الفقرة الثامنة عشر :
شرح فصوص الحکم من کلام الشیخ الأکبر ابن العربی أ. محمد محمود الغراب 1405 هـ:
09 - فص حکمة نوریة فی کلمة یوسفیة
قال الشیخ رضی الله عنه : ( هذه الحکمة النوریة انبساط نورها على حضرة الخیال "2" وهو أول مبادئ الوحی الإلهی فی أهل العنابة . یقول عائشة رضی الله عنها : « أول ما بدیء)
___________________________________
1 - المناسبة :
بین هذه الحکمة وبین یوسف علیه السلام هو رؤیته علیه السلام أبویه وإخوته فی الرؤیا على صورة الشمس والقمر والکواکب وهی أجسام نیرة والخیال نور فکان الجامع النوریة .
فیقول الشیخ رضی الله عنه : اعلم وفقک الله أنه لولا النور ما أدرک البصر شیئا ، فجعل الله الخیال نورا یدرک به تصویر کل شیء أی أمر کان ، فنوره ینفذ فی العدم المحض فیصوره وجودا .
فالخیال أحق باسم النور من جمیع المخلوقات الموصوفة بالنوریة، فنوره لا یشبه الأنوار، و به تدرک التجلیات، وهو نور عین الخیال لا نور عین الحس .
والخیال لا یکون فاسدا قط ، فمن قال بفساده فإنه لا یعرف إدراک النور الخیالی ، فإن هذا القائل یخطئ الحس فی بعض مدرکاته وإدراکه صحیح والحکم لغیره لا إلیه.
فالحاکم أخطأ لا الحس ، کذلک الخیال أدرک بنوره ما أدرک وما له حکم ، وإنما الحکم لغیره وهو العقل فلا ینسب إلیه فلا ینسب إلیه الخطأ ، فما ثم خیال فاسد قط بل هو صحیح کله ، فالخیال کله حق ما فیه شیء من الباطل.
ولما کان هذا الفص فیه ما یتعلق بتأویل بعض ما یرى فی الخیال و کان یوسف علیه السلام قد خصه الله بالعلوم المتعلقة بصور التمثل والخیال فکانت المناسبة بین یوسف علیه السلام وبین الکلام على حضرة الخیال المقصودة بهذا الفص .
الفتوحات ج 1 / 306 - ج 2 / 103 ، 133 .
2 - حضرة الخیال
حضرة الإمکان فی البرزخ بین الوجود والعدم ، وللممکنات فیه أعیان ثابتة من الوجه الذی ینظر إلیها الوجود المطلق ( أی الحق سبحانه ) .
ومن هذا الوجه ینطلق علیها اسم الشیء الذی إذا أراد الحق إیجاده قال له « کن فیکون » ولیس
ص 128
قال الشیخ رضی الله عنه : ( به رسول الله صلى الله علیه وسلم من الوحی الرؤیا الصادقة . فکان لا یرى رؤیا إلا خرجت منل على الصبح » نقول لا خفاء بها. وإلى هنا بلغ علمها لا غیر .
وکانت المده له فی ذلک ستة أشهر ثم جاءه الملک ، وما علمت أن رسول الله صلى الله علیه وسلم قد قال : « إن الناس نیام فإذا ماتوا انتبهوا »، وکل ما یرى فی حال النوم فهو من ذلک القبل ، وإن اختلفت الأحوال . فمضى قولها ستة أشهر ، بل عمره کله فی الدنیا بملک المثابة : إنما هو منام فی منام .
وکل ما ورد من هذا القبیل فهو المسمى عالم الخیال ولهذا یعتبر ، أی الأمر الذی هو فی نفسه على صورة کذا ظهر فی صورة غیرها ، فیجور العابر من هذه الصوره التی أبصرها النائم إلى سورة ما هو الأمر علیه إن أصاب کظهور العلم فی صورة اللبن . فعبر فی التأویل من صورة اللبن إلى سورة العلم فأول أی قال : مال هذه الصورة اللبنیة إلى صورة العلم . ثم إنه صلى الله علیه وسلم کان إذا أوحی إلیه أخذ عن المحسوسات المعتادة فسجی وغاب عن الحاضرین عنده : فإذا سری عنه رد .
فما ادرکه إلا فی حضرة الخیال ، إلا أنه لا یسمى نائما . وکذلک إذا تمثل له الملک رجلا فذلک من حضرة الخیال ، فإنه لیس برجل وإنما هو ملک ، فدخل فی صورة إنسان .)
____________________________________
له أعیان موجودة من الوجه الذی ینظر إلیه من العدم المطلق (أی المستحیل ) ولهذا یقال له « کن » وکن حرف وجودی ، فإنه لو أنه کائن ما قیل له کن، وهذه الممکنات فی هذا البرزخ بما هی علیه وما تکون إذا کانت مما تتصف به من الأحوال والصفات والأعراض والأکوان .
ومن هذا البرزخ وجود الممکنات ، وبها یتعلق رؤیة الحق للأشیاء قبل کونها ، ویقال له الوجود الخیالی .
یقول له الحق کن فی الوجود العینی ویکون هذا السامع هذا الأمر الإلهی وجودا عینیا یدرکه الحس ، أی یتعلق به فی الوجود المحسوس الحس کا تعلق به الخیال فی الوجود الخیالی .
فإذا انتقلنا من برزخ البرازخ وهو حضرة الإمکان من حیث أن الصور بما هی صور هی المتخیلات ، والعماء الظاهرة فیه هو الخیال المطلق ، وأنها حضرة علمیة معقولة ، إذا انتقلنا إلى الوجود الحادث قلنا :
إن العالم عالمان ، والحضرة حضرتان .
وإن کان قد تولد بینهما حضرة ثالثة من مجموعهما ، فالحضرة الواحدة حضرة الغیب ، ولها عالم یقال له عالم الغیب أو عالم الملکوت وهو عالم المعانی والغیب
ص 129
قال الشیخ رضی الله عنه : ( فعبره الناظر العارف حتى وصل إلى صورته الحقیقیة ، وقال هذا جبریل أتاکم یعلمکم دینکم .
وقد قال لهم ردوا على الرجل فسماه بالرجل من أجل الصوره التی ظهر لهم فیها . نم قال هذا جبریل فاعتبر الصورة التی مال هذا الرجل المتخیل إلیها . فهو سادق فی المقالتین : صدق للعین فی العین الحسیة ، وصدق فی أن هذا جبریل . فإنه جبریل بلا شک . وقال یوسف علیه السلام : « إنی رأیت أحد عشر کوکبا والشمس والقمر رأیتهم لی ساجدین » : برای إخوته فی سورة الکواکب ورأى أباه وخالته فی سورة الشمس والقمر .
هذا من جهة بوسف ولو کان من جهة المرئی لکان ظهور إخوته فی صوره الکواکب وظهور أبیه وخالته فی سورة الشمس والقمر مرادا لهم . فلما لم یکن لهم علم بما رآه بوسف کان الإدراک من یوسف فی خزانة خیاله . وعلیم ذلک یعقوب حین قصها علبه فقال : « یا بنی لا تقصص رؤیاک على إخوتک فیکیدوا لک کیدا » تم برا أبناءه عن ذلک الکبد وألحقه بالشیطان ، ولیس إلا عین الکبد . فقال : « إن الشیطان للإنسان عدو مبین » أی ظاهر العداوة .
ثم قال بوسف بعد ذلک فی آخر الأمر : « هذا تأویل رؤیای من قبل قد جعلها ربی حقا » أی أظهرها فی الحس بعدما کانت فی صورة الخیال "3" .
