الفقرة الثانیة عشر:
کتاب تعلیقات د أبو العلا عفیفی على فصوص الحکم الشیخ الأکبر ابن العربی 1385 هـ :
11 - فص حکمة فاتحیة فی کلمة صالحیة
(1) الحکمة الفتوحیة
(1) تشرح هذه الحکمة معنى الخلق کما یفهمه ابن العربی.
والخلق عنده فتوح- جمع فتح- أی سلسلة من التجلیات و الظهور لا إحداث لوجود من عدم.
وقد تؤخذ کلمة «الفتوح» على أنها مفرد لا جمع و معناها حصول شیء مما لم یتوقع ذلک منه، وهذا المعنى متحقق فی ظهور ناقة صالح من الجبل و فی ظهور الحق بصور الخلق فی نظر الجاهل المحجوب.
وبعض النسخ یعنون هذه الحکمة بالحکمة الفاتحیة نسبة إلى الاسم الفاتح الذی فتح الحق به الوجود.
وهذا أیضاً متمشٍ مع رأی متصوفة وحدة الوجود لأنهم یعتبرون «الخلق» فتحاً لصور الموجودات فی الذات الأزلیة لا إنشاء و لا إبداعاً لها.
والحقیقة أن کل اسم من الأسماء الإلهیة «فاتح» بهذا المعنى.
ولهذا سموا هذه الأسماء مفاتح الغیب وقالوا إنها المشارة إلیها فی قوله تعالى: «وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَیْبِ لایَعْلَمُها إِلَّا هُوَ» (قرآن س 6 آیة 59).
(2) «من الآیات آیات الرکائب» الأبیات.
(2) الرکائب فی الأصل الإبل و لکنها مستعملة هنا بمعنى أعمّ بحیث تشمل الإبل و غیرها مما یمکن أن یرکب.
ومن المعجزات التی خصّ اللَّه بها الأنبیاء ناقة صالح و براق محمد علیهما السلام.
هذا هو المعنى الظاهر للشطر الأول من البیت الأول، و لکن له معنى آخر باطناً یدل علیه ما بقی من الأبیات. فکلمة الرکائب فی الحقیقة رمز لصور النفوس الحیوانیة التی هی رکائب للنفوس الناطقة، کما أن الأبدان رکائب للنفوس الحیوانیة.
وبهذا المعنى یکون لکل نبی، بل و لکل إنسان رکیبة تسیر به حیث تقتضیها طبیعتها، و هذا معنى قوله و ذلک لاختلاف فی المذاهب. و لکن مهما اختلفت مذاهب السیر و تعددت و تباینت فإنها تتجه کلها نحو هدف واحد هو الحق.
غیر أن بعض أصحاب تلک الرکائب یسیرون بها فی الطریق الحق و یصلون بها إلى اللَّه و هؤلاء هم أهل الکشف و الشهود، و بعضهم یقطعون بها البراری القفرة و الصحاری المجدبة التی یتیهون فیها و یحارون لکثرة ما یغْلب علیهم من ظلمات العقل و البدن جمیعاً و هؤلاء هم المحجوبون من الفلاسفة و المتکلمین و غیرهم الذین یصفهم بالجنائب أی المبعدین عن الحقائق. قال الشاعر:
هوای مع الرکب الیمانین مصعد .... جنیب و جثمانی بمکة موثق
و ابن العربی أعدل من أن یبخس الناس أشیاءهم و ینکر على المجتهدین ثمرة اجتهادهم. فالمهتدون القائمون بالحق و الضالون فی غیابة الجهل فی نظره سواء من حیث إن کلًا منهم یتبع فی سیره إلى الحق ذلک النور الذی قدِّر له أن یسیر فیه- قَلَّ ذلک النور أو عظم- و تنکشف له فتوح الغیب و أسراره، و لیس الغیب إلا الذات الإلهیة، و لیست أسرارها إلا الوجود الظاهر. فکل منهم تنکشف له حقائق الغیب و أسراره على نحو یتفق و ذلک النور الذی یسیر فیه، و هو إما نور القلب و الشهود أو نور العقل و البرهان، و بذلک یصل إلى الاعتقاد الخاص فی اللَّه و هو ما أشرنا إلیه فی الفص السابق.
وهذا هو مجمل البیت الأخیر:
وکل منهم یأتیه منه فتوح غیوبه من کل جانب ولا معنى للقول بأن الضمیر فی «منهم» یعود على القائمین بالحق دون غیرهم.
(3) «اعلم وفقک اللَّه أن الأمر مبنی فی نفسه على الفردیة و لها التثلیث ... و عن هذه الحضرة وجد العالم».
