الفقرة الحادی والعشرون :
کتاب تعلیقات د أبو العلا عفیفی على فصوص الحکم الشیخ الأکبر ابن العربی 1385 هـ :
12 - فص حکمة قلبیة فی کلمة شعیبیة
(1) القلب.
(1) القلب عند ابن العربی کما هو عند سائر الصوفیة الأداة التی تحصل بها المعرفة باللَّه وبالأسرار الإلهیة: بل بکل ما ینطوی تحت عنوان العلم الباطن: فهو أداة إدراک وذوق لا مرکز حب وعاطفة.
أما مرکز الحب عندهم فهو الروح، وإن کانوا ینسبون الحب إلى القلب أحیاناً.
وهنالک طریق ثالث للاتصال الروحی عندهم وهو «السر» الذی هو مرکز التأمل فی اللَّه.
ولیس غریباً أن یعدّ الصوفیة القلب مرکزاً للإدراک لا للعاطفة فإنهم نحوا فی ذلک منحى القرآن الذی صور القلب هذا التصویر فجعله محلًا للإیمان ومرکزاً للفهم والتدبر الصحیحین.
یقول: «أَ فَلا یَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها؟» (س محمد- 22).
«أُولئِکَ کَتَبَ فِی قُلُوبِهِمُ الْإِیمانَ» (س المجادلة- 21) «فَأَمَّا الَّذِینَ فِی قُلُوبِهِمْ زَیْغٌ فَیَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَاوِیلِهِ» (س آل عمران- 6) وما شاکل ذلک.
ولیس المراد بالقلب تلک المضغة الصنوبریة الجاثمة فی الجانب الأیسر من الصدر- وإن کانت متصلة به اتصالًا ما، لا یعرف کنهه.
بل هو القوة الخفیة التی تدرک الحقائق الإلهیة إدراکاً واضحاً جلیاً لا یخالطه شک.
وإذا أشرق فیه نور الإیمان وصفا من غشاوات البدن وشهواته انعکس علیه العلم الإلهی: أو على حد تعبیر ابن العربی: انکشف ما فیه من العلم الإلهی فشاهد فیه صاحبه صفحة الوجود: بل شاهد فیه الحق ذاته.
وهذا فی نظره معنى الحدیث القدسی الذی یقول اللَّه تعالى فیه: «ما وسعنی أرضی وا سمائی و لکن وسعنی قلب عبدی المؤمن».
ولکن قلب أی عبد مؤمن؟
یقول ابن العربی هو قلب العارف الذی یدور مع الحق أینما دار، ویشاهده فی کل تجلّ من تجلیاته.
هو القلب الذی لا یشاهد سوى الحق.
ولکن القلب محجوب عادة عن الحق مشغول عنه بما سواه، تتنازعه عوامل العقل والشهوة.
ولذا کان مجال نضال دائم بین جنود الحق وجنود الشیطان، یطلب کلٌ الظفر به لنفسه. وتتلخص حیاة السالک فی الطریق الصوفی فی تدبیر الوسائل التی یقهر بها شیطان النفس ویظفر بالحق.
وللقلب بابان تدخل المعرفة الإلهیة من أحدهما، وتدخل الأوهام إلیه من الآخر. وهذا عالَمٌ وذلک عالم آخر کما یقول جلال الدین الرومی. فغایة الصوفی تخلیص القلب من أثر الأوهام بطرد کل خاطر یتصل بما سوى اللَّه.
وقد أنکر الصوفیة على العقل القدرة على فهم الألوهیة وأسرارها قائلین إن العقل مقید بمنطقهِ فی دائرة الأمور المحدودة المتناهیة. أما الحق فلا حد له ولا نهایة.
ومن ناحیة أخرى یرى العقل الأمور على أکثر من وجه، ویرى الشی ء الواحد ونقیضه، ویدافع عن کل منهما بحجج متکافئة فی القوة والإقناع.
ثم هو فوق ذلک یسدل على الحقائق ستاراً کثیفاً من الألفاظ، بل لقد یعنی بالألفاظ التی هی رموز الحقائق ویغفل عن الحقائق نفسها.
وقد أفنى الفلاسفة أعمارهم فی الاشتغال بألفاظ جوفاء لا طائل تحتها. أما الصوفیة فینظرون إلى الحقائق ذاتها ثم یمسکون عن الحدیث عنها أو لا یجدون من الألفاظ ما یستطیعون به التعبیر عما یشاهدونه.
(2) اعلم إن القلب- أعنی قلب العارف- هو من رحمة اللَّه، وهو أوسع منها، فإنه وسع الحق جلّ جلاله».
(2) موضوع الکلام هنا هو قلب العارف لا القلب الإنسانی إطلاقاً، و العارف هو المولى أو الإنسان الکامل الذی تحققت فیه کل صفات الوجود فکان مظهراً تاماً و کوناً جامعاً لها.
