عرفان شیعی

عرفان اسلامی در بستر تشیع

عرفان شیعی

عرفان اسلامی در بستر تشیع

الفقرة الثانیة والعشرون :


شرح فصوص الحکم من کلام الشیخ الأکبر ابن العربی أ. محمد محمود الغراب 1405 هـ:

 10 - فص حکمة أحدیة فی کلمة هودیة

قال الشیخ رضی الله عنه : ( إن لله الصراط المستقیم ... ظاهر غیر خفی فی العموم

فی صغیر وکبیر عینه ... وجهول بأمور وعلیم

ولهذا وسعت رحمته ... کل شیء من حقیر وعظیم "2"

«ما من دابة إلا هو آخذ بناصیتها إن ربی على صراط مستقیم».

فکل ماش فعلى صراط الرب المستقیم.

فهو غیر مغضوب علیهم من هذا الوجه ولا ضالون. فکما کان الضلال عارضا کذلک الغضب الإلهی عارض، والمآل إلى الرحمة التی وسعت کل شیء، وهی السابقة.

وکل ما سوى الحق دابة فإنه ذو روح. وما ثم من یدب بنفسه وإنما یدب بغیره. فهو یدب بحکم التبعیة للذی هو على الصراط المستقیم، فإنه لا یکون صراطا إلا بالمشی علیه.)

..............................................................

 

1 - المناسبة فی تسمیة هذا الفص :

هو أن لکل دابة صراطا مستقیما تمشی علیه وهو قول هود علیه السلام « ما من دابة إلا هو آخذ بناصیتها إن ربی على صراط مستقیم » .

ولهذا کانت المناسبة مع الأحدیة فإن الخط المستقیم الذی یصل بین البدایة والنهایة واحد لا ثانی له .

ولذلک خط رسول الله صلى الله علیه وسلم الله علیه السلام وسلم خطا ثم خط على جانبیه خطوطا ثم تلا « وأن هذا صراطی مستقیما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بکم عن سبیله ».

 فإذا عرف الصراط بالألف واللام أو بالاضافة فهو صراط واحد وهو شرع الله تعالى المنزل من عنده ، وإذا نکر الصراط فهو أیضا واحد وهو ما یمشی علیه المکلف إما إلى سعادته أو شقاوته فإن الله آخذ بناصیته على هذا الصراط ، ومن هنا کان مذهب الشیخ رضی الله عنه عدم سرمدة العذاب وشمول الرحمة فإن المکلف مجبور فی اختیاره .

 

2- راجع هامش رقم 1  

 

ص 143

 

قال الشیخ رضی الله عنه : (

إذا دان لک الخلق ... فقد دان لک الحق  "3"

و إن دان لک الحق ... فقد لا یتبع الخلق "4"

فحقق قولنا فیه ... فقولی کله الحق  "5"

فما فی الکون موجود ... تراه ما له نطق  "6"

وما خلق تراه العین ... إلا عینه حق

ولکن مودع فیه ... لهذا صوره حق   "7"

اعلم أن العلوم الإلهیة الذوقیة الحاصلة لأهل الله مختلفة باختلاف القوى الحاصلة منها مع کونها ترجع إلى عین واحدة. "8"

فإن الله تعالى یقول : «کنت )

..............................................................

3 - « دان له » أی أطاعه یشیر بذلک أن الخلق إذا تبعک وأطاعک فقد دان لک الحق فإنه هو الآخذ بناصیة الخلق .

4 - « وإن دان لک الحق » من قوله تعالى فی الحدیث القدسی « عبدی کن لی کما أرید أکن لک کما ترید » ومن قوله تعالى « أجیب دعوة الداعی » « فقد لا یتبع الخلق ، فلیس کل الخلق على الصراط المستقیم الذی تدعو إلیه وإن کانوا على صراط مستقیم .

5 - وهو الفرق بین الصراط المستقیم و بین قوله تعالى «إن ربی على صراط مستقیم» فکله حق .

6 - هو قوله تعالی " وإن من شیء إلا یسبح بحمده".

7 - إشارة إلى أنه تعالى "هو الظاهر فی المظاهر"  وإلى الوحدة فی الکثرة والکثرة فی الوحدة وما یقوله العامة عنها "وحدة الوجود" .

8 - العلوم الإلهیة الذوقیة

علوم الأذواق لا سبیل إلیها إلا بالذوق، فلا یقدر عاقل على أن یحدها ولا یقیم على معرفتها دلیلا، کالعلم بحلاوة العسل ومرارة الصبر ولذة الجماع والعشق والوجد والشوق وما شاکل هذا النوع من العلوم.

فهذه علوم من المحال أن یعلمها أحد إلا بأن یتصف بها ویذوقها ، وبالذوق تتمیز الأشیاء عند العارفین .

والکلام على الأحوال لا یحتمل البسط وتکفی فیه الإشارة إلى المقصود ، ومهما بسطت القول

 

ص  144

 

قال الشیخ رضی الله عنه : ( سمعه الذی یسمع به وبصره الذی یبصر به ویده التی یبطش بها ورجله التی یسعى بها. فذکر أن هویته هی عین الجوارح التی هی عین العبد. فالهویة واحدة والجوارح )

..............................................................

 

فیه أفسدته ، فعلوم الأذواق لا تنقال ولا تنحکی ، ولا یعرفها إلا من ذاقها ، ولیس فی الإمکان أن یبلغها من ذاقها إلى من لم یذقها .

وبینهم فی ذلک تفاضل لا یعرف ، ولا یمکن أن یعرف عین ما فضله به ، وما من أمر إلا وهو یقبل التعبیر عنه ، ولا یلزم من ذلک فهم السامع الذی لا یفهم ذلک الاصطلاح ولا تلک العبارة ، فإن علوم الأذواق والکیفیات وإن قبلت لا تنقال ، ولکن لما کان القول بها والعبارة عنها لإفهام السامع .

لذلک قالوا ما ینقال ، ولا یلزم ما لا یفهم السامع - المدرک له أن لا یصطلح مع نفسه على لفظ بدل به على ما ذاقه ، لیکون ذلک اللفظ منبها ومذکرة له إذا نسی ذلک فی وقت آخر ، وإن لم یفهم عنه من لا ذوق له فیه ، فالله یرزقنا الإصابة فی النطق والإخبار عما أشهدناه وعلمناه من الحق علم کشف و شهود وذوق ، فإن العبارة عن ذلک فتح من الله تأتی بحکم المطابقة ، وکم من شخص لا یقدر أن یعبر عما فی نفسه، وکم من شخص تفسد عبارته صحة ما فی نفسه ، والصحیح أن کل علم لا یکون عن ذوق فلیس بعلم أهل الله .

ولما کانت العلوم تعلو وتنضع بحسب المعلوم ، لذلک تعلقت الهمم بالعلوم الشریفة العالیة التی إذا اتصف بها الإنسان زکت نفسه وعظمت مرتبته ، فأعلاها مرتبة العلم بالله .

وأعلى الطرق إلى العلم بالله علم التجلیات ، ودونها علم النظر ، فالتجلی أشرف الطرق إلى تحصیل العلوم ، وهی علوم الأذواق .

ولما لم تر إلا التقلید ترجح عندنا تقلید هذا المسمى برسول والمسمى بکلام الله ، وعملنا علیه تقلیدا حتى کان الحق سمعنا وبصرنا فعلمنا الأشیاء بالله .

فرجال الله علموا الله بإعلام الله ، فکان هو علمهم کما کان بصرهم.

 فمثل هؤلاء لو تصور منهم نظر فکری لکان الحق عین فکرهم کما کان عین علمهم وعین بصرهم وسمعهم ، لکن لا یتصور من یکون مشهده هذا وذوقه أن یکون له فکر البتة فی شیء إنما هو مع ما یوحی إلیه على اختلاف ضروب الوحی ، وإنه من ضروب الوحی الفهم عن الله ابتداء من غیر تعکر ، فإن

 

ص  145  


قال الشیخ رضی الله عنه : ( مختلفة. "9"

ولکل جارحة علم من علوم الأذواق یخصها من عین واحدة تختلف باختلاف الجوارح، کالماء حقیقة واحدة مختلف فی الطعم باختلاف البقاع، فمنه عذب فرات ومنه ملح أجاج، وهو ماء فی جمیع الأحوال لا یتغیر عن حقیقته وإن اختلفت )

..............................................................

 

أعطی الفهم عن تفکر فما هو ذلک الرجل فإن الفهم عن الفکر یصیب وقتا ویخطىء وقتا ، والفهم لا عن فکر وحی صحیح صریح من الله لعبده ، وذوق الأنبیاء علیهم السلام فی هذا الوحی یزید على ذوق الأولیاء .

وأهل الله من الأنبیاء والأولیاء ینسبون فیما یدرکونه من العلوم على غیر الطریق المعتادة ، فإذا أدرکوها تسبوا إلى تلک الصفة التی أدرکوا بها المعلومات ، فیقولون فلان صاحب نظر أی بالنظر یدرک جمیع المعلومات .

وهذا ذقته مع رسول الله صلى الله علیه وسلم ، وفلان صاحب سمع ، وفلان صاحب طعم ، وصاحب نفس وأنفاس یعنی الشم ، وصاحب لمس.

فمن علوم الوهب العلم عن النظرة والضربة والرمیة وکیف نقوم هذه الأمور مقام کلام العالم للمتعلم ، وذوقنا من هذا الفن ذوق النظرة فتستفاد علوم کثیرة من مجرد ضرب أو نظر ، قد رأینا هذا کله بحمد الله من نفوسنا فلا نشک فیه .

الفتوحات ج 1 / 31 ، 166 ، 214 ، 483 ، 551 - ج 2 / 298 ، 482 ، 608 ، 754 .

ج 3 / 60 - ج 4 / 38 .

 

9 -  فإذا أحببته کنت سمعه .. الحدیث

اعلم أن القرب قربان:

قرب فی قوله تعالى «ونحن أقرب إلیه من حبل الورید » وقوله تعالى «وهو معکم أینما کنتم».

وقرب هو القیام بالطاعات وهو المقصود فی هذا الحدیث ، فالقرب الذی هو القیام بالطاعات فذلک القرب من سعادة العبد من شقاوته ، وسعادة العبد فی نیل جمیع أغراضه کلها ، ولا یکون ذلک إلا فی الجنة ، وأما فی الدنیا فإنه لابد من ترک بعض أغراضه القادحة فی سعادته .

فالقرب من السعادة بأن یطیع لیسعد ، وهذا هو الکسب فی الولایة بالمبادرة لأوامر الله التی ندب إلیها ، أما قوله « من أداء ما افترضته علیه » لأنها عبودیة اضطراریة « ولا یزال

 

ص 146


قال الشیخ رضی الله عنه : ( طعومه.

وهذه الحکمة من علم الأرجل وهو قوله تعالى فی الأکل لمن أقام کتبه: «ومن تحت أرجلهم». فإن الطریق الذی هو الصراط هو للسلوک علیه والمشی فیه، والسعی لا یکون إلا بالأرجل.

فلا ینتج هذا الشهود فی أخذ النواصی بید من هو على صراط )  

..............................................................

العبد یقترب إلی بالنوافل » وهی عبودیة اختیار « حتى أحبه » .

إذ جعلها نوافل ، فإذا ثابرت على أداء الفرائض فإنک تقربت إلى الله بأحب الأمور المقربة إلیه ، وإذا کنت صاحب هذه الصفة کنت سمع الحق و بصره .

وتکون یدک ید الحق « إن الذین بیا یعونک إنما یبایعون الله ید الله فوق أیدیهم » وهذه هی المحبة العظمى التی ما ورد فیها نص جلی کما ورد فی النوافل ، فإن للمثابرة على النوافل حبا إلهیا منصوصا علیه یکون الحق سمع العبد ونظره ، فانظر ما تنتجه محبة الله ، فثابر على أداء ما یصح به وجود هذه المحبة الإلهیة .

ولا یصح نفل إلا بعد تکملة الفرض ، فالحق سبحانه روح العالم وسمعه وبصره ویده ، فبه یسمع العالم و به یبصر وبه یتکلم وبه یبطش و به یسعى ، إذ لا حول ولا قوة إلا بالله العلی العظیم .

ولا یعرف هذا إلا من تقرب إلى الله بنوافل الخیرات ، کما ورد فی الحدیث الصحیح ، فانتبه لقوله « کنت سمعه الذی یسمع به ولسانه الذی یتکلم به وما تکلم إلا القائل فی الشاهد وهو الإنسان، وفی الإیمان الرحمن ، فمن کذب العیان کان قوی الإیمان ، ومن تردد فی إیمانه تردد فی عیانه ، فلا إیسان عنده ولا عیان ، فما هو صاحب مکان ولا إمکان .

