الفقرة الحادیة والعشرون :
کتاب تعلیقات د أبو العلا عفیفی على فصوص الحکم الشیخ الأکبر ابن العربی 1385 هـ :
10 - الفص العاشر حکمة أحدیة فی کلمة هودیة
(1) «أحدیَّة الصراط المستقیم».
(1) شرحنا من قبل فی مناسبات عدة بعض نواحی «الأحدیة»: فتکلمنا عن أحدیة الذات الإلهیة المنزهة عن الوصف المجردة عن جمیع النسب و الإضافات، التی لا یرقى إلیها عقل و لا یحیط بها علم.
و تکلمنا عن أحدیة الأسماء الإلهیة التی وصفناها بأنها أحدیة الکثرة من حیث إن الأسماء الإلهیة دلالات مختلفة على ذات واحدة، و مجالٍ متعددة فی عین واحدة هی عین الحق.
و لنا أن نسمی هذه الأحدیة أیضاً أحدیة الاثنینیة لأنها مقام الجمع بین الحق و الخلق: اللَّه و العالم أو الذات الإلهیة و الأسماء.
و هنا نجد نوعاً ثالثاً من الأحدیة یتحدث عنه ابن العربی و هو أحدیة الأفعال التی یشیر إلیها فی فاتحة هذا الفص باسم الصراط المستقیم و فی فاتحة الکتاب (الفصوص) باسم الطریق الأمم.
و معنى الصراط المستقیم- أو الطریق الأمم- الطریق الذی یسیر فیه الکون بأسره و تلتقی عنده جمیع الطرق مهما تشعبت و اختلفت و افترقت.
و هو الطریق الذی خطته ید القدر من الأزل: لا یعتریه تغییر و لا تبدیل، و لا یحید عنه موجود أیاً کان.
و لنا أن ننظر إلیه من نواح متعددة: فمن ناحیة أفعال العباد- بل أفعال الکائنات کلها- هو طریق الجبریة التی یخضع لها کل کائن فیما یصدر عنه من الأفعال و الآثار، فإن جمیع ما یظهر فی الوجود إنما یخضع لطبیعة الوجود ذاتها.
و هذا معنى أحدیة الأفعال لأن الأفعال تظهر بمقتضى قوانین الوجود الحتمیة التی هی قوانین الحق.
و هذا الطریق الجبری نفسه هو الطریق الذی یسیر فیه العالم کله فی نظامه
و ترکیبه و حرکاته و سکناته و تغیراته، و لکنه لیس طریق الجبریة المیکانیکیة أو المادیة التی یتکلم عنها بعض المحدثین أو التی تکلم عنها الرواقیون.
و إذا نظرنا إلى الطریق المستقیم هذا من ناحیة الدین و المعتقدات وجدناه اسماً آخر لمذهب وحدة الوجود التی تلتقی فیها جمیع الأدیان و تتلاءم جمیع العقائد.
و تظهر الأحدیة فیه من ناحیة أن المعبود على الإطلاق و فی أی صورة عُبِدَ، هو اللَّه لا غیره. هذه هی ناحیة الاحدیة الملحوظة فی هذا الفص و إن کانت النواحی الاخرى لم یغفل ذکرها تماماً.
(2) «و المآل إلى الرحمة التی وسعت کل شیء، و هی السابقة».
(2) یَستعمل کلمة الرحمة من الناحیة المیتافیزیقیة الصرفة بمعنى منح اللَّه الوجود لأی موجود. و لما کان الحق سبحانه هو واهب الوجود للموجودات جمیعاً وسعت رحمته کل شیء.
قال تعالى: «وَ رَحْمَتِی وَسِعَتْ کُلَّ شَیْءٍ»: لم یقل کل إنسان فقط و لا کل إنسان خیر أو مطیع. فالشرور و المعاصی إذن من رحمة اللَّه لأنها من الموجودات التی وسعتها الرحمة.
و لکننا إذا نظرنا إلى المسألة فی دائرة الاحکام الخلقیة، کان للرحمة معنى آخر مختلف بعض الشی ء عن المعنى السابق لأنها تصبح مرادفة لکلمة الرضا:
فرحم اللَّه فلاناً بهذا المعنى مرادف لقولنا رضی اللَّه عن فعله و أثابه علیه.