فقال النبی محمد صلى الله علیه وسلم : « الناس نیام . فکان قول یوسف : « قد جعلها ربی حقا » بمنزلة من رأى فی نومه أنه قد استیقظ من رؤیا رآها تم عبرها . ولم یعلم أنه فی النوم عینه ما برح ؛ وإذا استیقظ یقول رأیت کذا)
________________________________________
وهو عالم العقل .
والحضرة الثانیة حضرة الحس والشهادة ویقال لعالمها عالم الملک أو عالم الشهادة والحرف وهو عالم الحس والظهور
، ومدرک هذا العالم بالبصر ومدرک عالم الغیب بالبصیرة .
والمتولد من اجتماعهما حضرة وعالم ، فالحضرة الخیال أو البرزخ ، والعالم عالم الخیال ویسمیه بعض أهل الطریق عالم الجبروت ، وهو الذی بین عالم الملک وعالم الملکوت ، وهکذا هو عندی.
وحضرة الخیال أوسع الحضرات جودا لأنها تجمع العالمین فهی مجمع البحرین، بحر المعانی وبحر المحسوسات.
وحضرة الخیال التی عبرنا عنه بمجمع البحرین ، هو یجسد المعانی ویلطف المحسوس ویقلب فی عین الناظر عین کل معلوم فیجمع عالم الغیب وعالم الشهادة .
الفتوحات ج 1 / 395 - ج 2 / 129 ، 311 - ج 3 / 42 ،46 ، 361 - ج 4 / 211.
٣ - نفس الشرح فتوحات ج 3 / ص 373 .
ص 130
کذا ورأیت کانی استیقظت وأولتها بکذا . هذا مثل ذلک، فانظر کم بین إدراک محمد ا وبین إدراک یوسف علیه السلام فی آخر أمره حین قال : « هذا تأویل رویای من قبل قد جعلها ربی حقا » . معناه حسا أی محسوسا ، وما کان إلا محسوسة ، وإن الخیال لا یعطی أبدا إلا المحسوسات ، غیر ذلک لیس له . فانظر ما أشرف علم ورثه محمد صلى الله علیه وسلم "4" . وسأبسط من القول فی هذه الحضرة بلسان یوسف المحمدی ما تقف علیه إن شاء الله فنقول : اعلم أن المقول علیه « سوى الحق » أو مسمى العالم هو بالنسبة
______________________________
4 - مقام الأنبیاء وأذواقهم علیهم السلام
یستحیل صدور ما جاء فی هذه الفقرة عن الشیخ رضی الله عنه ، لأن ذلک یخالف تماما الأصول والقواعد التی أصلها فی کتبه حیث یقول :
لا ذوق لأحد فی ذوق الرسل ، لأن أذواق الرسل مخصوصة بالرسل ، وأذواق الأنبیاء مخصوصة بالأنبیاء ، وأذواق الأولیاء مخصوصة بالأولیاء ، فبعض الرسل عنده الأذواق الثلاثة لأنه ولی ونبی ورسول .
"" تعقیب الجامع : الشیخ لم یقل شیئا خارج القول والعلم والذوق المحمدی لرسول الله صلى الله علیه وسلم "الناس نیام فإذا ماتوا انتبهوا" . ومن هذه العبارة "خضنا بحرا وقف الأنبیاء بساحله" تفهم الشیخ افضل باننا ناخذ من بحر رسالة وذوق رسول الله صلى الله علیه وسلم الذی لم یأخذوا هم منه لأنه أتى بعدهم ونحن ورثته "".
"" التعقیب على الإستاذ محمود محمود الغراب رحمه الله :
الإستاذ محمود فهم کلام الشیخ الأکبر ابن العربی من وجه دون الوجوه الآخرى وحصرته فقط فی اتجاه واحد فقط وهو ما فهمه واعتقده دون غیره مع أنه أوضح وأکثر سطوعا من شمس الظهیرة ومنه مثال واحد فقط یکفیک دلیلا :
این ذوق الرسول موسى وهو من أولی العزم من الرسل ولا جدال من ذوق الخضر علیهما السلام ؟؟؟؟
فرسول الله موسى لم یکن على علم مطلق بما یعلمه الخضر ولا ذوق له فیه علیهما السلام
فی حین ان الخضر فیما یعلم ان رسول الله موسی لاذوق ولا علم له فیما یعلم
لقول تعالى : " قَالَ إِنَّکَ لَنْ تَسْتَطِیعَ مَعِیَ صَبْرًا (67) وَکَیْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِی إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِی لَکَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِی فَلَا تَسْأَلْنِی عَنْ شَیْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَکَ مِنْهُ ذِکْرًا (70) فَانْطَلَقَا " سورة الکهف.
إیضاح لعبارة الشیخ ابن العربی رضی الله عنه الله عنه :
"لا ذوق الأحد فی ذوق الرسل. فلا ذوق للولی فی حال من أحوال أنبیاء الشرائع، ومن أصولنا أنا لا تتکلم إلا عن ذوق، ونحن لسنا برسل ولا أنبیاء شریعة."
یقصد به الشیخ فیما ارسلوا به من شرائع لقومهم وهو أمر خاص لهم مع شرائع قومهم فهم أعلی ذوق فیما ارسلوا به من تجلیات وامداد الله لهم.
اما فیما یعلمه الله تعالی ولم یعلمهم إیاه وعلمه احد من عباده فهو اعلى من اى بشر آخر به والدلیل شهادة الله تعالى على ذلک کما جاء بالآیات بعالیه.""
حضرت فی مجلس فیه جماعة من العارفین ، فسأل بعضهم بعضا :
من أی مقام سأل موسى الرؤیة ؟
فقال له الآخر : من مقام الشوق ،
فقلت له : لا تفعل أصل الطریق أنها نهایات الأولیاء بدایات الأنبیاء ، فلا ذوق للولی فی حال من أحوال أنبیاء الشرائع، فلا ذوق لهم فیه .
ومن أصولنا أنا لا تتکلم إلا عن ذوق، ونحن لسنا برسل ولا أنبیاء شریعة ، فبأی شیء تعرف من أی مقام سأل موسى الرؤیة ربه ؟
نعم لو سألها ولی أمکنک الجواب ، فإن فی الإمکان أن یکون لک ذلک الذوق ، وقد علمنا من باب الذوق أن ذوق مقام الرسل لغیر الرسل ممنوع ، فالتحق وجوده بالمحال العقلی
ویقول : لا ذوق لنا فی مقامات الرسل علیهم السلام ، وإنما أذواقنا فی الوراثة خاصة ، فلا یتکلم فی الرسل إلا رسول ، ولا فی الأنبیاء إلا نبی أو رسول ، ولا فی الوارثین إلا رسول أو نبی أو ولی أو من هو منهم ، هذا هو الأدب الإلهی .
ویقول فیما یستفیده التابع فی عروجه الروحی من یوسف علیه السلام :
التابع یتلقى من یوسف علیه السلام ما خصه الله به من العلوم المتعلقة بصور التمثل والخیال.
ص 131
قال الشیخ رضی الله عنه : ( إلى الحق کالظل للشخص ، وهو ظل الله "5" ، وهو عین نسبة الوجود إلى العالم لأن الظل موجود بلا سک فی الحس .
