الفقرة الخامس عشر :
نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص الشیخ عبد الرحمن أحمد الجامی 898 ه:
08 - شرح نقش فص حکمة روحیة فی کلمة یعقوبیة
قال رضی الله عنه : "الدین عند الله الإسلام». ومعناه الانقیاد. ومن طلب منه أمر، فانقاد إلى الطالب فیما طلب، فهو مسلم. فافهم، فإنه یسری."
الظاهر أن «الروح» مفتوح الراء - وهو الراحة - أورده ملاحظة لقوله تعالی عن لسان یعقوب علیه السلام: "ولا تیأسوا من روح الله إنه لا یایئس من روح الله إلا القوم الکافرون" [یوسف : 87].
کما ذکر فی حکمة کل نبی ما جاء فی حقه فی التنزیل ؛ لأنه یبین فی هذه الحکمة أن الدین هو الانقیاد، وبالانقیاد تحصل الراحة الحقیقیة ، ویترتب علیه الروح الدائم السرمدی ؛ لأن من انقاد لأوامر الحق وانتهى عن نواهیه وأسلم وجهه إلى الله، نال الدرجة العلیا ووجد الراحة القصوى .
ویمکن أن یکون مضموم الراء، لأن معنى «الدین» الذی هو الانقیاد من شأن الروح المدبر للبدن؛ وإلیه مال صاحب الفکوک "صدر الدین القونوی " قدس سره .
وتخصیصها بالکلمة الیعقوبیة لأنه علیه السلام کان یعلم علم الأنفاس والأرواح، وکان کشفه روحانیا .
لذلک قال : "وَلَا تَیْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ » [یوسف: 87]، فإنه یجد فی مقام روحه بقاء یوسف وأخیه وجدانا إجمالیا، کما قال : "إنی لأجد ریح یوسف" [یوسف: 94]. ولا یجده عیانا تفصیلیا.
لذلک "وابیضت عیناه من الحزن " [یوسف: 84].
وذوق أهل الأنفاس عزیز المنال. قد جعل الله لهم التجلی والعلم فی الشم .
قال رسول الله : «إنی لأجد نفس الرحمن من قبل الیمن».
قیل : إنه علیه السلام کنی بذلک عن الأنصار، وهم صور القوى الروحانیة التی تصر بهم على صور القوى الطبیعیة.
و«الیمن» أیضا من الیمین»، وهو إشارة إلى الروحیة وعالم القدس.
قال الشیخ رضی الله عنه : («الدین عند الله الإسلام». ومعناه)، أی معنى الإسلام، لغة، (الانقیاد).
فالدین هو الانقیاد ظاهرا وباطنا. أما ظاهرا، بالإتیان بما أمر الله ورسوله ؛ وأما باطنا، فبالتصدیق بالقلب .
قال رضی الله عنه : (ومن طلب منه أمر)، کائنا من کان، (فانقاد إلى الطالب) وامتثل أمره (فیما طلب). والدین دینان : دین مأمور به ، وهو ما جاءت به الرسل؛ ودین معتبر، وهو"
ذلک الطالب منه، (فهو)، أی ذلک المنقاد الممتثل، (مسلم. فافهم) ما ذکرته من أن کل من طلب منه أمر، فانقاد، فهو مسلم: (فإنه)، أی هذا الحکم، (یسری) ویتعدى إلى الخلق کلهم، موافقین کانوا أو مخالفین، بل إلى الحق سبحانه و تعالی.
أما سرایته إلى الخلق إذا کانوا موافقین مطیعین لأوامر الحق ونواهیه، فظاهر، لا حاجة إلى البیان. وأما إذا کانوا مخالفین غیر منقادین لأوامره ونواهیه، فلأن الأمر الإلهی ینقسم قسمین: أحدهما الأمر الإرادی، والآخر التکلیفی، کما سنذکر .
والمخالفون وإن لم ینقادوا إلى الأمر التکلیفی، فقد انقادوا إلى الأمر الإرادی.
وهذا ما قال بعض المحققین : إن الله تعالى أمرا إیجابیا وأمرا إیجادیة، فلا یدخل المخالفة الأمر الإیجادی.
وأما سرایته إلى الحق سبحانه، فبیانه أن العبد المکلف إما منقاد بالموافقة ، وإما مخالف.
فالموافق المطیع لا کلام فیه لوضوحه، لأنه سبحانه ینقاد إلیه بما یرضیه من إعطاء الجنة والخیر والثواب.
والمخالف یطلب بخلافه أمر الحق أحد الأمرین:
إما العفو والمغفرة، لیظهر کمال الاسم "العفو" و"الغفور" وحکمهما، وحینئذ ینقاد إلیه الحق سبحانه بما یرضیه من العفو والتجاوز عن سیئاته .
وإما المؤاخذة بذلک الخلاف، لیظهر حکم "المنتقم" و"القهار"، وحینئذ ینقاد إلیه بما لا یرضیه من العذاب والعقاب .
فعلى کل حال ینقاد الحق سبحانه إلى عبده بإعطاء ما یطلب منه بحسب استعداداته الجزئیة الوجودیة .
ولا یخفى أن ما یطلبه العبد إنما هو جزاء لأعماله وأحواله ؛ فیتحقق «الدین» هنا بمعنی ثانی، وهو «الجزاء».
والجزاء حال من أحوال العبد، یعقب حالا آخر.
فیصدق الدین بمعنی ثالث، وهو «العادة» ، لأنه عاد إلیه ما یقتضیه ویطلبه حاله .
