن العربی  إن سلّم بالأول لا یسلم بالثانی.

ثم هو یوضح استحالة تجلی الحق فی الأحدیة بما لا مزید علیه فی العبارة التالیة فیقول: إن نظرت الحق به أی إن اعتبرت وجودک هو وجود الحق و أسقطت وجودک الخاص، کان الحق هو الناظر لنفسه و کان حکمک لا معنى له. و إن اعتبرت الوجودین- و هو معنى قوله و إن نظرته بک- زالت الأحدیة.

و کذلک إذا اعتبرت الوجودین- وجوده و وجودک- و قلت إنک نظرته بک، ثم به (فی حال فنائک فیه) و هو معنى قوله: «و إن نظرته به و بک» زالت الأحدیة أیضاً.

قارن ذلک بالتعلیق الثانی عشر فی الفص الأول، و التعلیق العاشر فی الفص السادس.


(6) «فَفَضَل اسماعیل غیره من الأعیان ... إلى قوله جنتی التی بها سِتْری».

(6) لم یفضل اسماعیل غیره من أعیان الموجودات إلا بأن اللَّه تعالى نص على أنه مرضیٌ عند ربه فی قوله: «وَ کانَ یَامُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَ الزَّکاةِ وَ کانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِیًّا» (س 19 آیة 56) و إلا فکل موجود مرضی عند ربه کما قدمنا.

و کل نفس مطمئنةٌ راضیة بربها مرضیة عنده. و إذن لا یخاطب اللَّه تعالى فی قوله «یا أَیَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِی إِلى رَبِّکِ راضِیَةً مَرْضِیَّةً» نفساً دون نفس، و إنما یخاطب النفوس جمیعاً، بل الموجودات جمیعاً.

ألم یأمرها أن ترجع إلى ربها الخاص الظاهر فیها لا إلى اللَّه الذی هو الکل؟

و أ لیس ربها هذا هو الذی دعاها فلبته و عرفته من الکل؟ 

ثم قال لها: «فَادْخُلِی فِی عِبادِی» أی عبادی الذین عرفوا أربابهم فصاروا راضین بهم مرضیین عندهم بأفعالهم، و لم یطلبوا إلا ما یفیض علیهم من هؤلاء الأرباب.

و قال: «وَ ادْخُلِی جَنَّتِی». یقول ابن العربی  «جنتی التی بها سِتری» فیأخذ کلمة الجنة على أنها مشتقة من «جَنَّ» بمعنى ستر.

فجنة الحق فی کل متعیّن من الموجودات هی الصورة التی تختفی فیها ذاته و تستتر.

و لهذا قال «و لیس جنتی سواک، فأنت تسترنی بذاتک».

و قد أمر اللَّه کل نفس مطمئنة- و هی النفس التی تعلم نسبتها إلیه و نسبته إلیها على وجه الحقیقة- أن تدخل جنته: أی أمرها أن تعود إلى صورتها فتنظر فیها و تتأمل ما فیها من الحق الذی تخفیه و تستره، فتحقق انها الصورة التی تجلت فیها صفات الحق و أسماؤه. و هذا معنى قولهم: «مَن عرف نفسه فقد عرف ربه»، و معنى الحدیث «خلق اللَّه آدم على صورته».

هذه هی الجنة فی عرف ابن العربی : هی السعادة العظمى التی یدرکها الإنسان عند ما ینزل إلى أعماق نفسه و یتأمل صورته فتنکشف له وحدة الحق و الخلق. 

هی إدراک القدیم من خلال الحادث، و الخالد من خلال المتغیر الفانی. هی إدراک عظمة الوجود و جماله و کماله خلال النظر إلى صورة المرآة. و لکنها جنة العارف لا جنة المؤمن لأن نعیمها عقلی روحی صرف، راجع إلى معرفة العارف بمدى قربه من

الحق، لا: بل إلى تحققه بالوحدة الذاتیة بینه و بین الحق.


(7) «فلا أُعرَف إلا بک کما أنک لا تکون إلا بی ... - إلى قوله- من حیث أنت»

(7) لا یعرف الحق سبحانه من حیث ذاته، فهی الکنز المخفی الذی أشرنا إلیه مراراً، و انما یعرف من حیث صفاته و أسماؤه متجلیة فی صفحة الوجود، فلا یعرف أحد من اللَّه إلا بقدر ما یعرف من الوجود، و یجهل کل واحد من اللَّه بقدر ما یجهل من الوجود.

