عرفان شیعی

عرفان اسلامی در بستر تشیع

عرفان شیعی

عرفان اسلامی در بستر تشیع

الفقرة السادسة عشر :


شرح فصوص الحکم من کلام الشیخ الأکبر ابن العربی أ. محمد محمود الغراب 1405 هـ:


07 - فص حکمة علیة فی کلمة إسماعیلیة  

أعلم أن مسمى الله أحدی بالذات کل بالأسماء. وکل موجود فما له من الله إلا ربه خاصة یستحیل أن یکون له الکل. "2"  وأما الأحدیة الإلهیة فما لواحد فیها

_________________________________________

1 - المناسبة

معلوم أن الشیخ رضی الله عنه یراعی أدنى مناسبة رابطة والمناسبة فی هذا الفص هی فی قوله تعالی عن إسماعیل علیه السلام "وکان عند ربه مرضیا" ، والمقصود من الفص هو توحید الربوبیة.

فیقول رضی الله عنه فی الفتوحات « الرب، لا یعقل إلا مضافا ، ولذلک ما جاء فی القرآن قط مطلقا من غیر إضافة ، وإن اختلفت إضافاته ، فتارة یضاف إلى أسماء مضمرة وتارة یضاف إلى أعیان وتارة یضاف إلى أحوال ، وجاء مضافا لاحتیاج العالم إلیه أکثر من غیره من الأسماء لأنه اسم لجمیع المصالح .

وهو من الأسماء الثلاثة الأمهات ، فجاء : ربکم ، ورب آبائکم ، ورب السموات والأرض ، ورب المشارق ، والمشرقین ، ورب المغرب ، والمغارب ، والمغربین ، وهو المتخذ وکیلا ، فهو رب العالمین ، أی : مربیهم ومغذیهم والعالمین عبارة عن کل ما سوى الله تعالی .

والمناسبة الثانیة هی وصفه تعالى لإسماعیل علیه السلام بأنه صادق الوعد فکانت المناسبة هی صدق الوعد ونسبة ذلک إلى الحق بما یؤول إلى شمول الرحمة کما سنوضحه فی شرح هذا الفص من کلام الشیخ ، فکان العلو فی المناسبة الأولى بشرف الإضافة فی قوله : « عند ربه ، وفی المناسبة الثانیة بصدق الوعد ، وهی من أعلى وأشرف الصفات .

الفتوحات ج 1 / 133 ، ج 2 / 442 .


2 -  لکل عبد اسم هو ربه  

لولا العصر والمعاصر ، و الجاهل والخابر ، ما عرف أحد معنى اسمه الأول والآخر ، ولا الباطن والظاهر ، وإن کانت أسماؤه الحسنى ، على هذا الطریق الأسنى ،

ص 105


قدم، لأنه لا یقال لواحد منها شی ء ولآخر منها شیء، لأنها لا تقبل التبعیض. فأحدیته

______________________________

ولکن بینها تباین فی المنازل ، یتبین ذلک عندما تتخذ وسائل لحلول النوازل ، فلیس عبد الحلیم هو عبد الکریم ، ولیس عبد الغفور هو عبد الشکور ، فکل عبد له اسم هو ربه ، وهو جسم ذلک الاسم قلبه .

ویقول رضی الله عنه :

فقد أنشأ سبحانه الحقائق على عدد أسماء حقه ، وأظهر ملائکة التسخیر على عدد خلقه ، فجعل لکل حقیقة اسما من أسمائه تعبده وتعلمه ، وجعل لکل سر حقیقة ملکا یخدمه ویلزمه .

فمن الحقائق من حجبته رؤیة نفسه عن اسمه، فخرج عن تکلیفه وحکمه ، فکان له من الجاحدین ، ومنهم من ثبت الله أقدامه واتخذ اسمه أمامه ، وحقق بینه وبینه العلامة وجعله إمامه ، فکان له من الساجدین .

اعلم علمک الله سرائر الحکم ووهبک من جوامع الکلم ، أن الأسماء الحسنى التی تبلغ فوق أسماء الإحصاء عددا ، وتنزل دون أسماء الإحصاء سعادة ، هی المؤثرة فی هذه العالم ، وهی المفاتح الأولى التی لا یعلمها إلا هو ، وأن لکل حقیقة اسما ما یخصها من الأسماء ، وأعنی بالحقیقة حقیقة تجمع جنسا من الحقائق ، رب تلک الحقیقة ذلک الاسم .

وتلک الحقیقة عابدته و تحت تکلیفه لیس غیر ذلک - وإن جمع لک شیء ما أشیاء کثیرة فلیس الأمر على ما توهمته ، فإنک إن نظرت إلى ذلک الشیء وجدت له من الوجوه ما یقابل به تلک الأسماء التی تدل علیها وهی الحقائق التی ذکرناها .

مثال ذلک ، ما ثبت لک فی العلم الذی فی ظاهر العقول وتحت حکمها فی حق موجود ما فرد لا ینقسم ، مثل الجوهر الفرد الجزء الذی لا ینقسم ، فإن فیه حقائق متعددة تطلب أسماء إلهیة على عددها ، فحقیقة إیجاده یطلب الاسم القادر ووجه أحکامه یطلب الاسم العالم .

ووجه اختصاصه یطلب الاسم المرید ، ووجه ظهوره یطلب الاسم البصیر والرائی إلى غیر ذلک ، فهذا وإن کان فردا فله هذه الوجوه وغیرها مما لم نذکرها.

