الفقرة السادسة عشر :
نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص الشیخ عبد الرحمن أحمد الجامی 898 هـ :
09 - نقش فص حکمة نوریة فی کلمة یوسفیة
لما کان عالم المثال عالم نورانیا، وکان کشف یوسف علیه السلام مثالیا، وأیضا ظهر فیه علیه السلام سلطنة النوریة العلمیة المتعلقة بکشف الصور الخیالیة والمثالیة .
وهو علم التعبیر على الوجه الأکمل؛ وکل من یعلم بعده ذلک العلم، فمن مرتبته یأخذ ومن روحانیته یستفید، أضاف رضی الله عنه الحکمة النوریة إلى الکلمة الیوسفیة .
اعلم أن النور الحقیقی یدرک به، وهو لا یذرک ، لأنه عین ذات الحق سبحانه من حیث تجدها عن النسب والإضافات.
ولهذا حین سئل النبی صلى الله علیه وسلم :"هل رأیت ربک؟»، قال: «نور، أنی أراه"»،رواه مسلم . أی النور المجرد لا یمکن رؤیته.
وکذا أشار الحق فی کتابه لما ذکر ظهور نوره فی مراتب المظاهر، وقال :" الله نور السماوات والأرض" [النور: 35].
فلما فرغ من ذکر مراتب التمثیل، قال : "نور على نور" [النور: 30],
فأحد النورین هو الضیاء، والآخر هو النور المطلق؛ ولهذا تمم.
فقال : "یهدى الله لنوره من یشاء " [النور: 35]، أی یهدی الله بنوره المتعین فی المظاهر إلى نوره المطلق الأحدی .
ولما سئل ابن عباس رضی الله عنهما عن رؤیة النبی علیه السلام ربه ، أخبر أنه رآه ؛ فأخبر بقول عائشة عن النبی صلى الله علیه وسلم ، وقد سأله عن رؤیة ربه وقوله علیه السلام : "نور، أنی أراه؟» .
فراجع السائل ابن عباس فی ذلک ، فقال ابن عباس : "ویحک ، ذاک إذا تجلى فی نوره الذی هو نوره»، أی إنما یتعذر الرؤیة والإدراک باعتبار تجرد الذات عن المظاهر والنسب والإضافات ؛ فأما فی المظاهر ومن وراء حجابیة المراتب ، فالإدراک ممکن.
""حدیث: سئل ابن عباس، فقیل: یابن عباس، هل رأى محمد صلى الله علیه وسلم ربه؟ قال: نعم، فقلت لابن عباس: ألیس یقول الله: "لا تدرکه الأبصار وهو یدرک الأبصار" [الأنعام: 103] ، قال: لا أم لک، ذاک نوره الذی هو نوره الذی هو نوره، إذا تجلى بنوره لا یدرکه شیء"" رواه المقدسی فی المختارة والبیهقی وابن خزیمة وغیرهم.
کما قیل :
کالشمس تمنعک إجتلاک وجهها …. فإذا اکتست برقیق غیم أمکنا
وإلى مثل هذا أشار النبی صلى الله علیه وسلم فی بیان الرؤیة الجنائیة المشبهة برؤیة الشمس والقمر.
قال الشیخ رضی الله عنه : ( النور یکشف ویکشف به. وأتم الأنوار وأعظمها نفوذا النور الذی یکشف به)
فأخبر عن أهل الجنة أنهم یرون ربهم وأنه لیس بینه وبینهم حجاب إلا رداء الکبریاء على وجهه فی جنة عدن، فنبه صلى الله علیه وسلم على بقاء رتبة الحجابیة، وهی رتبة المظهر. فاعلم ذلک.
"" أضاف المحقق: یشیر إلى قوله صلى الله علیه وسلم عن عبد الله بن قیس عن أبیه عن النبی صلى الله علیه وسلم وقال: «جنتان من فضة آنیتهما وما فیهما وجنتان من ذهب آنیتهما وما فیهما وما بین القوم وبین أن ینظروا إلى ربهم إلا رداء الکبریاء على وجهه فی جنة عدن». رواه مسلم وغیره.""
وإذ قد نبهت على شأن النور الحقیقی وأنه یذرک به وهو لا یدرک، فاعلم أن الظلمة لا تدرک، ولا یدرک بها، وأن الضیاء یدرک، ویدرک به.
ولکل واحد من الثلاثة شرف یختص به: فشرف النور الحقیقی هو من حیث الأولیة والأصالة، إذ هو سبب انکشاف کل مستور.
وشرف الظلمة هو أنه باتصال النور الحقیقی بها یتأتى إدراک النور مع تعذر ذلک قبل الاتصال.
وشرف الضیاء هو من حیث الجمع بالذات بین الأمرین واستلزام ذلک حیازة الشرفین.
ثم إن النور المحض المشار إلیه لا یغادر الوجود الحق. ولا شک أن الوجود المحض یتعقل فی مقابلة العدم المضاد له ؛ فإن للعدم تعینا فی التعقل، لا محالة ؛ وله الظلمة ، کما أن الوجود له التوریة.
ولهذا یوصف الممکن بالظلمة وأنه یتنور بالوجود، فیظهر. فظلمته من أحد وجهیه، الذی هو العدم.
وإلیه الإشارة بقول النبی علیه السلام: «إن الله خلق الخلق فی ظلمة. ثم رش علیه من نوره، فظهر».
وإذا تقرر هذا، فالعدم المتعقل فی مقابلة الوجود لا تحقق له بدون التعقل. والوجود المحض لا یمکن إدراکه. فمرتبة العدم من حیث تعقل مقابلیته للوجود کالمرآة له. والمتعین بین الطرفین هو حقیقة عالم المثال . والضیاء صفته الذاتیة .