ولکن إذا کان بم من یظهر فیه ذلک الظل : حتى لو قدرت عدم من یظهر فیه ذلک الفلل : کان الظل معقولا غیر موجود فی الحس ، بل تکون بالقوة فی ذات الشخص المنسوب إلیه الظل . فمحل ظهور هذا الظل الإلهی المسمى بالعالم إنما هو أعیان الممکنات : علیها امداد هذا الظل ، فتدرک من هذا الظل بحسب ما امتد علبة من وجود هذه الذات . ولکن باسمه النور رفع الإدراک وامتد هذا الخلل على أعیان الممکنات فی صورة الغیب المجهول ألا یرى الظلال نضرب إلى السواد سیر إلى ما فیها من الحفاء لبعد المناسبة بینها وبین أشخاص من هی ظل له ؟.
وإن کان الشخص ابیض فظله بهذه المثابة .
الا ترى الجبال إذا بعدت عن بصر الناظر تظهر سوداء وقد تکون فی أعیانها على غیر ما یدرکها الحس من اللونیة ، ولیس ثم علة إلا البعد ؟.. و کزرقة السماء . فهذا ما أنتجه البعد فی الحس فی الأجسام غیر النیرة .)
______________________
وعرفه بموازینها ومقادیرها و نسبها ونسبها ، وما زال یعلمه تجسد المعانی فی النسب فی صورة الحس والمحسوس ، وعرفه معنى التأویل فی ذلک کله إلى غیر ذلک من العلوم التی یزید التابع على الناظر بما أعطاه الوجه الخاص من العلم الإلهی .
الفتوحات ج 2 / 51 ، 275 - ح 4 / 75 .
راجع کتابنا « الرد على ابن تیمیة » ص 25
5 - الوجود الحادث هو ظل الله من الاسم النور
الخیال المطلق هو المسمى بالعماء ، وهو الحضرة الجامعة والمرتبة الشاملة ، وانتشاء هذا العماء من نفس الرحمن الذی هو أول ظرف قبل کینونة الحق ، وهو الحق المخلوق به کل شیء ، وفتح الله فی هذا العماء صور کل ما سواه من العالم واختلاف أعیان المسکنات فی أنفسها فی ثبوتها والحکم لها فیمن ظهر فیها .
ألا إن ذلک العماء هو الخیال المحقق ، ألا تراه یقبل صور الکائنات کلها و تصویر ما لیس بکائن، هذا لاتساعه ، فهو عین العماء لا غیره ، وفیه ظهرت جمیع الممکنات، وهذه الموجودات الممکنات التی أوجدها الحق تعالى هی للأعیان التی یتضمنها هذا البرزخ بمنزلة الظلالات للأجسام .
الفتوحات ج 2 / 310 ، 312
ص 132
قال الشیخ رضی الله عنه : ( فهذا تأثیر آخر للبعد.
فلا یدرکها الحس إلا صغیرة الحجم وهی فی أعیانها کبیرة عن ذلک القدر وأکثر کمیات، کما یعلم بالدلیل أن الشمس مثل الأرض فی الجرم مائة وستین مرة، و هی فی الحس على قدر جرم الترس مثلا. فهذا أثر البعد أیضا. "6"
فما یعلم من العالم إلا قدر ما یعلم من الظلال، و یجهل من الحق على قدر ما یجهل من الشخص الذی عنه کان ذلک الظل.
فمن حیث هو ظل له یعلم، و من حیث ما یجهل ما فی ذات ذلک الظل من صورة شخص من امتد عنه بجهل من الحق.
فلذلک نقول إن الحق معلوم لنا من وجه مجهول لنا من وجه: «أ لم تر إلى ربک کیف مد الظل و لو شاء لجعله ساکنا» أی یکون فیه بالقوة.
یقول ما کان الحق لیتجلى للممکنات حتى یظهر الظل فیکون کما بقی من الممکنات التی ما ظهر لها عین فی الوجود. «ثم جعلنا الشمس علیه دلیلا» وهو اسمه النور الذی قلناه، و یشهد له الحس: فإن الظلال لا یکون لها عین بعدم النور.
«ثم قبضناه إلینا قبضا یسیرا»: و إنما قبضه إلیه لأنه ظله، فمنه ظهر و إلیه یرجع الأمر کله. فهو هو لا غیره."7" فکل ما ندرکه)
_____________________________
6 - الألوان
إن الزرقة التی تنسبها إلى السماء ونصفها بها ، تلک اللونیة لجرم السماء لبعدها عنک فی الإدراک البصری ، کما ترى الجبال إذا بعدت عنک زرقا ولیست الزرقة لها إلا لبعدها عن نظر العین ، کما ترى الجبل البعید عن نظرک أسود ، فإذا جئته قد لا یکون کما أبصرته، فإن الألوان على قسمین ، لون یقوم بجسم المتلون ، ولون یحدث للبصر عند نظره إلى الجسم لأمر عارض یقوم بین الرائی والمرئی ، مثل هذا ومثل الألوان التی تحدث فی المتلون باللون الحقیقی لهیئات تطرأ ، فیراها الناظر على غیر لونها القائم بها الذی یعرفه .
الفتوحات ج 3 / ص 459
7 - ألم ترى إلى ربک کیف مد الظل ... الآیة
اعلم أن الممکنات التی أوجدها الحق تعالی هی للأعیان التی تضمنها حضرة الإمکان ، وهی برزخ بین حضرة الوجود المطلق والعدم المطلق ، بمنزلة الظلالات للأجسام ، بل هی الظلالات الحقیقیة ، وهی التی وصفها الحق سبحانه بالسجود له
ص 133
قال الشیخ رضی الله عنه : ( فهو وجود الحق فی أعیان الممکنات. فمن حیث هویة الحق هو وجوده، و من حیث)
____________________________________
مع سجود أعیانها ، فما زالت تلک الأعیان ساجدة له قبل وجودها . فلما وجدت ظلالاتها وجدت ساجدة لله تعالی لسجود أعیانها التی وجدت عنها ، من سماء وأرض وشمس وقمر ونجم وجبال وشجر ودواب وکل موجود ، ثم لهذه الظلالات التی ظهرت عن تلک الأعیان الثابتة من حیث تکونت أجساما ظلالات أوجدها الحق لها .
دلالات على معرفة نفسها من أین صدرت ، ثم أنها تمتد مع میل النور أکثر من حد الجسم الذی تظهر عنه إلى ما لا یدرکه طولا ، ومع هذا ینسب إلیه ، وهو تنبیه أن العین التی فی البرزخ التی وجدت عنها لا نهایة لها مما تتصف به من الأحوال والأعراض والصفات والأکوان .
فهو عالم لا یتناهی وما له طرف ینتهی إلیه ، فإنه الحضرة الفاصلة بین الوجود المطلق والعدم المطلق.
وأنت بین هذین الظلالین ذو مقدار ، فأنت موجود عن حضرة لا مقدار لها ، ویظهر عنک ظل لا مقدار له.
فامتداده یطلب تلک الحضرة البرزخیة ، وتلک الحضرة البرزخیة هی ظل الوجود المطلق من الاسم النور الذی ینطلق على وجوده ، فلهذا نسمیها ظلا ، ووجود الأعیان ظل ذلک الظل .
والظلالات المحسوسة ظلالات هذه الموجودات فی الحس .
ولما کان الظل فی حکم الزوال لا فی حکم الثبات ، وکانت الممکنات وإن وجدت فی حکم العدم سمیت ظلالات ، لیفصل بینها وبین من له الثبات المطلق فی الوجود ، وهو واجب الوجود .
