عرفان شیعی

عرفان اسلامی در بستر تشیع

عرفان شیعی

عرفان اسلامی در بستر تشیع

الفقرة السابعة عشر :


کتاب تعلیقات د أبو العلا عفیفی على فصوص الحکم الشیخ الأکبر ابن العربی 1385 هـ :

الفص التاسع حکمة نوریة فی کلمة یوسفیة

(1) حکمة نوریة فی کلمة یوسفیة

(1) یبحث هذا الفص فی «عالم المثال» و ما یتصل به من القوة الخیالیة فی الإنسان و ما ینکشف للإنسان بواسطة اتصاله بالعالم المثالی من صور الوجود الروحانی کالصور التی ترى فی الأحلام.

و العالم المثالی نورانی کما یقولون- أی غیر مادی- جریاً على الاصطلاح الفارسی- فی تسمیة کل روحی لطیف نوراً، و کل مادی کثیف ظلمةً، و لکن الصور النورانیة التی یحتویها قد تبدو فی العالم المحسوس متجسدة متشخصة، و تدرَک فیه على نحو ما تدرک الکائنات المادیة.

و أهم مسألة یعرض المؤلف لذکرها هنا مسألة الرؤیا وصلتها بقوة الخیال فی الإنسان من جهة، و بالعالم المثالی من جهة أخرى، ثم صلة الرؤیا بالوحی و منزلتها منه.

غیر أنه لا یقف عند هذا الحد، بل یصبغ المسألة صبغة میتافیزیقیة أخرى فیتوسع فی معنى الخیال بحیث یجعله الحضرة- أو الحال- التی تظهر فیها الحقائق الوجودیة فی صور رمزیة. فکل ما یظهر للحس أو للعقل مما یجب تأویله لمعرفة حقیقته خیال. و لهذا لم یتردد فی القول بأن حیاتنا کلها حلم من الأحلام، و أن کل ما نراه من صور الوجود الخارجی خیال فی خیال، و أن النور الحقیقی أو الوجود الحقیقی هو اللَّه. بعد ذلک یشرح بالتفصیل معنى وجود العالم و نسبته إلى اللَّه، و معنى الوحدة و الکثرة و العلاقة العِلّیة بین اللَّه و العالم.

أما اقتران اسم یوسف بهذه «الحکمة النوریة» فلصلته بتأویل الأحلام کما

ورد فی قصته، لأن یوسف قد کشف عن العالم المثالی على الوجه الأکمل، و کان عالماً بالمراد من الصور المرئیة المثالیة.

و المراد «بالحکمة النوریة» المعرفة الخاصة بذلک العالم النورانی الذی هو عالم المثال. فبهذه الحکمة نعرف أسرار هذا العالم و ندرک صلته بحضرة الخیال فی الإنسان. و لهذا قال «انبساط نورها على حضرة الخیال»: أی انها تلقی الضوء على ما خفی من ظواهر حضرة الخیال. هذا إذا أعدنا الضمیر فی نورها على الحکمة النوریة.

و لکن القیصری و جامی یعیدان الضمیر على «الکلمة الیوسفیة» أی روحانیة یوسف التی یقولان إن نورها منبسط على حضرة الخیال، بحیث إن کل من یعلم علم الرؤیا من بعده إنما یأخذ عن مرتبته و یستمد من روحانیته. و لیس لهذا التخریج ما یؤیده من نصوص الکتاب.


(2) «و قال یوسف علیه السلام: إِنِّی رَأَیْتُ أَحَدَ عَشَرَ کَوْکَباً ... إلى فی خزانة خیاله».

(2) یذهب إلى أن ما یُرى فی الأحلام على صورته الواقعیة أو على صورة أخرى غیر صورته قد یکون نتیجة قصد و إرادة من الرائی أو من المرئی أو من کلیهما، و قد یحصل عن غیر قصد و لا إرادة منهما.

فإذا وقعت الرؤیا نتیجة لقصد و إرادة کان للقاصد علم بما قصد، و إذا وقعت من غیر قصد و إرادة من أحد، لم یکن للمرئی علم بما رآه الرائی و لا للرائی علم بما رأى إلا بعد حصول الرؤیة.

