عرفان شیعی

عرفان اسلامی در بستر تشیع

عرفان شیعی

عرفان اسلامی در بستر تشیع

الفقرة الثانیة والعشرون : 


شرح فصوص الحکم من کلام الشیخ الأکبر ابن العربی أ. محمود محمود الغراب 1405 هـ:

12 - فص حکمة قلبیة فی کلمة شعیبیة

اعلم أن القلب أعنی قلب العارف بالله هو من رحمة الله، و هو أوسع منها، فإنه وسع الحق جل جلاله ورحمته لا تسعه:

هذا لسان العموم من باب الإشارة، فإن الحق راحم لیس بمرحوم فلا حکم للرحمة فیه.

وأما الإشارة من لسان الخصوص فإن الله وصف نفسه بالنفس وهو من التنفیس:

وأن الأسماء الإلهیة عین المسمى ولیس إلا هو، وأنها طالبة ما تعطیه من الحقائق ولیس الحقائق التی تطلبها الأسماء إلا العالم. فالألوهیة تطلب المألوه، و الربوبیة تطلب المربوب ، وإلا فلا عین لها إلا به وجودا أو تقدیرا.

والحق من حیث ذاته غنی عن العالمین.

والربوبیة ما لها هذا الحکم.

فبقی الأمر بین ما تطلبه الربوبیة وبین ما تستحقه الذات من الغنى عن العالم.

ولیست الربوبیة على الحقیقة والاتصاف إلا عین هذه الذات.

فلما تعارض الأمر بحکم النسب ورد فی الخبر ما وصف الحق به نفسه من الشفقة على عباده.

فأول ما نفس عن الربوبیة بنفسه المنسوب إلى الرحمن بإیجاده العالم الذی تطلبه الربوبیة بحقیقتها وجمیع الأسماء الإلهیة.

فیثبت من هذا الوجه أن رحمته وسعت کل شیء فوسعت

...........................................................

1- المناسبة فی تسمیة هذا الفص :

هی أن العارف یشهد الله فی جمیع الاعتقادات ولا ینکره وذلک راجع إلى تقلب القلب مع الحق فی صور جمیع الاعتقادات.

فهذه الحکمة لا تنحصر شعبها لأن کل اعتقاد شعبة ، فهی شعب کلها أعنی الاعتقادات فناسبت هذه الحکمة اسم النبی والرسول شعیب علیه السلام لما فیها من التشعب.

وهذا الفص یدور حول علم التجلیات الإلهیة ویشیر فیها إلى ما جاء فی الصحیحین من حدیث أبی سعید الخدری عن موقف یوم القیامة وفیه : "حتى إذا لم یبق إلا من کان یعبد الله من بر وفاجر ، أتاهم الله فی أدنى صورة من التی رأوه فیها.

قال فما تنتظرون ؟ تتبع کل أمة ما کانت تعبد .

قالوا یا ربنا فارقنا الناس فی الدنیا أفقر ما کنا إلیهم ولم نصاحبهم .

فیقول أنا ربکم ، فیقولون نعوذ بالله منک لا نشرک

ص 175

 

الحق، فهی أوسع من القلب أو مساویة له فی السعة. "2"

هذا مضى، ثم لتعلم أن الحق تعالى کما ثبت فی الصحیح یتحول فی الصور عند التجلی، وأن الحق تعالى إذا وسعه القلب لا یسع معه غیره من المخلوقات فکأنه یملؤه.

ومعنى هذا أنه إذا نظر إلى الحق عند تجلیه له لا یمکن أن ینظر معه إلى غیره.

وقلب العارف من السعة کما قال أبو یزید البسطامی «لو أن العرش و ما حواه مائة ألف ألف مرة فی زاویة من زوایا قلب العارف ما أحس به».

وقال الجنید فی هذا المعنى: إن المحدث إذا قرن بالقدیم لم یبق له أثر، وقلب یسع القدیم کیف یحس بالمحدث موجودا. "3"

 

................................................................

بالله شیئا ، مرتین أو ثلاثا ، حتى إن بعضهم لیکاد أن ینقلب ، فیقول هل بینکم وبینه آیة فتعرفوه بها ، فیقولون نعم ، فیکشف عن ساق فلا یبقى من کان یسجد لله من تلقاء نفسه إلا أذن الله له بالسجود ، ولا یقی من کان یسجد اتقاء وریاء إلا جعل الله ظهره طبقة واحدة ، کلما أراد أن یسجد خر على قفاه ، ثم یرفعون رؤوسهم وقد تحول فی صورته التی رأوه فیها أول مرة ، فیقول أنا ربکم ، فیقولون أنت ربنا .. الحدیث بطوله .

فهذا الفص یبحث فی التجلی الإلهی وتحول الحق فی صور الاعتقادات وفی حضرة الشهود ، فجعلنا البحث هنا متکاملا فی التجلی الإلهی .


2 - قلب العارف أوسع من رحمة الله

الفقرة الواردة فی هذا الفص توضح ما أشار إلیه الشیخ رضی الله تعالی عنه فی الفتوحات الجزء الرابع ص 99  حیث یقول فی هذه المسألة :

إلا أن فی الأمر نکتة أومیء إلیها ولا أنص علیها ، وذلک أن الله قد وصف نفسه بالغضب والبطش الشدید بالمغضوب علیه ، والبطش رحمة لما فیه من التنفیس وإزالة الغضب وهذا القدر من الإیماء کاف فیما ترید بیائه من ذلک .


3 - راجع فص رقم 6 هامش رقم 9 ص 98

قول أبی یزید یراجع شرحه فی کتابنا شرح کلمات الصوفیة من 165 أو الفتوحات ج 4 ص 8

قول الجنید یراجع شرحه فی کتابنا شرح کلمات الصوفیة ص 215 أو الفتوحات ج 1 ص 103 -ج 4 ص 8 / 92.

 ص 176

  

وإذا کان الحق یتنوع تجلیه فی الصور فبالضرورة یتسع القلب ویضیق بحسب الصورة التی یقع فیها التجلی الإلهی، فإنه لا یفضل شیء عن صورة ما یقع فیها التجلی.

فإن القلب من العارف أو الإنسان الکامل بمنزلة محل فص الخاتم من الخاتم لا یفضل بل یکون على قدره وشکله من الاستدارة إن کان الفص مستدیرا أو من التربیع والتسدیس والتثمین وغیر ذلک من الأشکال إن کان الفص مربعا أو مسدسا أو مثمنا أو ما کان من الأشکال، فإن محله من الخاتم یکون مثله لا غیر.

وهذا عکس ما یشیر إلیه الطائفة من أن الحق یتجلى على قدر استعداد العبد.