ولکل وجه وجوه متعددة تطلب من الأسماء بحسبها ، وتلک الوجوه هی الحقائق عندنا الثوانی والوقوف علیها عسیر وتحصیلها من طریق


ص 106

مجموع کله بالقوة.   والسعید من کان عند ربه مرضیا، وما ثم إلا من هو مرضی عند ربه لأنه الذی یبقی علیه ربوبیته، فهو عنده مرضی فهو سعید. "3"  ولهذا قال

_________________________________


الکشف أعسر - واعلم وفقک الله أن کل اسم إلهی یتضمن جمیع الأسماء کلها وأن کل اسم ینعت بجمیع الأسماء فی أفقه .

فکل اسم حی قادر سمیع بصیر متکلم فی أفقه وفی علمه ، وإلا فکیف یصح أن یکون ربا لعابده ، هیهات هیهات.

فکل اسم جامع لما جمعت الأسماء من الحقائق ، ولکل عین من أعیان الممکنات اسم إلهی خاص ینظر إلیه ، وهو یعطیه وجهه الخاص الذی یمتاز به عن غیره ، والممکنات غیر متناهیة فالأسماء غیر متناهیة ، لأنها تحدث النسب بحدوث الممکن ، ولذلک فالحضرات الإلهیة تکاد لا تنحصر لأنها نسب ، ومعنی توجه اسم معین على إیجاد موجود معین هو کون ذلک الاسم هو الأغلب علیه وحکمه أمضى فیه ، مع أنه ما من ممکن یوجد إلا و للأسماء المتعلقة بالأکوان فیه أثر .


ولکن بعضها أقوى من بعض فی ذلک الممکن المعین وأکثر حکما ، فلهذا ننسبه إلیه ، فالحضرة الإلهیة اسم لذات وصفات وأفعال ، وإن شئت قلت صفة فعل وصفة تنزیه ، وهذه الأفعال تکون عن الصفات والأفعال أسماء لا بد ، فالحضرات الإلهیة کنی عنها بالأسماء الحسنى ، وکل حضرة لها عبد کما لها اسم إلهی ، وکل متخلق باسم من الأسماء یسمى عبد کذا ، مثل عبد الرحمن ، وعبد الملک ، وعبد القدوس الفتوحات  ج 1 / 2 ،4 ، 99 ج 2 / 468 ج 4 / 196 ، 204 ، 208 ، 288 ، 318 .


3 - الاسم الرب


قال تعالى: " ذلکم الله ربکم لا إله إلا هو خالق کل شیء فاعبدوه" ، وهذا هو توحید الرب بالاسم الخالق وهو توحید الهویة ، فهذا توحید الوجود لا توحید التقدیر ، فإنه أمر بالعبادة ولا یباء مثر بالعبادة إلا من هو موصوف بالوجود ، وجعل الوجود للرب ، فجعل ذلک الاسم بین الله وبین التهلیل ، وجعله مضاف إلینا إضافة

خاصة الى الرب ، فهی إضافة خصوص لنوحده فی سیادته ومجده وفی وجوب وجوده ، فلا یقبل العدم کیا یقبله الممکن ، فإنه الثابت وجوده لنفسه ، ویوجد أیضا


ص 107


...............

____________________________

فی ملکه بإقرارنا بالرق له ، و لنوحده توحید المنعم لما أنعم به علینا من تغذیته إیانا فی ظلم الأرحام وفی الحیاة الدنیا ، و لنوحده أیضا فیما أوجده من المصالح التی بها قوامنا من إقامة النوامیس ووضع النوامیس ومبایعة الأئمة القائمة بالدین ، وهذه الفصول کلها أعطاها الاسم الرب فوحدناه و نفینا ربوبیة ما سواه .

وقال تعالى : « اتبع ما أوحی إلیک من ربک لا إله إلا هو » ففی التوحید السابق الاسم الرب عم إضافة جمیعنا إلیه ، وهنا خصص به الداعی .

وقال تعالى : « فإن تولوا فقل حسبی الله لا إله إلا هو علیه توکلت وهو رب العرش العظیم » - « فقل حسبی الله » أی فی الله تعالى الکفایة «لا إله إلا هو علیه توکلت وهو رب العرش العظیم ، فإذا کان رب العرش ، والعرش محیط بعالم الأجسام ، وأنت من حیث جسمیتک أقل الأجسام ، فاستکفی بالله الذی هو رب مثل هذا العرش ۰

وقال تعالى : « وهم یکفرون بالرحمن قل هو ربی لا إله إلا هو علیه توکلت وإلیه متاب » فهم لا ینکرون الرب ، ولما کان الرحمن له النفس ، وبالنفس حیاتهم ، فسره بالرب ، لأنه المغذی و بالغذاء حیاتهم ، فلا یتفرقون من الرب ویفرقون من الله ، فتلطف لهم بالعبارة بالاسم الرب لیرجعوا فهو أقرب مناسبة بالرحمن .