ثم لما کان الغالب على عالم المثال النوریة، لقربها من عالم الأرواح وما فوقه من عوالم الأسماء والصفات .
کما أن الغالب على صور عالم الکون والفساد الظلمة ، لکونها فی مقابلة عالم الأرواح، الذی هو عالم النور وکان من حکم کل متوسط بین شیئین أنه إذا کان نسبته إلى أحد الطرفین أقوى من نسبته إلى الطرف الآخر أن یوصف بما یوصف به ذلک الطرف الغالب ویسمى باسمه.
لقب الشیخ رضی الله عنه هذه الحکمة بـ «النوریة». وإلا، فهی فی الحقیقة ضیائیة ، لا نوریة محضة.
وعبر عن الضیاء بـ «النور» حیث قال، (النور)، أی ما عدا النور الوجودی الحقیقی ... الذی هو ذات الحق سبحانه - (یکشف)، أی یذرک لذاته ، (ویکشف به) أی یدرک به ما سواه.
قال الشیخ رضی الله عنه : ( ما أراد الله بالصور المتخیلة المرئیة ، وهو علم التعبیر، لأن الصورة الواحدة تظهر بمعان کثیرة مختلفة یراد منها فی حق صاحب الصورة معنى واحد.
فمن کشفه بذلک النور ، فهو صاحب النور، فإن الواحد یؤذن ، فیحج؛ وآخر یؤذن، فیسرق، وصورة الأذان واحدة. وآخر یؤذن، فیدعو إلى الله على بصیرة. وآخر یؤذن، فیدعو إلى الضلالة.)
(وأتم الأنوار) التی تکشف ویکشف بها فی الکاشفیة (وأعظمها نفوذا) فی الأشیاء بالکشف عن حقائقها هو (النور) التام العلمی (الذی یکشف به) ویدرک (ما أراد الله بالصور المتخیلة المرئیة فی النوم)، المتغیرة عما کانت علیه فی عالم المثال، ویصیر مشاهدة فی عالم الحس بتصرف القوة المتصرفة.
(وهو)، أی الکشف عما أراد الله بها هو، (علم التعبیر).
وإنما کان ذلک النور التام العلمی أتم الأنوار وأعظمها نفوذا (لأن الصورة الواحدة) المتخیلة المرئیة فی النوم قد (تظهر) فی خیال أشخاص متعددة (بمعان کثیرة مختلفة التفاوت استعدادات تلک الأشخاص واختلاف أمزجتهم وتباین أمکنتهم وأزمنتهم وغیر ذلک.
لکن (یراد منها)، أی من هذه الصورة، (فی حق صاحب الصورة)، أی صاحب کان، (معنى واحد) من تلک المعانی الکثیرة.
(فمن کشفه)، أی المعنى المراد، ومیزه عن غیره وعبر الصورة المرئیة به (بذلک النور) التام العلمی ، (فهو صاحب النور) الأتم.
ونوره أنه الأنوار لأنه یتمیز به ما هو فی غایة الالتباس ونهایة الاشتباه.
وإنما قلنا: «إن الصورة الواحدة تظهر بمعان کثیرة»، (فإن) الشخص (الواحد) من جماعة قد یرى فی النوم أنه (یؤذن، فیحج) فی عالم الحس.
(و) شخص (آخر) منهم یرى فیه أنه (یؤذن، فیسرق) فی الحس.
أما الحج، فمن قوله تعالى : "وأذن فی الناس بالحج" [الحج: 27]، وأما السرقة، فمن قوله تعالى: "ثم أذن مؤذن أیتها العیر إنکم لسارقون" [یوسف: 70].
(وصورة الأذان واحدة)، لکن التعبیر مختلف، لاختلاف الرائین.
(و) کذلک شخص (آخر) یرى فیه أنه (یؤذن، فیدعو إلى الله على بصیرة. و) شخص (آخر) یرى أنه (یؤذن، فیدعو إلى الضلالة).
وذلک الاشتراک الأذان مع هاتین الدعوتین فی مطلق الدعوة إلى أمر ما، وإنما اختلف المدعو إلیه لاختلاف الرائی.
اعلم أن کل ما یظهر فی الحس هو مثل ما یظهر فی النوم والناس غافلون عن إدراک الحقائق ومعانیها التی تشتمل الصور الظاهرة علیها .
کما قال : «الناس نیام، فإذا ماتوا، انتبهوا» رواه أبو نعیم والزهری . وکما یعرف العارف بالتعبیر المراد من الصور المرئیة فی النوم،
کذلک یعرف العارف بالحقائق المراد من الصور الظاهرة فی الحس؛ فیعبر عنها إلى ما هو المقصود منها.
فالعارف إذا شاهد صورة فی الحس أو سمع کلاما، أو وقع فی قلبه معنى من المعانی، یستدل منها على مبادئها ویعلم مراد الله من ذلک.
ومن هذا المقام ما یقال : إن کل ما یحدث فی العالم رسل من الله تعالى إلى العباد، یبلغون رسالات ربهم؛ یعرفها من یعرفها، ویعرض عنها من یجهلها».
قال تعالى: "وکأین من ایة فی السماوات والأرض یمرون علیها وهم عنها معرضون" [یوسف: 105]، لعدم انتباههم ودوام غفلتهم.
ولا یعرف هذا المقام إلا من یکاشف جمیع المقامات العلویة والسفلیة ، فیرى الأمر النازل من الحضرة إلى العرش والکرسی والسموات والأرض ویشاهد فی کل مقام صوره.
قال رضی الله عنه :
إنما الکون خیال ….. وهو حق فی الحقیقة
کل من یفهم هذا …… حاز أسرار الطریقة
وفقنا الله للخروج من مضیق العلم إلى فضاء العین ورزقنا الجمع بین هاتین الحسنیین.