الفقرة العشرون :
نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص الشیخ عبد الرحمن أحمد الجامی 898 هـ :
12 - فص حکمة قلبیة فی کلمة شعیبیة
اعلم أن القلب وإن کان موجوداً من رحمة ٍ فإنه أوسع من رحمة الله. لأن الله أخبر أن قلب العبد وسعه [ووسعنی قلب عبدی .. ] ورحمته لا تسعه.
فإنها لا یتعلق حکمها إلا بالحوادث.
وهذه مسألة عجیبة إن عُقلت، وإذا کان الحق کما ورد فی الصحیح یتحول فی الصور مع انه فی نفسه لا یتغیر من حیث هو.
فالقلوب له کاشکال الأوعیة للماء یشکل بشکلها مع کونه لا یتغیر عن حقیقته. فافهم.
ألا ترى أن الحق کل یومٍ هو فی شأن.
کذلک القلب یتقلب فی الخواطر.
ولذلک قال: " إِنَّ فِی ذَلِکَ لَذِکْرَى لِمَن کَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِیدٌ " [ق: 37].
ولم یقل، عقل، لأن العقل یتقید بخلاف القلب. فافهم.
إنّما خصّت الحکمة القلبیة بالکلمة الشعیبیة لأمرین:
أحدهما رعایة المفهوم من اسمه علیه السلام، و هو «التشعیب»، فانّ شعیبا علیه السلام کان من العرب، و اسمه اسم عربى کذا ورد فی النقل أنّ هودا و صالحا و شعیبا و یونس و لوطا کانوا من العرب.
و بالجملة، فلمّا کان القلب منبع الشعب المنبثّة فی أقطار البدن الإنسانی- بل فی سائر الحیوانات التامّة الخلقة و هو أوّل ما یتکوّن من الإنسان و الحیوان- و کان شعیب علیه السلام أیضا کثیر الشعب لکثرة نتائجه و أولاده، ناسب التخصیص المذکور.
و الأمر الآخر أنّه کان الغالب على شعیب علیه السلام الصفات القلبیة من الأمر بالعدل و إیفاء الکیل و الوزن بالقسط. و القلب هو مظهر العدل و صورة أحدیة الجمع بین الظاهر والباطن واعتدال البدن وعدالة النفس، ومنه یصل الحیاة والفیض إلى جمیع الأعضاء على السویة بمقتضى العدل.
وله أحدیة جمع القوى الروحانیة والنفسانیة و البدنیة.
ومنه ینشعب هذه القوى بالقسطاس المستقیم و تتوزّع على کل عضو عضو بمقتضى استعداده و قوّة قبوله، و یأتى المدد إلیها دائما على نسبة محفوظة القدر بالعدل.
و له إیفاء کل ذى حق حقّه.
(اعلم أن القلب)، یعنى قلب العارف باللَّه، لأنّ قلب غیره لا یسمّى «قلبا» فی عرفهم إلّا مجازا، کما قیل، وإنّما قلنا «باللَّه» لأنّ قلب العارف بغیره من الأسماء لیس له السعة المذکورة فیما بعد.
(و ان کان)، أی القلب، (موجودا من رحمة الله)، أی الوجود المفاض عنه على عباده، أو ما به یتعطّف علیهم و یشفق علیهم و یرحمهم، فیهب لهم الوجود، فإنه، أی القلب، أوسع من رحمة الله، لان الله أخبر على لسان رسوله صلّى الله علیه و سلم فی حدیث قدسی أن قلب العبد وسعه جمعا و تفصیلا.
حیث قال سبحانه، «ما وسعنی»، أی من حیث مرتبتی جمعى و تفصیلى، «أرضى»، أی الأجسام السفلیة، «و لا سمائى»، أی الأرواح العلویة، «و وسعنی» من حیثهما «قلب عبدى المؤمن، فانّه یتقلّب معى و فىّ و بى و لی بحسب تقلّبى فی الشؤون».
و رحمته لا تسعه إلّا فی مرتبة تفصیله، فإنها، أی الرحمة، لا یتعلق حکمها الا بالحوادث، التی هی مرتبة تفصیله.