و لکن حتى بهذا المعنى نستطیع أن نقول إن اللَّه یرضى عن جمیع الأفعال خیرها و شرها و أن رحمته وسعت الأفعال کلها:
أولًا: لأن جمیع الأفعال تصدر بمقتضى الإرادة الإلهیة خاضعة للأمر التکوینی- کما قلنا- و إن کانت فی الصورة مخالفة للأمر الدینی الذی هو الامر التکلیفی.
ثانیاً: لأن جمیع الأفعال خیر فی ذاتها و لا توصف بالشر إلا بطریق العرض.
و إذا کانت شریة الأفعال عرضیة فغضب اللَّه من أجلها عرضی أیضاً (قارن ما قلناه فی صدق الوعد لا الوعید).
أما أسبقیة الرحمة فلأن اللَّه تعالى أوجد بها الأشیاء فی صور أعیانها الثابتة على نحو ما ظهرت علیه فی وجودها، و قبل أن یوجد تمییز بین خیر و شر أو طاعة و معصیة.
(3) «إذا دان لک الخلق فقد دان لک الحق» الأبیات
(3) الحق و الخلق، أو الوحدة و الکثرة- و فی الإنسان اللاهوت و الناسوت- وجها الحقیقة الوجودیة کما أسلفنا شرحه. فإن خضع جانب الخلق فی أی مخلوق لتصرف الإنسان، خضع تبعاً له جانب الحق فی ذلک المخلوق، لأن فی کل خلق وجهاً من وجوه الحق.
و لکن إذا خضع جانب الحق فی أی موجود متعین فلیس من الضروری أن یخضع الخلق فی جملته لأن الحق المذعن لا ینحصر فی الوجه الذی تجلى به لک و أذعن. فلیس من الضروری أن تنقاد الخلائق الأخرى لأن تجلیات الحق فیهم بحکم مجالیهم. فقد یخالف وجهه الذی تجلى به لک الوجوه التی تجلى بها لهم.
و قد ذهب الجامی (ج 2 ص 64) إلى أن المراد بالحق مرتبة الجمع و المراد بالخلق مرتبة الفرق: أی أننا إذا نظرنا إلى الکثرة (الخلق) لزم أن ننظر إلى الوحدة التی تضمها جمیعاً (الحق) و هذه الوحدة هی الذات الإلهیة. أما إذا نظرنا إلى الوحدة فقد لا نفکر مطلقاً فی الکثرة التی تتجلى فیها.
«فما فی الکون موجود تراه ما له نطق» إما أن نفهم هذا بمعنى أن کل موجود ینطق بتسبیح اللَّه و تقدیسه من حیث إنه مجلى من مجالی الحق و مظهر من مظاهر کماله کما قال تعالى: «وَ إِنْ مِنْ شَیْ ءٍ إِلَّا یُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لکِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِیحَهُمْ».
أو نفهم النطق بمعنى التفکیر و التعقل: أی فلیس فی الکون إلا ما فیه فکر و عقل مهما اختلفت درجات العقل فی الموجودات، و إن کنا لا ندرک عقولا غیر العقول الإنسانیة، و لا نتصل بها لعدم وجود المناسبة بیننا و بینها. و کلا التفسیرین جائز و له ما یؤیده من کلام المؤلف.
(4) «اعلم أن العلوم الإلهیة الذوقیة الحاصلة لأهل اللَّه مختلفة باختلاف القوى الحاصلة منها مع کونها ترجع إلى عین واحدة».
(4) المراد بالعلوم الإلهیة العلوم التی موضوعها اللَّه و صفاته و أسماؤه. و هی تحتوی العلم بأحکام الأسماء الإلهیة و لوازمها و کیفیة ظهورها فی مظاهر الوجود، کما تحتوی العلم بأعیان الموجودات الثابتة و أعیانها الخارجیة من حیث هی مظاهر للحق. على الأقل هذا معنى العلوم الإلهیة فی عرف أصحاب وحدة الوجود، و لغیرهم أن یفهموها فهماً آخر.