وهذا لیس کذلک، فإن العبد یظهر للحق على قدر الصورة التی یتجلى له فیها الحق.

وتحریر هذه المسألة أن لله تجلیین.

تجلی غیب وتجلی شهادة، فمن تجلی الغیب یعطی الاستعداد الذی یکون علیه القلب، وهو التجلی الذاتی الذی الغیب حقیقته، وهو الهویة التی یستحقها بقوله عن نفسه «هو».

فلا یزال «هو» له دائما أبدا.

فإذا حصل له- أعنی للقلب هذا الاستعداد، تجلى له التجلی الشهودی فی الشهادة فرآه فظهر بصورة ما تجلى له کما ذکرناه.

فهو تعالى أعطاه الاستعداد بقوله «أعطى کل شی ء خلقه»، ثم رفع الحجاب بینه وبین عبده فرآه فی صورة معتقده ، فهو عین اعتقاده. فلا یشهد القلب ولا العین أبدا إلا صورة معتقده فی الحق.

فالحق الذی فی المعتقد هو الذی وسع القلب صورته، وهو الذی یتجلى له فیعرفه.

فلا ترى العین إلا الحق الاعتقادی.

ولا خفاء بتنوع الاعتقادات: فمن قیده أنکره فی غیر ما قیده به، وأقر به فیما قیده به إذا تجلى.

ومن أطلقه عن التقیید لم ینکره وأقر به فی کل صورة یتحول فیها ویعطیه من نفسه قدر صورة ما تجلى له إلى ما لا یتناهى، فإن صور التجلی ما لها نهایة تقف عندها.

وکذلک العلم بالله ما له غایة فی العارف یقف عندها، بل هو العارف فی کل زمان یطلب الزیادة من العلم به.

«رب زدنی علما» ، «رب زدنی علما»، «رب زدنی علما».

فالأمر لا یتناهى من الطرفین. هذا إذا قلت حق وخلق، فإذا نظرت فی قوله : «کنت رجله التی  یسعى بها و یده التی یبطش بها و لسانه الذی یتکلم به» إلى غیر ذلک من القوى، و محلها  الذی هو الأعضاء، لم تفرق فقلت الأمر حق کله أو خلق کله.

فهو خلق بنسبة وهو حق بنسبة والعین واحدة.

فعین صورة ما تجلى عین صورة من قبل ذلک التجلی، فهو المتجلی والمتجلی له.

فانظر ما أعجب أمر الله من حیث هویته، ومن حیث نسبته إلى العالم فی حقائق أسمائه الحسنى.

فمن ثم و ما ثمه ... و عین ثم هو ثمه

فمن قد عمه خصه ... و من قد خصه عمه

فما عین سوى عین ... فنور عینه ظلمه

 ص 177

 

فمن یغفل عن هذا ... یجد فی نفسه غمه

وما یعرف ما قلنا  ... سوى عبد له همه

«إن فی ذلک لذکرى لمن کان له قلب» لتقلبه فی أنواع الصور والصفات ولم یقل لمن کان له عقل، فإن العقل قید فیحصر الأمر فی نعت واحد والحقیقة تأبى الحصر فی نفس الأمر.

فما هو ذکرى لمن کان له عقل وهم أصحاب الاعتقادات الذین یکفر بعضهم ببعض ویلعن بعضهم بعضا وما لهم من ناصرین.

فإن إله المعتقد ما له حکم فی إله المعتقد الآخر: فصاحب الاعتقاد یذب عنه أی عن الأمر الذی اعتقده فی إلهه وینصره، وذلک فی اعتقاده لا ینصره، فلهذا لا یکون له أثر فی اعتقاد المنازع له.

وکذا المنازع ما له نصرة من إلهه الذی فی اعتقاده، فما لهم من ناصرین، فنفى الحق النصرة عن آلهة الاعتقادات على انفراد کل معتقد على حدته، والمنصور المجموع، والناصر المجموع. فالحق عند العارف هو المعروف الذی لا ینکر.

فأهل المعروف فی الدنیا هم أهل المعروف فی الآخرة.

فلهذا قال «لمن کان له قلب» فعلم

............................................................... 

4 - القلب والعقل

« إن فی ذلک لذکرى لمن کان له قلب » یتقلب فیفهم قول الله ویعقل به عن الله العلم بالله من حیث المشاهدة ، ولم یقل تعالى غیر ذلک فإن القلب معلوم بالتقلیب فی الأحوال دائما .

فهو لا یبقى على حالة واحدة ، وکذلک التجلیات الإلهیة .

فمن لم یشهد التجلیات بقلبه ینکرها ، فإن العقل یقیده وغیره من القوی إلا القلب فإنه لا یتقید ، وهو سریع التقلب فی کل حال .

ولذا قال الشارع إن القلب بین أصبعین من أصابع الرحمن یقلبه کیف یشاء ، فهو یتقلب بتقلب التجلیات والعقل لیس کذلک .

فإن العقل تقیید من العقال ، فالقلب هو القوة التی وراء طور العقل ، فلو أراد الحق فی هذه الآیة بالقلب أنه العقل ما قال «لمن کان له قلب ».

فإن کل إنسان له عقل وما کل إنسان یعطی هذه القوة التی وراء طور العقل المسماة قلبا فی هذه الآیة ، فلا تکون معرفة الحق من الحق إلا بالقلب لا بالعقل ثم یقبلها العقل من القلب ، فإن القلب له التقلیب من حال إلى حال وبه سمی قلبا .

فمن فسر القلب بالعقل فلا معرفة له بالحقائق .

فتوحات ج 1 / ۲۸۷ -  ج 3 /  198 ، 471 -  ج 4 / 85.

 ص 178

  

تقلب الحق فی الصور بتقلیبه فی الأشکال.

فمن نفسه عرف نفسه، ولیست نفسه بغیر لهویة الحق، ولا شیء من الکون مما هو کائن ویکون بغیر لهویة الحق، بل هو عین الهویة. "5"

فهو العارف والعالم والمقر فی هذه الصورة، وهو الذی لا عارف ولا عالم، وهو المنکر فی هذه الصورة الأخرى.

هذا حظ من عرف الحق من التجلی والشهود فی عین الجمع، فهو قوله «لمن کان له قلب» یتنوع فی تقلیبه.

وأما أهل الإیمان وهم المقلدة الذین قلدوا الأنبیاء والرسل فیما أخبروا به عن الحق، لا من قلد أصحاب الأفکار والمتأولین الأخبار الواردة بحملها على أدلتهم العقلیة، فهؤلاء الذین قلدوا الرسل صلوات الله علیهم وسلامه هم المرادون بقوله تعالى «أو ألقى السمع» لما وردت به الأخبار الإلهیة على ألسنة الأنبیاء صلوات الله وسلامه علیهم، وهو یعنی هذا الذی ألقى السمع شهید ینبه على حضرة الخیال واستعمالها، وهو قوله علیه السلام فی الإحسان «أن تعبد الله کأنک تراه»، والله فی قبلة المصلی، فلذلک هو شهید. "6"

ومن قلد صاحب نظر فکری وتقید به فلیس هو الذی ألقى السمع،

.....................................................................