قوله تعالى : « فتعالى الله الملک الحق لا إله إلا هو رب العرش الکریم » ۰

لا إله إلا هو من نعت الحق ، فالأمر الذی ظهر فیه وجود العالم هو الحق ، وما ظهر إلا فی نفس الرحمن وهو العماء ، فهو الحق رب العرش الذی أعطاه الشکل الإحاطی ، لکونه بکل شیء محیط ، فالأصل الذی ظهر فیه صور العالم بکل شیء من عالم الأجسام محیط ، ولیس إلا الحق المخلوق به ، فکان لهذا القبول کالظرف یبرز منه وجود ما یحوی علیه ، طبقا عن طبق ، عینا بعد عین ، على الترتیب الحکمی ، فأبرز ما کان فیه غیبا لیشهده فیوحده مع صدوره عنه ، فیحار إن عدده فما ثم


ص 108


سهل إن للربوبیة سرا وهو أنت: یخاطب کل عین- لو ظهر لبطلت الربوبیة. "4"

فأدخل علیه «لو» و هو حرف امتناع لامتناع ، وهو لا یظهر فلا تبطل الربوبیة لأنه  لا وجود لعین إلا بربه.

والعین موجودة دائما فالربوبیة لا تبطل دائما. وکل مرضی محبوب، وکل ما یفعل المحبوب محبوب، فکله مرضی، لأنه لا فعل للعین، بل الفعل لربها فیها فاطمأنت العین أن یضاف إلیها فعل، فکانت «راضیة» بما یظهر فیها وعنها من أفعال ربها، «مرضیة» تلک الأفعال لأن کل فاعل وصانع راض عن فعله وصنعته، فإن وفى فعله وصنعته حق ما علیه «أعطى کل شی ء خلقه ثم هدى» أی بین أنه أعطى کل شیء خلقه، فلا یقبل النقص ولا الزیادة. فکان إسماعیل بعثوره على ما ذکرناه عند ربه مرضیا. وکذا کل موجود عند ربه مرضی. "5"

ولا یلزم إذا

____________________________________________

غیره ، وإن وحده فیرى أن عینه لیس هو ، فأوجد طرفین وواسطة التمیز الأعیان فی العین الواحدة ، فتعددت الصور وهذه الصورة ما هی هذه الصورة ، ولیس ثم شیء زائد ، فلا أقدر على إنکار التمییز ولا أقدر أثبت سوی عین واحدة ، فلا إله إلا هو رب العرش الکریم •

توحید الربوبیة / جاء فی کتاب التجلیات تحت رقم 66 فإن لکل أسم توحیدا وجمعا.

- راجع الفتوحات  ج 2 / 408 .


4 - قول سهل « إن الربوبیة سرالو ظهر لبطلت الربوبیة »

ظهر هنا بمعنی زال کما یقال ظهروا عن البلد أی ارتفعوا عنه ، والکون مرتبط بالله ارتباطا لا یمکن الانفکاک عنه لأنه وصف ذاتی للکون ، فلو تجلى الحق للعبد فی هذا الارتباط ، وعرف من هذا التجلی وجوبه به وأنه لا تثبت المطلوبه وهو الحق هذه الرتبة إلا به .

وأنه سرها الذی لو بطل لبطلت الربوبیة ، فأول رزق ظهر عن الرزاق ما تغذت به الأسماء الإلهیة من ظهور آثارها فی العالم ، فکان فیه بقاؤها ونعیمها وروحها وسرورها ، وأول مرزوق فی الوجود الأسماء ، فتأثیر الأسماء فی الأکوان رزقها الذی به غذاؤها وبقاء الأسماء علیها ، وهذا معنى قولهم إن للربوبیة سرا لو ظهر لبطلت الربوبیة .

الفتوحات ج 2 / 154 ، 462 .

5 -  راجع هامش رقم 2

ص 109


کان کل موجود عند ربه مرضیا على ما بیناه أن یکون مرضیا عند رب عبد آخر لأنه ما أخذ الربوبیة إلا من الکل لا من واحد. فما تعین له من الکل إلا ما یناسبه، فهو ربه.

ولا یأخذه أحد من حیث أحدیته. و لهذا منع أهل الله التجلی فی الأحدیة ،"6" فإنک إن نظرته به فهو الناظر نفسه فما زال ناظرا نفسه بنفسه، و إن نظرته بک فزالت الأحدیة بک، و إن نظرته به و بک فزالت الأحدیة أیضا.

لأن ضمیر التاء فی «نظرته» ما هو عین المنظور، فلا بد من وجود نسبة ما اقتضت أمرین ناظرا ومنظورا، فزالت الأحدیة وإن کان لم یر إلا نفسه بنفسه. ومعلوم أنه فی هذا الوصف ناظر ومنظور.

فالمرضی لا یصح أن یکون مرضیا مطلقا إلا إذا کان جمیع ما یظهر به من فعل الراضی فیه.

ففضل إسماعیل غیره من الأعیان بما نعته الحق به من کونه عند ربه مرضیا.

وکذلک کل نفس مطمئنة قیل لها «ارجعی إلى ربک» فما أمرها أن ترجع إلا إلى ربها الذی دعاها فعرفته من الکل، «راضیة مرضیة».

«فادخلی فی عبادی» من حیث ما لهم هذا المقام. فالعباد المذکورون هنا کل عبد عرف ربه تعالى واقتصر علیه ولم ینظر إلى رب غیره مع أحدیة العین: "7" لا بد من ذلک «وادخلی جنتی» التی بها ستری.

ولیست جنتی سواک فأنت تسترنی بذاتک. فلا أعرف إلا بک کما أنک لا تکون إلا بی. فمن عرفک عرفنی وأنا لا أعرف فأنت لا تعرف. "8"

فإذا دخلت جنته دخلت

_______________________________________

6 - التجلی فی الأحدیة

لا یتجلى الحق فی الاسم الأحد، ولا یصح التجلی فیه ، ولا فی الاسم الله ، وما عدا هذین الاسمین من الأسماء المعلومات لنا فإن التجلی یقع فیها ، فإن التجلی الإلهی لا یکون إلا للإله وللرب ، لا یکون له أبدا ، فإن الله هو الغنی .