(3) تلعب فکرة التثلیث دوراً هاماً جداً فی فلسفة ابن العربی: و غریب حقاً أن یکون لها هذا الشأن فی تفکیر صوفی مسلم، و لکن صاحبنا خرج على کل مألوف و مقرر عند المسلمین، فِلمَ لا یقتبس من المسیحیة کما اقتبس من غیرها ما دام فی استطاعته أن یصبغ کل ما یقتبسه بصبغة نظریته فی وحدة الوجود؟
أصل الوجود کله هو الواحد الحق و لکنه من حیث ظهور الوجود عنه- لا من حیث ذاته المطلقة وحدها- مثلث الصفات لأنه من حیث جوهره ذاتٌ.
و من حیث صلته بالوجود الظاهر مریدٌ و آمرٌ.
و لذا کان أساس الإیجاد الفردیةَ الأولى التی لها هذا التثلیث: الذات الإلهیة، و الإرادة و الأمر (الذی یعبّر عنه بالقول).
و لا تظهر هذه الفردیة الثلاثیة فی الموجِد وحده، بل تظهر کذلک فی الشیء الموجود، و بغیرها لا یصح تکوینه و اتصافه بالوجود، فهو أیضاً ذاتٌ مطیعة لإرادة الموجِد ممتثلة أمره.
و بذا حصلت المقابلة التامة بین الثالوثین: ثالوث الحق و ثالوث الخلق.
""إضافة الجامع : ثالوث الحق : الذات – الصفات – الأسماء
ثالوث الخلق : النساء - والطیب - وجعلت قرة عینی فی الصلاة
قال الشیخ علاء الدین المهائمی : حب (النساء) لحب الذات، (والطیب) لحب الصفات، ("وجعلت قرة عینی فی الصلاة" )؛ لحب الأسماء . ""
أو بین الثالوث الموجِد و الثالوث المکوّن و ظهر الوجود عن الواحد.
و لکن وضع المسألة بهذه الصورة قد یشعر بأن ابن العربی یدین بفکرة الخلق بالمعنى المعروف، و أن للخالق إرادة مطلقة و أمراً حقیقیًّا فی الوجود.
فی حین أنه ینکر بتاتاً الخلق بمعنى الإیجاد من العدم، و یبطل عمل الإرادة الإلهیة- کما رأینا- بإخضاعها لنوع من الجبریة لا تستطیع عنه انفکاکاً، و یفسر الأمر من قِبَل الخالق و الامتثال من قِبَل المخلوق بأنه لسان حال، کأن الخالق فی فعله و المخلوق فی انفعاله ینطقان بلسان الحال أن بینهما نوعاً من التأثیر و التأثر.
لا على أنهما حقیقتان منفصلتان إحداهما عن الأخرى، بل على أنهما وجهان لحقیقة واحدة.
فکأن فکرة الخلق و الإیجاد عند ابن العربی فکرة قضى بها المنطق لا طبیعة الوجود.
فهی نظریة فی العلّیة منطقیة لا وجودیة.
و یمکننا أن نوضح هذه العلاقة المنطقیة بین الثالوثین اللذین یمثلان الحقیقة الوجودیة على النحو الآتی:
الحقیقة الوجودیة على نحوین:
الأول، الحق (الفاعل) ذات: إرادة
قول الثانی، الخلق (القابل) ذات: سماع امتثال
و تظهر فکرة التثلیث المسیحیة واضحة کل الوضوح فی هذه المسألة و فی کل ما ذکره ابن العربی فی الحب :
تثلث محبوبی و قد کان واحداً ... کما صیر الأقنام بالذات أقنما
و الإنتاج و الإیجاد فی عالمی الکائنات و المعانی :" یقول مثلا إن الاستدلال القیاسی قائم على التثلیث لأنه یشترط فیه ثلاث قضایا و ثلاثة حدود."
و فیما ذکره عن «الکلمة» التی یعتبرها الواسطة فی الخلق.
و لکنه لم یتأثر بالمسیحیة نفسها بقدر ما تأثر بفلسفتها التی وصلته على النحو الذی صاغها فیه مفکر و الآباء المسیحیین بالإسکندریة منصبغة إلى حد کبیر بأفکار إسلامیة أدخلها علیها بعض فلاسفة الإسلام و متصوفیة أمثال الحسین بن منصور الحلاج.