و هذا النوع أدخل فی باب الرؤیا الصادقة و أکمل لأنه إدراک مباشر لما فی خزانة الخیال. و قد کانت رؤیة یوسف لإخوته فی صورة الکواکب، و لأبیه و خالته فی صورة الشمس و القمر غیرَ مرادة له و لا لأحد من المرئیین بدلیل أنه لم یکن یعلم عن هذا الأمر شیئاً و أنهم لم یکن لهم علم بما رآه. و لذلک أدرک یعقوب قیمة رؤیا ابنه و صدقها فقال له «یا بُنَیَّ لا تَقْصُصْ رُؤْیاکَ عَلى إِخْوَتِکَ فَیَکِیدُوا لَکَ کَیْداً».

أما الرؤیا عن قصد من الرائی فأمر یرى إمکانه معظم الصوفیة. و یحدثنا ابن العربی نفسه أنه کان یستطیع فی أی وقت شاء أن یستحضر فی حلمه أو فی یقظته صور مشایخه فتتمثل أمامه و یخاطبها بما یرید. و لعل غیر الصوفیة أیضاً یزعمون هذا الزعم و إن کانوا لا یذهبون فی تفسیر هذه الظاهرة مذهبهم. راجع ما ذکرناه عن الهمة و خلق الأشیاء بواسطتها: الفص السادس: التعلیق الثامن: قارن ما یذکره المؤلف عن «الصدق» فی کتابه مواقع النجوم ص 83 - 85. راجع أیضاً شذرات الذهب لابن العماد ج 5 ص 196 فی کلام صدر الدین القونوی عن تمکن شیخه ابن العربی من الاجتماع بروح من شاء فی نومه أو یقظته.


(3) «و سأبسط من القول فی هذه الحضرة بلسان یوسف المحمدی».

(3) حاول أن یعقد صلة بین الرؤیا التی رآها یوسف فی منامه ثم أوَّلها و قال بعد أن تحققت: «هذا تَاوِیلُ رُءْیایَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّی حَقًّا»، و بین قول النبی صلى اللَّه علیه و سلم: «الناس نیام فإذا ماتوا انتبهوا».

فقال إن الأصل هو ما قال النبی محمد علیه السلام و هو أن الناس نیام و أن کل ما یرونه أحلام، و أن یوسف لما رأى رؤیته ثم أوَّلها فیما بعد إنما خیل إلیه أنه استیقظ من نومه، و لکنه لم یستیقظ و لم یزل فی نومه حتى مات: و کذلک کل إنسان و هذا معنى قوله «فکان (أی یوسف) بمنزلة من رأى فی نومه أنه قد استیقظ من رؤیا رآها ثم عبَّرها، و لم یعلم أنه فی النوم عینه ما برح». فالیقظة إذن هی النوم بعینه، و لیس ما نسمیه نوماً إلا حالًا من حالاتها، و لیس ما نراه فی الیقظة أو فی المنام إلا خیالًا یجب تأویله.

و لهذا یفرِّق بین یوسف النبی الذی وصف العالم المحسوس بأنه العالم الحق و قابل بینه و بین عالم الأحلام فی قوله: «هذا تَاوِیلُ رُءْیایَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّی حَقًّا»، و بین ما یسمیه «یوسف المحمدی» أی یوسف الذی یتکلم بلسان محمد و یشرح قوله: «الناس نیام فإذا ماتوا انتبهوا» بالمعنى الذی أشرنا إلیه

و الذی یزیده المؤلف تفصیلا فیما بعد.


(4) «اعلم أن المقول علیه «سوى الحق» أو مسمى العالم ... کالظل للشخص و هو ظل اللَّه».

(4) فی هذا الجزء من الفص أثر واضح للفلسفة الزرادشتیة: على الأقل فی الاصطلاحات و التشبیهات التی یستعملها ابن العربی إن لم یکن فی صمیم الأفکار ذاتها.

فهو یرى أن الحقیقة الوجودیة لها ناحیتان- و قد أشرنا إلى بعض خصائص هاتین الناحیتین فیما سبق- الحق، و ما سوى الحق: أو اللَّه و العالم و یرمز لهما بالنور و الظلمة، أو بالشخص و ظله. و لکن لکی یکون لشخص من الأشخاص ظل، یلزم أن توجد ذات یقع منها الظل، و ذات أخرى أو ذوات یقع علیها الظل، و نور یسبب الظل. و کذلک الحال فی ذلک الظل الوجودی الذی یتکلم عنه. فالحق هو الذات التی یمتد منها الظل، و أعیان الممکنات هی الذوات التی یقع علیها الظل- لطیفاً فی عالمها المعقول، کثیفاً فی عالمها المحسوس- و النور هو اسم اللَّه الذی تجلى به على الممکنات فأظهر الحد ما بین الحق و الخلق.