أما المراد بالذوق فهو کما یقول القیصری «ما یجده العالِم على سبیل الوجدان و الکشف لا البرهان و الکسب، و لا على طریق الأخذ بالایمان و التقلید» (مطلع خصوص الکلم: صفحة 193). هو العلم الذی یلقى فی القلب إلقاء فیذوق الملقى إلیه معانیه و لا یستطیع التعبیر عنها و لا وصفها.
و العلم الذوقی و لو أنه من نوع واحد إلا أنه یختلف باختلاف القوى التی یحصل بواسطتها، سواء أ کانت هذه القوى روحیة کقوى النفس أو حسیة کالجوارح.
أما حصوله عن طریق الجوارح فکما یدل علیه حدیث قرب النوافل الذی یقرر أن الحق یصیر سمع العبد و بصره و یده و لسانه.
و یفسره الصوفیة بأن العبد فی حال الفناء یسمع و یبصر و یبطش بالحق فی الحق، و تؤدی إلیه کل من هذه الجوارح من المعانی ما یدرکه ذوقاً و لا یمکنه الإفصاح عنه.
أما العلوم الذوقیة الحاصلة عن طریق القوى النفسیة العلیا کالقلب و الوهم و الخیال فقد سبقت الإشارة إلیها فی مناسبات أخرى.
و قوله «ترجع إلى عین واحدة» إما المراد به أن القوى التی تحصل بها العلوم الذوقیة ترجع کلها إلى ذات واحدة هی ذات الحق أو ذات العبد على الرغم من اختلافها، أو أن العلوم الذوقیة على الرغم من اختلاف أنواعها ترجع إلى أصل واحد لاشتراکها جمیعاً فی صفات و خصائص معینة. کالماء الذی هو حقیقة واحدة مع أن منه العذب الفرات و الملح الأجاج.
(5) «و هذه الحکمة من علم الأرْجُل».
(5) أی هذه الحکمة الأحدیة على نحو ما فسرناها فی التعلیقات السابقة من علم الأرجل المشار إلیه فی قوله تعالى: «وَ لَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِیلَ وَ ما أُنْزِلَ إِلَیْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَکَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ» (قرآن س 5 آیة 66) .
أی و لو أنهم أقاموا أحکام ما أنزل إلیهم من ربهم و عملوا به و تدبروا معانیه و کشفوا حقائقه، لفاضت علیهم العلوم الإلهیة من غیر کسب و عمل و هو الأکل من فوق، و لفازوا بالعلوم الحاصلة لهم من سلوکهم فی طریق الحق و تصفیة بواطنهم و هو الأکل من تحت الأرجل بدلیل قوله: «فإن الطریق الذی هو الصراط هو للسلوک علیه و المشی فیه».
و یشرح القاشانی (ص 186) الأکل من فوق و الأکل من تحت الأرجل شرحاً آخر فیفهم الأول بمعنى علم أسرار الفواعل التی هی الأسماء الإلهیة، و الثانی بمعنى علم القوابل السفلیة التی هی العالم و ما فیه.
و لو عرف الناس أسرار الوجود و أحکامه عن طریق تدبر ما انزل إلیهم من ربهم لکشفت لهم الحکمة الاحدیة.
(6) «فما مشوا بنفوسهم و إنما مشوا بحکم الجبر إلى أن وصلوا إلى عین القرب».
(6) عین القرب هی المقام الذی یصل إلیه السالک و یتحقق فیه من وحدته الذاتیة مع الحق، و هو الغایة التی یتجه إلیها جمیع الصوفیة من القائلین بوحدة الوجود.
و هم لا یسیرون فی طریقهم بحکم الاختیار، بل یساقون إلیه سوقاً بحکم الجبر المسیطر على کل الوجود فی مذهب ابن العربی. فالسالک الواصل إلى هذه الغایة مجبر على وصوله، و السالک الذی حرم الوصول إلیها مجبر على الحرمان.
و إلى الصنفین أشار بأهل الجنة و أهل جهنم: إذ الأولون حاصلون فی عین القرب من اللَّه، و الآخرون حاصلون فی عین البعد عنه.