وبین من له الثبات المطلق فی العدم وهو المحال ، لتتمیز المراتب ، فالأعیان الموجودات إذا ظهرت ففی هذا البرزخ هی ، فإنه ما ثم حضرة تخرج إلیه ، ففیها تکتسب حالة الوجود ، والوجود فیها متناه ما حصل منه ، والإیجاد فیها لا ینتهی ، فهذا مثل ضربه الله على دوام الخلق والتکوین وعلى العین الثابتة ثم ظهورها للوجود .
ففی قبض الظل ومده من اللطف ما إذا فکر فیه الإنسان رأی عظیم أمر ، ولهذا نصبه الله دلیلا على معرفته ، فلا یدرک البصر عین امتداده حالا بعد حال، فإنه لا یشهد له حرکة مع شهود انتقاله ، فهو عنده متحرک لا متحرک ، وکذلک فی فیئه وهو قوله « ثم قبضناه إلینا قبضا یسیرا » فسنه خرج ، فانه لا ینقبض إلا إلى ما منه خرج ،
ص 134
قال الشیخ رضی الله عنه : ( اختلاف الصور فیه هو أعیان الممکنات. "8" فکما لا یزول عنه باختلاف الصور اسم الظل، کذلک لا یزول باختلاف الصور اسم العالم أو اسم سوى الحق. فمن حیث أحدیة کونه ظلا هو الحق، لأنه الواحد الأحد. و من حیث کثرة الصور هو العالم، فتفطن و تحقق ما أوضحته لک. و إذا کان الأمر على ما ذکرته لک فالعالم متوهم ما له وجود حقیقی، و هذا معنى الخیال .
أی خیل لک أنه أمر زائد قائم بنفسه خارج عن الحق ولیس کذلک فی نفس الأمر.
ألا تراه فی الحس متصلا بالشخص الذی امتد عنه، ویستحیل علیه الانفکاک عن ذلک الاتصال لأنه یستحیل على الشی ء الانفکاک عن ذاته؟
فاعرف عینک ومن أنت و ما هویتک و ما نسبتک إلى الحق، و بما أنت حق و بما أنت عالم و سوى و غیر و ما شاکل هذه الألفاظ. وفی هذا یتفاضل العلماء، فعالم وأعلم. فالحق بالنسبة إلى ظل خاص صغیر وکبیر، وصاف وأصفى، کالنور بالنسبة إلى حجابه عن الناظر فی الزجاج یتلون بلونه، وفی نفس الأمر لا لون له. ولکن هکذا تراه.
ضرب مثال لحقیقتک بربک. فإن قلت: إن النور أخضر لخضرة الزجاج صدقت وشاهدک الحس، وإن قلت إنه لیس بأخضر ولا ذی لون لما أعطاه لک الدلیل، صدقت وشاهدک النظر العقلی الصحیح.
فهذا نور ممتد عن ظل وهو عین الزجاج فهو ظل نوری لصفائه.
کذلک المتحقق منا بالحق تظهر صورة الحق فیه أکثر مما تظهر فی غیره. فمنا من یکون الحق سمعه وبصره وجمیع قوة وجوارحه بعلامات قد أعطاها الشرع)
_______________________
کذلک تشهده العین.
وقد قال تعالى وهو الصادق إنه قبضه إلیه ، فعلمنا أن عین ما خرج منه هو الحق ، ظهر بصورة خلق ، فیه ظل یبرزه إذا شاء ، ویقبضه إذا شاء .
وقوله تعالى « ثم جعلنا الشمس علیه دلیلا » الضمیر فی علیه یطلب الظل لأنه أقرب مذکور ، ویطلب الاسم الرب وإعادته على الرب أوجه ، فإنه بالشمس ضرب الله المثل فی رؤیته یوم القیامة.
انظر إلى نقص ظل الشخص فیه إذا ... ما الشمس تعلو فتفنى ظله فیه
ذاک الدلیل على تحریکه أبدا ... بدأ وفیئا وهذا القدر یکفیه
لو کان یسکن وقتا ما بدا أثر ... فی الکون من کن وذاک الحکم من فیه
فالکون من نفس الرحمن لیس له ... أصل سواه فحکم القول یبدیه
خلاف ما یقتضیه العقل فارم به ... فإن حکمة شرع الله تقضیه
ما أن رأیت له عینا ولا أثرا ... ولو یکون لکان العقل یخفیه
الفتوحات ج 1 / 458 - ج 3 / 46 ، 47 ، 269 - ج 4 / 238 .
8 - راجع وحدة الوجود فص 2 ص 45 فص 5 ص 84
وحدة الوجود - المرایا
اعلم أن المعلومات ثلاثة لا رابع لها :
وهی الوجود المطلق الذی لا یتقید وهو وجود الله تعالى الواجب الوجود لنفسه ، والمعلوم الآخر العام المطلق الذی هو عدم لنفسه وهو الذی لا یتقید أصلا وهو المحال ،
والعلوم الثالث هو البرزخ الذی بین الوجود المطلق والعدم المطلق وهو الممکن ، وسبب نسبة الثبوت إلیه مع نسبة العدم هو مقابلته للأمرین بذاته .
وذلک أن العدم المطلق قام للوجود المطلق کالمرآة فرأی الوجود فیه صورته فکانت تلک الصورة عین الممکن ، فلهذا کان للممکن عین ثابتة وشیئیة فی حال عدمه ولهذا خرج على صورة الوجود المطلق .
ولهذا أیضا اتصف بعدم التناهی فقیل فیه إنه لا یتناهی ، وکان أیضا الوجود المطلق کالمرآة للعدم المطلق فرأى العدم المطلق فی مرآة الحق نفسه .
فکانت صورته التی رأی فی هذه المرأة هو عین العدم الذی اتصف به هذا الممکن ، وهو موصوف بأنه لا یتناهی کما أن العدم المطلق لا یتناهی ، فاتصف الممکن بأنه معدوم ، فهو کالصورة الظاهرة بین الرائی والمرأة ، لا هی عین الرائی ولا غیره
وقد علمنا أن العالم ما هو عین الحق وإنما هو ما ظهر فی الوجود الحق ، إذ لو کان عین الحق ما صح کونه بدیعا ، کما تحدث صورة المرئی فی المرآة ، ینظر الناظر فیها، فهو بذلک النظر کأنه أبدعها مع کونه لا تعمل له فی أسبابها، ولا یدری ما یحدث فیها .
ولکن بمجرد النظر فی المرآة ظهرت صور ، هذا أعطاه الحال ، فما لک فی ذلک من التعمل إلا قصدک النظر فی المرآة .
ونظرک فیها مثل قوله « إنما قولنا لشیء إذا أردناه » وهو قصدک النظر « أن نقول له کن » وهو بمنزلة النظر « فیکون » وهو بمنزلة الصورة التی تدرکها عند نظرک فی المرآة ،.
ثم إن تلک الصورة ما هی عینک الحکم صفة المرآة فیها من الکبر والصغر والطول والعرض ، ولا حکم لصورة المرآة فیک فما هی عینک ولا عین ما ظهر ممن لیس أنت من الموجودات الموازیة لنظرک فی المرآة ، ولا تلک الصورة غیرک ، لما لک فیها من الحکم .
فإنک لا تشک أنک رأیت وجهک ، ورأیت کل ما فی وجهک ظهر لک بنظرک فی المرآة من حیث عین ذلک لا من حیث ما طرأ علیه من صفة المرآة ، فما هو المرئی غیرک ولا عینک ، کذلک الأمر فی وجود العالم الحق .