فان قیل، «رحمته تسع القلب، و القلب لا یسع نفسه، فلا یکون القلب أوسع» قلنا، «القلب یسع نفسه من حیث الاحاطة العلمیة، و کیف لا، و قد وسع الحق جمعا و تفصیلا، فلا یشذّ عنه شیء من الموجودات.»
(و هذه،) أی کون القلب أوسع من رحمة الله سبحانه، مسألة عجیبة و فائدة غریبة ان عقلت و فهمت منها المراد و استفدت منها ما ینبغی أن یستفاد. و الله ولى الرشاد و الموفّق للسداد.
اعلم أنّ لکل قلب خمسة أوجه:
وجه مواجه حضرة الحق سبحانه ، لا واسطة بینه و بین الحق .
و وجه یقابل به عالم الأرواح، و من جهته یأخذ من ربّه ما یقتضیه استعداده بواسطة الأرواح
و وجه یختصّ بعالم المثال، و یحتظى منه بمقدار نسبته من مقام الجمع و بحسب اعتدال مزاجه و أخلاقه و انتظام أحواله فی تصرّفاته و حضوره و معرفته.
و وجه یلی عالم الشهادة و یختصّ بالاسم «الظاهر» و «الآخر»،
و وجه جامع یختصّ بأحدیة الجمع، و هی التی تلیها مرتبة الهویة المنعوتة بالأوّلیة و الآخریة و الظهور و البطون و الجمع بین هذه النعوت الأربعة.
ولکل وجه مظهر من الأناسى والذی هو صورة قلب الجمع والوجود، کنبیّنا صلّى الله علیه و سلّم، فانّ مقامه نقطة وسط الدائرة الوجودیة.
فوجوه قلبه الخمسة تواجه کلّ عالم و حضرة و مرتبة و تضبط أحکام الجمیع و تظهر بأوصافها کلها بالوجه الجامع المنبّه علیه آنفا.
و إذا عرفت هذا، فنقول، أعظم الأشیاء الموصوفة بالسعة من جانب الحق و الرحمة و القلب الإنسانی و العلم، فانّه قال فی سعة الرحمة، «وَ رَحْمَتِی وَسِعَتْ کُلَّ شَیْءٍ».
و قال فی الرحمة و العلم معا بلسان الملائکة، «رَبَّنا وَسِعْتَ کُلَّ شَیْءٍ رَحْمَةً وَ عِلْماً»، و قال فی سعة القلب الإنسانی، «ما وسعنی أرضى و لا سمائى، و وسعنی قلب عبدى المؤمن» الحدیث.
و لا شک أنّ بین سعة کل واحدة من هذه الثلاثة و بین الآخرین تفاوتا لا یعرف حقیقته ما لم یعرف حقیقة الرحمة و أحکامها و حقیقة العلم و کیفیة تعلّقه بالمعلومات و حقیقة القلب الذی وسع الحق.
فلنبدأ- بتأیید الله و إمداده- بذکر سعة العلم الذاتی الإلهی و تعلّقه بالحق و بالمعلومات، فنقول، اعلم أنّ تعلّق علم الحق بذاته على نوعین، و کذلک تعلّقه بالمعلومات:
فانّ للحق تعیّنا فی عرصة تعقّله نفسه، و لهذا التعیّن الإطلاق بالنسبة إلى تعیّن کل شیء فی علم کل عالم و بالنسبة إلى تعیّن الحق فی تعقّل کل متعقّل، فعلمه سبحانه یتعلّق من حیث تعیّنه فی نفسه و من حیث تعیّنه فی تعقّل کل متعقّل.
و یتعلّق علمه تعالى أیضا بذاته على نحو آخر، و هو معرفته بذاته من حیث إطلاقها و عدم انحصارها فی تعیّنها فی نفسها.
و هذه المعرفة هی معرفة کلیة جملیة.
و یتعلّق علمه بالمعلومات أیضا على نحوین:
أحدهما باعتبار تعیّنها فی علمه و تعقّل امتیاز بعضها عن بعض، غیر أنّ هذا النحو من التعلّق العلمی لا یشمل جمیع الممکنات، بل یختصّ بما قدّر دخوله فی الوجود فی دور أو أدوار محصورة.