و لیس للجنة و لا لجهنم معنى عنده إلا ذاک. فإنه یعرف جهنم بأنها البعد الذی یتوهمه الإنسان بینه و بین الحق. و فی جهنم عذاب ألیم و ذل عظیم هما عذاب الحجاب و ذله، و لکن مآل أهل جهنم إلى النعیم کما قلنا من قبل لأنهم یحصلون بعد فترة من عذاب البعد فی عین القرب من اللَّه. قارن الأبیات الواردة فی آخر الفص السابع و التعلیق الحادی عشر علیها.
(7) «فهو حق مشهود فی خلق متوهم».
(7) تحتمل هذه العبارة أحد المعنیین الآتیین: الأول أن العبد أو أی ممکن من الممکنات هو الحق المرئی فی الصور، و أن الصور لا وجود لها فی ذاتها.
فکل من أثبت لها وجوداً مستقلًا عن وجود الحق فقد وهم. الثانی أن العبد أو أی ممکن من الممکنات هو الحق الذی ینکشف للصوفی فی شهوده. أما الصور التی یدرکها الحس فهی صور متوهمة لا وجود لها فی ذاتها.
و لیس هناک کبیر فرق بین المعنیین بدلیل أنه یجملهما معاً فی قوله بعد ذلک مباشرة «فالخلق معقول و الحق محسوس مشهود عند المؤمنین و أهل الکشف و الوجود» فینکر وجود الخلق إلا فی صورة عقلیة متوهمة، و یثبت وجود الحق وجوداً محسوساً مشهوداً: أی وجوداً یقربه الحس و الذوق معاً.
و الوجود الوارد فی قوله: «أهل الکشف و الوجود» اسم یستعمله الصوفیة مرادفاً لکلمة الفناء: أی فناء الصفات البشریة و بقاء الصفات الإلهیة: فهو الحال الذی لا یشاهد فیه الصوفی إلا الوجود الحقیقی الذی هو وجود الحق. و لیس الوجد الصوفی إلا مقدمة لحالة الوجود هذه.
راجع القشیری فی الرسالة ص 34 و تعریفات الجرجانی ص 171.
( 8 ) «و بقیت على هیاکلهم الحیاة الخاصة بهم من الحق التی تنطق بها الجلود و الأیدی و الأرجل و عذبات الأسواط و الأفخاذ»:
( 8 ) تشیر العبارة المذکورة إلى قوله تعالى: «یَوْمَ تَشْهَدُ عَلَیْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَ أَیْدِیهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ بِما کانُوا یَعْمَلُونَ» (س 24 آیة 24).
ویجمع معظم شرّاح الفصوص على أن المؤلف یشیر هنا إلى نوعین من الحیاة: الحیاة الفائضة من الحق مباشرة على جمیع الممکنات ما وصف منها عادة بالحیاة و ما لم یوصف، و الحیاة المتعینة فی کل کائن على حدة و هی نفسه التی تدبر بدنه و تبدو أنها تختفی بفناء البدن.
وهذه الأخیرة متصلة بالبدن مفتقرة إلیه فی تدبیرها له، و تفنى من حیث هی مدبّرة له بفنائه.
ولکن الأولى لا تفنى أبداً ولا تنقطع لأنها ساریة فی جمیع الموجودات، موجودة حیثما توجد ذات الحق.
فالذی أفنته الریح من قوم عاد إنما هو حیاتهم أو نفوسهم المدبرة لأجسامهم، و لکنهم بقوا بالحیاة الأخرى الخاصة بهم الناشئة من تجلی الحق سبحانه علیهم بالاسم الحی الساری فی کل شی ء. و هذا معنى قوله: «و بقیت على هیاکلهم الحیاة الخاصة بهم من الحق».
و هذه الحیاة الخاصة هی التی تنطق بها الجلود و الأیدی و الأرجل إلخ .. یوم القیامة.
أما إذا اعتبرنا هلاک قوم عاد بالریح التی أرسلها اللَّه علیهم رمزاً لفناء الإنسان فی اللَّه و تحققه بوحدته الذاتیة معه، و إشارة إلى زوال ما یتخیل العبد أنه حجاب حقیقی بینه و بین ربه، فإن «مساکنهم» الواردة فی قوله تعالى: «فَأَصْبَحُوا لا یُرى إِلَّا مَساکِنُهُمْ» تصبح أیضاً رمزاً على الصورة الانسانیة و ما فیها من جسم و روح لا وجود لهما فی ذاتهما.