فمعرفة الحق إذن متوقفة على العارف، و وجود العارف متوقف على الحق. فالخلق إذن معروف، و لکنه من ناحیة أخرى مجهول لا یُعرف و لا یمکن أن یُعرَف و تلک الناحیة هی ذاته التی هی ذات الحق. و فی هذا یقول: «و أنا لا أعرف، فأنت لا تعرف».

أما المعرفتان اللتان یشیر إلیهما فهما:

أولًا: معرفة الحق عن طریق الخلق- و هی التی یسمیها المؤلف «معرفة به من حیث أنت» و هذه هی معرفة الفلاسفة و النظار المتکلمین.

ثانیاً: معرفة الحق عن طریق الخلق فی الحق- و هی التی یسمیها «معرفة به بک من حیث هو لا من حیث أنت» و هی معرفة أهل الکشف و الذوق من الصوفیة.

ففی الأولى یتأمل الإنسان فی نفسه من حیث هو موجود ممکن الوجود، فیقف على صفاتها التی هی الحدوث و الفناء و الافتقار و التغیر و نحو ذلک.

و بمقابلة هذه الصفات بما یجب أن یتصف به الحق واجب الوجود من الصفات، یستنتج هذه الصفات و ینسبها إلى الحق.

فالوجود الإنسانی ممکن، إذن یلزم أن یکون وجود الحق واجباً لذاته. و وجود الإنسان متغیر فانٍ، إذن یلزم أن یکون وجود الحق أزلیاً غیر متغیر.

و النفس الإنسانیة مصدر الشر، إذن یجب أن تکون طبیعة الحق خیراً محضاً و هکذا.

و لکن هذا هو العلم الأدنى باللَّه، و العلم الذی لا یشبع عاطفة و لا یرضی روحاً متعطشة و إن أقنع العقل من بعض الوجوه.

بل إنه لا یقنع العقل و لا یبعث الطمأنینة فی القلب لأنه سلسلة من صفات السلب، و المعرفة السلبیة معرفة بلا شیء.

أما المعرفة الثانیة فهی أکمل المعرفتین إذ هی ولیدة النظر فی النفس و استکناه صفاتها، ثم التحقق بأنها صورة خاصة أو مجلى خاص من مجالی الحق، و أن فیها- من هذه الحیثیة- قد تجلت کل الصفات الکمالیة للحق.

فالمعرفة الأولى هی معرفة الإنسان بالحق عن طریق معرفته بنفسه، و الثانیة هی معرفة الإنسان بالحق عن طریق معرفته بنفسه التی یتجلى فیها الحق.

و فی الأولى یعرف الإنسان نفسه على أنها خلق فقط. أما فی الثانیة فیعرفها على أنها خلق و حق معاً.


(8) «فأنت عبد و أنت رب» الأبیات.

(8) هذه نتیجة لازمة لما سبق. لکل موجود- بما فی ذلک الإنسان- ناحیتان:

ناحیة العبودیة و ناحیة الربوبیة. فهو عبد بمعنى أنه المحل الذی یظهر فیه حکم رب من الأرباب (الأسماء الإلهیة). و یعرف کل عبد ربه الخاص بالنظر إلى ذاته الخاصة و التأمل فی صفاتها. و هذه هی المعرفة الأولى التی أشرنا إلیها سابقاً.

و لکنه من ناحیة أخرى رب لربه: و هذا معنى قوله: «و أنت رب لمن له فیه أنت عبد».

و ذلک لظهور حکم العبد فی الرب - أی فی الاسم الإلهی المتجلی فیه.

هذا إذا فهمنا کلمة «رب» بالمعنى الذی یستعملها فیه ابن العربی  غالباً و هو أی اسم من الأسماء الإلهیة.

و لکن هناک معنى آخر به نستطیع أن نسمی الإنسان أو أی موجود من الموجودات عبداً و رباً معاً.

و یظهر أن هذا المعنى هو المشار إلیه فی البیتین الباقیین.

الإنسان رب من حیث هویته التی هی إحدى تعینات هویة الحق، و هو عبد من حیث انه مخاطب بلسان الشرع: و هو المشار إلیه بخطاب العهد فی قوله تعالى: «وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّکَ مِنْ بَنِی آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّیَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّکُمْ؟ قالُوا بَلى!» (قرآن س 7 آیة 171).