والقلب من رحمة اللَّه لأنه شیء من الأشیاء التی وسعتها الرحمة الإلهیة فی قوله تعالى: «وَرَحْمَتِی وَسِعَتْ کُلَّ شَیْ ءٍ»، أی هو شیء من الأشیاء التی منحها اللَّه الوجود نعمة منه وفضلًا، إذ جرینا على تفسیر الرحمة الإلهیة فی هذا الکتاب بمعنى إسباغ اللَّه الوجود على الأشیاء.
ورحمة اللَّه التی وسعت کل شی ء فی الوجود أی فی الوجود المخلوق أو فی عالم الوجود الإضافی- لا تسع الحق تعالى لأن وجوده لا یوصف بأنه ممنوح أو معطى، بل هو له من ذاته وواجب له لذاته.
ولکن قلب العارف یسع الحق بدلیل قوله تعالى: «ما وسعنی أرضی ولا سمائی ولکن وسعنی قلب عبدی المؤمن». ولهذا کان القلب أوسع من الرحمة.
بأی معنى إذن وعلى أی وجه وسع قلب العارف الحقَّ جل جلاله؟ هذه مسألة ظهر فیها اختلاف بین الصوفیة لاختلاف مشاربهم ومذاهبهم. أما أهل السنة منهم فیذهبون إلى أن قلب المؤمن الصادق فی إیمانه لا یتسع لشیء من الأشیاء مع الحق لأنه مشغول به عمن سواه. فهو لا یفکر إلا فی الحق ولا یرى شیئاً سوى الحق ولا یخطر به خاطر إلا کان متصلًا بالحق.
فنی عن نفسه وعن کل ما سوى الحق وبقی بالحق وحده.
وهذا رأی عامة الناس وطریقتهم فی فهم احتواء القلب للحق.
وأما الخاصة والمقصود بهم دائماً صوفیة وحدة الوجود فیفهمون احتواء قلب العارف على الحق بأحد الوجهین الآتیین:
الأول: أن قلب العارف یشاهد الحق فی کل مجلى و یراه فی کل شی ء و یعبده فی کل صورة من صور المعتقدات. فهو هیولی الاعتقاد کلها کما أشار إلیه من قبل. فهو یحتوی الحق بمعنى أنه مجتمع صور الاعتقادات فی الحق. و المراد بالحق هنا «الحق المخلوق فی الاعتقاد» لا الحق من حیث هو فی ذاته. و فی هذا المعنى قال ابن العربی:
عقد الخلائق فی الإله عقائدا ..... وأنا شهدت جمیع ما اعتقدوه
الثانی: أن العارف هو الإنسان الکامل الذی جمع کل صفات الوجود فی نفسه فکان بذلک صورة کاملة للحق. و لما کان قلب العارف بمثابة المرآة التی ینعکس علیها وجوده الذی هو صورة مصغرة من وجود الحق، شاهد الحق فی مرآة قلبه و هذا معنى احتواء قلبه علیه.
و لا یحتوی قلب إنسان آخر- بل و لا قلب موجود آخر- الحق بهذا المعنى لأنه لا ینعکس على مرایا قلوبهم إلا صور ناقصة للحق ینتزعونها من صور وجودهم الخاصة.
(3) «و رحمته لا تسعه. هذا لسان العموم من باب الإشارة، فإن الحق راحم لیس بمرحوم فلا حکم للرحمة فیه».
(3) المسألة هنا: هل الرحمة تسع الحق کما تسع الخلق: و هل لها حکم فی الحق؟
یقول إن لغة العموم- و هی لغة أهل الظاهر تثبت أن الرحمة لا تسع الحق لأنه راحم غیر مرحوم: ای منْح الوجود للأشیاء- و هو المراد بالرحمة- من فعل الحق، أما الحق فلا یوصف بأنه مرحوم بهذا المعنى. هذا إذا نظرنا إلى الحق فی ذاته، أما إذا نظرنا إلیه من حیث تجلیه فی صور الممکنات و ظهوره بها فللرحمة حکم فیه أیضاً، فإن الوجود یفیض على هذه الممکنات فتظهر بالصور التی هی علیها، و هذا هو الرحمة بعینها. هذه هی لغة أهل الخصوص التی شرع بعد ذلک فی شرحها.
و لم یزد فی هذا الشرح على ما ذکره سالفاً و کرره مراراً من انتشار النفس الرحمانی على صور الموجودات و ظهور الحق بمظاهرها: و انتهى من کل هذا إلى أن الرحمة الإلهیة قد وسعت الحق أیضاً، بل هی أوسع من القلب أو مساویة له فی السعة.
راجع ما ذکر عن المعنى الخاص للرحمة فی الفص الأول و الفص السادس عشر و ما ذکر عن العطایا و المنح فی الفص الثانی.
(4) «فالألوهیة تطلب المألوه و الربوبیة تطلب المربوب».