و یتصوره ابن العربی على أنه أشبه شی ء بالقوة الخالقة فی طبیعة الوجود تدفعه دائماً إلى الظهور و التعَیُّن فی الصور.

"یقول القیصری إن اسم النور یطلق على الوجود الإضافی أی الوجود الذی یمنحه اللَّه العالم و على العلم الإلهی و على الضیاء إذ کل منها مظهر للأشیاء. اما الوجود فظاهر لأنه لولاه لبقی أعیان العالم فی کتم العدم، و أما العلم فلأنه لولاه لم یدرک شی ء بل لا یوجد فضلا عن کونه مدرکا، و أما الضیاء فلأنه لولاه الأعیان الوجودیة فی الظلم الساترة لها "

و بالاسم النور یقع إدراکنا للموجودات لأنه یظهرها، و نحن ندرک من الحق بقدر ما ندرک من الأشیاء التی وقع علیها ظل وجوده.

فإذا أثبتنا أن للعالم وجوداً (مستمداً من وجود الحق) کان للظل وجود واقعی و کانت الحقیقة ثنائیة.

أما إذا قدرنا عدم وجود العالم، فإن الظل یکون أمراً معقولا موجوداً بالقوة لا بالفعل و تکون الحقیقة واحدیة. فالمسألة إذن مسألة اعتبار و تقدیر: إذا نظرنا إلى الحقیقة من جهة قلنا إنها واحدة، و إذا نظرنا إلیها من جهة أخرى قلنا إنها اثنینیة.

و ظاهر من هذا الکلام أن ابن العربی کان یشعر بنفس القلق العقلی الذی شعر به زرادشت من جراء محاولة التوفیق بین التوحید الدینی و الثنویة الفلسفیة، و لکنه وَجَدَ- خلافاً لزرادشت- مخرجاً من هذا التناقض فی نظریته فی وحدة الوجود التی تقبل جمیع الاعتبارات و تنمحی فیها جمیع المتناقضات.


(5) «و لکن باسم النور وقع الإدراک، و امتد هذا الظل على أعیان الممکنات فی صورة الغیب المجهول».

(5) ذکرنا فی التعلیق السابق کیف اعتبر الاسم الإلهی «النور» مبدأ الخلق أو مبدأ ظهور التعینات فی الذات الإلهیة، و یظهر أنه یعتبره هنا مبدأ التعقل أو الإدراک فی الذات الإلهیة.

فکأنه بهذا المعنى مرادف للعلم أو العقل، إذ به امتد ظل الوجود الإلهی على أعیان الممکنات الثابتة فی العلم القدیم أو فی العالم المعقول المشار إلیه باسم «الغیب المجهول». و به عرف الحق نفسه بنفسه لما رأى صورة نفسه فی مرآة الوجود الإضافی متمثلة فی جمیع الصور المعقولة التی احتوتها ذاته بالقوة. و لیس النور- بهذا المعنى- مبدأ الإدراک فی الحق وحده، بل فی کل ما یدرِک و من یدرِک من الکائنات. هو العقل الواعی الساری فی الوجود.

و یذهب الصوفیة الذین یستعملون هذه اللغة الاشراقیة إلى أن هذا المعنى المزدوج لکلمة النور مشار إلیه فی قوله تعالى: «اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» فیقولون إنه نور السموات بمعنى أنه العقل الکلی الإلهی، و نور الأرض بمعنى أنه مبدأ وجود العالم أو مبدأ الخلق فیه.


(6) و کذلک أعیان الممکنات لیست نیرة لأنها معدومة و إن اتصفت بالثبوت، لکن لم تتصف بالوجود إذ الوجود نور».

(6) شرح قبل ذلک فیضان الوجود عن الواحد الحق: و عبَّر عن هذا المعنى هنا بامتداد ظل الوجود على الموجودات.