الفتوحات ج 3 / 178 ، 180 .

7 -  راجع هامش رقم 2


8 - من عرف نفسه عرف ربه

جاء صلى الله علیه وسلم بمن وهی نکرة فعم کل عارف ، وعلق المعرفة بالربوبیة ، فالعلم به تعالی موقوف على العلم بنا ، أی أن المعرفة بالله ما لها طریق لا المعرفة بالنفس ، فجعلک دلیلا ، أی جعل معرفتک بک دلیلا على معرفتک به ، أو جعلک دلیلا علیه ، فعلمته فإما بطریقة ما وصفک بما وصف به نفسه من ذات وصفات ، وجعله إیاک خلیفة نائبا عنه فی أرضه ، وإما بما أنت علیه من الافتقار إلیه فی وجودک ، وإما


ص 110


نفسک فتعرف نفسک معرفة أخرى غیر المعرفة التی عرفتها حین عرفت ربک بمعرفتک إیاها. ____________________________________

الأمران معا ، لابد من ذلک ، فإنک لو علمت نفسک علمت ربک کما أن ربک علمک وعلم العالم بعلمه بنفسه ، وأنت صورته ، فلا بد أن تشارکه فی العلم ، فتعلمه من علیک بنفسک ، إذ کان الأمر فی علم الحق بالعالم علمه بنفسه.

وکان قوله صلى الله علیه وسلم من عرف نفسه عرف ربه لما جعلنا دلیلا علیه ، فقدم معرفة الإنسان نفسه لأنه عین الدلیل، ولابد أن یکون العلم بالدلیل مقدما على العلم بالمدلول ، فجعل صلى الله علیه وسلم  نفس العارف إذا عرفها العارف دلیلا على معرفة الله .

فعلمنا به فرع عن علمنا بنا، إذ نحن عین الدلیل ، فمن عرف نفسه خلقا موجودا عرف الحق خالقا موجدا ، فإن الحق تعالی اتنسب إلینا إیجادا وانتسبنا إلیه وجودا ، ومن عرف نفسه أنه لم تزل عینه فی إمکانها عرف ربه بأنه الموجود فی الوجود، ومن عرف التغییرات الظاهرة فی الوجود أنها أحکام استعداد الممکنات عرف ربه بأنه عین مظهرها ، ومن عرف نفسه بأنه لا یماثله الخق عرف ربه فإنه لا یماثله الخلق ، فیعرف نفسه معرفة ذوق فلا یجد فی نفسه للألوهة مدخلا .

فیعلم بالضرورة أن الله لو أشبهه أو کان مثلا له لعرفه فی نفسه ، وعلم بافتقاره أن ثم من یفتقر إلیه ولا یمکن أن یشبهه فعرف ربه أنه لیس مثله ، وإن کان الله قد أقامه خلیفة و أوجده على الصورة فیخاف ویرجى و یطاع ویعصی .

واعلم أن الله تعالى قال : « سنریهم آیاتنا فی الآفاق وفی أنفسهم حتى یتبین لهم أنه الحق » والنفس بحر لا ساحل له لا یتناهى النظر فیها دنیا وآخرة ، وهی الدلیل الأغرب ، فکلما ازداد نظرا ازداد علما بها ،وکلما ازداد علما بها ازداد علما بربه. فما علمنا أن لنا امرأ یحرکنا ویسکننا ویحکم فینا بما شاء فى نظرنا فی نفوسنا ورأینا أن صورة الجسم مع بقائها تزول عنها أحکام کنا نشاهدها من الجسم وصورته، من إدراک المحسوسات والمعانی.

فعلمنا أن وراء الجسم معنى آخر هو الذی أعطى أحکام الإدراکات فیه ، فسمینا ذلک المعنى روحا لهذا الجسم، فلما نظرنا هذا النظر فی نفوسنا عرفنا ربنا ، وقد تکون المعرفة بالله الحاصلة بعد المعرفة بالنفس.

علما بالعجز


ص 111


…………..

________________

عن البلوغ إلى ذلک ، فیحصل العلم بأنه ثم من لا یعلم ، وقد تکون المعرفة به من کونه إلها ، فیعلم ما تستحقه المرتبة ، فیجعل ذلک صفة لمن قامت به تلک المرتبة وظهر فیها .

فیکون العلم بما تقتضیه الرتبة علما بصاحبها ، إذ هو المنعوت بها ، فهو المنعوت بکل ما ینبغی لها أن توصف به ، وعلى الحقیقة یعلم أن هذا علم بالمرتبة لا به ، لکن یعلم أنه ما فی وسع الممکن أکثر من هذا فی باب النظر وإقامة الأدلة ، فعند العارفین الشرع أغلق فی هذا القول باب العلم بالله.

لعلمه بأنه لا یصل أحد إلى معرفة نفسه ، فإن النفس لا تعقل مجردة عن علاقتها بهیکل تدبره ، منورا کان أو مظلما .

فلا تعقل إلا کونها مدبرة ، ماهیتها لا تعقل ولا تشهد مجردة عن هذه العلاقة ، ولذلک الله لا یعقل إلا إلها غیر إله لا یعقل ، فلا یتمکن فی العلم به تجریده عن العالم المربوب ، وإذ لم یعقل مجردة عن العالم فلم تعقل ذاته ولا شهدت من حیث هی ، فأشبه العلم به العلم بالنفس .