أی شیء جعلت مرآة أعنی حضرة الأعیان الثابتة أو وجود الحق، فإما أن تکون الأعیان الثابتة الله مظاهر ، فهو حکم المرآة فی صورة الرائی ، فهو عینه وهو الموصوف بحکم المرآة ، فهو الظاهر فی المظاهر بصورة المظاهر.
أو یکون الوجود الحق هو عین المرآة ، فترى الأعیان الثابتة من وجود الحق ما یقابلها منه ، فترى صورتها فی تلک المرآة و یترائی بعضها البعض ، ولا ترى ما ترى من حیث ما هی المرآة علیه ، وإنما ترى ما ترى من حیث ما هی علیه من غیر زیادة ولا نقصان .
وکما لا یشک الناظر وجهه فی المرآة أن وجهه رأی ، وبما للمرآة فی ذلک من الحکم یعلم أن وجهه ما رأى .
فهکذا الأمر فانسب بعد ذلک ما شئت کیف شئت ، فإن الوجود للعین الممکنة کالصورة التی فی المرآة ، ما هی عین الرائی ولا غیر الرائی ، ولکن المحل المرئی فیه به و بالناظر المتجلی فیه ظهرت هذه الصورة ، فهی مرآة من حیث ذاتها والناظر ناظر من حیث ذاته والصورة الظاهرة تتنوع بتنوع العین الظاهرة فیها .
کالمرأة إذا کانت تأخذ طولا ترى الصورة على طولها والناظر فی نفسه على غیر تلک الصورة من وجه ، وعلى صورته من وجه ، فلما رأینا المرآة لها حکم فی الصورة بذاتها ورأینا الناظر یخالف تلک الصورة من وجه .
علمنا أن الناظر فی ذاته ما أثرت فیه ذات المرآة ، ولما لم یتأثر ولم تکن تلک الصورة هی عین المرأة ولا عین الناظر ، وإنما ظهرت من حکم التجلی للمرآة ، علمنا الفرق بین الناظر وبین المراة وبین الصورة الظاهرة فی المرآة التی هی غیب فیها ، ولهذا إذا رؤی الناظر یبعد عن المرآة یرى تلک الصورة تبعد فی باطن المرآة ، وإذا قرب قربت .
وإذا کانت فی سطحها على الاعتدال ورفع الناظر یده الیمنى رفعت الصورة الید الیسرى ، تعرفه إنی وإن کنت من تجلیک وعلى صورتک فما أنت أنا ولا أنا أنت ، فإن عقلت ما نبهناک علیه فقد علمت من أین اتصف العبد بالوجود، ومن هو الموجود، ومن أین اتصف بالعدم، ومن هو المعدوم ومن خاطب ومن سمع ومن عمل ومن کلف .
وعلمت من أنت ومن ربک وأین منزلتک ، وأنک المفتقر إلیه سبحانه وهو الغنی عنک بذاته.
فسبحان من ضرب الأمثال وأبرز الأعیان دلالة علیه أنه لا یشبهه شیء ولا یشبه شیئا ، ولیس فی الوجود إلا هو ، ولا یستفاد الوجود إلا منه، ولا یظهر الموجود عین إلا بتجلیه.
فالمرأة حضرة الإمکان والحق الناظر فیها والصورة أنت بحسب إمکانیتک ، فإما ملک وإما فلک وإما إنسان وإما فرس ، مثل الصورة فی المرآة بحسب ذات المرآة من الهیئة فی الطول والعرض والاستدارة واختلاف أشکالها مع کونها مرآة فی کل حال .
کذلک الممکنات مثل الأشکال فی الإمکان والتجلی الإلهی یکسب الممکنات الوجود والمرآة تکسبها الأشکال ، فیظهر الملک و الجوهر والجسم والعرض ، والإمکان هو هو لا یخرج عن حقیقته ، وأوضح من هذا البیان فی هذه المسألة لا یمکن إلا بالتصریح ، فقل فی العالم ما تشاء و انسبه إلى من تشاء بعد وقوفک على هذه الحقیقة کشفة وعلما .
راجع الفتوحات ج3/ 46 , 80 , 352 . - ج4/ 316.
وحدة الوجود - الظاهر فی المظاهر
الموجودات على تفاصیلها فی ظهور الحق فی مظاهر أعیان الممکنات بحکم ما هی الممکنات علیه من الاستعدادات ، فاختلفت الصفات على الظاهر لأن الأعیان التی ظهر فیها مختلفة ، فتمیزت الموجودات وتعددت لتعدد الأعیان وتمیزها فی نفسه فما فی الوجود إلا الله وأحکام الأعیان ، وما فی العدم شیء إلا أعیان الممکنات مهیأة للاتصاف بالوجود .
فهی لا هی فی الوجود ، لأن الظاهر أحکامها فهی ، ولا عین لها فی الوجود فلا هی ، کما هو لا هو .
لأنه الظاهر فهو والتمیز بین الموجودات معقول ومحسوس لاختلاف أحکام الأعیان فلا هو ، فیا أنا ما هو أنا ولا هو ما هو هو .
مغازلة رقیقة وإشارة دقیقة ردها البرهان ونفاها ، و أوجدها العیان وأثبتها .
ما من شیء فی تفاصیل العالم إلا وفی الحضرة الإلهیة صورة تشاکل ما ظهر ، أی یتقید بها، ولولا هی ما ظهر .
فإذا تأملت فما ثم وجود إلا الله خاصة ، وکل موصوف بالوجود مما سوى الله فهو نسبة خاصة ، والإرادة الإلهیة إنما متعلقها إظهار التجلی فی المظاهر ، أی فی مظهر ما ، وهو نسبة .
فان الظاهر لم یزل موصوفا بالوجود ، والمظهر لم یزل موصوفا بالعدم ، فإذا ظهر أعطى المظهر حکما فی الظاهر بحسب حقائقه النفسیة .
فانطلق على الظاهر من تلک الحقائق التی هو علیها المظهر المعدوم حکم یسمى إنسانا أو فلکا أو ملکا أو ما کان من أشخاص المخلوقات .
کما رجع من ذلک الظهور للظاهر اسم یطلق علیه یقال به خالق وصانع ، وضار ونافع ، وقادر.
وما یعطیه ذلک التجلی من الأسماء ، وأعیان الممکنات على حالها من العدم کما أن الحق لم یزل له حکم الوجود .
فحدث لعین الممکن اسم المظهر ، و للمتجلی فیه اسم الظاهر .
فأعطى استعداد مظهر ما أن یکون الظاهر فیه مکلفا ، فیقال له افعل ولا تفعل ، ویکون مخاطبا بأنت وکاف الخطاب .
واعلم أن التجلی الذاتی ممنوع بلا خلاف بین أهل الحقائق فی غیر مظهر .
فوقتا یکون المظهر جسمیا و وقتا یکون جسمانیا ووقتا جسدیا ، ووقتا یکون المظهر روحیا ووقتا روحانیا.
فالتجلی فی المظاهر هو التجلی فی صور المعتقدات وهو کائن بلا خلاف.
والتجلی فی المعقولات کائن بلا خلاف . وهما تجلی الاعتبارات .
لأن هذه المظاهر سواء کانت صور المعقولات أو صور المعتقدات فإنها جسور یعبر علیها بالعلم .
أی یعلم أن وراء هذه الصور أمرا لا یصح أن یشهد ولا أن یعلم .
ولیس وراء ذلک المعلوم الذی لا یشهد ولا یعلم حقیقة ما یعلم أصلا .