فمن وجهة نظر أصحاب وحدة الوجود کل إنسان- بل کل موجود «رب»: و من جهة نظر الشرع کل موجود سوى اللَّه «عبد».

أما قوله «فکل عقد علیه شخص یحله من سواه عقد» فمعناه أن کل عبد یعتقد اعتقاداً خاصاً فی ربه یستمده من النظر فی نفسه، و بذلک اختلفت الاعتقادات فی الأرباب کما اختلفت الأرباب. و لکن الاعتقادات کلها صور من معتقد واحد: کما أن الأرباب کلها صور فی مرآة رب الأرباب. قال ابن العربی  یشیر إلى العقیدة الصحیحة التی یعتبرها أساساً لکل العقائد:

عقد الخلائق فی الإله عقائداً .... و أنا اعتقدت جمیع ما عقدوه


(9) «فتقابلت الحضرتان تقابل الأمثال و الأمثال أضداد».

(9) المراد بالحضرتین حضرتا العبودیة و الربوبیة. و قد تقابلتا تقابل الأمثال من حیث أنهما اشترکتا فی الوجود الإلهی و إن اختلفتا بالتعین و الاعتبار و کذلک اشترکتا فی أن کلا منهما راضیة مرضیة.

أما قوله «و الأمثال أضداد» فمعناه أن المثلین لا یمکن أن یتفقا فی جمیع الصفات و إلا کانا شیئاً واحداً، بل لا بد من تغایرهما من وجه من الوجوه. فکل مثلین إذن متحدان من ناحیة، متغایران من ناحیة أخرى، و هذا هو معنى تقابلهما بالتضاد. و لذلک لم نقل إن العبد رب و إن الرب عبد إطلاقاً، بل بینا جهة الاعتبار و وضحنا جانب العبودیة و جانب الربوبیة فی کل حالة.

و لکنه بعد أن أثبت وجود الأمثال و الأضداد فی عالم الکثرة أراد أن ینفیهما فی عالم الوحدة، فقال «فما ثم مثل» أی فما توجد مماثلة حقیقیة بین حضرتی الربوبیة و العبودیة لتمایزهما.

و لما کان الوجود منحصراً فی هاتین الحضرتین قال فما فی الوجود مثل: أی فما فی الوجود الحقیقی مماثلة، کما أنه لیس فیه تضاد لأن التضاد نوع من التماثل لاشتراک الضدین فی الضدیة. و خلص من ذلک کله إلى أن الوجود کله حقیقة واحدة و الحقیقة الواحدة لا تضاد فیها.

و لهذا قال: فلم یبق إلا «الحق» لم یبق کائن فما ثم موصول و ما ثم بائن بذا جاء برهان العیان فما أرى بعینی إلا عینه إذ أعاین أی لم یبق إلا «الواحد الحق» الذی لا کثرة فیه و کل کائن سواه لا وجود له. و لذا قال لا شی ء موصول بآخر بالمماثلة، و لا شی ء بائن (مختلف) عن غیره بالمغایرة. هذا هو الذی یؤیده الشهود القلبی و تعاینه عین البصیرة. أما الذی یبقى على التمییز بین العبد و الرب، و یقول بالمغایرة بینهما، فهو الجاهل بحقیقة الأمر المحجوب عن مشاهدة الوحدة، الخائف من أن یکون هو الحق:

و هو معنى قوله: "ذلِکَ لِمَنْ خَشِیَ رَبَّهُ" أن یکونه لعلمه بالتمییز».


(10) «و لا یُلقَى علیک الوحی فی غیر و لا تلقِی».

(10) إذا کان الوجود واحداً لا فرق بین حقه و خلقه و لا بین ربه و عبده فما معنى الثنویة فی الوحی؟

أی ما معنى قولنا ان الوحی ینزل من الحق إلى الخلق أو من الرب إلى العبد؟ 

لا نزول و لا وساطة فی النزول فی مذهب ابن العربی ، فما یلقَى الوحی فی غیر ذات الحق و لا من غیر ذات الحق، أو کما یقولون، لا یلقى الوحی إلا من مقام الجمع إلى مقام التفصیل. الوحی إذن انبعاث من ذات النفس الإنسانیة و کشف عن أعماقها، أو هو فیض من الروح الکلی الساری فی جمیع النفوس الجزئیة المتحد بها على الدوام.