فلما زالوا من الوجود بقی الحق الذی هو عینهم. و کذلک العارف إذا فنی بصورته- أی إذا تحقق أنه لا وجود له فی ذاته بقی بالحق.
(9) «و من غیرته «حرم الفواحش»: و لیس الفحش إلا ما ظهر، و أما فحش ما بطن فهو لمن ظهر له».
(9) یصف الصوفیة اللَّه سبحانه بالغیرة على أنحاء شتى: فیرى بعضهم أنه غیور بمعنى أنه لا یحب أن ینکشف السر الذی بینه و بین عبده. و یرى الآخرون أنه غیور یمنع أن یحبَّ أو یعبد، إلى غیر ذلک من المعانی.
و یستندون فی نسبة هذه الصفة إلى اللَّه حدیث یروونه عن النبی و هو قوله علیه السلام: «إن سعداً لغیور و أنا أغیر منه و اللَّه أغیر منا». و لکن الغیرة التی یتکلم عنها ابن العربی شیء آخر لم یسبق لأحد من الصوفیة أن ذکره: فهو فی الوقت الذی یستعمل الکلمة فیه فی معناها العادی و هو دفع منافسة الغیر فی أمر محبوب، یقول إنها مرادفة لکلمة الغیر أو الغیریة!.
ثم یأتی فیفسر کلمة الفواحش بأنها الأمور التی ظهرت و کان الأوْلى إخفاؤها.
و یقسّم الفواحش قسمین:
ما ظهر منها و هی الأمور التی تدرک بالحس فی العالم الخارجی.
و ما بطن- و هو الذات الإلهیة.
و فحشها (أی ظهورها) واضح لمن ظهرت له: أی واضح لمن عرف أنها الظاهرة فی أعیان الممکنات.
بعد هذه الألاعیب اللفظیة التی لا یقره علیها لغة و لا عُرْف، یمهد ابن العربی الطریق لشرح نظریته فی وحدة الوجود. فکأنه یرید أن یقول إن الحق غیور لا یرید أن یطلع المحجوبون من غیر أهل الکشف على سر قدره و هو ظهوره فی أعیان الممکنات، و لذا حرّم الفواحش أی الأمور الظاهرة: أی و لذا حرّم اعتبار الأعیان الظاهرة موجودات لها وجود مستقل عن وجوده. و هذا نوع من الغیرة و الغیرة ساترة للحقیقة لأنها من الغیر و الغیر أنت أی الوجود الظاهر المعبر عنه بالخلق.
(10) «و ما رأینا قط من عند اللَّه فی حقه تعالى فی آیة أنزلها أو إخبار عنه أوصله إلینا فیما یرجع إلیه إلا بالتحدید تنزیهاً کان أو غیر تنزیه».
(10) یرى المتکلمون أن فی القرآن و الحدیث ما یدل صراحة على تنزیه اللَّه أحیاناً، و فیهما ما یشعر بالتشبیه أحیاناً أخرى. و لکنهم اختلفوا فی معنى التشبیه و کیفیته.
أما ابن العربی فیرى أن کل ما ورد فی وصف اللَّه فیه معنى التحدید سواء أرید به التشبیه أو التنزیه. إذ مجرد الوصف تحدید للموصوف.
فوصف اللَّه بأنه کان فی عماء لیس فوقه هواء و لا تحته هواء تحدید.
و وصفه بأنه ینزل إلى السماء الدنیا و أنه فی السموات و فی الأرض و أنه مَعَنَا أینما کنا، کل ذلک تحدید.
بل إن وصفه بأنه لیس کمثله شی ء تحدید لأنه تمییز له عن المحدود، و من تمیز عن المحدود فهو محدود بأنه لیس مثل هذا المحدود.
و قد سبق أن ذکرنا فی تعلیقاتنا على الفص الثالث أن ابن العربی لا یرضى من معانی التنزیه إلا الإطلاق، و أن هذا الوصف لا یصدق إلا على الذات الإلهیة التی لا یمکن وصفها بغیر ذلک.