وأما التجلی فی الأفعال ففیه خلاف بین أهل هذا الشأن لا یرتفع دنیا ولا آخرة .
فما فی المسائل الإلهیة ما تقع فیها الحیرة أکثر ولا أعظم من مسألة الأفعال ، ولاسیما فی تعلق الحمد والذم بأفعال المخلوقین.
فیخرجها ذلک التعلق أن تکون أفعال المخلوقین لغیر المخلوقین حین ظهورها عنهم ، وأفعال الله کلها حسنة فی مذهب المخالف الذی ینفی الفعل عن المخلوق ویثبت الذم للفعل بلا خلاف .
ولا شک عنده فی تعلق الذم، بذلک الفعل من الله، فمن الشدائد على أهل الله إذا أوقفهم فی حضرة الأفعال ، من نسبتها إلى الله ونسبتها إلى أنفسهم ،
فیلوح لهم ما لا یمکن لهم معه أن ینسبوها إلى أنفسهم ، ویلوح لهم ما لا یتمکن معه أن ینسبوه إلى الله .
فهم هالکون بین حقیقة وأدب ، والتخلص من هذا البرزخ من أشد ما یقاسیه العارفون ، فإن الذی ینزل عن هذا المقام یشاهد أحد الطرفین فیکون مستریحا لعدم المعارض.
فمذهبنا العین الممکنة إنما هی ممکنة لأن تکون مظهرا ، لا لأن تقبل الاتصاف بالوجود فیکون الوجود عینها.
إذن فلیس الوجود فی الممکن عین الموجود ، بل هو حال لعین الممکن ، به یسمى الممکن موجودا مجازا لا حقیقة ، لأن الحقیقة تأبى أن یکون الممکن موجودا ، فلا یزال کل شیء هالک .
الفتوحات ج1 / 694 , ج2 / 40,42,99,160,435,606
ص 135
قال الشیخ رضی الله عنه : ( الذی یخبر عن الحق. مع هذا عین الظل موجود. "9"
فإن الضمیر من سمعه یعود علیه: وغیره من العبید لیس کذلک. فنسبة هذا العبد أقرب إلى وجود الحق من نسبة غیره من العبید.وإذا کان الأمر على ما قررناه فاعلم أنک خیال وجمیع ما تدرکه. )
_________________________________
9 - «کنت سمعه وبصره » الحدیث
یقول تعالى : « ولا یزال عبدی یتقرب إلی بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته کنت سمعه الذی یسمع به وبصره الذی یبصر به ۰۰. الحدیث »
اعلم أن العبد حادث فلا تنفی عنه حقیقته لأنه لو انتفت ، انتفت عینه ، وإذا انتفت عینه فمن یکون مکلفا بالعبادة .
ففی هذا الحدیث أثبتک و نفاک ، فتکون أنت من حیث ذاتک ، ویکون هو من حیث تصرفاتک وإدراکاتک .
فأنت مکلف من حیث وجود عینک ومحل للخطاب ، وهو العامل بک من حیث أنه لا فعل لک .
إذ الحادث لا أثر له فی عین الفعل ، ولکن له حکم فی الفعل إذ کان ما کلفه الحق من حرکة وسکون لا یعمله الحق إلا بوجود المتحرک والساکن .
إذ لیس إذا لم یکن العبد موجودا إلا الحق ، والحق تعالی عن الحرکة والسکون أو یکون محلا لتأثیره فی نفسه ، فلابد من حدوث العبد حتى یکون محلا لأثر الحق ، فإذا کان العبد ما عنده من ذاته سوى عینه بلا صفة ولا اسم سوى عینه ، حینئذ یکون عند الله من المقربین و بالضرورة یکون الحق جمیع صفاته .
و یقول له : أنت عبدی حقا ، فما سمع سامع فی نفس الأمر إلا بالحق ولا أبصر إلا به ولا علم إلا به ولا حیی ولا قدر ولا تحرک ولا سکن ولا أراد ولا قهر ولا أعطى ولا منع ولا ظهر علیه وعنه أمر ما هو عینه إلا وهو الحق لا العبد.
فما للعبد سوى عینه سواء علم ذلک أو جهله ، وما فاز العلماء إلا بعلمهم بهذا القدر فی حق کل ما سوى الله لا أنهم صاروا کذا بعد أن لم یکونوا.
فالضمیر فی قوله «کنت سمعه» هو عین العبد . والسمع عین الحق فی کل حال. فکشف له سبحانه عن ذلک فإن قوله « کنت » یدل على أنه کان الأمر على هذا وهو لا یشعر .
فکانت الکرامة التی أعطاها هذا التقرب الکشف والعلم بأن الله کان سمعه وبصره فهو یتخیل أنه یسمع بسمعه وهو یسمع بربه .
کما کان یسمع الإنسان فی حال حیاته بروحه فی ظنه لجهله وفی نفس الأمر إنما یسمع بریه ، ألا ترى نبیه الصادق
ص 136
قال الشیخ رضی الله عنه : ( مما تقول فیه لیس أنا خیال.فالوجود کله خیال فی خیال. "10"
، والوجود الحق إنما هو الله خاصة من حیث ذاته و عینه لا من حیث أسماؤه، لأن أسماءه لها مدلولان: المدلول الواحد عینه و هو عین المسمى، و المدلول الآخر ما یدل علیه مما ینفصل الاسم به من هذا الاسم الآخر و یتمیز. فأین الغفور من الظاهر ومن الباطن، وأین الأول )
________________________________________
فی أهل القلیب کیف قال : ما أنتم بأسمع منهم ، فأثبت الله للعبد بالضمیر عینه عبدا لا ربوبیة له .
وجعل ما یظهر به وعلیه ومنه أن ذلک هو الحق تعالى لا العبد .
فما ثم إلا حق لحق وحق لخلق ، فحق الحق ربوبیته وحق الخلق عبودیته .
الفتوحات ج 1 / 203 ، 305 ، 378 ، 397 ، 406 ، 407 ، 415 ، 434 ، 445 ، 468 ، 675 .
الفتوحات ج 2 / 65 ، 189 ، 323 ، 341 ، 479 ، 502 ، 513 ، 559.
إکمال فص 10 هامش 9
10 - الوجود الحادث خیال فی خیال - الناس نیام فإذا ماتوا انتبهوا
من لا یعرف مرتبة الخیال فلا معرفة له جملة واحدة ، وهذا الرکن من المعرفة إذا لم یحصل للعارفین فما عندهم من المعرفة رائحة .
فمن العلم الذی یختص به أهل الله تعالى معرفة الکشف الخیالی ، فإنک لا تشک أنک مدرک لما أدرکته أنه حق محسوس لما تعلق به الحس.
وأن الحدیث الوارد عن النبی صلى الله علیه وسلم فی قوله « الناس نیام فإذا ماتوا انتبهوا »
فنبه أن ما أدرکتموه فی هذه الدار مثل إدراک النائم فی النوم وهو خیال .
ولا تشک أن الناس فی برزخ بین هذه الدار والدار الآخرة وهو مقام الخیال .
قال تعالی : «وما رمیت اذ رمیت ولکن الله رمی » ، أبان الله لنا فیما ذکره فی هذه الآیة أن الذی کنا نظنه حقیقة محسوسة إنما هی متخیلة یراها رأی العین والأمر فی نفسه على خلاف ما تشهده العین .
فکل ما سوى ذات الحق فهو فی مقام الاستحالة السریعة والبطیئة وهو خیال حائل وظل زائل .