و مع هذا کله تختلف فکرة التثلیث عند ابن العربی اختلافاً جوهریاً عن نظیرتها فی المسیحیة، فإن تثلیثه لا یخرج عن کونه اعتباریاً و فی الصفات لا فی الأقانیم، و هو فوق کل هذا حاصل من وجهی الحقیقة الوجودیة على السواء.
(4) «کما یقول الآمر الذی یُخاف فلا یعصى لعبده قمْ فیقوم العبد امتثالا لأمر سیده ... لا من فعل السید».
(4) هکذا یتصور ابن العربی الخلق- أو بعبارة أدق هکذا یقضی على فکرة الخلق و یعطل الإرادة الإلهیة.
لا شیء فی عالمه یُخْلَق من عدم، و إنما الخلق إخراج ما له وجود بالفعل فی حضرة أخرى من حضرات الوجود إلى حضرة الوجود الخارجی، أو هو إظهار الشیء فی صورة غیر الصورة التی کان علیها من قبل.
فالعالم عنده حقیقة أزلیة دائمة لا تفنى و لا تتغیر إلا فی صورها. أما ذات العالم أو جوهره فلا یخضع لقانون الکون و الفساد.
فإذا أراد اللَّه خلق شی ء من الأشیاء أمره أن یکون فیکون.
و الکوْن أو التکوُّن من فعل الشی ء نفسه لا من فعل اللَّه. بل لیس للَّه فی إیجاد الشی ء إلا قوله له «کن»، کالسید الذی لا تعْصى أوامره.
یقول لعبده قم فیقوم: فلیس للسید فی قیام العبد سوى أمره له بالقیام.
و القیام من فعل العبد لا من فعل السید. أین الخلق هنا و أین القدرة علیه؟ بل أین إرادة الخلق؟ إن منطق مذهبه یقتضیه ألا یستعمل کلمة «الخلق» بمعناها الدینی و إلا وقع فی تناقض شنیع مع نفسه.
و هو بالفعل لا یستعملها أبداً بهذا المعنى، و لکن حرصه على أن یتخذ من آیات القرآن أصولًا لآرائه لیصور هذه الآراء تصویراً دینیاً فی ظاهرها، یجره فی أغلب الأحیان إلى استعمال کلمات «الخلق» و نحوها، فیبقی على الألفاظ فی صورتها و یقرأ فی معانیها ما شاء له مذهبه فی وحدة الوجود أن یقرأه.
و قد یقال کیف یخاطب الشی ء و یؤمر و هو بعد لم یکن؟
کیف یشبَّه الشیء المخلوق- قبل خلقه- بالعبد الذی یمتثل أمر سیده؟
ألیس هذا قیاساً مع الفارق؟
وألیس من التناقض أن نقول إن الشیء قبل أن یکون یؤمر بأن یکون؟
و الجواب على کل هذه الأسئلة لیس بالأمر العسیر على ابن العربی:
فقد ذکرنا أنه یرى أن الأشیاء قبل وجودها الظاهر لیست أموراً عدمیة صرفة، بل لها وجود ثابت فی العالم المعقول: و هو وجود بالقوة.
فالأمر الإلهی یخرجها من القوة إلى الفعل بمقتضى طبیعتها. و لکن تشبیه الخالق و المخلوق- حتى بالمعنى الذی یفهمه- بالسید و العبد تشبیه لا یخلو من فجاجة، وهو- کغیره من التشبیهات الأخرى التی یستعملها- یزید آراءه المیتافیزیقیة غموضاً أکثر مما یوضحها.
(5) «و الشرط المخصوص أن یکون الحکم أعم من العلة أو مساویاً لها ...نتیجة غیر صادقة».
(5) المراد بالحکم هنا المحکوم به فی نتیجة القیاس- أی الحد الأکبر، و بالعلة الحد الأوسط. و من المسائل المقررة فی المنطق أنه یشترط لصحة النتیجة أن یکون الحد الأکبر فی القیاس أعم من الحد الأوسط أو مساویاً له.
و الأول کقولنا:
کل حیوان جسم الإنسان حیوان: الإنسان جسم. فجسم- و هی الحد الأکبر أعم من حیوان. و الثانی کقولنا:
کل حیوان حساس الإنسان حیوان: الإنسان حساس. فحساس و هی الحد الأکبر مساوٍ لحیوان.
و قد ذکر القیاس هنا لیستدل به على أن التثلیث أساس الإنتاج فی المعنویات کما أنه أساس الإنتاج فی الخلق.
(6) «و هذا موجود فی العالم مثل إضافة الأفعال إلى العبد معراة عن نسبتها إلى اللَّه، أو إضافة التکوین الذی نحن بصدده إلى اللَّه مطلقاً».