5 - راجع الحدیث « کنت سمعه وبصره » فص 10 هامش 9 ص 146

 

""  9 -  فإذا أحببته کنت سمعه وبصره الحدیث فص 10 هامش 9 ص 146

اعلم أن القرب قربان:

قرب فی قوله تعالى «ونحن أقرب إلیه من حبل الورید » وقوله تعالى «وهو معکم أینما کنتم».

وقرب هو القیام بالطاعات وهو المقصود فی هذا الحدیث ، فالقرب الذی هو القیام بالطاعات فذلک القرب من سعادة العبد من شقاوته ، وسعادة العبد فی نیل جمیع أغراضه کلها ، ولا یکون ذلک إلا فی الجنة ، وأما فی الدنیا فإنه لابد من ترک بعض أغراضه القادحة فی سعادته .

فالقرب من السعادة بأن یطیع لیسعد ، وهذا هو الکسب فی الولایة بالمبادرة لأوامر الله التی ندب إلیها ، أما قوله « من أداء ما افترضته علیه » لأنها عبودیة اضطراریة « ولا یزال العبد یقترب إلی بالنوافل » وهی عبودیة اختیار « حتى أحبه » .

إذ جعلها نوافل ، فإذا ثابرت على أداء الفرائض فإنک تقربت إلى الله بأحب الأمور المقربة إلیه ، وإذا کنت صاحب هذه الصفة کنت سمع الحق و بصره .

وتکون یدک ید الحق « إن الذین بیا یعونک إنما یبایعون الله ید الله فوق أیدیهم » وهذه هی المحبة العظمى التی ما ورد فیها نص جلی کما ورد فی النوافل ، فإن للمثابرة على النوافل حبا إلهیا منصوصا علیه یکون الحق سمع العبد ونظره ، فانظر ما تنتجه محبة الله ، فثابر على أداء ما یصح به وجود هذه المحبة الإلهیة .

ولا یصح نفل إلا بعد تکملة الفرض ، فالحق سبحانه روح العالم وسمعه وبصره ویده ، فبه یسمع العالم و به یبصر وبه یتکلم وبه یبطش و به یسعى ، إذ لا حول ولا قوة إلا بالله العلی العظیم .

ولا یعرف هذا إلا من تقرب إلى الله بنوافل الخیرات ، کما ورد فی الحدیث الصحیح ، فانتبه لقوله « کنت سمعه الذی یسمع به ولسانه الذی یتکلم به وما تکلم إلا القائل فی الشاهد وهو الإنسان، وفی الإیمان الرحمن ، فمن کذب العیان کان قوی الإیمان ، ومن تردد فی إیمانه تردد فی عیانه ، فلا إیسان عنده ولا عیان ، فما هو صاحب مکان ولا إمکان .

ومن صدق العیان وسلم الإیمان کان فی أمان ، فإن الله أثبت أن ذلک للعبد بالضمیر عینه عبدا لا ربوبیة له ، وجعل ما یظهر به وعلیه ومنه أن ذلک هو الحق تعالى لا العبد فما ثم إلا حق لحق وحق لخلق ، فحق الحق ربوبیته ، وحق الخلق عبودیته.

فنحن عبید وإن ظهرنا بنعوته ، وهو ربنا وإن ظهر بنعوتنا ، فإن التعوت عند المحققین لا أثر لها فی العین المنعوتة.

ولهذا تزول بمقابلها إذا جاء ولا تذهب عینا .

فقوله تعالی « کنت سمعه وبصره » جعل کینوتنه سمع عبد منعوت بوصف خاص ، وهذا أعظم اتصال یکون من الله بالعبد حیث یزیل قواه من قواه ویقوم بکینوته فی العبد مقام ما أزال على ما یلیق بجلاله من غیر تشبیه ولا تکییف ولا حصر ولا إحاطة ولا حلول

ولا بدلیه ، فإنه أثبت عین الشخص بوجود الضمیر فی قوله « کنت سمعه » فهذه الهاء عینه ، والصفة عین الحق لا عینه ، فالشخص محل لأحکام هذه الصفات التی هی عین الحق لا غیره .

کما یلیق بجلاله ، فنعته سبحانه بنفسه لا بصفته ، فهذا الشخص من حیث عینه هو ومن حیث صفته لا هو ، وهذا من ألطف ما یکون فظهور رب فی صورة خلق عن إعلام إلهی لا تعرف له کیفیة ولا تنفک عنه بینیة .

والکرامة التی حصلت لهذا الشخص إنما هی الکشف والاطلاع لا أنه لم یکن الحق سمعه ثم کان ، والجاهل إذا سمع ذلک أداه إلى فهم محظور من حلول أو تحدید ، فبالوجه الذی یقول فیه الحق إنه سمع العبد به بعینه یقول إنه حیاة العبد وعلمه وجمیع صفاته .

فمثلا سر الحیاة سری فی الموجودات فحییت بحیاة الحق ، فهی نسب وإضافات وشهود حقائق ، والله هو العلی الکبیر عن الحلول والمحل.

الفتوحات ج 3 / 14 ، 63 ، 68 ، 184 ، 298 ، 356 ، 531 ، 557 .

ج 4 / 5 ، 362 ، 449 .  ""

  

6 - الإحسان وهو قوله صلى الله علیه وسلم : " أن تعبد الله کأنک تراه "

فی حدیث الإسلام والإیمان والإحسان ثلث رسول الله صلى الله علیه وسلم  بالإحسان ، وهو إنزال المعنی الروحانی منزلة المحسوس فی العیان ، ولیس إلا عالم الخیال ، الحاکم بالوجوب والوجود فی الممکن والمحال .

فیقول النبی صلى الله علیه وسلم  لجبریل علیه السلام فی معرض التعلیم لعباد الله «اعبد الله کأنک تراه » فأمره بالاستحضار ، فإنه یعلم أنه لا یستحضر إلا من یقبل الحضور .

فأمره بتصوره فی الخیال مرئیا وأن یتخیله ویحضره فی خیاله على قدر علمه به محصورا له ، فما حجر الله على العباد تنزیهه ولا تخیله ، وإنما حجر علیه أن یکون محسوسا له ، مع علمه بأن الخیال من حقیقته أن یجسد ویصور ما لیس بجسد ولا صورة .