(4) هذا بیان لسبب وجود العالم و ظهوره بالصورة التی هو علیها. و ذلک أن الأسماء الإلهیة التی هی عین مسمى الحق تطلب ما تعطیه للوجود من الحقائق أی تطلب مظهراً خارجیاً تحقِّق و تظهر فیه کمالاتها. ولیس ذلک المظهر إلا العالم.
فلا بدّ إذن من هذا الظهور و لا بدّ من وجود العالم، و إلا لم یکن للأسماء الإلهیة معنى. و الطلب هنا- فی قوله: «طالبة ما تعطیه من الحقائق» إشارة إلى ضرورة عقلیة هی ضرورة وجود أحد المتضایفین إذا وجد الآخر.
فالأسماء الإلهیة تطلب- أی تطلب عقلًا ما یحقق معانیها و هذه هی متضایفاتها: فإنه لا معنى لوصف الحق بأنه عالم إلا إذا وجد المعلوم، و لا معنى لوصفه بالألوهیة إلا إذا وجد المألوه، و لا بالربوبیة إلا إذا وجد المربوب و هکذا.
و فی الأسماء الإلهیة طائفتان متمایزتان مختلفتان: إحداهما الأسماء التی یتصف بها الحق من حیث کونه إلهاً- أی معبوداً- و من هذه تتکوّن الألوهیة.
و الأخرى الأسماء التی یتصف بها الحق من حیث کونه مدبِّراً للوجود و متصرفاً فیه: و منها تتکون الربوبیة. فمن حیث ألوهیة الحق یُعْبَد و یُخَاف و یقدّس و یسبّح بحمده و یدعَى و یُتَضرّع إلیه إلى غیر ذلک من الأفعال التی یقوم بها المألوهون إزاء إلههم. و من حیث کونه رباً یرزق الخلق و یدبّر الکون و یجیب المضطر إذا دعاه، و غیر ذلک مما یقوم به الرب نحو المربوبین.
فالألوهیة إذن تطلب المألوهین، و الربوبیة تطلب المربوبین، و لا وجود لإحداهما- بل و لا تقدیر لوجود إحداهما إلا بوجود أو تقدیر وجود ما یضایفها.
و قد صرح ابن العربی بهذا المعنى فی موضع آخر من الفصوص بقوله: «فنحن بمألوهیتنا قد جعلناه إلهاً».
هذا کلام یقضی به منطق العقل و منطق أی مذهب من مذاهب الدین، و لکن ما معناه و ما قیمته فی مذهب ابن العربی و هو یقول بوحدة الوجود: أی بوحدة الإله و المألوه و الرب و المربوب؟ لا یزال إله ابن العربی یُعْبَد و یقدّس
و یسبّح بحمده: و لکن بمعان خاصة وضعها لهذه الألفاظ، و قد سبق شرح بعضها. و هو معبود و مقدّس و مسبّح بحمده من حیث إنه «الکل»، و الذی یعبده و یقدسه و یسبح بحمده هی أفراد الموجودات أو صورها. فالألوهیة و المألوهیة، و إن لم یکن لهما المعنى الدینی الخاص الذی نعرفه، لیسا خلواً من معنى فلسفی له قیمته و خطره فی مذهبه. على أنه قد یُشْرِب ذلک المعنى الفلسفی أحیاناً روحاً دینیة عالیة و یبث فیه عاطفة دینیة قویة لا تقلّ فی قوتها و لا فی حرارتها عن عاطفة أی رجل دینی. فالعبد- مع أنه وجه من وجوه الحق و مجلى من مجالیه- لم یزل مفتقراً إلى الحق الذی هو أصله- مستمداً وجوده من وجوده، لا قیمة و لا وجود له فی ذاته. و أی افتقار أعظم من افتقار الصورة- و هی فی ذاتها عدم محض- إلى من یقومها و یوجدها؟
فشأن ابن العربی فی هذا الصدد شأن «اسبنورا»: لم یخْفُتْ فی قلبه صوت العاطفة الدینیة، و إن قضى عقله على کل معنى من المعانی التی تحملها ألفاظ الدین- أعنی دین المذاهب و النحل و هو الدین بمعناه الضیق. أما دینه فهو الدین العالمی الواسع الذی وجد أصوله و مبرراته فی رحبة وحدة الوجود.
على أن الألوهیة و الربوبیة من جهة أخرى مفتقرتان إلى المألوهین و المربوبین، و لا بد من ذلک لکی ینعکس کل من المتضایفین على الآخر تمام الانعکاس و یتکافآ وجوداً و عدماً. فإذا قلنا إن الحق غنی عن العالمین، کان المراد بذلک الذات الإلهیة التی لا نسبة لها مطلقاً إلى الوجود من حیث هی، لا الحق الذی هو إله و رب.
(5) «فلما تعارض الأمر بحکم النسب ورد فی الخبر ما وصف الحق به نفسه من الشفقة على عباده».