و أمّا بالنسبة إلى جمیع الممکنات من حیث أنّها غیر متناهیة، فانّ العلم لا یتعلّق بها إلّا تعلّقا کلیا جملیا، کما أشرت إلیه فی شأن الحق سبحانه من حیث إطلاقه.
و علّة هذا الشبه والاشتراک التامّ بین الحق والممکنات هو أنّها فی التحقیق الأوضح شئون ذاته الکامنة فی إطلاقه و غیب هویته، و لا مخلص لأحد فی علمه بالحق من تجاوز التعیّنات التعقّلیة و الانتهاء إلى تعیّن الحق فی تعقّله نفسه و شهوده.
اتّصال ذلک التعیّن من وجه بالإطلاق الذاتی الغیبى العدیم الوصف و الاسم و الرسم و الحصر و الحکم، إلّا لمن کان حقیقته البرزخ الجامع بین الوجوب و الإمکان و أحکامهما فانّه یواجه باطلاقه غیب الذات باعتبار عدم مغایرته له دون توهّم تعدّد و امتیاز.
فافهم و تدبّر غریب ما أسمعت و ما علیه نبّهت، تعرف أنّه لیس شیء أوسع من العلم بشرط معرفته على الوجه المذکور.
و أمّا سعة الرحمة المشار إلیها فی الکتاب و السنّة، فتختصّ ببعض المحدثات المتعیّنة فی اللوح المحفوظ بکتابة القلم الأعلى.
و هی المنشعبة إلى مائة شعبة، کما أشار إلیه صلّى الله علیه و سلّم.
و أمّا سعة القلب الذی وسع الحق، فهی عبارة عن سعة البرزخیة المذکورة الخصیصة بالإنسان الحقیقی، الذی هو قلب الجمع و الوجود.
فالإنسان الحقیقی الذی هو قلب الجمع و الوجود، و قلبه برزخیته، و علمه المنبّه علیه آنفا. فافهم.
و إذا کان الحق سبحانه کما ورد فی الصحیح یتحول یوم القیامة لأهل المحشر فی الصور، أی صور اعتقاداتهم بحسب قابلیاتهم و موجب استعداداتهم، (مع أنه تعالى فی نفسه لا یتغیر) عمّا هو علیه من حیث هو.
(فالقلوب) المتجلّى لها له، أی للحق سبحانه، (کأشکال الاوعیة) المتشکّلة بأشکال مخصوصة، کالاستدارة و التثلیث و التربیع و غیرها، (للماء)، الذی لیس مقیّدا بشکل مخصوص لکنّه (یتشکل بشکلها)، أی الأوعیة، (مع کونه) فی حد ذاته (لا یتغیر عن حقیقته) المائیة.
"" أضاف الجامع : قال الشیخ عبد الکریم الجیلی فى العینیة :
و لکنها أحکام رتبتک اقتضت ..... …ألوهیة للضد فیک التجامع
و ما الخلق فى التمثال إلا کثلجة ..... …و أنت بها الماء الذى هو نابع
فما الثلج فى تحقیقنا غیر مائه ..... …وغیر ان فى حکم دعتها الشرائع
و لکن بذوب الثلج یرفع حکمه ..... و یوضع حکم الماء و الأمر واقع
تجمعت الأضداد فى واحد البها ..... و فیه تلاشت فهو عنهن ساطع
فکل بهاء فى ملاحة صورة ..... …على کل قد شابه الغصن یانع ""
(فافهم ) ما ذکرنا من المثال لتعرف منه حال الممثّل له، فانّه کما أنّ الماء لا شکل له فی نفسه یتقیّد به- بل یتشکّل بشکل وعائه.
کذلک الحق المطلق سبحانه لیس له فی ذاته صورة مخصوصة یتجلّى بها، بل یتجلّى على صورة العبد المتجلّى له، فانّ أهل التجلّیات إنّما یرد علیم التجلّى بحسب استعداداتهم و خصوص قابلیاتهم الوجودیة.
و کذلک استعداداتهم فی عرصة الوجود العینی إنّما تکون بموجب استعداداتهم الغیبیة الغیر المجعولة فی حضرة العلم الذاتی. فمهما حصل تجلّ لمتجلّى له فی حضرة الوجود العینی، فانّما یحصل على صورة استعداد العین الثابتة الأزلیة التی لهذا المتجلّى له.