فإن الخیال لا یدرکه إلا کذلک : فهو حس باطن بین المعقول والمحسوس ، وبذلک تصبح عبادة الله بالغیب عین عبادته بالشهادة .

فإن الإنسان وکل عابد لا یصح أن یعبد معبوده إلا عن شهود ، أما بعقل أو ببصر ، أو ببصیرة .

فالبصیرة یشهده العابد بها فیعبده ، وإلا فلا تصح له عبادة .

فما عبد إلا مشهودا لا غائبا ، ومن هذا یعلم أن جمیع العقائد کلها تحت حکم التخیل

 ص 179

  

فإن هذا الذی ألقى السمع لا بد أن یکون شهیدا لما ذکرناه.

ومتى لم یکن شهیدا لما ذکرناه فما هو المراد بهذه الآیة.

فهؤلاء هم الذین قال الله فیهم «إذ تبرأ الذین اتبعوا من الذین اتبعوا» والرسل لا یتبرءون من أتباعهم الذین اتبعوهم.

فحقق یا ولی ما ذکرته لک فی هذه الحکمة القلبیة.

وأما اختصاصها بشعیب، لما فیها من التشعب، أی شعبها لا تنحصر، لأن کل اعتقاد شعبة فهی شعب کلها، أعنی الاعتقادات فإذا انکشف الغطاء انکشف لکل أحد بحسب معتقده، وقد ینکشف بخلاف معتقده فی الحکم، وهو قوله «وبدا

......................................................................

ومحلها الخیال ، وإن قام الدلیل على أن الذی اعتقده لیس بداخل ولا خارج ولا یشبه شیئا من المحدثات ، فإنه لا یسلم من الخیال أن یضبط أمرا .

لأن نشأة الإنسان تعطی ذلک ، والحکم تابع لذات الحاکم بقبول ما یعطیه المحکوم علیه ، ولیس المحکوم علیه هنا إلا المتخیل وهو المعتقد، فأدخل الله تعالى نفسه فی التخیل، وهذا تنزیل خیالی من أجل کاف التشبیه .

وانظر من کان السائل الذی هو جبریل علیه السلام ومن هو المسؤول وهو رسول الله صلى الله علیه وسلم ، ومرتبتها من العلم بالله ، فإن رسول الله صلى الله علیه وسلم ، جاء بـ «کان» لأن الحق لیس بمحسوس لنا، ولا نعقل منه إلا وجوده حتى ندخله تحت قوة البصر ، فـ نلحقه بالوهم بالمحسوسات.

فإذا أضفنا إلى ذلک قوله صلى الله علیه وسلم : «إن الله فی قبلة المصلی » وإلى قوله « وجعلت قرة عینی فی الصلاة » .

علمنا أنه ما أراد صلى الله علیه وسلم المناجاة وإنما أراد شهود من ناجاه فیها ، ولهذا أخبر أن الله فی قبلة المصلی فقال صلى الله علیه وسلم: «اعبد الله کأنک تراه» فإنه ما کان یراه فی عبادته ، ما کان کأنه یراه، ولولا حصولها ما قرئها بالعبادة دون العمل ، فما قال « اعمل لله کأنک تراه » ، فإن العبادة من غیر شهود صریح أو تخیل شهود صحیح لا تصح ، ولذلک ما ذکر صلى الله علیه وسلم العین فی قوله: « وجعلت قرة عینی فی الصلاة » إلا لأن متعلق الرؤیة إدراک عین المرئی فإذا رآه قرت عینه بما رآه .

فکان رسول الله ما فی حال صلاته صاحب رؤیة وشهود ، ولذلک کانت الصلاة محل قرة عینه لأنه مناج.

ولما علم الحق ما رکب علیه العالم المکلف من قوة الخیال وسلطانها .

قال الرسول صلى الله علیه وسلم  فی حضرة الخیال مخبرا لیجمع الإنسان بین الطرفین ، بین المعانی

 ص 180

  

لهم من الله ما لم یکونوا یحتسبون».

فأکثرها فی الحکم کالمعتزلی یعتقد فی الله نفوذ الوعید فی العاصی إذا مات على غیر توبة.

فإذا مات وکان مرحوما عند الله قد سبقت له عنایة بأنه لا یعاقب، وجد الله غفورا رحیما، فبدا له من الله ما لم یکن یحتسبه. "7"

وأما فی الهویة فإن بعض العباد یجزم فی اعتقاده أن الله کذا وکذا، فإذا انکشف الغطاء رأى صورة معتقده وهی حق فاعتقدها.

وانحلت العقدة فزال الاعتقاد وعاد علما بالمشاهدة.

وبعد احتداد البصر لا یرجع کلیل النظر، فیبدو لبعض العبید باختلاف التجلی فی الصور عند الرؤیة خلاف معتقده لأنه لا یتکرر، فیصدق علیه فی الهویة

.....................................................................

والمحسوسات « اعبد الله کأنک تراه » فقال فی الإحسان ذلک لما علم أن العبادة على الغیب تصعب على النفوس « فإن لم تکن تراه » لأن من الإحسان أن تراه ، فإن لم تکن محسنة « فإنه یراک » أی أحضر فی نفسک أنه یراک وهو نوع آخر من الشهود من خلف حجاب .

تعلم أن معبودک یراک من حیث لا تراه ویسمعک ، فإن المکلف لابد أن یعلم أن الله یراه إما بعقله أو بقول الشارع ، فیلزم الحیاء منه والوقوف عند ما کلفه .

فالإسلام صراط مستقیم، والإیمان خان کریم، والإحسان شهود القدیم .

راجع الفتوحات ج 1/  ص 304،306 ، 366 ، 383 ، 397 ، 412 ، 444

483 ، 609 .

ج 2 / ص 124 ، 128 ، 282 ، 344 ، 455 .

ج 3 / ص 44 ، 309 ، 365 ، 376 ، 377 ، 395 ، 541 ، 542 ، 563.

ج 4 / ص 73 ، 265 ، 344 ، 360 ، 413 ، 420 .

 

7 - « وبدا لهم من الله ما لم یکونوا یحتسبون » الآیة

عم الجمیع ، فبدا لکل طائفة تعتقد أمرأ ما مما لیس علیه نفی ذلک المعتقد .

وما تعرض فی الآیة بما اتنفى ذلک ، هل بالعجز أو بمعرفة النقیض ؟

وکلا الأمرین کائن فی الدار الآخرة ، وقوله تعالى : « وبدا لهم من الله ما لم یکونوا یحتسبون » شائعة فی الشقی والسعید ، ففی السعید فیمن مات على غیر توبة وهو یقول بإنفاذ الوعید ، فیغفر له ، فکان الحکم للمشیئة فسبقت بسعادتهم ، فتبین لهم عند ذلک أنهم اعتقدوا فی ذلک خلاف ما هو الأمر علیه .