(5) لا تعارض و لا تناقض فی الذات الإلهیة من حیث ما هی علیه فی نفسها، و لکن التعارض و التناقض حاصلان فیها من حیث الأسماء الإلهیة و الصفات التی هی نسب و إضافات بین الذات الواحدة و مظاهرها الکونیة الکثیرة.
و المظاهر الکونیة متعارضة متناقضة فلا بد من وقوع التعارض و التناقض فی نِسَبِها إلى الذات. فالحق موصوف بصفات متضادة کالأول و الآخر و الظاهر و الباطن و الجمیل و الجلیل، و هو- فی مذهب ابن العربی- موصوف أیضاً بصفات المحدثات لأنه هو الظاهر فی صورها الکثیرة المتباینة.
ففی هذه الحضرة فقط و فی هذا المقام وحده، و هو مقام الکثرة (لا مقام الوحدة الذی هو حضرة الذات) وصف الحق نفسه بالشفقة على عباده و برحمته إیاهم، فإن شفقته و رحمته یتجلیان فی منح الوجود للکثرة الوجودیة التی هی العالم. و لهذا قال: «فلما تعارض الأمر بحکم النسب»: أی فلما وقعت المعارضة فی الذات الإلهیة من أجل نسبها إلى الکثرة الوجودیة، خلق اللَّه العالم. و خلق العالم هو عین شفقته به.
(6) «فلا یزال «هو» له دائماً أبداً».
(6) ذکر فی الفقرة السابقة أن للحق تجلیین: تجلی غیب و تجلی شهادة. فتجلیه فی الغیب هو تجلیه لذاته فی ذاته فی الصور المعقولة لأعیان الممکنات و هذه هی حضرة الأسماء و الفیض الأقدس الذی شرحناه فی الفص الأول.
و تجلیه فی الشهادة هو ظهوره فی صور أعیان الممکنات فی العالم الخارجی، و هو الفیض المقدّس المشار إلیه هنالک.
فالتجلیان هما هذان الفیضان أو الحضرتان المتقابلتان و هما أیضاً المرموز إلیهما بالاسمین الإلهیین: الأول و الآخر أو الباطن و الظاهر: عالم الغیب و عالم الشهادة.
و لما کان الضمیر «هو» یشیر إلى المفرد التائب کان رمزاً على عالم الغیب، و وجب إطلاقه على الحق فی تجلیه الأول وحده، و لهذا قال: «فلا یزال «هو» له (أی للحق) دائماً أبداً. و لا یطلق «هو» على عالم الشهادة لأنه کثرة مظهریة لا ذات واحدة، کما أنه لا یقال على أی موجود من الموجودات إنه هو الحق. و لهذا کفَّر ابن العربی النصارى فی قولهم: «إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِیحُ ابْنُ مَرْیَمَ» * لأنهم قصدوا أنه عیسى ابن مریم دون غیره.
و فی تجلی الغیب یحصل الاستعداد الذی یکون علیه قلب العارف. و قد ذهب جمهور الصوفیة إلى أن الحق یتجلى لقلب کل عبد بحسب استعداد ذلک القلب، و لکن ابن العربی یخالفهم فی هذا الرأی و یذهب إلى أن قلب العارف یتلون فی کل لحظة بلون الصورة التی یتجلى له الحق فیها، فهو هیولی الصورة أو الاعتقاد کما أشرنا.
و لهذا قال: «فإن العبد- و یقصد به العارف خاصة- یظهر للحق: و المراد یظهر قلبه للحق: على قدر الصورة التی یتجلى له فیها الحق». و قد شرح هذا المعنى من قبل فی قوله: «فإن القلب من العارف أو الإنسان الکامل بمنزلة محل فص الخاتم من الخاتم لا یفضل: بل یکون على قدره و شکله».
فکأن المسألة إذن لیست مسألة استعداد للقلب یحصل تجلی الحق بمقتضاه، فیراه القلب على هذا النحو أو ذلک و یدرکه فی هذه الصورة أو تلک، بل المسألة مسألة مرآة تنعکس علیها صور جمیع الموجودات فیدرکها قلب العارف على أنها صور للحق و یتشکل بشکلها و یتلون بلونها و یضیق و یتسع بضیقها و سعتها، لأن القلب من هذه الصور کفصّ الخاتم من الخاتم.
على أن هذا لا یمنعنا من أن نسمی قدرة القلب على قبول جمیع صور التجلی الإلهی استعداداً أیضاً و أن قلب العارف قد قدّر له ذلک فی عالم الغیب کما قدر لغیره ألا یدرک من صور التجلی إلا صورة واحدة.
و لکن الأولى أن نقول إن تفسیر الصوفیة لتجلی الحق فی قلب العبد تفسیر صوفی، و تفسیر ابن العربی تفسیر فلسفی متأثر بمذهبه فی وحدة الوجود.