ومن صدق العیان وسلم الإیمان کان فی أمان ، فإن الله أثبت أن ذلک للعبد بالضمیر عینه عبدا لا ربوبیة له ، وجعل ما یظهر به وعلیه ومنه أن ذلک هو الحق تعالى لا العبد فما ثم إلا حق لحق وحق لخلق ، فحق الحق ربوبیته ، وحق الخلق عبودیته.

فنحن عبید وإن ظهرنا بنعوته ، وهو ربنا وإن ظهر بنعوتنا ، فإن التعوت عند المحققین لا أثر لها فی العین المنعوتة.

ولهذا تزول بمقابلها إذا جاء ولا تذهب عینا .

فقوله تعالی « کنت سمعه وبصره » جعل کینوتنه سمع عبد منعوت بوصف خاص ، وهذا أعظم اتصال یکون من الله بالعبد حیث یزیل قواه من قواه ویقوم بکینوته فی العبد مقام ما أزال على ما یلیق بجلاله من غیر تشبیه ولا تکییف ولا حصر ولا إحاطة ولا حلول

 

ص 147

 

قال الشیخ رضی الله عنه : (

مستقیم إلا هذا الفن الخاص من علوم الأذواق. "10"

«فیسوق المجرمین» وهم الذین استحقوا المقام الذی ساقهم إلیه بریح الدبور التی أهلکهم عن نفوسهم بها، فهو یأخذ بنواصیهم والریح تسوقهم- وهو عین الأهواء التی کانوا علیها- إلى جهنم، وهی البعد الذی کانوا یتوهمونه.

فلما ساقهم إلى ذلک الموطن حصلوا فی عین القرب "11" فزال البعد فزال مسمى جهنم فی حقهم، ففازوا بنعیم القرب من جهة الاستحقاق لأنهم مجرمون.

فما أعطاهم هذا المقام الذوقی اللذیذ من جهة المنة، وإنما أخذوه بما استحقته حقائقهم من أعمالهم التی کانوا علیها، وکانوا فی السعی فی أعمالهم على صراط الرب المستقیم لأن نواصیهم کانت بید من له هذه الصفة.

فما مشوا بنفوسهم وإنما مشوا بحکم الجبر إلى أن وصلوا إلى عین القرب. "12"

«ونحن أقرب إلیه منکم ولکن لا تبصرون»: وإنما هو یبصر فإنه مکشوف الغطاء «فبصره حدید». وما خص میتا من میت أی ما خص سعیدا فی القرب من شقی. )

 

..............................................................

ولا بدلیه ، فإنه أثبت عین الشخص بوجود الضمیر فی قوله « کنت سمعه » فهذه الهاء عینه ، والصفة عین الحق لا عینه ، فالشخص محل لأحکام هذه الصفات التی هی عین الحق لا غیره .

کما یلیق بجلاله ، فنعته سبحانه بنفسه لا بصفته ، فهذا الشخص من حیث عینه هو ومن حیث صفته لا هو ، وهذا من ألطف ما یکون فظهور رب فی صورة خلق عن إعلام إلهی لا تعرف له کیفیة ولا تنفک عنه بینیة .

والکرامة التی حصلت لهذا الشخص إنما هی الکشف والاطلاع لا أنه لم یکن الحق سمعه ثم کان ، والجاهل إذا سمع ذلک أداه إلى فهم محظور من حلول أو تحدید ، فبالوجه الذی یقول فیه الحق إنه سمع العبد به بعینه یقول إنه حیاة العبد وعلمه وجمیع صفاته .

فمثلا سر الحیاة سری فی الموجودات فحییت بحیاة الحق ، فهی نسب وإضافات وشهود حقائق ، والله هو العلی الکبیر عن الحلول والمحل.

الفتوحات ج 3 / 14 ، 63 ، 68 ، 184 ، 298 ، 356 ، 531 ، 557 .

ج 4 / 5 ، 362 ، 449 .

 

10 - هو قوله فی أول الفص « ولهذا وسعت رحمته کل شیء » .

11 ، 12  - هو القرب الأول المشار إلیه فی رقم .9

 

ص 148


قال الشیخ رضی الله عنه : (

«ونحن أقرب إلیه من حبل الورید» وما خص إنسانا من إنسان. فالقرب الإلهی من العبد لا خفاء به فی الإخبار الإلهی.

فلا قرب أقرب من أن تکون هویته عین أعضاء العبد وقواه، ولیس العبد سوى هذه الأعضاء والقوى فهو حق مشهود فی خلق متوهم.

فالخلق معقول والحق محسوس مشهود عند المؤمنین وأهل الکشف والوجود.

وما عدا هذین الصنفین فالحق عندهم معقول والخلق مشهود. "13"

فهم بمنزلة الماء الملح الأجاج، والطائفة الأولى بمنزلة الماء العذب الفرات السائغ لشاربه.

فالناس على قسمین: من الناس من یمشی على طریق یعرفها ویعرف غایتها، فهی فی حقه صراط مستقیم.

ومن الناس من یمشی على طریق یجهلها ولا یعرف غایتها وهی عین الطریق التی عرفها الصنف الآخر.

فالعارف یدعو إلى الله على بصیرة، وغیر العارف یدعو إلى الله على التقلید والجهالة.

فهذا علم خاص یأتی من أسفل سافلین، لأن الأرجل هی السفل من الشخص، وأسفل منها ما تحتها ولیس إلا الطریق. فمن عرف أن الحق عین الطریق عرف الأمر على ما هو علیه، فإن فیه جل وعلا تسلک وتسافر إذ لا معلوم إلا هو، وهو عین الوجود والسالک والمسافر. "14"

فلا عالم إلا هو فمن أنت؟ فاعرف حقیقتک وطریقتک، فقد بان لک الأمر على لسان الترجمان إن فهمت.

وهو لسان حق فلا یفهمه إلا من فهمه حق: فإن للحق نسبا کثیرة و وجوها مختلفة: ألا ترى عادا قوم هود کیف «قالوا هذا عارض ممطرنا» فظنوا خیرا بالله تعالى وهو عند ظن عبده به.

فأضرب لهم الحق عن هذا القول فأخبرهم بما هو أتم وأعلى فی القرب، فإنه إذا أمطرهم فذلک حظ الأرض وسقى الحبة فما یصلون إلى نتیجة ذلک المطر إلا عن بعد فقال لهم: «بل هو ما استعجلتم به ریح فیها عذاب ألیم»: فجعل الریح إشارة إلى ما فیها من الراحة فإن بهذه الریح أراحهم من هذه الهیاکل المظلمة والمسالک الوعرة والسدف المدلهمة، وفی هذه الریح عذاب أی أمر یستعذبونه إذا ذاقوه، إلا أنه یوجعهم لفرقة المألوف. فباشرهم العذاب فکان الأمر إلیهم أقرب مما تخیلوه فدمرت کل شیء بأمر ربها، فأصبحوا لا یرى إلا مساکنهم» وهی جثتهم التی عمرتها أرواحهم الحقیة.

فزالت حقیة هذه النسبة الخاصة وبقیت على هیاکلهم الحیاة الخاصة بهم من الحق التی تنطق بها الجلود والأیدی والأرجل وعذبات الأسواط والأفخاذ.

وقد ورد النص الإلهی بهذا کله،"15" إلا أنه تعالى وصف نفسه بالغیرة)

  

..............................................................

 

13 - هو القرب الثانی المشار إلیه فی رقم ۰9

14 - وحدة الوجود فص 5 هامش 6.

راجع الفقرة 

15 - إشارة إلى المآل للرحمة - راجع شمول الرحمة فص 7 رقم ۰17

"" 17 ۔ شمول الرحمة وعدم سرمدة العذاب  ص 117

من اختصاص البسملة فی أول کل سورة تتویج الرحمة الإلهیة فی منشور تلک السورة أنها منه کعلامة السلطان على مناشیره، وسورة التوبة والأنفال سورة واحدة قسمها الحق على فصلین ، فإن فصلها وحکم بالفصل فقد سماها سورة التوبة ، أی سورة الرجعة الإلهیة بالرحمة على من غضب علیه من العباد ، فما هو غضب أبد لکنه غضب أمد ، والله هو التواب .

 فما قرن بالتواب إلا الرحیم لیؤول المغضوب علیه إلى الرحمة ، أو الحکیم لضرب المدة فی الغضب وحکمها فیه إلى أجل ، فیرجع علیه بعد انقضاء المدة بالرحمة ، فانظر إلى الاسم الذی نعت به التواب تجد حکمه کما ذکرنا ، والقرآن جامع لذکر من رضی عنه وغضب علیه ، وتتویج منازله بالرحمن الرحیم ، والحکم للتتویج ، فإنه به یقع القبول ، وبه یعلم أنه من عند الله ، فثبت انتقال الناس فی الدارین فی أحوالهم من نعیم إلى نعیم ، ومن عذاب إلى عذاب ، ومن عذاب إلى نعیم ، من غیر مدة معلومة لنا ، فإن الله ما عرفنا ، إلا أنا استروحنا من قوله « فی یوم کان مقداره خمسین ألف سنة » أن هذا القدر مدة إقامة الحدود .

خلق الله الخلق قبضتین فقال هؤلاء للنار ولا أبالی ، وهؤلاء إلى الجنة ولا أبالی .

فمن کرمه تعالی لم یقل هؤلاء للعذاب ولا أبالی وهؤلاء إلى النعیم ولا أبالی وإنما أضافهم إلى الدارین لیعمروها ، فإنه ورد فی الخبر الصحیح أن الله لما خلق الجنة والنار قال لکل واحدة منهما لها علی" ملؤها ، أی أملؤها سکانا ، فیستروح من هذا عموم الرحمة فی الدارین وشمولها حیث ذکرهما ولم یتعرض لذکر الآلام وقال بامتلائهما وما تعرض لشیء من ذلک .

فکان معنى « ولا أبالی » فی الحالتین لأنهما فی المال إلى الرحمة ، فلذلک لا یبالی فیهما ، ولو کان الأمر کما یتوهمه من لا علم له من عدم المبالاة.

ما وقع الأخذ بالجرائم ، ولا وصف الله نفسه بالغضب ، ولا کان البطش الشدید ، فهذا کله من المبالاة والتهمم بالمأخوذ ، إذ لو لم یکن له قدر ما عذب ولا استعد له ، وقد قیل فی أهل التقوى إن الجنة أعدت للمتقین ، وقال فی أهل التقاء « وأعد لهم عذابا ألیما » فلولا المبالاة ما ظهر هذا الحکم .

فما أعظم رحمة الله بعباده وهم لا یشعرون ، فإن الرحمة الإلهیة وسعت کل شیء ، فما ثم شیء لا یکون فی هذه الرحمة « إن ربک واسع المغفرة » فلا تحجروا واسعا فإنه لا یقبل التحجیر ، ولقد رأیت جماعة ممن ینازعون فی اتساع رحمة الله وأنها مقصورة على طائفة خاصة ، فحجروا وضیقوا ما وسع الله .

فلو أن الله لا یرحم أحدا من خلقه لحرم رحمته من یقول بهذا ، ولکن أبی الله تعالى إلا شمول الرحمة ، قال تعالى لنبیه صلى الله علیه وسلم : « وما أرسلناک إلا رحمة للعالمین » ، وما خص مؤمنا من غیره ، والله أرحم الراحمین کما قال عن نفسه .

وقد وجدنا من نفوسنا ، وممن جبلهم الله على الرحمة انهم یرحمون جمیع العباد ، حتى لو حکمهم الله فی خلقه لأزالوا صفة العذاب من العالم ، بما تمکن حکم الرحمة من قلوبهم .

وصاحب هذه الصفة أنا وأمثالی مخلوقون أصحاب أهواء وأغراض ، وقد قال عن نفسه جل علاه أنه أرحم الراحمین ، فلا شک أنه أرحم منا بخلقه ، و نحن قد عرفنا من تفوسنا هذه المبالغة فی الرحمة .

فکیف یتسرمد، علیهم العذاب وهو بهذه الصفة العامة من الرحمة ، إن الله أکرم من ذلک ، ولا سیما وقد قام الدلیل العقلی على أن الباریء لا تنفعه الطاعات، ولا تضره المخالفات، وان کل شیء جار بقضائه وقدره وحکمه.

وأن الخلق مجبورون فی اختیارهم ، وقد قام الدلیل السمعی أن الله یقول فی الصحیح « یا عبادی » فأضافهم إلى نفسه ، وما أضاف الله قط العباد لنفسه إلا من سبقت له الرحمة ألا یؤبد علیهم الشقاء وإن دخلوا النار .