و کأنه خشی بعد أن ذکر أن الحق هو الظاهر فی صور الممکنات، المتعین بتعینها، أن یُرَدَّ علیه بالأدلة النقلیة التی تُنزه الحق عن صفات الخلق و ترفع عنه صفة التحدید، فأجاب بما أجاب به من أن کل ما ورد فی وصف الحق تحدید له.
على أن للتحدید معنى آخر عنده و هو التعریف، و قد أشرنا إلیه فی التعلیق الثانی على الفص الثالث.
و یظهر أنه هو المراد فی قوله بعد الذی شرحناه مباشرة «فهو (أی الحق) محدود بحد کل محدود.
فما یحد شی ء إلا و هو حد الحق» أی أننا إذا أردنا وضع تعریف للحق لا للذات المجردة المعراة عن جمیع النسب و الإضافات- کان تعریفه مجموع تعریفات الموجودات.
أما الذات الإلهیة من حیث هی فغیر معروفة و غیر قابلة للتعریف.
(11) «فیه منه إن نظر ت بوجه تعوذی»
(11) هذا الوجه هو وجه الأحدیة، فإنک إذا افترضت وحدة الوجود و قلت إن العالم لیس إلا صورة الحق المتجلی فی أسمائه و صفاته، و إن ما فیه مما یسمى عادة شراً لیس إلا مجلى لبعض أسمائه، و ما فیه مما یسمى خیراً لیس إلا مجلى لأسماء أخرى.
لزم أن تقول إن الاستعاذة بالحق من أی شیء إنما هی به منه، أو استعاذة ببعض أسمائه من أسمائه الأخرى.
و على هذا یفسر قولنا: «أعوذ باللَّه من الشیطان الرجیم» بأن معناه أعوذ باسم اللَّه الهادی من اسمه المضل.
و بهذه الطریقة فسروا قول النبی «أعوذ بک منک»: أی أعوذ برضاک من سخطک أو ما شاکل ذلک.
(12) «و لهذا الکرب تنفس فنسب النَّفَس إلى الرحمن لأنه رحم به ما طلبته النسب الإلهیة من إیجاد صور العالم التی قلنا هی ظاهر الحق».
(12) النَّفَس هنا عبارة عن الوجود العام المنبسط على أعیان الموجودات، کما أنه یستعمل مرادفاً لکلمة الهیولى الحاملة لصور الوجود و هی الذات الإلهیة.
و قد أضیف النفس إلى الاسم الرحمن من قوله علیه السلام: «إنی أجد نفس الرحمن من قِبَل الیمن».
و قد ذکرنا أن من معانی الرحمة عند ابن العربی منح الأشیاء الوجود و إظهارها بالصور التی تظهر فیها. فبالنفس الرحمانی أظهر الحق الوجود- أو ظهر فی صوره فنفَّس عن الکرب الذی کان فی باطنه لأن التنفس فیه تفریج عن المکروب.
و هذا التشبیه الذی لا یخلو من شناعة فی حق الجناب الإلهی یشیر إلى حقیقة هامة و هی أن طبیعة الوجود طبیعة خالقة تأبى إلا الظهور و الإعلان عما کمن فیها، و أن خروج ما بالقوة إلى ما بالفعل فیض دائم من وجود الحق إلى وجود الخلق من الوجود الحقیقی إلى الوجود الإضافی. و لو لا هذا الفیض و الظهور لظل الوجود سراً منطویاً على نفسه یضطرب فی ذات الحق کما یضطرب النّفَس فی ذات المکروب.
و لکلمة النَّفَس المستعملة هنا مغزى آخر یجب أن نشیر إلیه و هی صلتها بکلمة التکوین «کن» التی هی صورة خارجة من صور النَّفَس. و لکن هذا لازم من لوازم التشبیه الذی استعمله ابن العربی و هو مولع باستقصاء جمیع لوازم تشبیهاته.
(13) «و لو لا التحدید ما أخبرت الرسل بتحول الحق فی الصور و لا وصفته بخلع الصور عن نفسه».
(13) أثبت فیما مضى جواز التحدید على الحق بظهوره فی صور المحدودات و حدَّه بحدودها، و استدل على قوله هذا ببعض الآیات و الأحادیث التی تشعر بالتشبیه و من ثم بالتحدید.