(7) «فلا یشهد القلب و لا العین أبداً إلا صورة معتقده فی الحق».
(7) بعد أن شرح معنى احتواء قلب العارف للحق ومشاهدته له، أراد أن یفسر ذلک «الحق» المشهود، فقال إنه صورة معتقد العارف.
فالعارف یشهد جمیع صور المعتقدات لأنه لا یتقید بصورة دون أخرى، و إن شئت فقل أنه یشهد الحق المخلوق فی المعتقدات فی هذه الصورة، بینما یشهده غیره فی صورة خاصة و لا یراه إلا فیها. وهؤلاء هم أصحاب الاعتقادات الخاصة.
وفی هذه العبارة اعتراف صریح من ابن العربی بأن «الحق» فی ذاته لیس مشهوداً لأحد فی هذه الدنیا، وإنکار صریح على الصوفیة الذین یدّعون أنهم یشاهدون «الحق» فی حال وجدهم وفنائهم.
فلیس الحق فی نظره مشهوداً لأحد من حیث ذاته المقدسة المنزهة عن جمیع النسب والإضافات وکل ما یتصل بالوجود الخارجی.
ولیس الحق مشهوداً لأحد من حیث إنه ذات موصوفة بالصفات والأسماء، إلا عن طریق المجالی والمظاهر الوجودیة التی یتألف منها العالم.
ولکن «الحق» مشهود فی کل قلب- وفی قلب العارف بوجه خاص فی صور معتقدات صاحب هذا القلب.
فإن عبَّرنا عن هذه المسألة بلغة التجلیات کما یعبر عنها هو أحیاناً، نقول إن تجلی الحق فی ذاته غیر مشهود لأحد، و کذلک تجلیه فی الحضرة العلمیة فی أسمائه و صفاته، و لکنه مشهود فی تجلیه فی صور الإله المخلوق فی المعتقدات.
(8) «فالأمر لا یتناهى من الطرفین».
(8) المعرفة الحقیقیة بالحق هو أنک لا تقیده فی صورة خاصة فتقر به و تنکر ما عداها، بل تطلقه إطلاقاً فی جمیع الصور الوجودیة على السواء- أو فی جمیع صور الاعتقادات على السواء و صور الوجود لا تتناهى فمعرفتک بالحق لا تتناهى.
و لذلک قال: «و کذلک العلم باللَّه ما له غایة فی العارف یقف عندها. و کیف یقف العلم باللَّه عند غایة، و العلم به مستمد من العلم بمظاهر الوجود المتغیرة المتبدلة فی کل آن من الآنات، و الخلق الجدید « یشیر الشیخ ابن العربی فی مثل هذا المقام إلى قوله تعالى: «بَلْ هُمْ فِی لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِیدٍ» (قرآن س 50 آیة 14) و یشرح الخلق الجدید بهذا المعنى. وقد عالج هذه المسألة فی الفص السادس عشر.
الذی هو تحول الحق فی الصور هو قانون الوجود؟
والمراد بالطرفین اللذین لا نهایة لهما هو «العلم بالحق» والحق نفسه من حیث ما هو معلوم. و لا نهائیة المعلوم تفضی حتماً إلى لا نهائیة العلم.
(9) «و ما یعرف ما قلنا سوى عبد له همَّه»
(9) أی لا یعرف حقیقة الوجود و أنه واحد على الرغم من کثرته، و عامٌّ على الرغم من تخصصه، و نور کله على الرغم من وجود الظلمة فیه، إلا عبد وهبه اللَّه تلک القوة الخفیة الغامضة التی یسمیها الصوفیة بالهمة.
و قد سبق أن شرحنا ناحیة هامة من نواحی هذه القوة فی التعلیق الثامن على الفص السادس، و هی وظیفة همة العارف فی الخلق و تسخیر الأشیاء. أما هنا فیشیر ابن العربی إلى ناحیة أخرى فی الهمة، و هی وظیفتها کأداة لتحصیل المعرفة بالأمور التی یعجز العقل عن إدراکها. فهی من هذا الوجه مرادفة للذوق الصوفی.
و معنى الهمة توجه القلب و قصده بجمیع قواه الروحانیة إلى فعل أمر من الأمور أو کشف حقیقة من الحقائق:
فهی عند الصوفیة وسیلة من وسائل التصرف و طریق من طرق المعرفة فی آن واحد. فهی القوة التی تنفعل لها أجرام العالم إذا أقیمت النفوس فی مقام الجمعیة (الفص السادس عشر)،
و هی القوة التی تخترق الحجب الکثیفة التی یسد لها العقل على الحقائق و تدرک کنه هذه الحقائق ذوقاً.
و حقیقة الحقائق کلها عند ابن العربی هی وحدة الوجود. فالقلب وحده- عن طریق هذه القوة هو الذی یدرک الحقیقة الوجودیة فی وحدتها. أما العقل فمقضیّ علیه بالعجز و القصور فی هذا المیدان، لأنه لا یستطیع التحرر أبداً من عبودیته لمنهجه و هو منهج تحلیل «الکل» إلى أجزائه.