فقال : « یا عبادی لو أن أولکم وآخرکم وإنسکم وجنکم اجتمعوا على أتقى قلب رجل واحد منکم ما زاد ذلک فی ملکی شیئا ، یا عبادی لو أن أولکم وآخرکم وإنسکم وجنکم اجتمعوا على أفجر قلب رجل واحد منکم ما نقص ذلک من ملکی شیئا » .

وهذه مسألة المکاشف لها قلیل ، والمؤمن بها أقل ، وهو سر عجیب ، ما رأینا أحدا نبه علیه من خلق الله ، وإن کانوا قد علموه بلا شک ، وما صانوه والله أعلم إلا صیانة لأنفسهم ورحمة بالخلق .

لأن الإنکار یسرع إلیه من السامعین ، ووالله ما نبهت علیه هنا إلا لغلبة الرحمة علیه فی هذا الوقت ، فمن فهم سعد ومن لم یفهم لم یشق بعدم فهمه وإن کان محروما ، فقد أظهرت أمرا فی هذه المسألة لم یکن باختیاری ، ولکن حق القول الإلهی بإظهاره ، فکنت فیه کالمجبور فی اختیاره ، والله ینفع به من یشاء لا إله إلا هو .

الفتوحات : ج 2 / 148 ، 244 ، 674 - ج 3 / 25 ، 100 ، 101 ، 383 .

 ج 4 / 163 .  ""

 

 

 

 

ص  149


قال الشیخ رضی الله عنه : (

ومن غیرته «حرم الفواحش» ولیس الفحش إلا ما ظهر.

وأما فحش ما بطن فهو لمن ظهر له. فلما حرم الفواحش أی منع أن تعرف حقیقة ما ذکرناه، وهی أنه عین الأشیاء، فسترها بالغیرة وهو أنت من الغیر.

فالغیر یقول السمع سمع زید، والعارف یقول السمع عین الحق، وهکذا ما بقی من القوى والأعضاء. "16" فما کل أحد عرف الحق:

فتفاضل الناس وتمیزت المراتب فبان الفاضل والمفضول.

واعلم أنه لما أطلعنی الحق وأشهدنی أعیان رسله علیهم السلام وأنبیائه کلهم البشریین من آدم إلى محمد صلى الله علیهم وسلم أجمعین فی مشهد أقمت فیه بقرطبة سنة ست وثمانین و خمسمائة، ما کلمنی أحد من تلک الطائفة إلا هود علیه السلام فإنه أخبرنی بسبب جمعیتهم، و رأیته رجلا ضخما فی الرجال حسن الصورة لطیف المحاورة عارفا بالأمور کاشفا لها."17"

ودلیلی على کشفه لها قوله: «ما من دابة إلا هو آخذ بناصیتها إن ربی على صراط مستقیم»."18" وأی بشارة للخلق أعظم من هذه؟   ) 

 

..............................................................

16 - راجع رقم 9 « کنت سمعه » ، رقم 14 وحدة الوجود .

17 - ذکرت بالفتوحات المکیة ج 4 / 77 .

18 - قول هود علیه السلام « ما من دابة إلا هو آخذ بناصیتها إن ربی على صراط مستقیم».

ما جاء فی هذه الفقرة من قوله « ودلیلی على کشفه لها » لا یصح صدوره عن الشیخ لأنه یناقض الثابت من قوله « ذوق الأنبیاء علیهم السلام فی هذا الوحی یزید على ذوق الأولیاء » .

وقوله «لا یتکلم فی الرسل إلا رسول ولا فی الأنبیاء إلا نبی » وقوله « إنی لست بنبی فذوق الأنبیاء لا یعلمه سواهم » وقوله فی هذه الآیة بالذات « إن الرسل لا تقول على الله إلا ما تعلمه منه فهم أعلم الخلق بالله ».

فهل بعد هذا یحتاج الشیخ إلى دلیل ؟!

"" تعقیب من الجامع : الحقیقة کل کلام قاله نبی الله هود علیه السلام فى الأیات قاله الله تعالى فی القرآن بعد أن تم وانتهى فقد قاله هود علیه السلام فی زمانه سابقا واصبح قصص للعبلاة تروى: "وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ یَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَکُمْ مِنْ إِلَهٍ غَیْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50) یَاقَوْمِ لَا أَسْأَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِیَ إِلَّا عَلَى الَّذِی فَطَرَنِی أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51) وَیَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّکُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَیْهِ یُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَیْکُمْ مِدْرَارًا وَیَزِدْکُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِکُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِینَ (52) قَالُوا یَاهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَیِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِکِی آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِکَ وَمَا نَحْنُ لَکَ بِمُؤْمِنِینَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاکَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّی أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّی بَرِیءٌ مِمَّا تُشْرِکُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَکِیدُونِی جَمِیعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّی تَوَکَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّی وَرَبِّکُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِیَتِهَا إِنَّ رَبِّی عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِیمٍ (56) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُکُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَیْکُمْ وَیَسْتَخْلِفُ رَبِّی قَوْمًا غَیْرَکُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَیْئًا إِنَّ رَبِّی عَلَى کُلِّ شَیْءٍ حَفِیظٌ (57)سورة هود.

فما وجه الاستدلال هنا بـ «لا یتکلم فی الرسل إلا رسول ولا فی الأنبیاء إلا نبی » وقوله « إنی لست بنبی فذوق الأنبیاء لا یعلمه سواهم » لأن المتکلم هنا هو الله عز وجل والعلم هنا من لله والقرآن کلام الله الى العالمین کافة ولیس کلام الشیخ ابن العربی إلى العالمین کافة .

الأمر هنا آیات القرآن الکریم ولیست تجلی خاص أو رؤیا او کشف خاص بالشیخ ابن العربی فلا محل هنا للمعارضة ونفی الأمر عن الشیخ ؟! ""

الفتوحات ج 2 / 85 ، 563 - ج 4 / 38 ، 85.

أما فهمه فی هذه الآیة فانظر إلى جمیل بیانه حیث یقول :

أتی بالصراط نکرة لأنه على کل صراط شهید ، وجاء فی فاتحة الکتاب فی « اهدنا الصراط المستقیم » بالتعریف ، لأنه صراط مخصوص وهو المؤدی إلى السعادة ، ومع هذا فإن القول من الکلام القدیم ، والقرآن الحکیم ، جاء به الرؤف

 

ص 150


قال الشیخ رضی الله عنه : (

ثم من امتنان الله علینا أن أوصل إلینا هذه المقالة عنه فی القرآن، ثم تمها الجامع للکل محمد صلى الله علیه وسلم بما أخبر به عن الحق بأنه عین السمع والبصر والید والرجل واللسان: أی  )

..............................................................

الرحیم ، الخبیر بما هناک العلیم ، فمع الحق مشی من مشى ، وما تشاؤن إلا أن یشاء .

فالسعادة کاملة ، والرحمة شاملة ، فإن أهل الاستقامة فی الاستقامة هم أهل السلامة فی القیامة ، وأما الماشی فی الاستقامة بغیر استقامة فهو المنحاز من دار الکرامة ، وکما أنه سبحانه فی قبلة المصلی فهو تعالى من ورائه محیط.

فهو السابق والهادی ، فهو سبحانه الذی نواصی الکل بیده ، الهادی إلى صراط مستقیم ، والذی یسوق المجرمین إلى جهنم وردا ، وإلیه یرجع الأمر کله ، وإن کان الصراط المستقیم الذی علیه الرب الکریم یتضمن الخیر والشر ، والنفع والضر ، والفاجر والبر « ما من دابة إلا هو آخذ بناصیتها إن ربی على صراط مستقیم » وهو البر الرحیم ، فلا ینفع الاحتجاج بما سبق ، وإن کان حقا ، فهی حجة لا تنفع قائلها ، ولا تعصم حاملها ، لما یؤدی إلیه من درس الطریق الأمم ، الذی أجمع على صحته الأمم .

« ما من دابة إلا هو آخذ بناصیتها » دخل فی حکم هذه الآیة جمیع ما دب علوا وسفلا ، دخول ذلة وعبودیة لأنها أعطته بحقیقتها وقبولها التمکن من الأخذ بناصیتها إذلالا ، لأنها عبد، وکل من أخذ بناصیته فهو ذلیل ، والکل عبید الله تعالى .

فالکل أذلاء بالذات وهو العزیز الحکیم ، وإنما جعل یده بناصیتک ابتغاء عافیتک ، فأثبت أمرا هو علیه وما سواه فانظر من یصل إلیه ، وهذا من کرمه وسابقة قدمه ، فما ثم إلا مستقیم ، وعلى منهج قویم ، لأنه بید الکریم.

وتدل هذه الآیة على أنه ما ثم إلا من الحق آخذ بناصیته ، ولا یمکن إزالة ناصیته من ید سیده ، وشکر لفظ دابة ، فعمه ، فهو مسلوک به ، سالک بحکم الجبر .

هکذا قال هود علیه السلام ، فلهذا کان المآل إلى الرحمة ، وإذا أدرکه فی الطریق النصب ، فتلک أعراض عرضت له ، فإنه أخبر بأنه تعالى على صراط مستقیم ، فما ثم إلا من هو مستقیم على صراط الرب ، فهذه الآیة دلیل لمن قال بالجبر، ویحتمل أن یکون قوله علیه السلام « إنه ربی على صراط مستقیم ، فیما شرع مع کونه آخذا بنواصی عباده إلى ما أراد وقوعه

 

ص 151


قال الشیخ رضی الله عنه : (

هو عین الحواس. والقوى الروحانیة أقرب من الحواس. فاکتفى بالأبعد المحدود عن الأقرب المجهول الحد. فترجم الحق لنا عن نبیه هود مقاتله لقومه بشرى لنا، وترجم )  


..............................................................

منهم ، وعقوبته إیاهم مع هذا الجبر ، فاجعل بالک وتأدب واسلک سواء السبیل ، فهذه آیة بشرى لنا ، فما فی العالم إلا مستقیم ، لأن الآخذ بناصیته هو الماشی به .

وهو على صراط مستقیم ، فکل حرکة وسکون فی الوجود فهی إلهیة ، لأنها بید حق ، وصادرة عن حق ، موصوف بأنه على صراط مستقیم ، بإخبار الصادق .

فإن الرسل لا تقول على الله إلا ما تعلمه منه ، فهم أعلم الخلق بالله ، ولیس للکون معذرة أقوى من هذه ، فمن رحمة الرسل بالخلق تنبیه الخلق على مثل هذا، فإن الله أخبر عن نبیه ورسوله هود علیه السلام قوله هذا .

وما خطا هذا الرسول فی هذا القول ، ومعلوم أن تصرف کل دابة قد یتعلق به لسان حمد أو ذم لأمور عرضیة فی الطریق عینتها الأحوال وأحکام الأسماء .

والأصل محفوظ فی نفس الأمر تشهده الرسل علیهم السلام والخاصة من عباد الله ، ومع هذا التحقیق فإن قوله « إن ربی على صراط مستقیم » من حیث ما یقود الماشی علیه إلى سعادته ، وعلى هذا الصراط کل دابة عسومة ما عدا الإنس والجن ، فإنه ما دخل من الثقلین إلا الصالحون منهم خاصة ، ولو دخل جمیع الثقلین لکان جمیعهم على طریق مستقیم.

نصیحة : لا تجعل زمامک إلا بید ربک فإن له کما قال یدین کما أنه قد أخبرک أن یده بناصیتک اضطرارا ، فاجعل زمامک بیده اختیارا ، فتجنی ثمرة الاختیار والاضطرار بجمعک بین الیدین ، واعلم أن العباد فی قبضة الحق .

قال تعالى « ما من دابة إلا هو آخذ بناصیتها » لما هی مصرفة فیه ، فالکل فی قبضته من قضائه فی قضائه .

ومع ذلک علیک بأمر الحق فاتبعه ، ولا تغتر بکونک لا ترى شیئا إلا تحت تصریفه وحکم إرادته ، هذا لا ینجیک والأخذ بأمر الحق ینجیک ، لکن انظر ذلک عقدا وتصرف بالأمر .

الفتوحات ج 1 / 406 ، 426  - ج 2 / 217 ، 478 ، 563 .

ج 3 / 410 ، 413  - ج 4 / 273 ، 364 ، 366 ، 384 ، 400.