فالعالم ما ظهر إلا فی خیال فهو متخیل لنفسه ، وهو کله فی صور مثل منصوبة ، فالحضرة الوجودیة إنما هی حضرة الخیال ، والوجود المحدث خیال منصوب ، ثم تقسم ما تراه من الصور إلى محسوس و متخیل والکل متخیل .
وهذا لا قائل به إلا من أشهد هذا المشهد، والشهود عنایة من الله أعطاها إیانا نور الإیمان الذی أنار الله به بصائرنا .
ص 137
قال الشیخ رضی الله عنه : ( من الآخر.؟
فقد بان لک بما هو کل اسم عین الاسم الآخر وبما هو غیر الاسم الآخر.
فبما هو عینه هو الحق، وبما هو غیره هو الحق المتخیل الذی کنا بصدده.
فسبحان من لم یکن علیه دلیل سوى نفسه ولا ثبت کونه إلا بعینه.
فما فی الکون إلا ما دلت علیه الأحدیة. وما فی الخیال إلا ما دلت علیه الکثرة. فمن وقف مع الکثرة کان مع العالم ومع الأسماء الإلهیة وأسماء العالم.
ومن وقف مع الأحدیة کان مع الحق من حیث ذاته الغنیة عن العالمین.
وإذا کانت غنیة عن العالمین فهو عین غنائها عن نسبة الأسماء لها، لأن الأسماء لها کما تدل علیها تدل على مسمیات أخر یحقق ذلک أثرها. «قل هو )
____________________________
فما أعجب الأخبار النبویة ، لقد أبانت عن الحقائق على ما هی علیه ، وعظمت ما استهونه العقل القاصر .
فإنه ما صدر إلا من عظیم وهو الحق ، فإذا ارتقى الإنسان فی درج المعرفة علم أنه نائم فی حال الیقظة المعهودة .
وأن الأمر الذی هو فیه رؤیا إیمانا وکشفا ، ولهذا ذکر الله أمورا واقعة فی ظاهر الحسن .
وقال « فاعتبروا » وقال « إن فی ذلک لعبرة » أی جوزوا واعبروا مما ظهر لکم من ذلک إلى علم ما بطن به وما جاء له .
لذلک قال صلى الله علیه وسلم : « الناس نیام فإذا ماتوا انتبهوا » ولکن لا یشعرون ولهذا قلنا إیمانا .
فالوجود کله نوم ویقظته نوم، والحق هو الناطق والمحرک والمسکن والموجد والمذهب .
وجمیع الصور بما ینسب إلیها مما هو له خیال منصوب وأن حقیقة الوجود له تعالی.
الفتوحات ج 1 / 41 ، 116 ، 311 - ج 2 / 213 ، 313 ، 379 ، 380
ج 3 / 525.
11 - الله غنی عن العالمین
اعلم أن الله ما هو غنی عن العالم إلا لظهوره بنفسه للعالم ، فاستغنى أن یعرف بالعالم ، فلا یدل علیه الغیر بل هو الدلیل على نفسه بظهوره لخلقه ، فلا دلیل علیه سواه .
فإنه لا شیء أدل من الشیء على نفسه ، فهو غنی عن العالمین ، أی سواء ظهورکم وعدمکم ، فهو غنی عن الدلالة .
کأنه یقول : ما أوجدت العالم لیدل علی . ولا أظهرته علامة على وجودی .
وإنما أظهرته لیظهر ح?م حقائق أسمائی ، ولیست لی علامة على سوائی .
فإذا تجلیت عرفت بنفس التجلی ، والعالم علامة على حقائق الأسماء لا على. وعلامة أیضا على أنی مستنده لا غیر ، فإن کل حکم فی العالم لابد
ص 138
قال الشیخ رضی الله عنه : ( الله أحد» من حیث عینه: «الله الصمد» من حیث استنادنا إلیه: «لم یلد» من حیث هویته ونحن، «ولم یولد» کذلک، «ولم یکن له کفوا أحد» کذلک.
فهذا نعته فأفرد ذاته بقوله: «الله أحد» وظهرت الکثرة بنعوته المعلومة عندنا.
فنحن نلد ونولد ونحن نستند إلیه ونحن أکفاء بعضنا لبعض.
وهذا الواحد منزه عن هذه النعوت فهو غنی عنها کما هو غنی عنا.
وما للحق نسب إلا هذه السورة، سورة الإخلاص، وفی ذلک نزلت. فأحدیة الله من حیث الأسماء الإلهیة التی تطلبنا أحدیة الکثرة، و أحدیة الله من حیث الغنى عنا و عن الأسماء أحدیة العین، و کلاهما یطلق علیه الاسم الأحد، فاعلم ذلک. فما أوجد الحق الظلال وجعلها ساجدة متفیئة عن)
__________________________________________
أن یستند إلى نعت إلهی ، إلا النعت الذاتی الذی یستحقه الحق لذاته .
وبه کان غنیا عن العالمین ، والنعت الذاتی الذی للعالم بالاستحقاق ، وبه کان فقیرة بل عبدا .
فإنه أحق من نعت الفقر ، وإن کان الفقر والذلة على السواء ، فالحق تعالى هو المنزه عن أن تدل علیه علامة ، فهو المعروف بغیر حد ، المجهول بالحد.
والعالمون هنا الدلالات على الله ، فهو غنی عن الدلالات علیه ، فرفع أن یکون بینه وبین العالم نسبة ووجه یربطه بالعالم من حیث ذلک الوجه الذی هو منه غنی عن العالمین .وهو الذی یسسیه أهل النظر وجه الدلیل.
یقول الحق : ما ثم دلیل علی فیکون له وجه یربطنی به فأکون مقیدا به .
وأنا الغنی العزیز الذی لا تقیدنی الوجوه ولا تدل علیه أدلة المحدثات ، فالواجب الوجود غنی على الإطلاق ، فلا شیء واجب الوجود لنفسه إلا هو .
فهو الغنی بذاته على الإطلاق عن العالمین بالدلیل العقلی والشرعی ، إذ لو أوجد العالم للدلالة علیه لما صح له الغنی عنه ، فهو أظهر وأجلی من أن یستدل علیه بغیر ، أو یتقید تعالی بسوی .
إذ لو کان الأمر کذلک لکان للدلیل بعض سلطنة وفخر على المدلول ، فکان یبطل الغنی ، فما تصب الأدلة علیه وإنما تصبها على المرتبة لیعلم أنه لا إله إلا هو ، ولهذا لا یصح أن یکون علیه ، و إلیه الدلالة بقوله صلى الله علیه وسلم « کان الله ولا شیء معه » فهو غنی عن الدلالة .
واعلم أن معقولیة کون الله ذاتا ما هی معقولیة کونه إلها ، وهی مرتبة ، ولیس فی الوجود العینی سوى العین ، فهو من حیث هو غنی عن العالمین ، ومن حیث الأسماء
ص 139
الیمین والشمال إلا دلائل لک علیک وعلیه لتعرف من انت و ما نسبک إلیه وما نسبه إلیک "12" حتى تعلم من أین أو من أی حقیقة إلهة اتصف ما سوى الله بالفقر
___________________________________________
التی تطلب العالم لإمکانه لظهور آثارها فیه یطلب وجود العالم ، فلولا الممکن ما ظهر أثر للأسماء الإلهیة ، فـ للأسماء الإلهیة أو المرتبة التی هی مرتبة المسی إلها.