و قال هنا و لو لا أن التحدید واقع بالفعل فی حق اللَّه ما وصفه الرسل بالتحول فی الصور.
فقد ورد فی حدیث عن النبی صلى اللَّه علیه و سلم أنه قال: «إن الحق یتجلى یوم القیامة للخلق فی صورة منکرة فیقول: أنا ربکم الأعلى فیقولون نعوذ باللَّه منک، فیتجلى فی صورة عقائدهم فیسجدون له».
أی إذا کان الحق یظهر یوم القیامة فی الصور المحدودة التی تُعْرَف و تُنْکَر فلِمَ لا یظهر فی الدنیا بصورة محدودة أیضاً؟
و لکن ابن العربی نفسه لا یفهم من هذا الحدیث إلا أن کل عبد یعرف اللَّه فی صورة معتقده الخاص و ینکره فی صور معتقدات الآخرین، و أن هذا فی رأیه عین الحجاب، لأن الذوق و الکشف یؤیدان أن الحق هو الظاهر فی صور المعتقدات جمیعاً.
و لا أحسبه یرى فی وصف الحق بالتجلی فی الصور یوم القیامة إلا ضرباً من التمثیل.
و إذا کان الأمر کذلک، و إذا ثبت أن کل صورة من صور الحق فی معتقداتنا لا بدّ، و أن ینالها التحدید و التقیید، لأن العقل الانسانی لا یدرک إلا المحدد المقیَّد، فکیف یستدل بهذه الحقیقة السیکولوجیة على صحة دعوى میتافیزیقیة تقول بأن الحق هو عین ما ظهر فی صورة کل محدود و مقید؟
أما دعوته إلى عدم حصر الحق فی صورة معینة من صور المعتقدات فظاهرة فی قوله فیما بعد «فإیاک أن تتقید بعقد مخصوص و تکفر بما سواه فیفوتک خیر کثیر، بل یفوتک العلم بالأمر على ما هو علیه. فکن فی نفسک هیولى لصور المعتقدات کلها» إلخ إلخ ...
و یشیر إلى إله المعتقدات بأنه إله مجعول أی مخلوق فی الاعتقاد فی قوله «فالإله فی الاعتقادات بالجعل».
(14) «فمن عباد اللَّه من تدرکهم تلک الآلام فی الحیاة الأخرى فی دار تسمى جهنم» ... إلى آخر الفص.
(14) بعد أن شرح اختلاف الناس فی اعتقاداتهم فی اللَّه و بیّن أن کلًا منهم یراه فی الصورة التی یصوّرها له اعتقاده و یقضی بها استعداده، ذکر أن الکل مصیب فی رأیه- و إن کانت درجة الإصابة تتسع و تضیق بحسب اتساع الاعتقاد و ضیقه و أن کل مصیب مأجور، و کل مأجور سعید.
فکأن مآل الناس جمیعاً فیما یتعلق بعقائدهم فی اللَّه هو السعادة و النعیم فی الدار الآخرة، کما سبق أن بیّن أن مآلهم فیما یتعلق بأعمالهم النعیم أیضاً.
و لیست جنة ابن العربی و لا جهنمه إلا الحالة الروحیة التی تکون علیها النفس الجزئیة بعد مفارقتها البدن و أهم عامل فی سعادتها أو شقائها درجة معرفتها باللَّه و بالوحدة الذاتیة فی الوجود.
فمن عرف هذه الوحدة حق معرفتها و تحقق بها حظی بالسعادة العظمى، و من جهل تلک الوحدة جهل سر الوجود و حقیقته و مصدره و مصیره، و کان حظه الشقاوة و العذاب.
و لکنه عذاب موقوت یرتفع برفع الحجاب أی برفع الجهل. فإذا ما انکشفت الحقیقة، زال معنى جهنم فی حق أهلها و حلّ محله النعیم المقیم.
و هو نعیم خاص بهم إما بفقد الألم الذی کانوا یجدونه فی حالة جهلهم، أو بشعورهم بنعیم آخر مستقل کنعیم أهل الجنان فی الجنان.
قارن التعلیقین الثانی و السادس على هذا الفص.