ص 152


 الجزء الثانی

قال الشیخ رضی الله عنه : 

(رسول الله صلى الله علیه وسلم عن الله مقالته بشرى: فکمل العلم فی صدور الذین أوتوا العلم "19" «وما یجحد بآیاتنا إلا الکافرون» فإنهم یسترونها وإن عرفوها حسدا منهم و نفاسة و ظلما.

وما رأینا قط من عند الله فی حقه تعالى فی آیة أنزلها أو إخبار عنه أو صله إلینا فیما یرجع إلیه إلا بالتحدید تنزیها کان أو غیر تنزیه.

أوله العماء الذی ما فوقه هواء وما تحته هواء. فکان الحق فیه قبل أن یخلق الخلق. ثم ذکر أنه استوى على العرش، فهذا أیضا تحدید.

ثم ذکر أنه ینزل إلى السماء الدنیا فهذا تحدید. ثم ذکر أنه فی السماء وأنه فی الأرض وأنه معنا أینما کنا إلى أن أخبرنا أنه عینا.

ونحن محدودون، فما وصف نفسه إلا بالحد. وقوله لیس کمثله شیء حد أیضا إن أخذنا الکف زائدة لغیر الصفة. ومن تمیز عن المحدود فهو محدود بکونه لیس عین هذا المحدود. فالإطلاق عن التقید تقیید، والمطلق مقید بالإطلاق لمن فهم.

وإن جعلنا الکاف للصفة فقد حددناه، وإن أخذنا «لیس کمثله شیء» على نفی المثل تحققنا بالمفهوم وبالإخبار الصحیح أنه عین الأشیاء، والأشیاء محدودة وإن اختلفت حدودها. فهو محدود بحد کل محدود.

فما یحد شیء إلا وهو الحق. فهو الساری فی مسمى المخلوقات والمبدعات، ولو لم یکن الأمر کذلک ما صح الوجود. فهو عین الوجود،20 «وهو على کل شیء حفیظ» بذاته، «ولا یؤده» حفظ شیء. فحفظه تعالى للأشیاء کلها حفظه لصورته أن یکون الشی ء غیر صورته.

ولا یصح إلا هذا، فهو الشاهد من الشاهد والمشهود من المشهود. فالعالم صورته، وهو روح العالم المدبر له فهو الإنسان الکبیر."21"

فهو الکون کله ... وهو الواحد الذی

قام کونی بکونه "22" ... ولذا قلت یغتذی   )

..............................................................

کتاب التراجم - کتاب إیجاز البیان فی الترجمة عن القرآن قارن بین جزالة اللفظ هنا فی تفسیر هذه الآیة والتحقیق ، وبین ما جاء فی هذا الفص .

19 - الإشارة إلى شمول الرحمة .

راجع البند 15

20 - وحدة الوجود راجع فص 5 ، رقم 6 ص 45.

  ""   6 - وحدة الوجود – المرایا  ص 45


اعلم أن المعلومات ثلاثة لا رابع لها :

وهی الوجود المطلق الذی لا یتقید وهو وجود الله تعالى الواجب الوجود لنفسه .

والمعلوم الآخر العام المطلق الذی هو عدم لنفسه وهو الذی لا یتقید أصلا وهو المحال ،

والعلوم الثالث هو البرزخ الذی بین الوجود المطلق والعدم المطلق وهو الممکن ، وسبب نسبة الثبوت إلیه مع نسبة العدم هو مقابلته للأمرین بذاته .

 وذلک أن العدم المطلق قام للوجود المطلق کالمرآة فرأی الوجود فیه صورته فکانت تلک الصورة عین الممکن ، فلهذا کان للممکن عین ثابتة وشیئیة فی حال عدمه ولهذا خرج على صورة الوجود المطلق .

ولهذا أیضا اتصف بعدم التناهی فقیل فیه إنه لا یتناهی ، وکان أیضا الوجود المطلق کالمرآة للعدم المطلق فرأى العدم المطلق فی مرآة الحق نفسه .

فکانت صورته التی رأی فی هذه المرأة هو عین العدم الذی اتصف به هذا الممکن ، وهو موصوف بأنه لا یتناهی کما أن العدم  المطلق لا یتناهی ، فاتصف الممکن بأنه معدوم ، فهو کالصورة الظاهرة بین الرائی والمرأة ، لا هی عین الرائی ولا غیره.

 

وقد علمنا أن العالم ما هو عین الحق وإنما هو ما ظهر فی الوجود الحق ، إذ لو کان عین الحق ما صح کونه بدیعا ، کما تحدث صورة المرئی فی المرآة ، ینظر الناظر فیها، فهو بذلک النظر کأنه أبدعها مع کونه لا تعمل له فی أسبابها، ولا یدری ما یحدث فیها .

ولکن بمجرد النظر فی المرآة ظهرت صور ، هذا أعطاه الحال ، فما لک فی ذلک من التعمل إلا قصدک النظر فی المرآة .

ونظرک فیها مثل قوله « إنما قولنا لشیء إذا أردناه » وهو قصدک النظر « أن نقول له کن » وهو بمنزلة النظر « فیکون » وهو بمنزلة الصورة التی تدرکها عند نظرک فی المرآة ،.

ثم إن تلک الصورة ما هی عینک الحکم صفة المرآة فیها من الکبر والصغر والطول والعرض ، ولا حکم لصورة المرآة فیک فما هی عینک ولا عین ما ظهر ممن لیس أنت من الموجودات الموازیة لنظرک فی المرآة ، ولا تلک الصورة غیرک ، لما لک فیها من الحکم .


فإنک لا تشک أنک رأیت وجهک ، ورأیت کل ما فی وجهک ظهر لک بنظرک فی المرآة من حیث عین ذلک لا من حیث ما طرأ علیه من صفة المرآة ، فما هو المرئی غیرک ولا عینک ، کذلک الأمر فی وجود العالم الحق .

أی شیء جعلت مرآة أعنی حضرة الأعیان الثابتة أو وجود الحق، فإما أن تکون الأعیان الثابتة الله مظاهر ، فهو حکم المرآة فی صورة الرائی ، فهو عینه وهو الموصوف بحکم المرآة ، فهو الظاهر فی المظاهر بصورة المظاهر.

أو یکون الوجود الحق هو عین المرآة ، فترى الأعیان الثابتة من وجود الحق ما یقابلها منه ، فترى صورتها فی تلک المرآة و یترائی بعضها البعض ، ولا ترى ما ترى من حیث ما هی المرآة علیه ، وإنما ترى ما ترى من حیث ما هی علیه من غیر زیادة ولا نقصان .

وکما لا یشک الناظر وجهه فی المرآة أن وجهه رأی ، وبما للمرآة فی ذلک من الحکم یعلم أن وجهه ما رأى .


فهکذا الأمر فانسب بعد ذلک ما شئت کیف شئت ، فإن الوجود للعین الممکنة کالصورة التی فی المرآة ، ما هی عین الرائی ولا غیر الرائی ، ولکن المحل  المرئی فیه به و بالناظر المتجلی فیه ظهرت هذه الصورة ، فهی مرآة من حیث ذاتها والناظر ناظر من حیث ذاته والصورة الظاهرة تتنوع بتنوع العین الظاهرة فیها .


کالمرأة إذا کانت تأخذ طولا ترى الصورة على طولها والناظر فی نفسه على غیر تلک الصورة من وجه ، وعلى صورته من وجه ، فلما رأینا المرآة لها حکم فی الصورة بذاتها ورأینا الناظر یخالف تلک الصورة من وجه .

علمنا أن الناظر فی ذاته ما أثرت فیه ذات المرآة ، ولما لم یتأثر ولم تکن تلک الصورة هی عین المرأة ولا عین الناظر ، وإنما ظهرت من حکم التجلی للمرآة ، علمنا الفرق بین الناظر وبین المراة وبین الصورة الظاهرة فی المرآة التی هی غیب فیها ، ولهذا إذا رؤی الناظر یبعد عن المرآة یرى تلک الصورة تبعد فی باطن المرآة ، وإذا قرب قربت .

وإذا کانت فی سطحها على الاعتدال ورفع الناظر یده الیمنى رفعت الصورة الید الیسرى ، تعرفه إنی وإن کنت من تجلیک وعلى صورتک فما أنت أنا ولا أنا أنت ، فإن عقلت ما نبهناک علیه فقد علمت من أین اتصف العبد بالوجود، ومن هو الموجود، ومن أین اتصف بالعدم، ومن هو المعدوم ومن خاطب ومن سمع ومن عمل ومن کلف .

وعلمت من أنت ومن ربک وأین منزلتک ، وأنک المفتقر إلیه سبحانه وهو الغنی عنک بذاته.

فسبحان من ضرب الأمثال وأبرز الأعیان دلالة علیه أنه لا یشبهه شیء ولا یشبه شیئا ، ولیس فی الوجود إلا هو ، ولا یستفاد الوجود إلا منه، ولا یظهر الموجود عین إلا بتجلیه.


فالمرأة حضرة الإمکان والحق الناظر فیها والصورة أنت بحسب إمکانیتک ، فإما ملک وإما فلک وإما إنسان وإما فرس ، مثل الصورة فی المرآة بحسب ذات المرآة من الهیئة فی الطول والعرض والاستدارة واختلاف أشکالها مع کونها مرآة فی کل حال.


کذلک الممکنات مثل الأشکال فی الإمکان والتجلی الإلهی یکسب الممکنات الوجود والمرآة تکسبها الأشکال ، فیظهر الملک و الجوهر والجسم والعرض ، والإمکان هو هو لا یخرج عن حقیقته ، وأوضح من هذا البیان فی هذه المسألة لا یمکن إلا بالتصریح ، فقل فی العالم ما تشاء و انسبه إلى من تشاء بعد وقوفک على هذه الحقیقة کشفة وعلما .

راجع الفتوحات ج3/ 46 , 80 , 352 . - ج4/ 316. ""



21 - العالم على صورة الحق فص 1 رقم ۰3


""  4 . خلق الله آدم على صورته   ص 24

اعلم أنه لا یصح أن یکون شیء من العالم له وجود لیس هو على صورة الحق، فنسبة الحق إلى الخلق نسبة الإنسان إلى کل صنف من العالم ، والعالم عند الجماعة، هو إنسان کبیر فی المعنى والجرم.

یقول الله تعالى : "لخلق السموات والأرض أکبر من خلق الناس ولکن أکثر الناس لا یعلمون" .

فلذلک قلنا فی المعنى ، وما فی العلم عن الکل وإنما نقاه عن الأکثر ، والإنسان الکامل من العالم وهو له کالروح لجسم الحیوان ، وهو الإنسان الصغیر ، وسمی صغیرا لأنه انفعل عن الکبیر وهو، مختصر فالمطول العالم کله والمختصر الإنسان الکامل ، فالإنسان آخر موجود فی العالم لأن المختصر لا یختصر إلا من مطول وإلا فلیس بمختصر ، فالعالم مختصر الحق والإنسان مختصر العالم والحق ، فهو نقاوة المختصر.


فلما کان العالم على صورة الحق وکان الإنسان الکامل على صورة العالم وصورة الحق وهو قوله : " إن الله خلق آدم على صورته"، فلیس فی الإمکان أبدع ولا أکمل من هذا العالم إذ لو کان لکان فی الإمکان ما هو أکمل من الله .

 فإن آدم وهو من العالم قد خلقه الله على صورته ، وأکمل من صورة الحق فلا یکون ، وما کملت الصورة من العالم إلا بوجود الإنسان .

فمن کل شیء فی الوجود زوجان الأن الإنسان الکامل والعالم بالإنسان الکامل على صورة الحق ، فامتاز الإنسان الکامل عن العالم مع کونه من کمال الصورة للعالم الکبیر بکونه على الصورة بانفراده ، من غیر حاجة إلى العالم .


فالإنسان الکامل وحده یقوم مقام الجماعة ، فإنه أکمل من عین مجموع العالم إذ کان نسخة من العالم حرفا بحرف (سنریهم آیاتنا فی الآفاق وفی أنفسهم ) ، ویزید أنه على حقیقة لا تقبل التضاؤل « خلق الله آدم على صورته » .


فحاز الإنسان الکامل صورة العالم وصورة الحق ففضل بالمجموع فجعل الحق الإنسان الکامل نسخة من العالم کله ، فما من حقیقة فی العالم إلا وهی فی   الإنسان .