والجامع عدم التجرید وتخلیص حقیقة ذاته من العلاقة التی بین الله وبین العالم والعلاقة التی بین نفسک وبین بدنها ، وکل من قال بتجرید النفس عن تدبیر هیکل ما فما عنده خبر بماهیة النفس ، فما أظن والله أعلم أنه أمرنا بمعرفته وأحالنا على نفوسنا فی تحصیلها إلا لعلمه أنا لا ندرک ولا نعلم حقیقة نفوسنا ونعجز عن معرفتنا بنا، فنعلم أنا به أعجز .

فیکون ذلک معرفة به لا معرفة ، فمن عجز عن معرفة نفسه عجز عن معرفة ربه ، وقد تکون المعرفة بالشیء العجز عن المعرفة به ، فیعرف العارف أن هذا المطلوب لا یعرف ، والغرض من المعرفة بالشیء أن یمیز عن غیره .

فإنک إذا أخذت تفصل حدود أعیان الموجودات وجدتها بالتفصیل فسبا و بالجموع أمرا وجودیا ، لا یمکن لمخلوق أن یعلم صورة الأمر فیها .

فلا علم لمخلوق مما سوى الله ولا العقل الأول أن یعقل کیفیة اجتماع نسب یکون عن اجتماعها عین وجودیة مستقلة فی الظهور ، غیر مستقلة فی الغنی ، مفتقرة بالإمکان المحکوم علیها به ، وهذا علم لا یعلمه إلا الله تعالى ، ولیس فی الإمکان أن

ص 112


فتکون صاحب معرفتین: معرفة به من حیث أنت"9"، ومعرفة به بک من حیث هو لا من حیث أنت."10"

فأنت عبد وأنت رب ... لمن له فیه أنت عبد

_________________________________

یعلمه غیر الله تعالى ولا یقبل التعلیم ، أعنی أن یعلمه الله من شاء من عباده ، فأشبه العلم به العلم بذات الحق ، والعلم بذات الحق محال حصوله لغیر الله ، فمن المحال حصول العلم بالعالم أو بالإنسان نفسه ، أو بنفس کل شیء لنفسه لغیر الله ، فلما جل الله تعالى فی نفسه أن یعرفه عبده واستحال ذلک.

فلم یبق لنا معلوم نطلبه إلا النسب خاصة أو أعیان الممکنات وما ینسب إلیها ، فالمعرفة تتعلق بأعیان الذوات من الممکنات والعلوم تتعلق بما ینسب إلیها ، فإن الإنسان المدرک لا یتمکن له أن یدرک شیئا أبدا إلا ومثله موجود فیه ، ولولا ذلک ما أدرکه البتة.ولا عرفه.

فإذا لم یعرف شیئا إلا وفیه مثل ذلک الشیء المعروف ، فما عرف إلا ما یشبهه ویشاکله ، والباری تعالی لا یشبه شیئا ولا فی شیء مثله فلا یعرف أبدا ، ولیس من الله فی أحد شیء ، ولا یجوز ذلک علیه بوجه من الوجوه ، فلا یعرفه أحد من نفسه وفکره .

الفتوحات:  ج1 / 63 ،95 ، 112 ، 331 ، 328 ، 347 ، 353 ، 399 ، 472 ، 591 ، 661 ، 695 .

ج 2 / 153 ، 176 ، 225 ، 243 ، 256 ، 298 ، 429 ، 470 ، 472 ، 479 ، 500 .

ج 3 / 44 ، 101 ، 189 ، 289 ، 301 ، 315 ، 363 ، 391 ، 401 ، 404 ، 412 ، 503 ، 536 ، 544 ، 553 ، 556 ، 557 .

ج 4 / 91 ، 147 ، 416 ، 423 ، 432 ، 455 .


9 ، 10  - " معرفة به من حیث أنت"  ، أی ما تعرف من الحق إلا ما أنت علیه  "ومعرفة به بک من حیث هو لا من حیث أنت " أی أنت لا تعرف على الحقیقة فهو لا یدرک على الحقیقة ، وهو ما سبق أن أشار إلیه الشیخ فی شرح « من عرف نفسه عرف ربه ».

ص 113


وأنت رب وأنت عبد ... لمن له فی الخطاب عهد

فکل عقد علیه شخص ... یحله من سواه عقد "11"

فرضی الله عن عبیده، فهم مرضیون، ورضوا عنه فهو مرضی. فتقابلت الحضرتان  تقابل الأمثال و الأمثال أضداد لأن المثلین لا یجتمعان إذ لا یتمیزان وما ثم إلا متمیز فما ثم مثل، فما فی الوجود مثل، فما فی الوجود ضد"12"، فإن الوجود حقیقة واحدة و الشیء لا یضاد نفسه.

___________________________________

11 - شرح الأبیات

البیت الأول :

« فأنت عبد » للاسم الإلهی « عبد الرحمن » « عبد الغفار ، إلى غیر ذلک من الأسماء « وأنت رب » بقبولک أثر هذا الاسم من حیث أنت غذاؤه فأنت المغذی له « لمن له فیه أنت عبد » إشارة للاسم المضاف إلیه .