راجع فتوحات ج 2 / 55 ، 619 - ج 3 /  278 .

 ص 181

 

«وبدا لهم من الله» فی هویته «ما لم یکونوا یحتسبون» فیها قبل کشف الغطاء.

وقد ذکرنا صورة الترقی بعد الموت فی المعارف الإلهیة فی کتاب التجلیات لنا عند ذکرنا من اجتمعنا به من الطائفة فی الکشف وما أفدناهم فی هذه المسألة بما لم یکن عندهم. "8"

ومن أعجب الأمور أنه فی الترقی دائما ولا یشعر بذلک للطافة الحجاب

..............................................


8 - الترقی فی العلم دنیا وآخرة

إنی على بینة من ترقی العالم علوه وسفله مع الأنفاس ، لاستحالة ثبوت الأعیان على حالة واحدة ، فإن الأصل الذی یرجع إلیه جمیع الموجودات ، وهو الله ، وصف نفسه أنه "کل یوم هو فی شأن " فمن المحال أن یبقى شیء فی العالم على حالة واحدة زمانین ، فتختلف الأحوال علیه لاختلاف التجلیات بالشؤون الإلهیة.

فالعارف فی کل نفس یطلب الترقی ویقصر دائما عمره کله یتعرض للفتح فلا یفتح له ، فیجمع له إلى أن یموت ، فیرى عند موته ما أخفى له فیه من قرة أعین ، لکونه ما له فی حیاته الأولى ، ولا شاهد ما شاهد غیره من السائرین إلى الله .

فإنه إن کان العامل ممن قد أراد أن یفتح له فی الدنیا فی حصول هذه الأسرار ورد الإذن الإلهی بذلک ففتح على هذا العامل فی باطنه بعلوم شتی .

فیقال فلان قد فتح علیه ، وإن کان الله یرید أن تخبأ له ذلک إلى الدار الآخرة لمصلحة یراه له فی منع ذلک إلى أن ینقلب العامل إلى الدار الآخرة فیجدها مخبوءة له فی أعماله، فیلبسها خلعا إلهیة.

فیقال فی هذا العامل فی الدنیا إنه ما فتح له مع کثرة عمله، ویتعجب المتعجبون من ذلک لأنهم یتخیلون أن الفتح أمر لازم.

وکذلک هو أمر لازم تطلبه الأعمال وتناله، ولکن متى یکون ذلک صفة للعامل هل فی الدنیا أو فی الآخرة ؟

ذلک إلى الله ، فإذا رایت عامل صدق أو عرفت ذلک من نفسک ، ولم تر یفتح لک فی باطنک مثل ما فتح لن تراه على صورتک فی العمل فلا تتهم ، فإنه مؤخر لک ، واطرح عن نفسک التهمة فی ذلک ، فلا تتهم ولا تجعل نفسک من أهل التهم ، فنحن فی ارتقاء دائم و مزید علم دنیا و برزخا وآخرة ، والآلات مصاحبة لا تنفک فی هذه المنازل والمواطن والحالات عن هذه اللطیفة الإنسانیة.

فأهل الله أهل الحق لا یبالون بالمفارقة متى کانت الأنهم فی مزید علم أبدأ دائما ، وهم ملوک أهل تدبیر لمواد طبیعیة وعنصریة دنیا وبرزخا وآخرة .

فتوحات ج 1 / 471 ، 700 - ج 2 / 504 ، 626 .

 ص 182

 

ودقته وتشابه الصور  مثل قوله تعالى «وأتوا به متشابها».

ولیس هو الواحد عین الآخر فإن الشبیهین عند العارف أنهما شبیهان، غیران ، وصاحب التحقیق یرى الکثرة فی الواحد کما یعلم أن مدلول الأسماء الإلهیة، وإن اختلفت حقائقها وکثرت، أنها عین واحدة.

فهذه کثرة معقولة فی واحد العین.

فتکون فی التجلی کثرة مشهودة فی عین واحدة. "9"

 کما أن الهیولى تؤخذ فی حد کل صورة، وهی مع کثرة الصور

................................................................. 

9 – أ -  التجلی الإلهی :

لما کان العلم الأول فی المعرفة هو العلم بالحقائق وهو العلم بالأسماء الإلهیة کان العلم الثانی من علوم المعرفة هو علم التجلی ، وهو أن التجلی الإلهی دائم لا حجاب علیه ، ولکن لا یعرف أنه هو ، فإن الحضرة الإلهیة متجلیة على الدوام لا یتصور فی حقها حجاب عناء .

واعلم أن الحق له نسبتان فی الوجود :

نسبة الوجود النفسی الواجب له .

ونسبة الوجود الصوری ، وهو الذی یتجلى فیه لخلقه .

إذ من المحال أن یتجلى فی الوجود النفسی الواجب له ، فالتجلی الذاتی منوع بلا خلاف بین أهل الحقائق فی غیر مظهر ، لأنه لا عین لنا ندر که بها، إذ نحن فی حال عدمنا ووجودنا مرجحون ، لم یزل عنا حکم الإمکان ، فلا تراه إلا بنا من حیث ما تعطیه حقائقنا ، لأن التجلی على ما هو المتجلی علیه فی نفسه محال حصوله لأحد ، فلا یقع التجلی إلا من دون ذلک مما یلیق بمن یتجلى له .

فعلمنا قطعا أن الذات لا تتجلى أبدا من حیث هی ، وإنما تتجلى من حیث صفة ما معتلیة ، والتجلی الإلهی لا یکون إلا للإله والرب، لا یکون الله أبدا فإن الله هو الغنی .

کما لا یتجلى فی الاسم الأحد ولا فی الاسم الله ولا یصح النجلی فیه ، فإنه لا یعرف معناه ، ولا یسکن وقتا ما فی معناه .

و بهذا السر تمیز الإله من المألوه ، والرب من المربوب ، وما عدا هذین الأسمین من الأسماء المعلومات لنا فإن التجلی یقع فیها ، کما أن حضرة الجلال لها السبحات المحرقة، ولهذا لا یتجلى فی جلاله أبدا ، ولکن یتجلى فی جلال جماله لعباده ، فبه یقع التجلی .

 ص 183

  

واختلافها ترجع فی الحقیقة إلى جوهر واحد هو هیولاها . فمن عرف نفسه بهذه

................................................................

إذا علمت هذا فلابد أن یکون تجلی الحق فی الوجود الصوری ، وهو التجلی فی المظاهر ، وهو التجلی فی صور المعتقدات کائنة بلا خلاف ، والتجلی فی المعقولات کائن بلا خلاف ، وهما تجلی الاعتبارات ، لأن هذه المظاهر سواء کانت صورالمعقولات أو صور المعتقدات فإنها جسور یعبر علیها بالعلم.