و لیس ابن العربی  أقل حرصاً فی تشبثه بوحدة عالم الروح من أفلوطین (راجع تساعیات أفلوطین ترجمة ما کِنَّا مجلد 3 ص 13 - 14). بل هو أقوى من سلفه فی القول بهذا المعنى و أبعد من التناقض لأنه لا یقرر وحدة النفوس فحسب، بل وحدة الوجود کله.

و قد کان ابن العربی أشد ما یکون صراحة عند ما نفى الوحی- بل کل المعارف الباطنیة- بطریق الوساطة فی قوله فی الفص الشیثی «فأی صاحب کشف شاهد صورة تلقى إلیه ما لم یکن عنده من المعارف، و تمنحه ما لم یکن قبل ذلک فی یده، فتلک الصورة عینه لا غیره: فمن شجرة نفسه جنى ثمرة غرسه، کالصورة الظاهرة منه فی مقابلة الجسم الصقیل لیس غیره، إلا أن المحل أو الحضرة التی رأى فیها صورة نفسه تلقى إلیه، ینقلب من وجه لحقیقة تلک الحضرة».

و کان کذلک اشد ما یکون جرأة عند ما فسر ظهور جبریل للنبی صلى اللَّه علیه و سلم بأنه لم یکن سوى تصویر و خلق من خیال النبی، کما یصور خیال المحب و یجسد أمامه محبوبه فیخاطبه و یناجیه و یسمع کلامه، و هو فی الحقیقة لا یخاطب إلا نفسه و لا یسمع إلا کلامه. قال فی الفتوحات المکیة (فی الجزء الثانی ص 429) «و لقد بلغ بی قوة الخیال أن کان حبی یجسد لی محبوبی من خارج لعینی، کما کان یتجسد جبریل لرسول اللَّه صلى اللَّه علیه و سلم، فلا أقدر أنظر إلیه، و یخاطبنی و أصغی إلیه و أفهم عنه».


(11) «قد زال الإمکان فی حق الحق لما فیه من طلب المرجح» إلى آخر الأبیات.

(11) فی القرآن آیات کثیرة تدل على الوعد و الوعید على السواء. فقد وعد اللَّه عباده المتقین نعیم الجنة.

و وعد الکفار و العاصین عذاب جهنم. فإمکان وفائه تعالى بوعیده مساو تماماً لإمکان وفائه بوعده.

و لکن ابن العربی یذهب إلى أن الممکن هو الوفاء بالوعد دون الوعید: لأنه لکی یتحقق أی أمر ممکن لا بد من وجود مرجح- إذ الممکنُ وجودُه و عدمُه سواء.

فإذا وجد فلا بد من وجود مرجح لوجوده على عدم وجوده. و لیس للوفاء بالوعید مرجح إلا المعصیة:

و لکن اللَّه قد غفر لعباده جمیع معاصیهم فی قوله: «وَ نَتَجاوَزُ عَنْ سَیِّئاتِهِمْ»، و قوله: «یا عِبادِیَ الَّذِینَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ یَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِیعاً» (س 39 آیة 54) و نحوهما.

و إذا زال المرجح الوحید لإمکان الوفاء بالوعید زال ذلک الإمکان نفسه.

و لهذا قال: فلم یبق إلا صادق الوعد وحده و ما لوعید الحق عین تُعَایَنُ نعم سیکون فی الدار الآخرة جنة و نار، و لکن مآل الجمیع فیهما إلى النعیم، و إن اختلف نعیم دار الشقاء عن نعیم دار السعادة بحسب تجلی الحق لأهل کل من الدارین (و قد ذکرنا معنى الجنة و معنى تجلی الحق فیها فیما مضى: راجع التعلیق السادس من هذا الفص).

ستکون النار إذن برداً و سلاماً کنار إبراهیم، و سیکون عذابها عذوبة کما یقول، و سیکون حظ أهل النار نوعاً من أنواع النعیم.

و لکن أمراً واحداً یجب أن نلتفت إلیه و هو أن ابن العربی  مع قوله بالسعادة الأبدیة لکل إنسان، یفرق بین درجات هذه السعادة و بین طبقات المنعمین بها على حسب درجات معرفتهم باللَّه. فأهل النار مع ما هم فیه من النعیم معذبون بآلام الحجاب.

و أهل الجنة فی أرقى درجات النعیم لمعرفتهم الکاملة باللَّه. و جنة کل إنسان و ناره درجته من هذه المعرفة.