و لکنه یرى أن هذا الظل یختلف کثافة و لطافة بمقدار بعده أو قربه من مصدره. فالعالم المحسوس یمثل أکثف الظلال: و العالم المعقول ألطفها، و عالم المثال- الذی هو عالم الأرواح- بین بین. و هذا بالضبط ما یقوله أفلوطین فی فیوضاته و لکن بلغة أخرى.

و لما کانت أعیان الممکنات- التی هی الصورة المعقولة للموجودات- من جملة هذه الظلال، و إن کانت أقربها جمیعاً إلى مصدر الظل، قال إنها لیست نیِّرة لأنها الظل الأول الذی أخذ فی التکاثف شیئاً فشیئاً حتى بلغ منتهى الظلمة فی العالم المحسوس.

أما وصفه هذه الأعیان بأنها معدومة و إن کانت ثابتة، فذلک لأنه یفرِّق بین الثبوت و الوجود. و الأعیان ثابتة أی موجودة فی العلم الإلهی على نحو ما توجد المعانی فی العقول الانسانیة و لیس لها وجود فی العالم الخارجی، و هذا معنى عدمها. أما الوجود فیقصد به التحقیق فی العالم الخارجی فی الزمان و المکان، و لا یکون ذلک إلا لأشخاص الأعیان الثابتة.


(7) «و إذا کان الأمر على ما ذکرته لک فالعالم متوهَّم ما له وجود حقیقی، و هذا معنى الخیال».

(7) بعد أن شرح العلاقة بین اللَّه و العالم مستعملًا التمثیل بالظل و صاحب الظل على نحو ما شرح نفس الموضوع من قبل مستعملًا التمثیل بالمرایا و صورها، انتهى إلى النتیجة الحتمیة التی أرادها، و هی أن لیس للعالم وجود حقیقی فی ذاته، بل هو أمر متوهم، أی متوهم وجوده إلى جانب وجود اللَّه، إذ لیس فی الحقیقة إلا وجود واحد.

و هذا هو معنى الخیال: یریک الشی ء فی صورة أخرى، فإذا تأملته و أوَّلته أدرکت أنه هو هو.

غیر أننا یجب أن نکرر هنا ما ذکرناه من قبل عن التمثیل بالمرایا و صورها، و ضروب التمثیل الأخرى التی یستعملها ابن العربی- و ذلک أن کل تمثیل من هذا النوع لا یخلو من شی ء من الغموض و التضلیل من ناحیة أنه أمر محسوس یراد به إیضاح ما هو فی نفسه غیر محسوس، و من ناحیة أنه یشعر بالاثنینیة حیث لیس فی الأمر اثنینیة و لا کثرة بأی وجه.

فلیس من الممکن أن نتصور الشخص و ظله إلا على أنهما شیئان متمیزان مهما قیل من أن الظل لا وجود له بدون الشخص و من أنه یستحیل علیه الانفکاک عنه. فاتصال الظل بالشخص و افتقاره فی وجوده إلیه شی ء، و القول بأنهما حقیقة واحدة شی ء آخر.

و لکن هذه هی الدعوى التی یدعیها ابن العربی فی الصلة بین اللَّه و العالم عند ما یشبه العالم بظل اللَّه و یقول یستحیل على الظل الانفکاک عن ذاته هل ظل الشی ء عین ذاته: أم هو أثر من آثاره و عرض من أعراضه؟

و هل للذات وجود فی الظل الممتد عنها کما أن للحق وجوداً فی صور الممکنات؟

هذه و أمثالها أسئلة فیها من جفاف المنطق ما لا تتحمله المعانی الشعریة التی یوضح بها ابن العربی نظریته فیجب إذن ألا ینظر إلى لوازم کل هذه التشبیهات و ألا نحکِّم منطق العقل فی المسائل الذوقیة و الشعریة.

و هناک تمثیل آخر یذکره بعد التمثیل بالظل مباشرة و یوضح به اختلاف تجلی الحق باختلاف صور الممکنات، لأنه یُشَبّه الحق بالنور الذی لا لون له، و یشبه الخلق بالزجاج الملون، و یقول إن الحق یظهر فی صور الموجودات بحسب ما تقتضیه طبیعة هذه الصور کما یظهر النور المرئی خلال الزجاج الأخضر أخضَرَ، و المرئی خلال الزجاج الأحمر أحمر و هکذا. فاللون هو الذی حجب النور عن أن یظهر على حقیقته، کما أن صور الممکنات هی التی حجبت الحق عن الظهور بذاته فی صورة غیر متعینة.