أی یعلم أن وراء هذه الصور أمر لا یصح أن یشهد ولا أن یعلم ، ولیس وراء ذلک العلوم الذی لا یشهد ولا یعلم حقیقة ما یعلم أصلا، وأما التجلی فی الأفعال أعنی نسبة ظهور الکائنات والمظاهر عن الذات التی تتکون عنها الکائنات وتظهر عنها المظاهر ، فالحق سبحانه قرر فی اعتقادات قوم وقوع ذلک ، وقرر فی اعتقادات قوم منع وقوع ذلک .

فالتجلی الصوری هو الذی یقبل التحول والتبدل ، فتارة یوصف به الممکن الذی یختلع به ، وتارة یظهر به الحق فی تجلیه ، فإن للألوهیة أحکاما وإن کانت حکما ، وفی صورة هذه الأحکام یقع التجلی فی الدار الآخرة حیث کان ، فإنه قد اختلف فی رؤیة النبی مع ربه کما ذکر ، وقد جاء حدیث النور الأعظم من رفرف الدر والیاقوت وغیر ذلک .

واعلم أن الله تجلیین ، تجلیا عاما إحاطیا ، وتجلیا خاصا شخصیا، فالتجلی العام تجل رحمانی ، وهو قوله تعالى « الرحمن على العرش استوى » والتجلی الخاص هو ما لکل شخص شخص من العلم بالله .

فتوحات ج 1 / 41 ، 91 - ج 2 / 303 ، 542 ، 606 - ج 3 / 101 ، 178 ، 180 ، 516.

ذخائر الأعلاق - التنزلات الموصلیة .


9 - ب - حظ العارف من العلوم فی التجلی:

لما کانت العلوم تعلو وتتضع بحسب المعلوم لذلک تعلقت الهمم بالعلوم الشریفة العالیة التی إذا اتصف بها الإنسان زکت نفسه وعظمت مرتبته .

فأعلاها مرتبة العلم بالله ، وأعلى الطرق إلى العلم بالله علم التجلیات ودونها علم النظر ، ولیس دون النظر علم إلهی وإنما هی عقائد فی عموم الخلق لا علوم، التجلی أشرف الطرق إلى تحصیل العلوم ، فأول مقام للعارف هو أن یتجلى له الحق فی غیر مادة ، لأن العارف أو العالم

 ص 184

  

 المعرفة فقد عرف ربه وإنه على صورته خلقه، بل هو عین هویته وحقیقته. ولهذا ما عثر

................................................................

فی حضرة الفکر والعقل ، فیعلم من الله على قدر ما کان ذلک التجلی ولا یقدر أحد على تعیین ما تجلى له من الحق ،إلا أنه تجلى فی غیر مادة لا غیر.

وسبب ذلک أن الله یتجلى لکل عبد من العالم فی حقیقة ما هی عین ما تجلى بها لعبد آخر ، ولا هی عین ما یتجلى له بها فی مجلى آخر .

فلذلک لا یتعین ما تجلى فیه ولا ینقال ، فإذا رجع العبد من هذا المقام إلى عالم نفسه عالم المواد صحبه تجلی الحق ، فما من حضرة یدخلها من الحشرات لها حکم إلا ویرى الحق قد تحول بحکم تلک الحضرة ، والعبد قد ضبط منه أولا ما ضبط ، فیعلم أنه قد تحول فی أمر آخر ، فلا یجهله بعد ذلک أبدا ولا ینحجب عنه .

فإن الله ما تجلى لأحد فاتحجب عنه بعد ذلک ، فإنه غیر ممکن أصلا ، فإذا نزل العبد إلى عالم خیاله وقد عرف الأمور على ما هی علیه مشاهدة وقد کان قبل ذلک عرفها علما و إیمانا ، رأى الحق فی حضرة الخیال صورة جسدیة ، فلم ینکره وأنکره العابر والأجانب .

ثم نزل من عالم الخیال إلى عالم الحس والمحسوس فنزل الحق معه لنزوله فإنه لا یفارقه ، فیشاهده صورة کل ما شاهده من العالم ، لا یخص به صورة دون صورة من الأجسام والأعراض ، ویراه عین نفسه ، ویعلم أنه ما هو عین نفسه ولا عین العالم.

ولا یحار فی ذلک لما حصل له من التحقیق بصحبة الحق فی نزوله معه من المقام الذی یستحقه ، وهذا مشهد عزیز .

ما رأیت من یقول به من غیر شهود إلا فی عالم الأجسام و الأجساد ، وسبب ذلک عدم الصحبة مع الحق لما نزل من المقام الذی یستحقه ، وما رأیت واحدا من أهل هذا المقام ذوقا .

إلا أنه أخبرتنی أهلی مریم بنت عبدون أنها أبصرت واحدا وصفت لی حاله ، فعلمت أنه من أهل هذا الشهود إلا أنها ذکرت عنه أحوالا تدل على عدم قوته فیه وضعفه مع تحققه بهذا الحال .

ورد فی الخبر الصحیح فی تجابه سبحانه فی موطن التلبیس ، وهو تجلیه فی غیر صور الاعتقادات من حضرة الاعتقادات ، فلا یبقى أحد یقبله ولا یقر به ، بل یقولون

 ص 185

 

أحد من العلماء والحکماء على معرفة النفس وحقیقتها إلا الإلهیون من الرسل والصوفیة.

.......................................................

إذا قال لهم « أنا ربکم » « نعوذ بالله منک » فالعارف فی ذلک المقام یعرفه ، غیر أنه قد علم منه بما أعلمه أنه لا یرید أن یعرفه فی تلک الحضرة من کان هنا مقید المعرفة بصورة خاصة یعبده فیها.

فمن أدب العارف أن یوافقهم فی الإنکار ولکن لا یتلفظ بما تلفظوا به من الاستعاذة منه ، فإنه یعرفه ، فإذا قال لهم الحق فی تلک الحضرة عند تلک النظرة « هل کان بینکم وبینه علامة تعرفونه بها» فیقولون « نعم » فیتحول لهم سبحانه فی تلک العلامة ، مع اختلاف العلامات .

فإذا رأوها وهی الصورة التی کانوا یعبدونه فیها ، حینئذ اعترفوا به ، ووافقهم العارف بذلک فی اعترافهم ، أدبا منه مع الله وحقیقة ، وأقر له بما أقرت الجماعة .

راجع کتابنا الخیال ص 15 ، 24، وکتابنا ترجمة حیاة الشیخ ص 171.

فتوحات ج 1/ 166 - ج 2 / 609 - ج 3 / 234 ، 235.