فهو الکلمة الجامعة وهو المختصر الشریف وجعل الحقائق الإلهیة التی توجهت على إیجاد العالم بأسره متوجهة على إیجاد هذه النشأة الإنسانیة الإمامیة ، فخلق الله تعالى الإنسان فی أحسن تقویم ، وأبرزه نسخة کاملة جامعة لصورة حقائق الحدث وأسماء القدیم ، أقامه سبحانه معنى رابطا للحقیقتین ، وأنشأه برزخا جامعا للطرفین والرقیقتین ، أحکم بیدیه صنعته وحسن بعنایته صبغته ، وکانت مضاهاته للأسماء الإلهیة بخالقه، ومضاهاته للأکوان العلویة والسفلیة بخلقه، فتمیز عن جمیع الخلائق بالخلقة المستقیمة والخلائق ، عین سبحانه سره مثالا فی حضرة الأسرار ، ومیز نوره من بین سائر الأنوار ، وقصب له کرسی العنایة بین حضرتیه ، وصرف نظر الولایة والنیابة فیه وإلیه .


فلم یخلق الله تعالى الإنسان عبثا بل خلقه لیکون وحده على صورته ، فکل من فی العالم جاهل بالکل عالم بالبعض ، إلا الإنسان الکامل وحده ، فإن الله علمه الأسماء کلها وآتاه جوامع الکلم ، فکملت صورته ، فجمع بین صورة الحق وصورة العالم ، فکان برزخا بین الحق والعالم ، مرآة منصوبة ، یرى الحق صورته فی مرآة الإنسان ، ویرى الخلق أیضا صورته فیه ، لأن الإنسان فیه مناسب من کل شیء فی العالم ، فیضاف کل مناسب إلى مناسبه بأظهر وجوهه ، ویخصصه الحال والوقت والسماع بمناسب ما دون غیره من المناسب ، إذا کان له مناسبات کثیرة لوجوه کثیرة یطلبها بذاته، فمن حصل هذه المرتبة حصل رتبة الکمال الذی لاأکمل منه فی الإمکان، ومعنى رؤیة صورة الحق فیه ، إطلاق جمیع الأسماء الإلهیة علیه ، کما جاء فی الخبر


"فبهم تنصرون" ، والله الناصر « وبهم ترزقون » والله الرازق « وبهم ترحمون ، والله الراحم ، وقد ورد فی القران فیمن علمنا کماله صلى الله علیه وسلم واعتقدنا ذلک فیه أنه « بالمؤمنین رؤوف رحیم » ، « وما أرسلناک إلا رحمة للعالمین » أی لترحمهم ، والتخلق بالأسماء یقول به جمیع العلماء ، فالإنسان متصف یسمى بالحی والعالم المرید السمیع البصیر المتکلم القادر وجمیع الأسماء الإلهیة من أسماء تنزیه وأفعال .


ولذلک عبر عن الإنسان الکامل بمرآة الحق ، والحقیقة من قوله تعالی " لیس کمثله شیء " وهی مثلیة لغویة ، وذلک عند بروز هذا الموجود فی أصفى ما یمکن وأجلی ، ظهر فیه الحق بذاته وصفاته المعنویة لا النفسیة ، وتجلى له من حضرة الجود ، وفی هذا الظهور الکریم قال تعالى : « لقد خلقنا الإنسان فی أحسن تقویم »


فالإنسان الکامل له الشرف على جمیع من فی السماء والأرض ، فإنه العین المقصودة للحق من الموجودات ، لأنه الذی اتخذه الله مجلی ، لأنه ما کمل إلا بصورة الحق ، کما أن المرآة وإن کانت تامة الخلق فلا تکمل إلا بتجلی صورة الناظر ، فتلک مرتبتها والمرتبة هی الغایة .


راجع فتوحات  ج3 /152, 315 ,331 , 398 , 409.

 ج4 / 21 , 132 , 230 , 231 , 409.  عقلة المستوفز ۔ ذخائر الأعلاق ""


22 - وحدة الوجود ، الظاهر فی المظاهر ، ص ۰84


"" 6 - وحدة الوجود - الظاهر فی المظاهر ص 84

الموجودات على تفاصیلها فی ظهور الحق فی مظاهر أعیان الممکنات بحکم ما هی الممکنات علیه من الاستعدادات ، فاختلفت الصفات على الظاهر لأن الأعیان التی ظهر فیها مختلفة ، فتمیزت الموجودات وتعددت لتعدد الأعیان وتمیزها فی نفسه فما فی الوجود إلا الله وأحکام الأعیان ، وما فی العدم شیء إلا أعیان الممکنات مهیأة للاتصاف بالوجود .

فهی لا هی فی الوجود ، لأن الظاهر أحکامها فهی ، ولا عین لها فی الوجود فلا هی ، کما هو لا هو .

لأنه الظاهر فهو والتمیز بین الموجودات معقول ومحسوس لاختلاف أحکام الأعیان فلا هو ، فیا أنا ما هو أنا ولا هو ما هو هو .

مغازلة رقیقة وإشارة دقیقة ردها البرهان ونفاها ، و أوجدها العیان وأثبتها .

ما من شیء فی تفاصیل العالم إلا وفی الحضرة الإلهیة صورة تشاکل ما ظهر ، أی یتقید بها، ولولا هی ما ظهر .

فإذا تأملت فما ثم وجود إلا الله خاصة ، وکل موصوف بالوجود مما سوى الله فهو نسبة خاصة ، والإرادة الإلهیة إنما متعلقها إظهار التجلی فی المظاهر ، أی فی مظهر ما ، وهو نسبة .

فان الظاهر لم یزل موصوفا بالوجود ، والمظهر لم یزل موصوفا بالعدم ، فإذا ظهر أعطى المظهر حکما فی الظاهر بحسب حقائقه النفسیة .

فانطلق على الظاهر من تلک الحقائق التی هو علیها المظهر المعدوم حکم یسمى إنسانا أو فلکا أو ملکا أو ما کان من أشخاص المخلوقات .

کما رجع من ذلک الظهور للظاهر اسم یطلق علیه یقال به خالق وصانع ، وضار ونافع ، وقادر.

وما یعطیه ذلک التجلی من الأسماء ، وأعیان الممکنات على حالها من العدم کما أن الحق لم یزل له حکم الوجود .

فحدث لعین الممکن اسم المظهر ، و للمتجلی فیه اسم الظاهر .

فأعطى استعداد مظهر ما أن یکون الظاهر فیه مکلفا ، فیقال له افعل ولا تفعل ، ویکون مخاطبا بأنت وکاف الخطاب .

واعلم أن التجلی الذاتی ممنوع بلا خلاف بین أهل الحقائق فی غیر مظهر .

فوقتا یکون المظهر جسمیا و وقتا یکون جسمانیا ووقتا جسدیا ، ووقتا یکون المظهر روحیا ووقتا روحانیا.

فالتجلی فی المظاهر هو التجلی فی صور المعتقدات وهو کائن بلا خلاف.

والتجلی فی المعقولات کائن بلا خلاف . وهما تجلی الاعتبارات .

لأن هذه المظاهر سواء کانت صور المعقولات أو صور المعتقدات فإنها جسور یعبر علیها بالعلم .

أی یعلم أن وراء هذه الصور أمرا لا یصح أن یشهد ولا أن یعلم .

ولیس وراء ذلک المعلوم الذی لا یشهد ولا یعلم حقیقة ما یعلم أصلا .

وأما التجلی فی الأفعال ففیه خلاف بین أهل هذا الشأن لا یرتفع دنیا ولا آخرة .

فما فی المسائل الإلهیة ما تقع فیها الحیرة أکثر ولا أعظم من مسألة الأفعال ، ولاسیما فی تعلق الحمد والذم بأفعال المخلوقین.

فیخرجها ذلک التعلق أن تکون أفعال المخلوقین لغیر المخلوقین حین ظهورها عنهم ، وأفعال الله کلها حسنة فی مذهب المخالف الذی ینفی الفعل عن المخلوق ویثبت الذم للفعل بلا خلاف .

ولا شک عنده فی تعلق الذم، بذلک الفعل من الله، فمن الشدائد على أهل الله إذا أوقفهم فی حضرة الأفعال ، من نسبتها إلى الله ونسبتها إلى أنفسهم ، فیلوح لهم ما لا یمکن لهم معه أن ینسبوها إلى أنفسهم ، ویلوح لهم ما لا یتمکن معه أن ینسبوه إلى الله .

فهم هالکون بین حقیقة وأدب ، والتخلص من هذا البرزخ من أشد ما یقاسیه العارفون ، فإن الذی ینزل عن هذا المقام یشاهد أحد الطرفین فیکون مستریحا لعدم المعارض.

فمذهبنا العین الممکنة إنما هی ممکنة لأن تکون مظهرا ، لا لأن تقبل الاتصاف بالوجود فیکون الوجود عینها .

إذن فلیس الوجود فی الممکن عین الموجود ، بل هو حال لعین الممکن ، به یسمى الممکن موجودا مجازا لا حقیقة ، لأن الحقیقة تأبى أن یکون الممکن موجودا ، فلا یزال کل شیء هالک .

 الفتوحات ج1 / 694  , ج 2 / 40 ، 42 ، 99 ، 160 ، 435 ، 606.  ""


ص 153


قال الشیخ رضی الله عنه : (

فوجودی غذاؤه "23" ... وبه نحن نحتذی "24"

فبه منه إن نظرت ... بوجه تعوذی "25"

ولهذا الکرب تنفس، فنسب النفس إلى الرحمن لأنه رحم به ما طلبته النسب الإلهیة من إیجاد صور العالم التی قلنا هی ظاهر الحق "26" إذ هو الظاهر، وهو باطنها إذ هو الباطن، و هو الأول إذ کان و لا هی، و هو الآخر إذ کان عینها عند ظهورها.

فالآخر عین الظاهر والباطن عین الأول، و«هو بکل شیء علیم» لأنه بنفسه علیم.

فلما أوجد الصور فی النفس وظهر سلطان النسب المعبر عنها بالأسماء صح النسب الإلهی للعالم فانتسبوا إلیه تعالى فقال: «الیوم أضع نسبکم وأرفع نسبی» أی آخذ عنکم انتسابکم إلى أنفسکم وأردکم إلى انتسابکم إلى . أین المتقون؟

أی الذین اتخذوا الله وقایة فکان الحق ظاهرهم أی عین صورهم الظاهرة، وهو أعظم الناس وأحقه وأقواه عند الجمیع.

وقد یکون المتقی من جعل نفسه وقایة للحق بصورته إذ هویة الحق قوى العبد. فجعل مسمى العبد وقایة لمسمى الحق على الشهود حتى یتمیز العالم من غیر العالم.

«قل هل یستوی الذین یعلمون والذین لا یعلمون إنما یتذکر أولوا الألباب» وهم الناظرون فی لب الشیء الذی هو المطلوب من الشیء. فما سبق مقصر مجدا کذلک لا یماثل أجیر عبدا.

وإذا کان الحق وقایة للحق بوجه والعبد )

..............................................................


23 - الکون غذاء الأسماء - راجع فص 5 رقم 11.


""11 – الغذاء   ص 88

کل غذاء أعلا من حیاته المتولدة عنه ، فلا تزال من العالم الأدنۍ ترتقی فی أطوار العوالم أغذیة وحیاة حتى تنتهی إلى الغذاء الأول الذی هو غذاء أغذیة الأغذیة.

وهی الذات المطلقة ، والأسماء الإلهیة أقواتها أعیان آثارها فی الممکنات .

فبالآثار تعقل أعیانها ، فلها البقاء بآثارها .

فقوت الاسم أثره، وتقدیره مدة حکمه فی الممکن أی ممکن کان ، ولما لم یکن فی الکون إلا علة و معلول ، علمنا أن الأقوات العلویة والسفلیة أدویة لإزالة أمراض ، ولا مرض إلا الافتقار .

فقوت القوت الذی یتقوت به هو استعماله .

 فالمستعمل قوت له لأنه ما یصح أن یکون قوتا إلا إذا تقوت به ، فاعلم من قوتک ومن أنت قوته.

من قدر القوت فقد قدرا     …… والقوت ما اختص بحال الوری

 بل حکمه سار فقد عمنا    …… ونفسه فانظر تری ما تری

 کل تغذی فیه قام فی       …… وجوده حقا بغیر افتری

فأول رزق ظهر عن الرزاق ما تغذت به الأسماء من ظهور آثارها فی العالم ، وکان فیه بقاؤها ونعیمها و فرحها وسرورها .

وأول مرزوق فی الوجود الأسماء ، فتأثیر الأسماء فی الأکوان رزقها الذی به غذاؤها وبقاء الأسماء علیها .

وهذا معنى قولهم إن للربوبیة سرا لو ظهر لبطلت الربوبیة ، فإن الإضافة بقاء عینها فی المتضایفین ، وبقاء المضافین من کونهما مضافین إنما هو بوجود الإضافة، فالإضافة رزق المتضایفین، و به غذاؤهما وبقاؤهما متضایفین .