فالنور هو الحق أو الذات الإلهیة، و الزجاج هو العالم، و الألوان هی صور الوجود المختلفة. و الذات الإلهیة لا لون لها: أی لیس لها فی نفسها صفات و لا خصائص و لا نسب، و إنما تظهر بهذه الصفات و الخصائص و النسب إذا نظر إلیها خلال الموجودات التی لها هذه الأوصاف.

و هذا معنى قوله: «و هکذا تُرَاهُ» - أی و هکذا تُرَى النور- «ضربَ مثالٍ لحقیقتک بربک» أی ذکرنا لک النور الملون لنضرب لک مثالا یوضح حقیقتک مع ربک.


(8) «مع هذا عین الظل موجود فإن الضمیر من «سمعه» یعود علیه».

(8) الإشارة فی قوله من «سمعه» تعود على الحدیث القدسی الذی یکثر ابن العربی من الاستشهاد به، أی حدیث قرب النوافل الذی یقول اللَّه فیه: «لا یزال العبد یتقرب إلی بالنوافل حتى أحبه: فإذا أحببته کنت سمعه الذی یسمع به و بصره الذی یبصر به ... » إلخ ..

و إعادة الضمیر فی «سمعه» على الظل فی الفص السابق معناه إعادته على العبد الذی هو ظل الحق، و فی هذا إثبات لوجود الظل. هذا إذا ذکرنا الخلق فی مقابلة الحق، و العالم فی مقابلة اللَّه، و الظل فی مقابلة الشخص. و هو لسان الشرع فی الظاهر: أما لسان الباطن فلیس إلا الوحدة و هی ما یشیر إلیه الحدیث فی قوله فإذا أحببته کنت سمعه: أی تحقق العبد الکامل أننی أنا سمعه و بصره و جمیع قواه: أو تحقق من الوحدة الوجودیة الحاصلة بالفعل، لا من أن الحق یصیر سمعه بعد أن لم یکن، أو بصره بعد أن لم یکن، إذ لا صیرورة فی الأمر بل الوحدة حاصلة بالفعل. و قد ذکر حدیث قرب النوافل لیستشهد به على وجود بعض الکائنات التی هی أقرب من غیرها إلى الحق و أدنى إلى صورته الجامعة الشاملة و هی صورة الإنسان الکامل، و لکن حتى فی حالة الإنسان الکامل الذی هو من ألطف ظلال الوجود لا نزال نتحدث عن اثنینیة الحق و العبد، لأننا نثبت وجود الظل فما بالک بالظلال الأخرى التی هی أکثر کثافة و أظلم؟ أی ما بالک بما بقی من مظاهر الوجود الأخرى؟


(9) «فقد بان لک بما هو کل اسم عین الاسم الآخر و بما هو غیر الاسم الآخر. فبما هو عینه هو الحق، و بما هو غیره هو الحق المتخیّل الذی کنا بصدده».

(9) أی ظهر لک بأی معنى یمکن اعتبار کل اسم من الأسماء الإلهیة عین کل اسم آخر، و بأی معنى یمکن اعتباره غیره: و هو یشیر هنا إلى ما سبق أن شرحه فی مواضع أخرى من هذا الکتاب أعْنِی أن لکل اسم من الأسماء دلالتین: أولاهما دلالته على الذات الإلهیة و الأخرى دلالته على الصفة الخاصة التی یتمیز بها من غیره من الأسماء.

و لذا کانت الأسماء کلها متحدة من وجه، مختلفة من وجه آخر:

فهی متحدة لدلالتها جمیعاً على الذات الإلهیة التی هی عینها، و مختلفة من حیث دلالة کل منها على الصفة المعینة الخاصة به.

و لما کان الظاهر فی صور الوجود الخارجی (المعبر عنه بالعالم) هو الحق- لا من حیث ذاته المجردة المعراة عن جمیع الأوصاف و النسب- بل الحق من حیث أسماؤه و صفاته، فرَّق بین الحق الحقیقی و الحق المتخیل الذی هو العالم، و جعل الأول اسماً للَّه من حیث هو فی ذاته، و الثانی اسماً له من حیث تجلیه فی الخلق، ثم جعل الحق المتخیَّل دلیلًا على اللَّه حیث قال: «فسبحان من لم یکن علیه دلیل سوى نفسه، و لا ثبت کونه إلا بعینه».