البیت الثانی :

« وأنت رب ، کما أنک رب من حیث أنک سید ومصلح ومرب ومالک لمن هو تحت سلطانک « وأنت عبد » بالحال من حیث أنک مسخر له بالحال « لمن له فی الخطاب عهد» وهو المخلوق •

البیت الثالث :

« فکل عقد علیه شخص » وهو کل شخص عرف الاسم الإلهی الذی هو ربه « یحله من سواه عقد » أی یخالفه اسم إلهی لشخص آخر ذلک الاسم هو ربه فإن الأسماء الإلهیة متباینة المعنی وإن دلت على ذات واحدة .

12 - تقابل الحضرتین

« فتقابلت الحضرتان » حضرة الخلق وحضرة الحق ، وإن شئت قلت حضرة الرب وحضرة العبد « تقابل الأمثال والأمثال أضداد لأن المثلین لا یجتمعان » فی الحد والحقیقة من جمیع الوجوه « إذ لا یتمیزان » إذ لو اجتمعا من جمیع الوجوه لما تمیزا ولکانا أمرا واحدا « وما ثم إلا متمیز فما ثم مثل » مثلیة عقلیة « فما فی الوجود مثل فما فی الوجود ضد » لأنه لا مثل من جمیع الوجوه .

ص 114


فلم یبق إلا الحق لم یبق کائن ... فما ثم موصول و ما ثم بائن

بذا جاء برهان العیان فما أرى ... بعینی إلا عینه إذ أعاین  "13"

«ذلک لمن خشی ربه أن یکونه لعلمه بالتمییز.  دلنا على ذلک جهل أعیان فی الوجود بما أتى به عالم.  فقد وقع التمییز بین العبید، فقد وقع التمییز بین الأرباب. "14"

ولو لم یقع التمییز لفسر الاسم الواحد الإلهی من جمیع وجوهه بما یفسر الآخر.

والمعز لا یفسر بتفسیر المذل إلى مثل ذلک، لکنه هو من وجه الأحدیة کما تقول فی کل اسم إنه دلیل على الذات وعلى حقیقته من حیث هو.

فالمسمى واحد: فالمعز هو المذل من حیث المسمى، والمعز لیس المذل من حیث نفسه وحقیقته، فإن المفهوم یختلف فی الفهم فی کل واحد منهم:

فلا تنظر إلى الحق ... وتعریه عن الخلق

ولا تنظر إلى الخلق ... وتکسوه سوى الحق

ونزهه وشبهه ..... وقم فی مقعد الصدق

وکن فی الجمع إن شئت ... وإن شئت ففی الفرق

تحز بالکل إن کل ... تبدى قصب السبق

فلا تفنى ولا تبقى ... ولا تفنی ولا تبقی

ولا یلقى علیک الوحی ... فی غیر ولا تلقی "15"

__________________________________

13 - وحدة الوجود راجع فص 2 رقم 9 ص 45

وهو أنه الظاهر فی المظاهر أو ما ظهر فی الوجود إلا أحکام أعیان الممکنات.

14 - « ذلک لمن خشی ربه » أی الاسم الخاص به « ان یکونه » من حیث الوجود « لعلمه بالتمییز بین اسم واسم فإنما یخشى الله من عباده العلماء « دلنا على ذلک جهل أعیان فی الوجود » أی دلنا جهلهم « بما أتی به عالم » فوقع التمییز بین الجاهل والعالم ، فقد وقع التمییز بین العبید ، فلیس عبد الغفور هو عبد الشکور.

« فقد وقع التمییز بین الأرباب » وهی الأسماء الإلهیة .

15 - شرح الأبیات

البیت الأول معناه :

لا تنظر إلى الأسماء الإلهیة معراة عن الارتباط بالخلق.

البیت الثانی :

إشارة إلى ما سبق شرحه من ظهور الخلق فی مرآة الوجود الحق ، أو ظهور الحق بما هی علیه أحکام أعیان الممکنات .

ص 115


الثناء بصدق الوعد لا بصدق الوعید، والحضرة الإلهیة تطلب الثناء المحمود بالذات فیثنی علیها بصدق الوعد لا بصدق الوعید، بل بالتجاوز."16" «فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله»

___________________________________

البیت الثالث :

نزهه عن الحدوث وشبهه بما أثبت لنفسه من صفات المحدثاته وقم فی مقعد الصدق ، بالتصدیق فی الحالین أنه على ما أخبر به عن نفسه .

البیت الرابع :

یقصد بالجمع الجمع بین التنزه والتشبیه ، ویقصد بالفرق أحدهما

البیت الخامس :

یقصد بالکل الجمع بین التنزیه والتشبیه .

البیت السادس :

فلا تفنى نفسک عن نسبة العدم المطلق ، ولا تبقى فی نسبة واجب الوجود ، ولا تفن الحق عن التشبیه الذی أثبته لنفسه ، ولا تبق الحق على التنزیه العقلی فقط .

البیت السابع :

أی خذ عن الله تعالی « واتقوا الله ویعلمکم الله » « وعلمناه من لدنا علما » « ولا تلق » شیئا مما تأخذه فهو حق کله .