(6) بعد أن ذکر أن الدلیل القیاسی قائم على التثلیث وبیَّن شروطه المنطقیة قال إن مخالفة هذه الشروط تؤدی إلى نتائج غیر صحیحة وذکر نتیجتین من هذه النتائج:
الاولى أن أفعال العبد هی من عمله و هو رأی المعتزلة،
و الثانیة أن الخلق من فعل اللَّه و هو رأی جمهور المسلمین.
و السبب فی عدم صحة هذه النتائج هو عدم توافر شرط التثلیث فیها.
أما رأی المعتزلة فی نسبة الأفعال إلى العبد فیَرد علیه بأن العبد لا یمکن أن یکون خالقاً لأفعاله لأنه مجرد قابل، و لا یمکن للقابل المحض أن یأتی فعلًا من الأفعال إلا إذا اکتسب قوة الفعل من فاعل- و الفاعل فی کل شیء هو اللَّه.
فنسبة الفعل إلى العبد معراة عن إضافته إلى اللَّه خطأ أتى من أنهم لم یقیموا دلیلهم على التثلیث الآتی و هو «قابل» - «فاعل» - «فعل».
و لو أقاموه على هذا التثلیث لوصلوا إلى نتیجة أخرى.
و بمثل هذه الطریقة نستطیع أن نرد على القائلین بنسبة التکوین إلى اللَّه مطلقاً دون نظر إلى المکوَّن. نعم إن الممکن فی ذاته لا قوة فیه على الوجود.
و لکنه لکی یوجد امتثالًا لأمر اللَّه یجب أن تکون فیه القدرة و الاستعداد على أن یوجد. فمن الخطأ إذن أن ننسب التکوین إلى اللَّه وحده و نهمل إمکانیة الممکن.
بل الواجب أن نبنی دلیلنا على التثلیث الآتی و هو: الممکن فی قوته أن یکون:
اللَّه الآمر بأن یکون: التکوین.
(7) «فالوجه الخاص هو تکرار «الحادث»، و الشرط الخاص عموم العلة».
(7) الإشارة هنا إلى کلمة «الحادث» الواردة فی القیاس الذی ذکره و هو:
کل حادث فله سبب و العالم حادث.
: العالم له سبب فکلمة «الحادث» و هی الحد الأوسط مکررة فی القیاس لورودها فی المقدمتین.
أما العلة التی أشار إلیها فهی علة وجود العالم و هی أن له سبباً، فهی الحد الأکبر فی القیاس. و قد استعمل کلمة «العلة» فی هذه المسألة بمعنیین مختلفین یجب الالتفات إلیهما و إلا وقع الخلط و الإبهام فی فهم کلامه. فقد استعمل «العلة» أولًا بمعنى الحد الأوسط فی القیاس لأن الحد الأوسط علة الإنتاج من ناحیة أنه الرابطة بین الحدین الأکبر و الأصغر، ثم استعملها فی مثال خاص- و هو المثال الذی یثبت فیه سببیة العالم- بمعنى علة وجود العالم.
(8) «فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ».
(8) أی فلله الحجة البالغة على عباده فیما یأتونه من الأفعال. و أی حجة أبلغ فی إدانة العبد من أن یکون کل ما یظهر به فی ظاهره من حکم ما استقر فی باطنه؟
فالفعل فعله و لیس للحق فیه إلا أن یمنح ذلک الفعل الوجود، أو الفعل فعل الحق فی صورة العبد و بذا تکون الحجة البالغة للحق على نفسه.
و أیاً ما کان مصدر الفعل فالجبریة ظاهرة فیه.
راجع ما ذکرناه عن نظریته فی الجبر فیما سبق.
و لکن ابن العربی- کعادته- لا یترک المسألة عند هذا الحد: أی لا یقف عند حد التقریر الفلسفی فیها، بل یلتمس لها التأیید من جانب التصوف أیضاً.
فالإنسان- فی نظره- لا یدرک صدور الأفعال عن الأشیاء نفسها و ما استقر فی بواطنها بالعقل أو حیلة الدلیل: و إنما یدرک ذلک بالذوق و الشهود.
فبالذوق وحده یدرک صاحب الکشف سریان الحق فی الوجود و ظهور کل ما یظهر منه بحسب طبیعة الوجود ذاتها.
و لذا یقیم المعاذیر للموجودات کلها فیما یظهر عنها مما یلائم أغراضها- و هو ما یسمى عادة بالخیر و ما لا یلائم أغراضها و هو الذی یسمى عادة بالشر.