فأرباب الاستعدادات المخصوصة التی تعطیهم استعداداتهم الاعتقادات الجزئیة التقیّدیة إذا تجلّى الحق لهم، رأى کلّ أحد صورة معتقده فیه فما رأى سوى نفسه و ما جعله فی نفسه من صور الاعتقاد.
و العبد الکامل لیس کذلک، فانّ له استعدادا کلیا و قابلیة أحدیة جمعیة، و خصوصه الإطلاق من کل قید و السراح من کل حصر و الخروج عن کل طور. فهو یقابل باطلاقه عن نقوش القیود الاعتقادیة إطلاق الحق و یقابل کذلک کلّ حضرة من الحضرات التی یکون منها و فیها و بحسبها التجلّى بما یناسبها ممّا فیه من تلک الحضرة.
فیقبل جمیع التجلّیات مع الآنات بمرائیه و مجالیه التی فیه من غیر مزاحمة.
و التجلّى الذاتی الغیبى دائم الاشراق من الغیب المطلق الإلهی الذاتی على غیب قلبه المطلق الإلهی الأحدى الجمعى الکمالی- جعلنا الله و إیّاک من أهله بحوله و طوله.
(ألا ترى) هذا توضیح و تنویر لما سبق من تحوّل الحق فی الصور- (أن الحق «کُلَّ یَوْمٍ»)، أی کلّ آن- فانّ «الآن» هو یوم الذات، لا ینقسم أبدا- «هُوَ فی شَأْنٍ» و ما أعظم شأن ذى الشأن الذی هذا شأنه فی کل آن!
کذلک، أی کما یتقلّب الحق سبحانه فی شئونه، کذلک، القلب یتقلب حسب تقلّبه سبحانه فی الخواطر و الصفات و الأحوال. و لذلک، أی و لتقلّب القلب فی الخواطر، قال سبحانه، «إِنَّ فی ذلِکَ»، أی القرآن، «لَذِکْرى لِمَنْ کانَ لَهُ قَلْبٌ» یتقلّب فی أنواع الصور و الصفات.
و لم یقل، «له العقل»، لان العقل یتقید بالاعتقادات الجزئیة، فیحصر الأمر الإلهی- الذی لا ینحصر- فیما یدرکه، بخلاف القلب، فانّه لکونه محلّا لتجلّیات مختلفة من الإلهیة و الربوبیة و تقلّبه فی صورها یتذکّر ما نسیه ممّا کان یجده قبل ظهوره فی هذه النشأة العنصریة، و یجد هنا ما أضاعه، کما قال علیه السلام، «الحکمة ضالّة المؤمن». فافهم.
اعلم أنّ بین «القلب» و «القبول» و «القابلیة» مناسبة معنویة و لفظیة: أمّا المعنویة، فلأنّ له قابلیة قبول صور جمیع التجلّیات.
و أمّا اللفظیة، فلأنّه لو لا قبلیّة بعض حروف «القلب» و «القابل» و قلبه، لکان هو هو- و قلب الشیء لغة أن یجعل أوّله آخره أو ظاهره باطنه جمعا و فرادى.
و إذا قلبت لفظ «القلب»، فانّ «القبول» و «القابلیة» من تقالیبه.
و أمّا «العقل» لغة، فهو القید و الربط و الضبط. فمقتضاه التقیید.
و حقیقة الذکرى بالحق عن الحق- المطلق عن کل قید، حتّى عن قید الإطلاق الذی یقابله التقیید- تنافی العقل، الذی حقیقته القید و الضبط.
و لهذا ظهر هذا الحصر و القید أوّلا فی العقل الأوّل، الذی عقل نور التجلّى المطلق باستعداده الخصوصى التقییدى.
فأقامه الله لمظهریة هذا السرّ، و هو القید.
فحقیقته تقیید النور المطلق.
فقال له الحق، «اکتب»، أی قیّد و اجمع علمى فی خلقى إلى یوم القیامة.
و ذلک قید لقید فی قید.
و قبول جمیع التجلّیات الغیر المتناهیة دائما أبدا لیس إلّا للحقیقة الانسانیة الإلهیة الأزلیة الأبدیة الکمالیة الجمعیة الأحدیة، فهی قلب الوجود الحق، و له حقیقة الذکرى.