16 - صدق الوعد

الفتوحات الجزء الثانی - الفصل السابع والأربعون ص 474

اعلم أن هذا الباب مما نفس الله به عن عباده ، وهو نفس الرحمن ، فإن الخبر الصدق إذا لم یکن حکما لا یدخله نسخ ، وقد ورد بطریق الخبر الوعد والوعید ، فجاء نفس الرحمن بثبوت الوعد وتفوذه ، والتوقف فی نفوذ الوعید فی حق شخص شخص ، وذلک لکون الشریعة نزلت بلسان قوم الرسول صلى الله علیه وسلم ، فخاطبهم بحسب ما تواطؤوا علیه ، فمما تواطؤوا علیه فی حق المنعوت بالکرم والکمال إنفاذ الوعد وإزالة حکم الوعید ، فقال أهل اللسان فی ذلک على طریق المدح:

وإنی إذا أوعدته أو وعدته   ….. لمخلف إیعادی ومنجز موعدی

وقد ورد فی الصحیح لیس شیء أحب إلى الله من أن یمدح ، والمدح بالتجاوز عن المسیء غایة المدح .

فالله أولى به تعالى ، والصدق فی الوعد مما یمتدح به قال

ص 116


لم یقل و وعیده، بل قال «ونتجاوز عن سیئاتهم» مع أنه توعد على ذلک. فأثنى على إسماعیل بأنه کان صادق الوعد. وقد زال الإمکان فی حق الحق لما فیه من طلب المرجح.

فلم یبق إلا صادق الوعد وحده ... و ما لوعید الحق عین تعاین

و إن دخلوا دار الشقاء فإنهم ... على لذة فیها نعیم مباین

نعیم جنان الخلد فالأمر واحد ... و بینهما عند التجلی تباین "17"

__________________________________________

تعالى : « فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله ، فذکر الوعد ، وأخبر عن الإیعاد فی تمام الآیة بقوله : « إن الله عزیز ذو انتقام » .

وقال فی الوعید بالمشیئة وفی الوعد بنفوذه ولابد ولم یعلقه بالمشیئة فی حق المحسن ، لکن فی حق المسیء علق المشیئة بالمغفرة والعذاب ، فیعتمد على وعد الله ، فلا ظهور له إلا بوجود ما وعد به ، وهو بعد ما وجد، والاعتماد علیه لا بد منه لما یعطیه التواطؤ فی اللسان وصدق الخبر الإلهی بالدلیل ، والله عند ظن عبده به فلیظن به خیرا ، والظن هنا ینبغی أن یخرج مخرج العلم .

قال أهل اللسان فی ذلک « فقلت لهم ظنوا بألفی مدجج » أی تیقنوا واعلموا ، والظن فیه ترجیح ولابد إما إلى جانب الخیر وإما إلى جانب الشر ، والله عند ظن عبده به ، لکن ما وقف هنا لأن رحمته سبقت غضبه.

فقال معلما « فلیظن بی خیرا » على جهة الأمر ، فمن لم یظن به خیرا فقد عصى أمر الله وجهل ما یقتضیه الکرم الإلهی ، والله یجعلنا من أهل العلم وإن قضی علینا بالظن ، فنظن الخیر بالله ، والله أکرم أن ینسب إلیه نفاذ الوعید بل ینسب إلیه المشیئة وترجیح الکرم .

الفتوحات ج 1 / 535  - ج 3 / 474


17 ۔ شمول الرحمة وعدم سرمدة العذاب

من اختصاص البسملة فی أول کل سورة تویج الرحمة الإلهیة فی منشور تلک السورة أنها منه کعلامة السلطان على مناشیره، وسورة التوبة والأنفال سورة واحدة قسمها الحق على فصلین ، فإن فصلها وحکم بالفصل فقد سماها سورة التوبة ، أی سورة الرجعة الإلهیة بالرحمة على من غضب علیه من العباد ، فما هو غضب أبد لکنه


ص 117


...........................

______________


غضب أمد ، والله هو التواب ، فما قرن بالتواب إلا الرحیم لیؤول المغضوب علیه إلى الرحمة ، أو الحکیم لضرب المدة فی الغضب وحکمها فیه إلى أجل ، فیرجع علیه بعد انقضاء المدة بالرحمة ، فانظر إلى الاسم الذی نعت به التواب تجد حکمه کما ذکرنا ، والقرآن جامع لذکر من رضی عنه وغضب علیه ، وتتویج منازله بالرحمن الرحیم ، والحکم للتتویج ، فإنه به یقع القبول ، وبه یعلم أنه من عند الله ، فثبت انتقال الناس فی الدارین فی أحوالهم من نعیم إلى نعیم ، ومن عذاب إلى عذاب ، ومن عذاب إلى نعیم ، من غیر مدة معلومة لنا ، فإن الله ما عرفنا ، إلا أنا استروحنا من قوله « فی یوم کان مقداره خمسین ألف سنة » أن هذا القدر مدة إقامة الحدود .

خلق الله الخلق قبضتین فقال هؤلاء للنار ولا أبالی ، وهؤلاء إلى الجنة ولا أبالی .

فمن کرمه تعالی لم یقل هؤلاء للعذاب ولا أبالی وهؤلاء إلى النعیم ولا أبالی وإنما أضافهم إلى الدارین لیعمروها ، فإنه ورد فی الخبر الصحیح أن الله لما خلق الجنة والنار قال لکل واحدة منهما لها علی" ملؤها ، أی أملؤها سکانا ، فیستروح من هذا عموم الرحمة فی الدارین وشمولها حیث ذکرهما ولم یتعرض لذکر الآلام وقال بامتلائهما وما تعرض لشیء من ذلک .

فکان معنى « ولا أبالی » فی الحالتین لأنهما فی المال إلى الرحمة ، فلذلک لا یبالی فیهما ، ولو کان الأمر کما یتوهمه من لا علم له من عدم المبالاة.