(10) «فمن وقف مع الکثرة کان مع العالم و مع الأسماء الإلهیة و أسماء العالم، و من وقف مع الأحدیة کان مع الحق من حیث ذاته الغنیة عن العالمین».

(10) بعد أن بیَّن الفرق بین الحق و الخلق، أو بین اللَّه و العالم- شرع فی ذکر أهم الخصائص التی یمتاز بها کل منهما، فقال إن الصفة الأساسیة للوجود الحق هی الوحدة، و للوجود الظاهر هی الکثرة.

فمن قال بالکثرة نظر إلى الحقیقة الوجودیة من حیث ظهورها فی العالم و هو کثرة من الأعیان، و من حیث تجلیها فی الأسماء الإلهیة و هی أیضاً کثرة معقولة لتمایز کل منها عن الآخر و وجود النسب و الإضافات فیها، و من حیث ظهورها فی أسماء العالم أی فی صفاته الخاصة به کالحدوث و الإمکان و التغیر و ما شاکل ذلک.

أما من قال بالوحدة فقد نظر إلى الحقیقة الوجودیة من حیث ذاتها التی لا کثرة فیها بوجه من الوجوه.

فهی تتعالى حتى عن الکثرة الاعتباریة العقلیة التی هی کثرة الاتصاف بالأسماء. فهی غنیة لا عن أعیان العالم فحسب، بل و عن الأوصاف أیضاً.

و یستوی فی الحقیقة أن نقول إن من وقف مع الکثرة کان مع العالم و مع الأسماء الإلهیة کما قال، أو أن نعکس القضیة فنقول إن من وقف مع العالم و مع الأسماء الإلهیة کان مع الکثرة لأن کلًا من الطرفین لازم عن الآخر.

کما یستوی أن نقول کما قال «و من وقف مع الأحدیة کان مع الحق من حیث ذاته»، و أن نعکس فنقول «و من وقف مع الحق من حیث ذاته کان مع الأحدیة»: و ذلک للسبب عینه.

و کل من قال بالکثرة وحدها محجوب لأنه لا یرى سوى وجه واحد من الحقیقة و کذلک کل من قال بالوحدة دون الکثرة.

لأنه لا یرى سوى الوجه الآخر من الحقیقة. أما العارفون بالأمر على ما هو علیه فیرون الوحدة فی الکثرة و یشاهدون الحق فی الخلق، و یقررون وحدة الحق بعد أن یتحققوا أن الخلق لا وجود له فی ذاته و لا من ذاته.

و هذه معان عرض لها المؤلف فیما مضى مستعملًا لغة أخرى. راجع مثلًا قوله فی التنزیه و التشبیه فی الفص الثالث.


(11) «و ظهرت الکثرة بنعوته المعلومة عندنا»

(11) قد یفهم هذا بمعنى أن الکثرة ظهرت فی الذات الإلهیة الواحدة لتجلیها فی الأسماء و النعوت الإلهیة التی نعرفها، أو بمعنى أن الکثرة ظهرت لظهور الذات بالأوصاف المعلومة فینا: أی لظهورها فی صور الممکنات و صفاتها.

و یظهر أن هذا أقرب إلى مراده بدلیل قوله فیما بعد «فنحن نلد و نولد و نحن نستند إلیه و نحن أکفاء بعضنا لبعض» و غیر ذلک من الصفات التی هی صفات للخلق و لکن فی ذات الحق. أما الذات نفسها فغنیة عن کل هذا و لذا صدق فیها قوله تعالى: «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ «1» اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ یَلِدْ وَ لَمْ یُولَدْ وَ لَمْ یَکُنْ لَهُ کُفُواً أَحَدٌ» (سورة الإخلاص).

" ابن العربی یستعمل فی هذا الفص نفسه اسم الأحد للدلالة على الذات الإلهیة المجردة عن الأسماء و الصفات و على الحق المتصف بهذه الأسماء و الصفات. یقول: «فاحدیة اللَّه من حیث الأسماء الإلهیة التی تطلبنا أحدیة الکثرة، و أحدیة اللَّه من حیث الغنى عنا و عن الأسماء أحدیة العین. و کلاهما یطلق علیه الاسم الأحد"

على أن الفرق بین التفسیرین لیس بالأمر الخطیر، فإن صفات الخلق لیست سوى المجالی الوجودیة لصفات الحق، و إذا نظرنا إلى الذات الإلهیة من حیث صفاتها کانت الکثرة فیها کثرة بالقوة، أما إذا نظرنا إلیها بالاضافة إلى صفات الممکنات کانت الکثرة فیها بالفعل.