(10) «إِنَّ فِی ذلِکَ لَذِکْرى لِمَنْ کانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَ هُوَ شَهِیدٌ»، (قرآن س 50 آیة 36) إلى قوله فإن الرسل لا یتبرأون من أتباعهم الذی اتبعوهم».
(10) فسر هذه الآیة تفسیراً باطنیاً خاصاً- کعادته- أخرجها به عن معناها و بنى علیها نظریة معتقدة فی معرفة العباد بالحق و مدى صحة هذه المعرفة فی حالة کل منهم.
قسم طالبی المعرفة بالحق ثلاثة أقسام:
الأول أصحاب القلوب وهم الکاملون من الصوفیة.
والثانی أصحاب العقول وهم الفلاسفة والمتکلمون.
و الثالث المؤمنون الذین یأخذون علمهم بالتقلید من أنبیائهم.
أما أصحاب القلوب فیعرفون الحق بالشهود و الذوق، و یرونه فی کل مجلى و یقرون به فی کل صورة.
فهم یدورون مع الحق أینما دار، و یشاهدون وجهه (ذاته) فی کل مشهد.
ألم یقل الحق فی کتابه: «فَأَیْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ»؟ (قرآن س 2 آیة 115).
و أما أصحاب العقول من الفلاسفة و المتکلمین فهم أهل الاعتقادات الخاصة الذین حصروا الحق فی صور خاصة- و الحق یأبَى الحصر.
و هؤلاء هم الذین «یکفر بعضهم ببعض و یلعن بعضهم بعضاً» من أجل ما وهموا أن الحق فی هذا المعتقَد أو ذاک أو فی هذه الصورة العقلیة أو تلک. و لیس لهؤلاء القوم شهود للحق فی قلوبهم، و إن کانت له صور معقولة مجردة فی عقولهم.
و أما المقلدون الذین قلدوا الأنبیاء و الرسل فیما أخبروا به عن الحق- و هم المشار إلیهم بقوله: «أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ» فلهم فی الحق أیضاً اعتقادات خاصة و صور معینة.
ولکنهم أصحاب شهود بدلیل قوله: «وَهُوَ شَهِیدٌ» لأنهم یشاهدون الحق بنوع ما فی صلواتهم و أدعیتهم و یمثلونه بین أیدیهم اتباعاً لأمر النبی صلى اللَّه علیه و سلم فی قوله: «أعبد اللَّه کأنک تراه»: أی تصوره على نحو ما فی قبلتک و أنت تعبده حتى لکأنک تراه.
و لیس هذا شهود قلب کشهود العارفین من الصوفیة و إنما هو شهود خیال.
(11) «وَ بَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ - فی هویته- ما لَمْ یَکُونُوا یَحْتَسِبُونَ».
(11) أشار فیما سبق إلى الحدیث القائل إن اللَّه یتجلى لعباده یوم القیامة فی صورة فینکرونه و یستعیذون منه، و فی صورة أخرى فیعرفونه و یسجدون له، و قال:
إن هذه الصور لیست سوى صور الاعتقاد التی یعرف فیها أصحابها الحق أو ینکرونه. و یشرح هنا معنى قوله تعالى «وَ بَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ یَکُونُوا یَحْتَسِبُونَ» بنفس المعنى: أی أن الحق تعالى یظهر لعباده یوم القیامة بصور لم یکونوا یتوقعونها و لا خطرت لهم ببال. و هذه الصور هی صور الاعتقاد المتعلق بحکم من أحکام اللَّه أو بهویَّة اللَّه ذاتها. فالمعتزلی مثلًا یعتقد أن العاصی إذا مات على غیر توبة عاقبه اللَّه، فإذا رأى یوم القیامة أن من مات کذلک رحمه اللَّه و عفا عنه للعنایة الإلهیة السابقة فی حقه، انکشف له خلاف معتقده. و هذا معنى تجلی الحق له یوم القیامة بصورة لم یکن یحتسبها.
أما فی هویة الحق، فإن بعض العباد یعتقد أنه کذا و کذا ثم یتجلى الحق لهم فی صورة هویة أخرى تخالف معتقدهم فیبدو لهم من اللَّه ما لم یکونوا یحتسبون.
و الأمر الخطیر فی المسألة أن ابن العربی یفسر یوم القیامة و کل ما یتصل به من أمور الآخرة تفسیراً جدیداً یتمشى مع مذهبه فی وحدة الوجود و لا یمت إلى المعانی الإسلامیة بصلة. فیوم القیامة هو یوم یقظة الروح الانسانیة، أو یوم عودة النفس الجزئیة إلى النفس الکلیة: أو هو الوقت الذی تتحقق فیه النفس الجزئیة من وحدتها الذاتیة بـ «الکل».