ما وقع الأخذ بالجرائم ، ولا وصف الله نفسه بالغضب ، ولا کان البطش الشدید ، فهذا کله من المبالاة والتهمم بالمأخوذ ، إذ لو لم یکن له قدر ما عذب ولا استعد له ، وقد قیل فی أهل التقوى إن الجنة أعدت للمتقین ، وقال فی أهل التقاء « وأعد لهم عذابا ألیما » فلولا المبالاة ما ظهر هذا الحکم .

فما أعظم رحمة الله بعباده وهم لا یشعرون ، فإن الرحمة الإلهیة وسعت کل شیء ، فما ثم شیء لا یکون فی هذه الرحمة « إن ربک واسع المغفرة » فلا تحجروا واسعا فإنه لا یقبل التحجیر ، ولقد رأیت جماعة ممن ینازعون فی اتساع رحمة الله وأنها مقصورة على طائفة خاصة ، فحجروا وضیقوا ما وسع الله ، فلو أن الله لا یرحم


ص 118

………….

______________________________

أحدا من خلقه لحرم رحمته من یقول بهذا ، ولکن أبی الله تعالى إلا شمول الرحمة ، قال تعالى لنبیه صلى الله علیه وسلم : « وما أرسلناک إلا رحمة للعالمین » ، وما خص مؤمنا من غیره ، والله أرحم الراحمین کما قال عن نفسه ، وقد وجدنا من نفوسنا ، وممن جبلهم الله على الرحمة انهم یرحمون جمیع العباد ، حتى لو حکمهم الله فی خلقه لأزالوا صفة العذاب من العالم ، بما تمکن حکم الرحمة من قلوبهم ، وصاحب هذه الصفة أنا وأمثالی مخلوقون أصحاب أهواء وأغراض ، وقد قال عن نفسه جل علاه أنه أرحم الراحمین ، فلا شک أنه أرحم منا بخلقه ، و نحن قد عرفنا من تفوسنا هذه المبالغة فی الرحمة .

فکیف یتسرمد، علیهم العذاب وهو بهذه الصفة العامة من الرحمة ، إن الله أکرم من ذلک ، ولا سیما وقد قام الدلیل العقلی على أن الباری لا تنفعه الطاعات، ولا تضره المخالفات، وان کل شیء جار بقضائه وقدره وحکمه.

وأن الخلق مجبورون فی اختیارهم ، وقد قام الدلیل السمعی أن الله یقول فی الصحیح « یا عبادی » فأضافهم إلى نفسه ، وما أضاف الله قط العباد لنفسه إلا من سبقت له الرحمة ألا یؤبد علیهم الشقاء وإن دخلوا النار .

فقال : « یا عبادی لو أن أولکم وآخرکم وإنسکم وجنکم اجتمعوا على أتقى قلب رجل واحد منکم ما زاد ذلک فی ملکی شیئا ، یا عبادی لو أن أولکم وآخرکم وإنسکم وجنکم اجتمعوا على أفجر قلب رجل واحد منکم ما نقص ذلک من ملکی شیئا » .

وهذه مسألة المکاشف لها قلیل ، والمؤمن بها أقل ، وهو سر عجیب ، ما رأینا أحدا نبه علیه من خلق الله ، وإن کانوا قد علموه بلا شک ، وما صانوه والله أعلم إلا صیانة لأنفسهم ورحمة بالخلق .

لأن الإنکار یسرع إلیه من السامعین ، ووالله ما نبهت علیه هنا إلا لغلبة الرحمة علیه فی هذا الوقت ، فمن فهم سعد ومن لم یفهم لم یشق بعدم فهمه وإن کان محروما ، فقد أظهرت أمرا فی هذه المسألة لم یکن باختیاری ، ولکن حق القول الإلهی بإظهاره ، فکنت فیه کالمجبور فی اختیاره ، والله ینفع به من یشاء لا إله إلا هو .

الفتوحات : ج2 / 148 ، 244 ، 674 - ج 3 / 25 ، 100 ، 101 ، 383 .

ج 4 / 163 .


ص 119


یسمى عذابا من عذوبة طعمه ... و ذاک له کالقشر و القشر صاین  "18"

_______________________________

18 - لم سمی العذاب عذابا

العذاب إنما سماه الله بهذا الاسم إیثارا للمؤمن ، فإنه یستعذب ما یقوم بأعداء الله من الآلام ، فهو عذاب بالنظر الى هؤلاء .

ومن وجه آخر سمی عذابا ما یقع به الآلام بشرى من الله لعباده أن الذی تألمون به لابد إذا شملتکم الرحمة أن تستعذبوه وأنتم فی النار ، کما یستعذب المقرور حرارة النار ، والمحرور برودة الزمهریر .


ولهذا جمعت جهنم النار والزمهریر لاختلاف المزاج ، فما یقع به الألم المزاج مخصوص یقع به النعیم فی مزاج آخر یضاده ، فلا تتعطل الحکمة، ویبقی الله على أهل جهنم الزمهریر على المحرورین ، والنار على المقرورین فینعمون فی جهنم ، فهم على مزاج لو دخلوا به الجنة تعذبوا بها لاعتدالها ، فسمى العذاب عذابا لأن المال إلى استعذابه لمن قام به بعد شمول الرحمة.

کما یستحلی الجرب من یحکه ، فإذا حکه . من غیر جرب أو حاجة من بوسة تطرأ على بعض بدنه تألم من حکه .

الفتوحات : ج 2 / 136 ، 207 - ج 3 / 463 .