فهذا من الرزق المعنوی الذی یهبة الاسم الرزاق ، وهو من جملة المرزوقین .

فهو أول من تغذى بما رزق ، فأول ما رزق نفسه .

ثم رزق الأسماء المتعلقة بالرزق الذی یصلح لکل اسم منها.

وهو أثره فی العالم المعقول والمحسوس .

الفتوحات  ج2 / 462 , ج4 / 248 , 409 . أهـ  ""


24 - العالم على صورة الحق فص 1 رقم ۰4

   راجع البند 21


25 - إشارة إلى قوله صلى الله علیه وسلم « أعوذ بک منک » .


26 - الحب سبب وجود العالم

الحب أصل سبب وجود العالم والسماع سبب کونه ، و بهذا الحب وقع التنفس. وأظهر العالم نفس الرحمن لإزالة حکم الحب ( الکرب ) وتنفس ما یجد المحب. وخرج ذلک النفس عن أصل محبة فی الخلق الذی یرید أن یتعرف إلیهم لیعرفوه .

فتوحات ج 2 / 111 ، 428  . راجع فص 1 هامش 3 ص 23


 

""   3- الحب سبب وجود العالم   ص 23

لما لم یکن علم الله تعالى بالعالم إلا علمه بنفسه إذ لم یکن فی الوجود إلا هو.

فما ظهر فی الکون إلا ما هو علیه فی نفسه ، فلابد أن یکون العالم على صورته ، وصورة العالم على قدر الحضرة الإلهیة الأسمائیة ، فما فی الحضرة الإلهیة اسم إلهی إلا وهو على قدر أثره فی نشء العالم من غیر زیادة ولا نقصان ، فخلق الله العالم

فی غایة الإحکام والإتقان کما قال الإمام أبو حامد الغزالی من أنه لم یبق فی الإمکان أبدع من هذا العالم ..

فطابق العالم الأسماء الإلهیة ، وکأنه تعالى کان باطنا فصار بالعالم ظاهرا ، فعرف نفسه شهودة بالظاهر بقوله : "فأحببت أن أعرف" - الحدیث .

ولما أظهر العالم فی عینه کان مجلاه ، فما رأی فیه غیر جماله ، فالعالم جمال الله، فهو تعالى الجمیل المحب الجمال ، ورد فی الخبر الصحیح فی صحیح مسلم عن رسول الله مع أنه قال : "إن الله جمیل یحب الجمال"، فأوجد الله العالم فی غایة الجمال والکمال خلقا وإبداعا ، فإنه تعالى یحب الجمال ، وما ثم جمیل إلا هو ، فأحب نفسه ثم أحب أن یرى نفسه فی غیره ، فخلق العالم على صورة جماله ونظر إلیه فأحبه حب من قیده النظر ، فما خلق الله العالم إلا على صورته ، فالعالم کله. جمیل وهو سبحانه یحب الجمال.


کلمة الحضرة الإلهیة وهی کلمة « کن » : لله تجل فی صورة تقبل القول والکلام بترتیب الحروف ، « فکن » عین ما تکلم به فظهر عنه الذی قیل له کن ، فعین الأمر عین التکوین ، وما ثم أمر إلهی إلا کن ، فإذا نظرت إلى تکون العالم من النفس الرحمانی الظاهر من محبة الله أن یعرفه خلقه ، علمت أن ما فی العالم أو ما هو العالم سوی کلمات الله ، وکلمات الله أمره ، وأمره واحدة کلمح البصر أو هو أقرب .

وعلمت اختصاص کلمة الحضرة من الکلمات بکلمة کن لکل شیء مع اختلاف ما ظهره فلیس الکون بزائد على کن بواوها الغیبیة ، فظهر الکون على صورة کن ، وکن أمره وأمره کلامه وکلامه علمه ، وعلمه ذاته ، فظهر العالم على صورته ، فلیس للحق منزه ولا مجلی إلا العالم.

راجع الفتوحات المکیة  ج2 /111 , 345 , 399 , 401 , 402 , 403

ج3/ 151 , ج4/ 269  ""


 

ص 154


قال الشیخ رضی الله عنه : (

وقایة للحق بوجه، فقل فی الکون ما شئت: إن شئت قلت هو الخلق، وإن شئت قلت هو الحق، وإن شئت قلت هو الحق الخلق، وإن شئت قلت لا حق من کل وجه ولا خلق من کل وجه، وإن شئت قلت بالحیرة فی ذلک فقد بانت المطالب بتعیینک المراتب. ولو لا التحدید ما أخبرت الرسل بتحول الحق فی الصور ولا وصفته بخلع الصور عن نفسه.

فلا تنظر العین إلا إلیه ... و لا یقع الحکم إلا علیه

فنحن له وبه فی یدیه ... و فی کل حال فإنا لدیه

لهذا ینکر ویعرف وینزه و یوصف. فمن رأى الحق منه فیه بعینه فذلک العارف، ومن رأى الحق منه فیه بعین نفسه فذلک غیر العارف. ومن لم یر الحق منه ولا فیه وانتظر أن یراه بعین نفسه فذلک الجاهل.

وبالجملة فلا بد لکل شخص من عقیدة فی ربه یرجع بها إلیه ویطلبه فیها فإذا تجلى له الحق فیها و أقر به، و إن تجلى له فی غیرها أنکره وتعوذ منه وأساء الأدب علیه فی نفس الأمر وهو عند نفسه أنه قد تأدب معه فلا یعتقد معتقد إلها إلا جعل فی نفسه، فالإله فی الاعتقادات بالجعل، فما رأوا إلا نفوسهم وما جعلوا فیها. "27"

فانظر: مراتب الناس فی العلم   )


..............................................................


27 - خلق الله نفسه ؟!

جاء فی الخبر « خلق الله نفسه » فردت العقول کلها هذا الخبر لعدم فهمها من ذلک ، وما شعرت بأن کل صاحب مقالة فی الله أنه یتصور فی نفسه أمرا ما یقول فیه هو الله فیعبده وهو الله لا غیره ، ما خلقه فی ذلک المحل إلا الله .

فهذا معنى ذلک الخبر ، واختلفت المقالات باختلاف النظار فیه ، فکل صاحب نظر ما عبد ولا أعتقد إلا ما أوجده فی محله ، وما وجد فی محله وقلبه إلا مخلوق ، ولیس هو الإله الحق .

وفی تلک الصورة أعنی المقالة تتجلى له وإن کانت العین من حیث ما هی واحدة ، وهو ظهور الحق فی صورة کل اعتقاد لکل معتقد ، ولولا أن له وجها فی کل معتقد ما وصف نفسه على ألسنة رسله بالتحول فی صور الاعتقادات ، وإنجی الطوائف من اعتقد فی الله ما أخبر الحق به عن نفسه على السنة رسله .


فتوحات ج 4 / 211.


"" أضاف الجامع : عن "خلق الله نفسه " یقول إسماعیل حقی الخلوتی فی روح البیان فى تفسیر القرآن 1127 هـ  الجزء الرابع فی تفسیر سورة یوسف :

ثم اعلم أن الرؤیا عبارة عن ارتسام صورة المرئی وانتقاشها فی مرآة القلب فى النوم دون الیقظة فالرؤیا من باب العلم ولکل علم معلوم ولکل معلوم حقیقة .

وتلک الحقیقة صورته والعلم عبارة عن وصول تلک الصورة الى القلب وانطباعها فیه سواء کان فى النوم أو فى الیقظة .

فلا محل له غیر القلب ولما کان عالم الأرواح متقدما بالوجود والمرتبة على عالم الأجسام وکان الإمداد الربانی الواصل الى الأجسام موقوفا على توسط الأرواح بینها وبین الحق .

وتدبیر الأجسام مفوض الى الأرواح وتعذر الارتباط بین الأرواح والأجسام للمباینة الذاتیة الثابتة بین المرکب والبسیط .

فان الأجسام کلها مرکبة والأرواح بسیطة فلا مناسبة بینهما فلا ارتباط وما لم یکن ارتباط لا یحصل تأثیر ولا تأثر ولا امداد ولا استمداد .

فلذلک خلق الله عالم المثال برزخا جامعا بین عالم الأرواح وعالم الأجسام لیصح ارتباط أحد العالمین بالآخر فیتأتى حصول التأثر والتأثیر ووصول الإمداد والتدبیر.

وهکذا شأن روح الإنسان مع جسمه الطبیعی العنصری الذی یدبره ویشتمل علیه علما وعملا فإنه لما کانت المباینة ثابتة بین روحه وبدنه وتعذر الارتباط الذی یتوقف علیه التدبیر ووصول المدد إلیه خلق الله نفسه الحیوانیة برزخا بین البدن والروح المفارق .

فنفسه الحیوانیة من حیث إنها قوة معقولة هى بسیطة تناسب الروح المفارق ومن حیث أنها مشتملة بالذات على قوى مختلفة متکثرة منبثة فى أقطار البدن متصرفة بتصرفات مختلفة ومحمولة ایضا فى البخار الضبابی الذی فى التجویف الأیسر من القلب الصنوبری .

تناسب المزاج المرکب من العناصر فحصل الارتباط والتأثر والتأثیر وتأتى وصول المدد وإذا وضح هذا فاعلم أن القوة الخالیة التی فى نشأة الإنسان من کونه نسخة من العالم بالنسبة الى العالم المثالی المطلق کالجزء بالنسبة إلى الکل و کالجدول بالنسبة الى النهر الذی هو مشرعه .

وکما أن طرف الجدول الذی یلى النهر متصل به کذلک عالم الخیال الإنسانی من حیث طرفه الأعلى متصل بعالم المثال والمثال نوعان : مطلق ومقید.

فالمطلق ما حواه العرش المحیط من جمیع الآثار الدنیویة والأخرویة.

والمقید نوعان :

نوع هو مقید بالنوم

ونوع غیر مقید بالنوم مشروط بحصول غیبة وفتور ما فى الحس.

 کما فى الواقعات المشهورة للصوفیة وأول ما یراه الأنبیاء علیهم السلام إنما هو الصور المثالیة المرئیة فى النوم والخیال .

ثم یترقون إلى أن یروا الملک فی المثال المطلق أو المقید فى غیر حال النوم لکن مع نوع فتور فى الحس .

وکونهم مأخوذین عن الدنیا عند نزول الوحی إنما هو مع بقاء العقل والتمییز .

ولذا لا ینتقض حینئذ وضوؤهم ولانهم تنام أعینهم ولا تنام قلوبهم لکون بواطنهم محلاة بصفات الله متخلقة بأخلاقه مطهرة عن أوصاف البشریة من الحرص والعجز والأمل والضعف وغیر ذلک.أهـ

ومن موسوعة البحوث والمقالات العلمیة: فی تفسیر سورة یوسف : عن "خلق الله نفسه"

أن قوله (کلمته) هو من باب إضافة المخلوق إلى خالقه، فـ (الکلمة) هنا عیسى، وهو مخلوق، لأنه منفصل.

وقد بینا سابقا أن إضافة الشیء القائم بذاته إلى الله، هو من باب إضافة المخلوق إلى خالقه، فیکون المراد بـ (الکلمة) هنا عیسى، وأضافه الله إلى نفسه تشریفا له وتکریما.فإن قلتم: کیف یسمی الله - تعالى -عیسى (کلمة) والکلمة صفة لله؟

فالجواب: أنه لیس المراد هنا الصفة، بل هذا من باب إطلاق المصدر، وإرادة المفعول نفسه، کما نقول: هذا خلق الله، ونعنی هذا مخلوق الله، لأن خلق الله نفسه فعل من أفعاله.

لکن المراد هنا المفعول، أی المخلوق،"عیسى علیه السلام"  ومثل ما تقول أیضا: أتى أمر الله، یعنی المأمور، أی ما أمر الله به، ولیس نفس الأمر، فإن الأمر فعل من الله تعالى. أهـ""


ص 155


قال الشیخ رضی الله عنه : (

بالله تعالى هو عین مراتبهم فی الرؤیة یوم القیامة. "28"

وقد أعلمتک بالسبب الموجب لذلک. فإیاک أن تتقید بعقد مخصوص وتکفر بما سواه فیفوتک خیر کثیر بل یفوتک العلم  )  


..............................................................


28 - مراتب الناس فی العلم بالله

الناس فیما ورد به التعریف على أحد ثلاثة أمور :

الأمر الأول : من یطعن فی الرسل ویجعلهم تحت سلطان الخیال . وهذه الطائفة من الأخسرین الذین أضلهم الله وأعماهم عن طریق الهدى بل فی طریق الهدی لو علموا ، فهؤلاء قد جمعوا بین الجهل وبین المروق من الدین فلا حظ لهم فی السعادة.