و یذهب ابن العربی إلى أن سورة الإخلاص قد جمعت جمیع الصفات التی یمکن أن ننسبها إلى الحق من حیث ذاته، و ذلک فی قوله: «و ما للحق نَسَبٌ إلا هذه السورة- سورة الإخلاص-. و لعل السر فی هذا أنها مجموعة صفات سلبیة محضة: و مثل هذه الصفات أقصى ما یمکن أن توصف به ذات مجردة غنیة عن العالمین، منزهة حتى عن أن تعلم و توصف. أما قوله: «و ما للحق نسبٌ» ففیه إشارة إلى سبب نزول السورة و هو أن الکفار سألوا النبی علیه السلام أن ینسب إلیهم ربه: أی یصفه، فنزل هذا النَّسَب.

و قد أخطأ من قرأ «و ما للحقِ نَسبٌ» بکسر النون لأن نسب الحق إلى الموجودات لا تتناهى، فلا یمکن عدُّها فی سورة واحدة و لا فی القرآن کله.


(12) «حتى تعلم من أین أو من أی حقیقة إلهیة اتصف ما سوى اللَّه بالفقر ... إلى قوله و لا سببیة یفتقر العالم إلیها سوى الأسماء الإلهیة».

(12) یشرح فی هذا الجزء قدراً کبیراً من نظریته فی العلیة: و قد سبق أن ذکرنا أنه یرى أن حدوث العالم لیس فی أنه وُجد عن عدم، بل فی ظهوره فی الصور التی ظهر فیها.

أی أن العالم- أو ما سوى الحق- معلول فی صورته لا فی ذاته، إذ ذاته هی ذات الحق. فهو من هذه الناحیة مفتقر افتقاراً کلیاً إلى اللَّه، أو بعبارة أدق إلى الأسماء الإلهیة، لأنها هی التی تعطی الوجود الخارجی صُوَره بتجلیها فیه.

و لذا قال: «و لا سببیة للحق یفتقر العالم إلیها سوى الأسماء الإلهیة».

فالعالم مفتقر فی وجوده إلى اللَّه بهذا المعنى إذ لا وجود له من ذاته، و قد وهم من أثبت له وجوداً غیر وجود الحق، کما وهم من أثبت للظل وجوداً غیر وجود العین التی امتد منها الظل.

و لکن للعالم افتقاراً آخر بعضه إلى بعض، و هو الافتقار النسبی. و ذلک أن الموجودات یتصل بعضها ببعض داخل العالم اتصالا علیاً و یؤثر بعضها فی بعض و یتأثر به.

فهناک إذن نوعان من المعلولیة: معلولیة العالم فی جملته: و معلولیة أجزاء العالم بافتقار بعضها إلى بعض.

و لکن إذا أدرکنا أن مذهباً کمذهب ابن العربی یرجع کل ما هو فعل و علیة إلى الحق، و کل ما هو انفعال و قبول و معلولیة إلى الخلق، عرفنا أن ذلک الافتقار النسبی لیس إلا اسماً على غیر مسمى، و أن الفاعل على الإطلاق و العلة على الإطلاق هی الحق.

أما الحق فإن نظرنا إلى ذاته قلنا إنه غنی على الإطلاق، و إن نظرنا إلیه من حیث أسماؤه قلنا إنه مفتقر إلى العالم فی إظهار کمالات هذه الأسماء ... و هذا معنى قوله:

فالکل مفتقر ما الکل مستغنی هذا هو الحق قد قلنا لا نکنی

(الفص الأول) غیر أن العالم أیضاً قد یوصف بالغناء بمعنى أن بعض أجزائه مستغن عن البعض الآخر من وجه و إن کان مفتقراً إلیه من وجه آخر.