التصرف والحکم فیمن نعت بها ، فبها یتصرف ولها یتصرف ، وهو غنی عن العالمین فی حال تصرفه لابد منه ، فالله من حیث ذاته ووجوده غنی عن العالمین . ومن کونه ربا یطلب المربوب بلا شک ، فهو من حیث العین لا یطلب ، ومن حیث الربوبیة یطلب المربرب وجودا وتقدیرا .
الفتوحات ج 1 / 291 ، 439 - ج 2 / 227 ، 429 ، 474 ، 518 ، 541 - ج 3 / 316 ، 364 ، 405 ، 557 - ج 4 / 101 .
12 - تفیؤ الظلال
قال تعالى : « ألم یروا إلى ما خلق الله من شیء یتفیؤا ظلاله عن الیمین والشمائل سجدا لله وهم داخرون » خاطب بذلک أهل الکشف : وهم عامة الإنس و کل عاقل فخاطبهم بالنعیم البصری ، - راجع هامش رقم 7
اعتبار ظلک على صورتک ، وأنت على الصورة ، فأنت ظل قام الدلیل على أن التحریک للحق لا لک .
کذلک التحریک لک لا للظل ، غیر أنک تعترض فلم تعرف قدرک ، وظلک لا یعترض.
یا من هو ظله أعلم بقدره منه متى تفلح ، ما مدت الظلال للاستظلال ، وإنما مدت لتکون سلما إلى معرفة الله معک.
فأنت الظل و سیقبضک إلیه ، فمن نظر إلى ظله عرف أن حکمه فی الحرکة والسکون من أصله .
فأراد الحق منک أن تکون معه کظلک معک ، من عدم الاعتراض علیه فیما یجریه علیک ، والتسلیم والتفویض إلیه فیما تصرف فیک به.
وینبهک بذلک أن حرکتک عین تحری?ه وأن س?ونک کذلک .
ما الظل یحرک الشخص ، کذلک فلتکن مع الله.
فإن الأمر کما شاهدته ، فهو المؤثر فیک .
- راجع کتاب التراجم .
ص 140
قال الشیخ رضی الله عنه : ( الیمین والشمال إلا دلائل لک علیک وعلیه لتعرف من أنت وما نسبتک إلیه وما نسبته إلیک حتى تعلم من أین أو من أی حقیقة إلهیة اتصف ما سوى الله بالفقر الکلی إلى الله، وبالفقر النسبی بافتقار بعضه إلى بعض.
وحتى تعلم من أین أو من أی حقیقة اتصف الحق بالغناء عن الناس والغناء عن العالمین، واتصف العالم بالغناء أی بغناء بعضه عن بعض من وجه ما هو عین ما افتقر إلى بعضه به. فإن العالم مفتقر إلى الأسباب بلا شک افتقارا ذاتیا.
وأعظم الأسباب له سببیة الحق"13": ولا سببیة للحق یفتقر العالم إلیها سوى الأسماء الإلهیة.
والأسماء الإلهیة کل اسم یفتقر العالم إلیه من عالم مثله أو عین الحق.
فهو الله لا غیره ولذلک قال: «یا أیها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغنی الحمید». ومعلوم أن لنا افتقارا من بعضنا لبعضنا.
فأسماؤنا أسماء الله تعالى إذ إلیه الافتقار بلا شک "14"، و أعیاننا فی نفس )
___________________________________
13 - السبب الأول
اعلم أن الأول أفضل الأشیاء وأعلاها ، لأنه لا یکون عن شیء بل تکون الأشیاء عنه ، فلو کان عن شیء لم تصح له الأولیة على الإطلاق ، والعبد من حین عینه عن أولیات کثیرة قبله .
وأعنی بذلک الأسباب ، فهو سبحانه السبب الأول الذی لا سبب لأولیته ، والأسباب استرقت العالم حتى لا یعرفوا سواها ، وأعلاهم فی الرق الذین استرقتهم الأسماء الإلهیة.
ولیس أعلى من هذا الاسترقاق لا استرقاق أحدیة السبب الأول من کونه سببا لا من حیث ذاته .
ومع هذا فینبغی لهم أن لا تسترقهم الأسماء لغلبة نظرهم إلى أحدیة الذات من کونه ذاتا لا من کونه إلها .
الفتوحات ج 1 / 391 ، 563 .
14 - تجلی الحق فی صور الأسباب " یا أیها الناس أنتم الفقراء إلى الله "
فی هذا الخطاب تسمیة الله بکل اسم هو لمن یفتقر إلیه فیما یفتقر إلیه ، وهو من باب الغیرة الإلهیة حتى لا یفتقر إلى غیره ، والشرف فیه إلى العالم بذلک.
فإن من الناس من افتقر إلى الأسباب الموضوعة کلها ، وقد حجبتهم فی العامة عن الله .
وهم على الحقیقة ما افتقروا فی نفس الأمر إلا إلى من بیده قضاء حوائجهم وهو الله.
ولهذا قال بعض العلماء بأن الله قد تسمی بکل ما یفتقر إلیه فی الحقیقة ، ودلیلهم هذه الآیة ، فقد تسمى الله فی هذه الآیة بکل ما یفتقر إلیه ، لما اتصف لعباده بالغیرة أظهر حکمها ، فأبان لهم أنه المتجلی فی صورة کل شیء حتى لا یفتقر إلا إلیه خاصة.
ص 141
قال الشیخ رضی الله عنه : ( الأمر ظله لا غیره. فهو هویتنا لا هویتنا،"15" و قد مهدنا لک السبیل فانظر.)
_________________________________
فقال عز وجل « یا أیها الناس أنتم الفقراء إلى الله » فتحقق رکون الناس إلى صور الأسباب وافتقارهم إلیها . وأثبت الله افتقار الناس إلیه لا إلى غیره .
لیبین لهم أنه المتجلی فی صور الأسباب ، وأن الأسباب التی هی صور حجاب عنه ، لیعلم ذلک العلماء لعلمهم بالمراتب .
فالحق عین السبب إذ لولاه ما کان العالم ، وکل ما یفتقر إلیه فهو اسم الله تعالى إذ لا یفتقر إلا إلیه ، وإن لم یطلق علیه لفظ من ذلک.
فنحن إنما تعتبر المعانی التی تفید العلوم ، أما التحجیر ورفع التحجیر فی الاطلاق علیه سبحانه فذلک إلى الله.
فما اقتصر علیه من الألفاظ فی الإطلاق اقتصرنا علیه ، فإنا لا نسمیه إلا بما سمى به نفسه ، وما منع من ذلک منعناه أدبا مع الله .
ففی هذه الآیة تسمى الحق لنا باسم کل ما یفتقر إلیه غیرة منه أن یفتقر إلى غیره ، وکان فی هذا الخطاب هجاء للناس حیث لم یعرفوا ذلک إلا بعد التعریف الإلهی فی الخطاب الشرعی على ألسنة الرسل علیهم السلام .
ومع هذا أنکر ذلک خلق کثیر ، وخصوه بأمور معینة یفتقر إلیه فیها ، ولا فی کل الأمور من اللوازم التابعة للوجود التی تعرض مع الآفات للخلق .
و کان ینبغی لنا لو کنا متحققین بفهم هذه الآیة أن نبکی بدل الدموع دما ، حیث جهلنا هذا الأمر من نفوسنا إلى أن وقع به التعریف الإلهی ، فکیف حال من أنکره وتأوله وخصصه .
الفتوحات ۲۹۳ج 2 / 263 ، 469 ، 490 ، 601 - ج 3 / 35 - ج 4 / 196
15 - راجع وحدة الوجود ص 45 ، 84
ص 142