الأمر الثانی: قسم قالوا إن الرسل هم أعلم الناس بالله فتنزلوا فی الخطاب على قدر أفهام الناس لا على ما هو الأمر علیه فإنه محال ، فهؤلاء کذبوا الله ورسوله فیما نسب الله إلى نفسه وإلى رسله بحسن عبارة ، کما یقول الإنسان إذا أراد أن یتأدب مع شخص آخر إذا حدثه بحدیث یرى السامع فی نظره أنه لیس کما قال المخبر فلا یقول له کذبت ، وإنما یقول له یصدق سیدی ولکن ما هو الأمر على هذا وإنما الأمر الذی ذکره سیدی على صورة کذا وکذا فهو یکذبه ویجهله بحسن عبارة . هکذا فعل هؤلاء المتأولون .

وقسم آخر لا یقول بأنه نزل فی العبارة إلى أفهام الناس . وإنما یقول لیس المراد بهذا الخطاب إلا کذا وکذا ما المراد منه ما تفهمة العامة .

وهم طائفة من المنزهة عدلت بهذه الکلمات عن الوجه الذی لا یلیق بالله تعالى فی النظر العقلی .


فعدلت إلى وجه من وجوه التنزیه على التعیین مما یجوز فی النظر العقلی أن ینصف به الحق تعالى ، بل هو متصف به ولابد ، وما بقی النظر إلا فی أن هذه الکلمة هل المراد بها ذلک الوجه أم لا، ولا یقدح ذلک التأویل فی ألوهته .

وربما عدلوا بها إلى وجهین وثلاثة وأکثر على حسب ما تعطیه الکلمة فی وضع اللسان ولکن من الوجوه المنزهة لا غیر ، فإذا لم یعرفوا من ذلک الخبر أو الآیة عند التأویل فی اللسان إلا وجها واحدا قصروا الخبر على ذلک الوجه النزیه وقالوا هذا لیس إلا فی علمنا وفهمنا ، وإذا

ص 156


 الجزء الثالث

قال الشیخ رضی الله عنه : 

(بالأمر على ما هو علیه. فکن فی نفسک هیولى لصور المعتقدات کلها فإن الله تعالى أوسع وأعظم من أن یحصره عقد دون عقد فإنه یقول «فأینما تولوا فثم وجه الله» وما ذکر )

..............................................................

وجدوا له مصرفین صرفوا الخبر أو الآیة إلى تلک المصارف .

وقالت طائفة من هؤلاء ، یحتمل أن یرید کذا ویحتمل أن یرید کذا وتعدد وجوه التنزیه ثم تقول والله أعلم أی ذلک أراد .

وطائفة أخرى تقوى عندها وجه ما من تلک الوجوه النزیهة بقرینة ما قطعت لتلک القرینة بذلک الوجه على الخبر وقصرته علیه ولم تعرج على باقی الوجوه فی ذلک الخبر وإن کانت کلها تقتضی التنزیه ، وهذا موجود فی اللسان الذی جاء به هذا الرسول ، فهؤلاء أشبه حالا من تقدم إلا أنهم متحکمون فی ذلک على الله بقولهم هذا هو المفهوم من اللسان .

وکذلک الذی یعتقده عامة أهل ذلک النسان هو أیضا المفهوم من ذلک فما یمنع أن یکون المجموع فأخطأوا فی الحکم على الله بما لم یحکم به على نفسه ، فهؤلاء ما عبدوا إلا الإله الذی ربطت علیه عقولهم وقیدته وحصرته .


وقسم آخر قالوا نؤمن بهذا اللفظ کما جاء من غیر أن نعقل له معنى حتى نکون فی هذا الإیمان به فی حکم من لم یسمع به ونبقى على ما أعطانا دلیل العقل من إحالة مفهوم هذا الظاهر من هذا القول ، فهذا القسم متحکم أیضا بحسن عبارة وأنه رد على الله بحسن عبارة فإنهم جعلوا نفوسهم حکم نفوس لم تسمع ذلک الخطاب .

وقسم آخر قالوا نؤمن بهذا اللفظ على حد علم الله فیه وعلم رسوله صلى الله علیه وسلم ، فهؤلاء قد قالوا إن الله خاطبنا عبثا لأنه خاطبنا بما لا تفهم.

والله یقول : « وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه لیبین لهم » وقد جاء بهذا فقد أبان کما قال الله لکن أبی هؤلاء أن یکون ذلک بیانا ، وهی طائفة لم تشبه ولم تجسم وصرفت علم ذلک الذی ورد فی کلام الله ورسله إلى الله تعالى ، ولم تدخل لها قدما فی باب التأویل .

وقنعت بمجرد الإیمان بما یعلمه الله فی هذه الألفاظ والحروف من غیر تأویل ولا صرف إلى وجه من وجوه التنزیه بل قالت لا أدری جملة واحدة ولکنی أحیل إبقاءه على وجه التشبیه لقوله تعالى : « لیس کمثله شیء » لا لما یعطیه النظر العقلی ، وعلى هذا فضلاء المحدثین من أهل الظاهر السالمة عقائدهم من التشبیه والتعطیل.

ص 157

قال الشیخ رضی الله عنه : 

(أینا من أین. وذکر أن ثم وجه الله، ووجه الشیء حقیقته. فنبه بذلک قلوب العارفین  )

.............................................................

الأمر الثالث : هم الذین کشف الله عن أعین بصائرهم غطاء الجهل ، فأشهدهم آیات أنفسهم و آیات الآفاق فتبین لهم أنه الحق لا غیره .

فآمنوا به بل علموه بکل وجه ، وهی طائفة من المنزهة أیضا وهی العالیة وهم من أصحابنا فرغوا قلوبهم من الفکر والنظر وأخلوها إذ کان المتقدمون من الطوائف المتقدمة المتأولة أهل فکر و نظر و بحث .

فقامت هذه الطائفة المبارکة والکل موفقون بحمد الله وقالت حصل فی نفوسنا تعظیم الحق جل جلاله بحیث لا تقدر أن تصل إلى معرفة ما جاء من عنده بدقیق فکر ونظر فأشبهت فی هذا العقد المحدثین السالمة عقائدهم حیث لم ینظروا ولا تأولوا ولا صرفوا بل قالوا ما فهمنا .

فقال أصحابنا بقولهم ، ثم انتقلوا عن مرتبة هؤلاء بأن قالوا لنا أن نسلک طریقة أخرى فی فهم هذه الکلمات وذلک بأن تفرغ قلوبنا من النظر الفکری وتجلس مع الحق تعالى بالذکر على بساط الأدب والمراقبة والحضور والتهیؤ لقبول ما یرد علینا منه تعالى حتى یکون الحق تعالی یتولى تعلیمنا على الکشف والتحقیق لما سمعته یقول : «واتقوا الله ویعلمکم الله »


ویقول : « إن تتقوا الله یجعل لکم فرقانا » « وقل رب زدنی علما » « وعلمناه من لدنا علما" ، فعندما توجهت قلوبهم وهممهم إلى الله تعالى ولجأت إلیه وألقت عنها ما استمسک به الغیر من دعوى البحث والنظر ونتائج العقول کانت عقولهم سلیمة وقلوبهم مطهرة فارغة .

فعندما کان منهم هذا الاستعداد ، تجلى الحق لهم معلما فاطلعتهم تلک المشاهدة على معانی هذه الأخبار والکلمات دفعة واحدة ، وهذا ضرب من ضروب المکاشفة ، فإنهم إذا عاینوا بعیون القلوب من نزهته العلماء المتقدم ذکرهم بالإدراک الفکری ، لم یصح لهم عند هذا الکشف والمعاینة أن یجهلوا خبرا من هذه الأخبار التی توهم ، ولا أن یبقوا ذلک الخبر منسحبا على ما فیه من الاحتمالات النزیهة من غیر تعیین ، بل یعرفون الکلمة والمعنى النزیه الذی سیقت له فیقصروها على ما أریدت به له ، وإن جاء فی خبر آخر ذلک اللفظ عینه فله وجه آخر من تلک الوجوه المقدسة معین عند هذا المشاهد ، هذا حال طائفة منا .

وطائفة أخرى منا أیضا

ص 158


قال الشیخ رضی الله عنه :

(لئلا تشغلهم العوارض فی الحیاة الدنیا عن استحضار مثل هذا 29، فإنه لا یدری العبد فی أی نفس یقبض، فقد یقبض فی وقت غفلة فلا یستوی مع من قبض على حضور.

ثم إن العبد الکامل مع علمه بهذا یلزم فی الصورة الظاهرة والحال المقیدة )

..............................................................

لیس لهم هذا التجلی ولکن لهم الإلقاء والإلهام واللقاء والکتابة وهم معصومون فیما یلقى إلیهم بعلامة عندهم لا یعرفها سواهم ، فیخبرون بما خوطبوا به وما ألهموا به وما ألقی إلیهم أو کتب.

وقد تقرر عند جمیع المحققین أن الحق تعالى لا تدخل علیه الأدوات المقیدة بالتحدید والتنبیه على حد ما نعقله فی المحدثات ولکن تدخل علیه بما فیها من معنى التنزیه والتقدیس على طبقات العلماء والمحققین فی ذلک لما فیه وتقتضیه ذاته من التنزیه.

الفتوحات ج 1 / 89  - ج 4 / 7 .


29 - مشاهدة الحق فی کل اعتقاد

ولله رجال أعطاهم الله الفهم والاتساع وحفظ الأمانة أن یفهموا عن الله جمیع إشارات کل مشار إلیه، وهم الذین یعرفونه فی تجلی الإنکار الشاهدون إیاه فی کل اعتقاد ، والحمد لله الذی جعلنا منهم إنه ولی ذلک .

قال تعالى : "وقضى ربک ألا تعبدوا إلا إیاه " أی حکم ، وقضاء الحق لا یرد ، فقضى أن لا یعبد غیر الله ، فمن أجل حکم عبدت الآلهة ، فلم یکن المقصود بعبادة کل عابد إلا الله .

فما عبد شیء لعینه إلا الله ، وإنما أخطأ المشرک حیث تصب لنفسه عبادة بطریق خاص لم یشرع له من جانب الحق ، فشقی لذلک .

فإنهم قالوا فی الشرکاء « ما نعبدهم إلا لیقربونا إلى الله » فاعترفوا به وأنزلوهم منزلة النواب الظاهرة بصورة من استنابهم ، وما ثم صورة إلا الألوهیة فنسبوها إلیهم، فکان قوله تعالى "وقضى ربک ألا تعبدوا إلا إیاه" من الغیرة الإلهیة حتى لا یعبد إلا من له هذه الصفة .

فکان من قضائه أنهم اعتقدوا الإله وحینئذ عبدوا ما عبدوا ، مع أنهم ما عبدوا فی الأرض من الحجارة والنبات والحیوان وفی السماء من الکواکب والملائکة إلا لاعتقادهم فی کل معبود أنه إله.

 ص 159

 

قال الشیخ رضی الله عنه : 

( التوجه بالصلاة إلى شطر المسجد الحرام ویعتقد أن الله فی قبلته حال صلاته، و هو بعض مراتب وجه لحق من «فأینما تولوا فثم وجه الله». فشطر المسجد الحرام منها، ففیه وجه الله.

ولکن لا تقل هو هنا فقط، بل قف عند ما أدرکت و الزم الأدب فی الاستقبال شطر المسجد الحرام و الزم الأدب فی عدم حصر الوجه فی تلک الأبنیة الخاصة، بل هی من جملة أینیات ما تولى متول إلیها. فقد بان لک عن الله تعالى أنه فی أینیة کل وجهة، و ما ثم إلا الاعتقادات. "30"  فالکل مصیب، وکل  )

..............................................................

لا لکونه حجرا ولا شجرا ولا غیر ذلک وإن أخطأوا فی النسبة فما أخطأوا فی المعبود .

فعلى الحقیقة ما عبد المشرک إلا الله ، وهو المرتبة التی سماها إلها لأنه لو لم یعتقد الألوهیة فی الشریک ما عبده .

فالکامل من عظمت حیرته و دامت حسرته ، ولم ینل مقصوده لما کان معبوده ، وذلک أنه رام تحصیل ما لا یمکن تحصیله ، وسلک سبیل من لا یعرف سبیله. والأکمل من الأکمل من اعتقد فیه کل اعتقاد ، وعرفه فی الإیمان والدلائل وفی الإلحاد ، فإن الإلحاد میل إلى اعتقاد معین من اعتقاد ، فاشهدوه بکل عین إن أردتم إصابة العین ، فإنه عام التجلی ، له فی کل صورة وجه ، وفی کل عالم حال.