وعند هذه العودة- أو عند هذا التحقق تنمحی صور الاعتقادات الخاصة و یشاهَدُ الحق فی کل شی ء و فی صورة کل معتقد. فإذا ظهر الحق و وقع الشهود من العبد: أی إذا ارتفعت حجب المعتقدات الجزئیة، ارتفعت کذلک الحواجز و الفوارق بین الحق و العبد- بین الواحد و الکثیر- و استیقظت النفس من سباتها العمیق فوجدت أنها هی هو:
وشاهدت الحق بعد رفع الغطاء ببصر لا یعتریه کلال، وحق فیها قول الحق:
«لَقَدْ کُنْتَ فِی غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَکَشَفْنا عَنْکَ غِطاءَکَ فَبَصَرُکَ الْیَوْمَ حَدِیدٌ» (قرآن س 50 آیة 22).
(12) «و من أعجب الأمور أنه فی الترقی دائماً و لا یشعر بذلک للطافة الحجاب و رقته و تشابه الصور».
(12) الضمیر فی أنه یعود على الإنسان، و لکن الأمر لیس قاصراً على الإنسان، بل شاملًا للوجود کله: إذ کل شی ء فی ترق دائم من حیث إنه فی خلق متجدد فی کل آن، و الخلق الجدید إظهار للحق فیما لا یتناهى من صور الممکنات التی یتحقق فیها وجوده.
فإذا نظرنا إلى الخلق من ناحیة الحق، قلنا إن الحق «ینزل» إلى أعیان الممکنات ویتجلى فیها، وإذا نظرنا إلیه من ناحیة الممکنات نفسها وإظهارها للحق، قلنا إنها «تصعد» أو «ترقى» إلیه. ولا تزال الممکنات فی هذا النوع من الترقی نحو الحق لأن الحق لا یزال یتجلى لها فی مختلف صورها.
وهو بتجلیه لها أو فیها یظهر وجوده ویتحقق، وهی بقبولها ذلک التجلی یتحقق وجودها فیه.
فالترقی المذکور إذن هو التجلی الإلهی فی الصور، وهو فیض الوجود الدائم من الحق إلى الخلق، سواء فی هذه الدار أو فی الدار الآخرة- لا بدایة له ولا نهایة:
هو الفیض المقدس الذی أشرنا إلیه سابقاً.
ولکنه فیض یختلف اختلافاً جوهریاً عن الفیض الذی یتحدث عنه أفلوطین، لأن الفیوضات الأفلوطینیة وإن کانت ترجع إلى أصل واحد، لیست هی هذا الواحد ولا مظهراً من مظاهره کما أنها لا تلحقه أبداً ولا ترد إلیه بحال.
والتجلیات عند ابن العربی هی الحق نفسه مهما اختلفت صورها.
أما ما ذکرناه من هذه الدار والدار الآخرة فلیس لهما معنى عنده إلا حال ظهور الموجودات فی صورة ما وحال اختفاء هذه الصورة.
فالدار الآخرة موجودة فی هذا العالم، بل موجودة فی کل آن بالنسبة إلى کل موجود. هی جزء من ذلک الزمان الأزلی الذی تظهر فیه صور الموجودات وتختفی على الدوام.
(13) «لکن عثرت علیه الأشاعرة فی بعض الموجودات وهی الأعراض، وعثرت علیه الحسبانیة فی العالم کله».
(13) بعد أن فسر «الخلق» بأنه محض ظهور الحق فی صور أعیان الممکنات على نحو یتجدد فی کل آن منذ الأزل، وبعد أن قرر أن هذا هو الخلق الجدید الذی ذکره القرآن، أشار إلى أقرب مذاهب مفکری الإسلام من مذهبه.
فقال إن الأشاعرة أدرکوا جزءاً من هذه الحقیقة فی نظریتهم فی تجدد الأعراض، وأدرکها الحسبانیة فی نظریتهم فی طبیعة العالم کله.
قال الأشاعرة إن العالم مؤلف من جوهر و أعراض، و إن الأعراض فی تغیر و تبدل مستمرین بحیث لا یبقى واحد فی جوهر آنین، و نسبوا کل صور الموجودات و کثرتها و تعددها إلى اختلاف الأعراض المتجددة على الجوهر الواحد.
ولا شک عندی أن هذه النظریة الذریة التی قالوا بها وإن کانت بعیدة کل البعد عن فکرة وحدة الوجود، لأن الأشاعرة یثبتون وجود إله خالق إلى جانب الجواهر والأعراض کان لها أکبر الأثر فی الإیحاء بفکرة وحدة الوجود التی قال بها ابن العربی.