وإلى هذین القسمین أشار الشیخ رضی الله عنه بقوله، (والدین) بحسب العرف الشرعی (دینان):
أحدهما (دین مأمور به)، أمر الله سبحانه عباده به. (وهو)، أی الدین المأمور به من عند الله هو، (ما جاءت به الرسل) ونزلت به الکتب من الأوضاع الشرعیة والأحکام الأصلیة والفرعیة.
وهذا هو الذی اصطفاه الله وأعطاه الرتبة العلیة على دین الخلق.
فقال تعالى : "وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِیمُ بَنِیهِ وَیَعْقُوبُ یَابَنِیَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَکُمُ الدِّینَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ" (132) سورة البقرة. ، أی منقادون إلیه .
وثانیهما (دین معتبر)، اعتبره الله سبحانه اعتبار ما شرعه من عنده ، لأن الغرض
قال رضی الله عنه : "الابتداع الذی فیه تعظیم الحق سبحانه . فمن رعاه حق رعایته ابتغاء رضوان الله سبحانه، فقد أفلح. والأمر الإلهی أمران: أمر بواسطة ، فما فیه إلا صیغته؛ وأمر بلا واسطة، وهو"
منه موافق لما أراده الله سبحانه من الشرع الموضوع من عنده، وهو تکمیل النفوس علما وعملا. (وهو)، أی الدین المعتبر هو.
(الابتداع)، أی الطریق المبتدع المخترع، الذی فیه تعظیم الحق سبحانه وطلب لمرضاته، اصطلح علیه طائفة من أهل الصلاح استحسانا منهم.
یؤدی إلى سعادة المعاد والمعاش کالرهبانیة، التی ابتدعها الراهبون، أعنی علماء دین المسیح علیه السلام.
قال تعالى: "ورهبانیة ابتدعوها ما کتبناها علیهم " [الحدید: 27]، أی ما فرضنا علیهم تلک العبادة، "إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها" [الحدید: 27].
أی الذین کلفوا نفوسهم بها، "حق رعایتها فانیتا الذین آمنوا" [الحدید: 27] بها، أی بتلک العبودیة "أجرهم" [الحدید: 27]، من الأنوار القدسیة والملکات النفسیة، التی هی الأخلاق الشریفة والملکات الفاضلة.
"وکثیر منهم " [الحدید: 27]، أی من هؤلاء الذین شرعت فیهم هذه العبادة - وهم المقلدون "فاسقون" [الحدید: 27]، أی الخارجون عن الانقیاد إلیها.
وکطریقة الصوفیة فی هذه الأمة، فإنهم أتوا بأمور زائدة على الطریقة النبویة ، موافقة للغرض منها - ما فرض الله ذلک علیهم - کتقلیل الطعام والمنع من الزیادة فی الکلام والخلطة بالأنام والخلوة والعزلة عنهم وکثرة الصیام وقلة المنام والذکر على الدوام وغیر ذلک مما ذکروه فی کتبهم - وفقنا الله تعالى لاقتفاء آثارهم والاهتداء بأنوارهم.
(فمن رعاه)، أی الدین المعتبر من هؤلاء الذین شرعوه أو الذین اتبعوهم، (حق رعایته)، بالإیمان به أولا والإتیان بما أمروا به والانتهاء عما نهوا عنه ثانیة، (ابتغاء رضوان الله سبحانه)، أی خالصة لوجهه وطلبة لمرضاته، لا لأمر آخر من المطالب العاجلة والمآرب الآجلة ، (فقد أفلح) وفاز بالسعادة الأبدیة والکرامة السرمدیة .
ولما ذکر الأمر الإلهی فی الأول من قسمی الدین، وکان ینقسم إلى قسمین، أراد الشیخ رضی الله عنه أن یشیر إلیهما لیعلم المراد منهما فی هذا المقام، فقال ، (والأمر الإلهی)، أی الصادر من مرتبة الجمع الإلهی، (أمران):
أحدهما (أمر بواسطة)، أی بواسطة الأنبیاء والرسل صلوات الله علیهم أجمعین ، حیث توسطوا بین الله سبحانه وبین عبیده ، فبینوا شرائعه لدیهم وبلغوا أوامره وأحکامه إلیهم.
(فما) یجب (فیه)، أی فی الأمر بواسطة من حیث أنه أمر بواسطة مع قطع النظر
قال رضی الله عنه : "الذی لا یتصور مخالفته. وبالواسطة قد یخالف. ولیس المأمور بلا واسطة إلا الکائن خاصة، لا الموجود."
عن الأمر التکوینی، (إلا صیغته)، أی صیغة الأمر وهی «افعل کذا» - سواء تعلق الإرادة بتکوین الفعل المأمور به أو لم تتعلق. ویسمى هذا القسم بـ «الأمر التکلیفی».
وثانیهما أمر بلا واسطة، أی بلا واسطة الأنبیاء والرسل صلوات الله علیهم أجمعین . و(هو) «الأمر التکوینی» الإرادی المتعین بکلمة «کن»، المتعلق بتکوین الشیء المعدوم المعلوم .
(الذی لا یتصور) من المأمور المراد تکوینه (مخالفته)، أی مخالفة ذلک الأمر، لامتناع تخلف المراد عن إرادته سبحانه، کما قال تعالى : " إنما قولنا للشیء إذا أردناه أن تقول له کن فیکون" [النحل: 40].
(و) الأمر (بالواسطة قد یخالف)، أی یخالفه (المأمور) ولا ینقاد إلیه.
وذلک إذا لم یوافقه الأمر (بلا واسطة).
(ولیس المأمور) بالأمر (بلا واسطة إلا) الشیء المعدوم المعلوم (الکائن) عند الأمر وبه (خاصة، لا) الشیء (الموجود) قبل الأمر، ضرورة امتناع إیجاد الموجود بخلاف المأمور بواسطة .