الفتوحات ج 1 / 238 ، 405 ، 589 - ج 2 / 92 ، 212 ، 326 ، 498 .

ج 4 / 100 ، 101 ، 415.

 

30 - « فأینما تولوا فثم وجه الله » الآیة  

هذه حقیقة منزهة بلا خلاف ، فإن الله جل جلاله عن التقیید .

فهو قبلة القلوب ، فوجه الله موجود فی کل جهة یتولى أحد إلیها ، ولابد لکل مخلوق من التولی إلى أمر ما، ووجه الشیء ذاته وحقیقته ، فکما نسب الحق الفوقیة لنفسه من سماء وعرش ، نسب لنفسه الإحاطة بالجهات کلها بقوله « فأینما تولوا فثم وجه الله » لحکم المراتب ، فإن الله تعالى جعل وجهه فی کل جهة لیعصم من شاء ویحفظ من شاء ، فإن الحق مع بعض عباده بالولایة والعنایة وبالکلاءة والرعایة .

فله تعالى عین فی کل أین ، ومع هذا لو تولى الإنسان فی صلاته إلى غیر الکعبة مع علمه بجهة الکعبة لم تقبل صلاته ، لأنه ما شرع له إلا استقبال هذا البیت الخاص بهذه العبادة الخاصة .

فإذا تولى فی غیر هذه العبادة التی لا تصح إلا بتعیین هذه الجهة الخاصة فإن الله یقبل ذلک التولی، مثل الصلاة على الراحلة ، فالمستقبل لا یتقید فهو بحسب ما تمشی به

 ص 160

 

قال الشیخ رضی الله عنه : 

(مصیب مأجور وکل مأجور سعید وکل سعید مرضی عنه وإن شقی زمانا ما فی الدار الآخرة.

فقد مرض وتألم أهل العنایة- مع علمنا بأنهم سعداء أهل حق- فی الحیاة الدنیا. فمن عباد الله من تدرکهم تلک الآلام فی الحیاة الأخرى فی دار تسمى جهنم، و مع هذا لا یقطع أحد من أهل العلم الذین کشفوا الأمر على ما هو علیه أنه لا یکون لهم فی تلک الدار نعیم خاص بهم، إما بفقد ألم کانوا یجدونه فارتفع عنهم فیکون نعیمهم راحتهم عن وجدان ذلک الألم، أو یکون نعیم مستقل زائد کنعیم أهل الجنان فی الجنان و الله أعلم . "31"   )

..............................................................

الراحلة ، کما أنه لو اعتقد ان کل جهة یتولى إلیها ما فیها وجه الله لکان کافرا وجاهلا ، ولولا أن الإجماع سبق فی أن التوجه إلى القبلة شرط من شروط صحة الصلاة ، لما کان ذلک شرطا فی صحتها .

فإن قوله تعالى: « فأینما تولوا فثم وجه الله » نزلت بعد الأمر بالتوجه إلى الکعبة ، وهی آیة محکمة غیر منسوخة ، ولکن العقد الإجماع على هذا ، وعلى قوله : « فأینما تولوا فثم وجه الله » محکما فی الحائر الذی جهل القبلة فیصلی حیث یغلب على ظنه باجتهاد بلا خلاف ، ولا خلاف أن الإنسان إذا عاین البیت أن الفرض علیه هو استقبال عینه ، وأما إذا لم یر البیت فعندنا أن استقبال الجهة هو الفرض لا العین .

رقیقة - أوتر رسول الله و على الراحلة حیث توجهت فإن النبی صلى الله علیه وسلم  کله وجه بلا قفا .

فإنه قال صلى الله علیه وسلم :" إنی أراکم من خلف ظهری" ، فأثبت الرؤیا لحاله ومقامه . فثبتت الوجهیة له ، وذکر الخلف والظهر لبشرته ، فإنهم ما یرون رؤیته ویرون خلفه وظهره ، ومن کانت هذه حاله فحیث کانت القبلة فهو مواجهها .

فما أوتر رسول الله صلى الله علیه وسلم قط على راحلته حیث توجهت إلا والقبلة فی وجهه « فأینما تولوا فثم وجه الله » فمن کان وجها کله یستقبل ربه بذاته ، ووجه الله للمصلی إنما هو فی قبلته ، ودل على أن من حاله هذا الوصف ویرى القبلة بعین منه تکون فی الجهة التی تلیها فهو مصل للقبلة ، والله جل جلاله عن التقیید فهو قبلة القلوب .

الفتوحات ج 1 / 401 ، 491 ، 507 ، 517 - ج 3 / 408 ، 542 .

ج 4 / 103 ، 253 ، 346.

 

31 - شمول الرحمة وعدم سرمدة العذاب . راجع فص 7 رقم 17 ص 117

  راجع البند 15

 ""    17 ۔ شمول الرحمة وعدم سرمدة العذاب فص 7 رقم 17 ص 117

من اختصاص البسملة فی أول کل سورة تویج الرحمة الإلهیة فی منشور تلک السورة أنها منه کعلامة السلطان على مناشیره، وسورة التوبة والأنفال سورة واحدة قسمها الحق على فصلین ، فإن فصلها وحکم بالفصل فقد سماها سورة التوبة .


 أی سورة الرجعة الإلهیة بالرحمة على من غضب علیه من العباد ، فما هو غضب أبد لکنه غضب أمد ، والله هو التواب .


فما قرن بالتواب إلا الرحیم لیؤول المغضوب علیه إلى الرحمة ، أو الحکیم لضرب المدة فی الغضب وحکمها فیه إلى أجل ، فیرجع علیه بعد انقضاء المدة بالرحمة ، فانظر إلى الاسم الذی نعت به التواب تجد حکمه کما ذکرنا ، والقرآن جامع لذکر من رضی عنه وغضب علیه ، وتتویج منازله بالرحمن الرحیم ، والحکم للتتویج ، فإنه به یقع القبول ، وبه یعلم أنه من عند الله ، فثبت انتقال الناس فی الدارین فی أحوالهم من نعیم إلى نعیم ، ومن عذاب إلى عذاب ، ومن عذاب إلى نعیم ، من غیر مدة معلومة لنا ، فإن الله ما عرفنا ، إلا أنا استروحنا من قوله « فی یوم کان مقداره خمسین ألف سنة » أن هذا القدر مدة إقامة الحدود .


خلق الله الخلق قبضتین فقال هؤلاء للنار ولا أبالی ، وهؤلاء إلى الجنة ولا أبالی .


فمن کرمه تعالی لم یقل هؤلاء للعذاب ولا أبالی وهؤلاء إلى النعیم ولا أبالی وإنما أضافهم إلى الدارین لیعمروها ، فإنه ورد فی الخبر الصحیح أن الله لما خلق الجنة والنار قال لکل واحدة منهما لها علی" ملؤها ، أی أملؤها سکانا ، فیستروح من هذا عموم الرحمة فی الدارین وشمولها حیث ذکرهما ولم یتعرض لذکر الآلام وقال بامتلائهما وما تعرض لشیء من ذلک .


فکان معنى « ولا أبالی » فی الحالتین لأنهما فی المال إلى الرحمة ، فلذلک لا یبالی فیهما ، ولو کان الأمر کما یتوهمه من لا علم له من عدم المبالاة.


ما وقع الأخذ بالجرائم ، ولا وصف الله نفسه بالغضب ، ولا کان البطش الشدید ، فهذا کله من المبالاة والتهمم بالمأخوذ ، إذ لو لم یکن له قدر ما عذب ولا استعد له ، وقد قیل فی أهل التقوى إن الجنة أعدت للمتقین ، وقال فی أهل التقاء « وأعد لهم عذابا ألیما » فلولا المبالاة ما ظهر هذا الحکم .


فما أعظم رحمة الله بعباده وهم لا یشعرون ، فإن الرحمة الإلهیة وسعت کل شیء ، فما ثم شیء لا یکون فی هذه الرحمة « إن ربک واسع المغفرة » فلا تحجروا واسعا فإنه لا یقبل التحجیر ، ولقد رأیت جماعة ممن ینازعون فی اتساع رحمة الله وأنها مقصورة على طائفة خاصة.


 فحجروا وضیقوا ما وسع الله ، فلو أن الله لا یرحم أحدا من خلقه لحرم رحمته من یقول بهذا ، ولکن أبی الله تعالى إلا شمول الرحمة .


 قال تعالى لنبیه صلى الله علیه وسلم : « وما أرسلناک إلا رحمة للعالمین » ، وما خص مؤمنا من غیره ، والله أرحم الراحمین کما قال عن نفسه ، وقد وجدنا من نفوسنا ، وممن جبلهم الله على الرحمة انهم یرحمون جمیع العباد ، حتى لو حکمهم الله فی خلقه لأزالوا صفة العذاب من العالم ، بما تمکن حکم الرحمة من قلوبهم ، وصاحب هذه الصفة أنا وأمثالی مخلوقون أصحاب أهواء وأغراض ، وقد قال عن نفسه جل علاه أنه أرحم الراحمین ، فلا شک أنه أرحم منا بخلقه ، و نحن قد عرفنا من تفوسنا هذه المبالغة فی الرحمة .


فکیف یتسرمد، علیهم العذاب وهو بهذه الصفة العامة من الرحمة ، إن الله أکرم من ذلک ، ولا سیما وقد قام الدلیل العقلی على أن الباری لا تنفعه الطاعات، ولا تضره المخالفات، وان کل شیء جار بقضائه وقدره وحکمه.


وأن الخلق مجبورون فی اختیارهم ، وقد قام الدلیل السمعی أن الله یقول فی الصحیح « یا عبادی » فأضافهم إلى نفسه ، وما أضاف الله قط العباد لنفسه إلا من سبقت له الرحمة ألا یؤبد علیهم الشقاء وإن دخلوا النار .


فقال : « یا عبادی لو أن أولکم وآخرکم وإنسکم وجنکم اجتمعوا على أتقى قلب رجل واحد منکم ما زاد ذلک فی ملکی شیئا ، یا عبادی لو أن أولکم وآخرکم وإنسکم وجنکم اجتمعوا على أفجر قلب رجل واحد منکم ما نقص ذلک من ملکی شیئا » .


وهذه مسألة المکاشف لها قلیل ، والمؤمن بها أقل ، وهو سر عجیب ، ما رأینا أحدا نبه علیه من خلق الله ، وإن کانوا قد علموه بلا شک ، وما صانوه والله أعلم إلا صیانة لأنفسهم ورحمة بالخلق.


لأن الإنکار یسرع إلیه من السامعین ، ووالله ما نبهت علیه هنا إلا لغلبة الرحمة علیه فی هذا الوقت ، فمن فهم سعد ومن لم یفهم لم یشق بعدم فهمه وإن کان محروما ، فقد أظهرت أمرا فی هذه المسألة لم یکن باختیاری ، ولکن حق القول الإلهی بإظهاره ، فکنت فیه کالمجبور فی اختیاره ، والله ینفع به من یشاء لا إله إلا هو .


الفتوحات : ج2 / 148 ، 244 ، 674 - ج 3 / 25 ، 100 ، 101 ، 383 .


 ج 4 / 163 .


- لم سمی العذاب عذابا


العذاب إنما سماه الله بهذا الاسم إیثارا للمؤمن ، فإنه یستعذب ما یقوم بأعداء الله من الآلام ، فهو عذاب بالنظر الى هؤلاء .


ومن وجه آخر سمی عذابا ما یقع به الآلام بشرى من الله لعباده أن الذی تألمون به لابد إذا شملتکم الرحمة أن تستعذبوه وأنتم فی النار ، کما یستعذب المقرور حرارة النار ، والمحرور برودة الزمهریر .


ولهذا جمعت جهنم النار والزمهریر لاختلاف المزاج ، فما یقع به الألم المزاج مخصوص یقع به النعیم فی مزاج آخر یضاده ، فلا تتعطل الحکمة، ویبقی الله على أهل جهنم الزمهریر على المحرورین ، والنار على المقرورین فینعمون فی جهنم ، فهم على مزاج لو دخلوا به الجنة تعذبوا بها لاعتدالها ، فسمى العذاب عذابا لأن المال إلى استعذابه لمن قام به بعد شمول الرحمة.


کما یستحلی الجرب من یحکه ، فإذا حکه . من غیر جرب أو حاجة من بوسة تطرأ على بعض بدنه تألم من حکه .


الفتوحات : ج 2 / 136 ، 207 - ج 3 / 463 .