لأنه لمّا أحلّ «الحق» محل جوهر الأشاعرة استقامت له نظریته وأصبحت نظریة واحدیة بعد أن کانت ثنائیة، وأصبح الوجود منحصراً فی الجوهر الواحد (الذات فی اصطلاحه) والأعراض التی تختلف علیه (الصور الوجودیة فی مذهبه): وسقطت من نظریة الأشاعرة فکرة الخلق بالمعنى الصحیح، وأصبح ظهور الصور فی الذات الواحدة أمراً تلقائیاً ضروریاً.
وأقوى وجوه الشبه بین نظریة الأشاعرة ونظریته هو أن الأشاعرة ردوا الکثرة الوجودیة فی العالم إلى جوهر واحد مؤلف من ذرات أو جواهر فردة لا نهایة لعددها، وقالوا إن هذه الذرات لا یمکن معرفتها ولا وصفها إلا عن طریق ما یعرض لها من الأعراض التی تتغیر وتتبدل فی کل آن. فإذا اجتمعت على نحو ما أو افترقت ولحقها هذا العرض أو ذاک، ظهرت بصورة من صور الوجود سرعان ما تخلعها وتلبس صورة أخرى غیرها.
هکذا تظهر الموجودات وتتبین لنا صفاتها التی یسمونها بالأعراض.
و لکن الأشاعرة یختلفون عن ابن العربی فی أنهم یرون أن مجرد التغییر فی العالم العالم دلیل قاطع على حدوثه و إمکانه و افتقاره إلى محدث یحدثه و یحدث فیه ذلک التغیر.
و لکن ابن العربی اعتبر الحدوث و الافتقار قاصرین على الصور، و لم یر داعیاً لفرض خالق أو محدث للذوات.
و من مواضع الشبه أیضاً بین نظریتهم و نظریته مسألة تجدد الأعراض الذی سماه هو بالخلق الجدید کما أسلفنا.
أما الحسبانیة (بکسر الحاء أو ضمها) فهم فرقة من السوفسطائیین زعمت أن کل شی ء فی العالم، جوهراً کان أو عرضاً، متغیر متبدل، وأن الدوام والاستقرار لا یحملان على شی ء ما، وإذن لا یمکن أن یکونا صفتین تتمیز بهما الحقیقة.
بل الحقیقة لیس لها وجود إلا فیما تدرکه الآن، وهی حقیقة بالإضافة إلیک.
وکلمة حسبانیة مشتقة من «حَسِبَ» بمعنى طن أو اعتقد.
فالحقیقة حقیقة فی حسبان هذا الشخص أو ذاک لا فی ذاتها.
و کلا الفریقین الأشاعرة و الحسبانیة مخطئ فی نظر ابن العربی: و لو أنهما لَمَسَا جانباً من الحق: فالأشاعرة لم یدرکوا العالم على حقیقته: أی لم یدرکوا أن العالم جملة من الأعراض و الظواهر یقوِّمها جوهر واحد هو الذات الإلهیة، بل افترضوا وجود جوهر أو جواهر إلى جانب هذه الذات حیث لا وجود لهذه الجواهر. أما الحسبانیة فلم یدرکوا أن وراء هذه الظواهر المدرکة بالحس، المتغیرة على الدوام، جوهراً غیر محسوس لا یتغیر و لا یقبل الانقسام فی ذاته، فقصروا الحقیقة على ما هو متغیر و محسوس: مع أن الأمور المتغیرة لیست إلا صوراً و لا یمکن أن توجد أو تتصور موجودة إلا فی ذلک الجوهر غیر المحسوس الذی یقومها.
(14) «کالتحیز فی حد الجوهر القائم بنفسه الذاتی وقبوله للأعراض حد له ذاتی».
(14) یشیر إلى أن تعریف الأشاعرة للأشیاء یدل على فساد نظریتهم لأنهم یعرفون
الجسم مثلًا بأنه المتحیز القابل للأبعاد الثلاثة: والتحیز والقبول فصلان وعرضان ذاتیان فی نظر الأشاعرة لأنهما صفتان أساسیتان داخلتان فی ماهیة الجسم.
والعرض الذاتی عندهم هو کل ما کان جزءاً من ماهیة المعرف کالنطق فی تعریف الإنسان والحساسیة فی تعریف الحیوان والتحیز فی تعریف الجسم.
وإذا کانت الحدود بالذاتیات، والذاتیات عندهم أعراض، والأعراض متغیرة لا تبقى زمانین کما یقولون، إذن یخرج من الأشیاء التی لا تقوم بنفسها وهی الأعراض ما یقوم بنفسه وهو الجوهر المحدود: إذ الجوهر المحدود عین ماهیته فی الخارج غیرها فی الذهن ویبقى زمانین وأزمنة کثیرة مع أنهم قالوا إنه لا یبقى زمانین. وهذا باطل.
وقد جاء بطلان مذهبهم من أنهم عرَّفوا الأشیاء بأنها مجموعة أعراض وأن هذه الأعراض هی عین جواهر الأشیاء ولم یفرضوا وجود جوهر واحد یقوِّم هذه الأعراض جمیعها