 

9 - ج - التجلی الإلهی للحس والبواطن من الاسم الإلهی الظاهر

إن الله جعل لکل شیء ونفس الإنسان من جملة الأشیاء ظاهرا وباطنا.

فهی تدرک بالظاهر أمورا تسمى عینا، وتدرک بالباطن أمورا تسمى علما، والحق سبحانه هو الظاهر والباطن، فبه یقع الإدراک.

فإنه لیس فی قدرة کل ما سوى الله أن یدرک شیئا بنفسه ، وإنما أدر که بما جعل الله فیه (راجع « کنت سمعه و بصره » الفص 10  ص 146 ) .

و تجلی الحق لکل من تجلى له من أی عالم کان من عالم الغیب والشهادة إنما هو من الاسم الظاهر ، وأما الاسم الباطن فمن حقیقة هذه النسبة أنه لا یقع فیها تجل أبدا لا فی الدنیا ولا فی الآخرة . 

إذ کان التجلی عبارة عن ظهوره لمن تجلى له فی ذلک المجلی ، وهو الاسم الظاهر ، فإن معقولیة النسب لا تتبدل وإن لم یکن لها وجود عینی لکن لها الوجود العقلی ، فهی معقولة ، فإذا تجلى الحق إما منة أو إجابة لسؤال فیه ، فتجلى لظاهر النفس ، وقع الإدراک بالحس فی الصورة فی برزخ التمثل ، فوقعت الزیادة عند المتجلى له فی علوم

ص 186

 

وأما أصحاب النطر وأرباب الفکر من القدماء والمتکلمین فی کلامهم فی النفس وماهیها :

.................................................

الأحکام إن کان من علماء السریعة، ومن علوم موازین المعانی إن کان منطقیا، ومن علم میزان الکلام إن کان نحویا.

وکذلک صاحب کل علم من علوم الأکوان وغیر الأکوان تقع له الزیادة فی نفسه من علمه الذی هو بصدده، فأهل هذه الطریقة یعلمون أن هذه الزیادة إنما کانت من ذلک التجلی الإلهی لهؤلاء الأصناف.

فإنهم لا یقدرون على إنکار ما کشف لهم، وغیر العارفین یحسون بالزبادة وینسبون ذلک إلى أفکارهم، وغیر هذین یجدون من الزیادة ولا یعلمون أنهم استزادوا شیئا فهم فی المثل کمثل الحمار یحمل أسفارا.

وإذا وقع التجلی أیضا بالاسم الظاهر الباطن النفس وقع الإدراک بالبصیرة فی عالم الحقائق والمعانی المجردة عن المواد، وهی المعبر عنها بالنصوص.

إذ النص ما لا إشکال فیه ولا احتمال بوجه من الوجوه، ولیس ذلک إلا فی المعانی، فیکون صاحب المعانی مستریحا من تعب الفکر، فتقع الزیادة عند التجلی فی العلوم الإلهیة وعلوم الأسرار وعلوم الباطن وما یتعلق بالآخرة، وهذا مخصوص بأهل طریقنا.

فتوحات ج 1 / 166 .

 

9 - د - التجلی لکل مخلوق من الوجه الخاص

اعلم أنه ما من موجود فی العالم إلا وله وجه خاص إلى موجده إذا کان من عالم الخلق، وإن کان من عالم الأمر فما له سوى ذلک الوجه الخاص.

وأن الله یتجلى لکل موجود من ذلک الوجه الخاص فیعطیه من العلم به ما لا یعلمه منه إلا ذلک الموجود.

وسواء علم ذلک الموجود أو لم یعلمه، أعنی أن له وجها خاصا، وأن له من الله علما من حیث ذلک الوجه، لا علم للعقل به، فإنه سر الله الذی بینه وبین کل مخلوق لا تعرف نسبته.

ولا یدخل تحت عبارة، ولا یقدر مخلوق على إنکار وجوده، فهو المعلوم المجهول وما فضل أهل الله إلا بعلمهم بذاک الوجه، ثم یتفاضل أهل الله فی ذلک.

فمنهم من یعلم العلم الذی یحصل له من التجلی، ومنهم من لا یعلمه، أعنی على التعیین .

وما أعنی بالعلم إلا متعلق العلم هل هو کون أو هو الله من حیث أمر ما.

فتوحات ج 2 / 304 - ج 4 / 222 .

ص 187

 

فما منهم من عثر على حقیقتها، ولا یعطیها النظر الفکری أبدا. فمن طلب العلم بها من

.......................................................

9  - هـ - أنواع التجلی الإلهی

اعلم أن التجلی الإلهی لکل مخلوق من الوجه الخاص هو التجلی فی الأشیاء المبقی أعیانها .

وأما التجلی للاشیاء فهو تجل یفنی أحوالا ویعطی أحوالا فی المتجلی له .

ومن هذا التجلی توجد الأعراض والأحوال فی کل ما سوى الله ، ثم له تجل فی مجموع الأسماء فیعطی فی هذا التجلی فی العالم المقادیر والأوزان والأمکنة والأزمان والشرائع وما یلیق بعالم الأجسام وعالم الأرواح والحروف اللفظیة والرقمیة وعالم الخیال .

ثم له تجل آخر من أسماء الإضافة خاصة ، کالخالق وما أشبهه من الأسماء ، فیظهر فی العالم التوالد والتناسل والانفعالات والاستحالات والأنساب ، وهذه کلها حجب على أعیان الذوات الحاملات لهذه الحجب عن إدراک ذلک التجلی الذی لهذه الحجب الموجد أعیانها فی أعیان الذوات .

 و بهذا القدر تنسب الأفعال للأسباب .

ولولاها لکان الکشف فلا یجهل ، فـ بالتجلی تغیر الحال على الأعیان الثابتة من الثبوت إلى الوجود ، وبه ظهر الانتقال من حال إلى حال فی الموجودات، وهو خشوع تحت سلطان التجلی .

فله النقیضان یمحو ویثبت ، ویوجد ویعدم ، فالله متجلی على الدوام لأن التغییرات مشهودة على الدوام فی الظواهر والبواطن ، والغیب والشهادة والمحسوس والمعقول ، فشأنه التجلی وشأن الموجودان التغییر بالانتقال من حال إلى حال ، فمنا من یعرفه ، ومنا من لا یعرفه .

فمن عرفه عبده فی کل حال ومن لم یعرفه أنکره فی کل حال.

 فتوحات ج 2 / 303 ، 304 .


9  - و - الموانع من إدراک التجلی

القلوب أبدا لا تزال مفطورة على الجلاء مصقولة صافیة ، فکل قلب تجلت فیه الحضرة الإلهیة من حیث هی یاقوت أحمر ، الذی هو التجلی الذاتی ( هذا اصطلاح لیس المقصود منه تجلی الذات على ما هی علیه ) .