فالعالم (أی بعض أجزائه) یوصف بالغناء فی الوجه الذی لا تکون به حاجة إلى غیره. و هذا معنى قوله «و اتصف العالم بالغناء: أی بغناء بعضه عن بعض من وجه ما هو عین ما افتقر إلى بعضه به»

هذا إذا فهمنا ما (فی قوله من وجه ما هو) على انها نافیة: أی غناء بعضه عن بعض من وجه غیر الوجه الذی به یفتقر بعضه إلى بعض. و هذا تفسیر کل من القاشانی (ص 180) و جامی (ج 2 ص 60)، و لکن القیصری (ص 188) یفهم ما على أنها موصولة و یفسر العبارة کلها على النحو الآتی: و اتصف العالم بالغناء أی بغناء بعضه عن بعض من الوجه الذی افتقر ذلک البعض إلى بعض آخر بسبب ذلک الوجه.

و المقصود أن وجه الغنى هو بعینه وجه الافتقار. فإذا فرضنا أن ا، ب، ح أجزاء فی العالم و فرضنا أن ب غنیة عن ا و مفتقرة إلى ح، کان وجه غنائها عن ا هو بعینه وجه افتقارها إلى ح. أما تفسیر القاشانی و جامی فیجعل الوجهین منفصلین مستقلین.


(13) «و الأسماء الإلهیة کل اسم یفتقر إلى العالم إلیه من عالم مثله أو عین الحق. فهو اللَّه لا غیره».

(13) سبق أن شرحنا بعض نواحی نظریة ابن العربی العلیة، و قلنا إن الحق- فی نظره- هو العلة الأولى و الأخیرة فی کل ما یظهر فی الوجود، و لکن لا الحق من حیث ذاته بل من حیث أسماؤه. و هنا نراه یشرح معنى الأسماء الإلهیة شرحاً جدیداً، و إن کان أشار إلیه من طرف خفی فیما مضى، و یبین بأی معنى من المعانی یمکن اعتبارها عِلل الوجود.

لیست الأسماء الإلهیة قاصرة على مجموعة الأسماء المعروفة بأسماء اللَّه الحسنى، فإن هذه أمهات الأسماء فقط، و لکنها تشمل أیضاً کل اسم یفتقر العالم إلیه من عالم مثله أو (من) عین الحق: أی أنها تشمل أسماء کل الأشیاء التی تحدث آثاراً عِلیَّة فی غیرها.

فالأسماء الإلهیة إذن نوعان: نوع یفتقر إلیه بعض أجزاء العالم و یکون من جنس الجزء المفتقر- و هذا معنى قوله: «یفتقر العالم إلیه من عالم مثله»

و ذلک مثل الأب بالنسبة إلى الابن، فإن الابن مفتقر فی وجوده إلى الأب الذی هو من نوعه، و مثل النار بالنسبة إلى الجسم الساخن فإنهما من عالم واحد هو عالم الجماد.

و لا یتردد ابن العربی فی أن یعد اسم الأب و النار و نحوهما من الموجودات التی تعتبر عللًا فی موجودات أخرى من الأسماء الإلهیة.

و بهذا المعنى یصبح العالم کله کتاباً لا نهائیاً من أسماء اللَّه. أ لم یقل فی مکان آخر إننا نحن (أی العالم) الأسماء الإلهیة التی وصف بها الحق نفسه و نصفه نحن بها؟

ألم یقل إن الحق هو المسمى أبا سعید الخراز و غیر ذلک من المحدثات؟

أما النوع الآخر من الأسماء فهو کل اسم تتصف به الذات الإلهیة: کالخالق و المصور و الرحیم و الغفار و القادر و غیرها من الأسماء الحسنى.

و قد سمیت هذه الأسماء بالأمهات لأنها بمثابة الأصول التی یمکن أن یرد إلیها أسماء النوع الأول، أو لأن أسماء النوع الأول یمکن أن تعتبر مظاهر أو محالی لها.

فاسم الأب مثلًا یمکن أن یعتبر مظهراً للاسم الخالق أو الرازق أو الحفیظ من ناحیة أن الأب سبب فی وجود الابن و أنه یتعهده بالغذاء و یحفظه مما یؤذیه.

و کذلک النار یمکن اعتبارها مظهراً من مظاهر الاسم الإلهی «القهار» أو القادر أو نحوهما.

وَ لِمَ نذهب إلى هذا النوع من التأویل البعید و ابن العربی نفسه یعتبر جمیع الموجودات مجالی لوجود الحق و تعینات فیه؟

و إذا کان الامر کذلک ألا یلزم أن تکون اسماؤها أسماء له؟