فذلک قلب المشاهد المکمل العالم الذی لا أحد فوقه فی تجلی من التجلیات ، ودونه تجلی الصفات ، ودونهما تجلی

ص 188

 

طریق النظر الفکری فقد استسمن ذا ورم ونفخ فی غیر ضرم. لا جرم أنهم من «الذین

.........................................................

الأفعال ، ولکن من کونها من الحضرة الإلهیة .

ومن لم تتجلى له من کونها من الحضرة الإلهیة فذلک هو القلب الغافل عن الله تعالى المطرود من قرب الله تعالى .

فانظر وفقک الله فی القلب على حد ما ذکرناه ، وإن اشتغل القلب بعلم الأسباب عن العلم بالله ، کان تعلقه بغیر الله صدأ على وجه القلب لأنه المانع من تجلی الحق إلى هذا القلب .

فما یجده عالم الطبیعة من الحجب المانعة عن إدراک الأنوار من العلوم والتجلیات بکدورات الشهوات والشبهات الشرعیة وعدم الورع فی اللسان والنظر والسماع والمطعم والمشرب والملبس والمرکب والمنکح ، و کدورات الشهوات بالانکباب علیها والاستفراغ فیها وإن کانت حلالا .

وإنما لم یمنع نیل الشهوات فی الآخرة وهی أعظم من شهوات الدنیا من التجلی ، لأن التجلی هناک على الأبصار ، ولیست الأبصار محل الشهوات .

والتجلی هنا فی الدنیا إنما هو على البصائر والبواطن دون الظاهر ، والبواطن محل الشهوات .

ولا یجتمع التجلی والشهوة فی محل واحد ، فلهذا جنح العارفون والزهاد فی الدنیا إلى التقلیل من نیل شهواتها والشغل بکسب حطامها .

ومن أحدث فی نفسه ربوبیة فقد انتقص من عبودیته بقدر ما أحدث ، وإذا انتقص من عبودیته بقدر ذلک ینتقص من تجلی الحق له ، وإذا انتقص من تجلی الحق له اتنقص علمه بربه ، وإذا انتقص علمه بربه جهل منه سبحانه وتعالى بقدر ما نقصه فتوحات ج 1 / 91 ، 154 ، 343.

 

 9 - ز - الإستعداد للتجلی

اعلم أن نور التجلی المنفهق یسری فی زوایا الجسم فیبهت العقل وبهره ، فلا یظهر للمتجلی له تصریف ولا حرکة لا ظاهرة ولا باطنة.

فإذا أراد الله أن یبقی العبد أرسل على القلب سحابة کون ما تحول بین النور المنفهق من التجلی وبین القلب .

فیتشر النور إلیها منعکسا وتشرح الأرواح والجوارح ، وذلک هو التثبیت ، فیبقى العبد مشاهدا من وراء تلک السحابة ، لبقاء الرسم ، وبقی التجلی دائما لا یزول أبدا ، ولهذا یقول کثیر إن الحق ما تجلى لشیء قط ثم انحجب عنه بعد ذلک ، ولکن تختلف الصفات .

ص 189

  

ضل سعیهم فی الحیاة الدنیا وهم یحسبون أنهم یحسنون صنعا». فمن طلب الأمر

..............................................................

واعلم أیدنا الله وإیاک ، أن الأمر فی التجلی قد یکون بخلاف ترتیب الحکمة التی عهدت ، وذلک أنا قد بینا استعداد القوابل .

وأن هناک لیس منع بل فیض دائم وعطاء غیر محظور [ فلو لم یکن المتجلى له على استعداد ، أظهر له ذلک الاستعداد هذا المسمى تجلیا ، ما صح أن یکون هذا التجلی ، فکان ینبغی له أن لا یقوم به دک ولا صعق ، هذا قول المعترض علینا ] .

قلنا له یا هذا :

الذی قلناه من الاستعداد ، نحن على ذلک ، الحق متجلی دائما والقابل لإدراک هذا التجلی لا یکون إلا باستعداد خاص ، وقد صح له ذلک الاستعداد فوقع التجلی فی حقه ، فلا یخلو أن یکون له أیضا استعداد البقاء عند التجلی أو لا یکون له ذلک .

فإن کان له ذلک فلابد أن یبقى ، وإن لم یکن له فکان له استعداد قبول التجلی ولم یکن له استعداد البقاء .

ولا یصح أن یکون له فإنه لابد من اندکاک أو صعق أو فناء أو غیبة أو غنیة ، فإنه لا یبقى له مع النهود غیر ما شهد فلا تطمع فی غیر مطمع.

 

إذا تجلى لمن تجلى ... أصعقه ذلک التجلی

وإن تولى عمن تولى ... أهلکه ذلک التولی

وإن تدلى بمن تدلى ... نوره ذلک التدلی

قلت الذی قدسمعتموه ... بالله یا سیدی فقل لی

لما رأیت الذی تجلى ... اشهدنی فیه عین ظلی

من لی إذا لم أکن سواه ... ولیس عینی قل لی فمن لی

الله لا ظاهر سواه ... فی کل ضد وکل مثل

وکل جنس وکل نوع ... وکل وصل وکل فصل

وکل حس وکل عقل ... وکل جسم وکل شکل

فلیس التفاضل ولا الفضل فی التجلی ، وإنما التفاضل والفضل فیما یعطی الله لهذا المتجلى له من الاستعداد .

وعین حصول التجلی عین حصول العلم لا یعقل بینهما بون ، کوجه الدلیل فی الدلیل سواء ، بل هذا أتم وأسرع فی الحکم ، ولا

 ص 190


من غیر طریقه فما ظفر بتحقیقه، وما أحسن ما قال الله تعالى فی حق العالم وتبدله مع الأنفاس.

......................................................


یدل تعدد التجلیات ولا کثرتها على الأشرفیة، وإنما الأشرف من له المقام الأعم، وأما التجلی الذی یکون معه البقاء والعقل والالتذاذ والخطاب والقبول فذلک التجلی الصوری.

ولابد مع التجلی من تعریف إلهی، إما بصفاء الإلهام أو بما شاء الحق من أنواع التعریف، ومن لم یر غیر التجلی الصوری ربما حکم على التجلی بذلک مطلقا من غیر تقیید، والذی ذاق الأمرین فرق ولابد.

الفتوحات ج 1 / 295 - ج 2 / 541 - ج 4 / 191 ، 192 - کتاب التدبیرات الإلهیة .

 

9 - ح - التجلی الإلهی فی الصور فی حضرة الخیال المطلق

الحقائق لا تنقلب فاللطف محال أن یرجع کثافة، ولکن اللطیف یرجع کنیفا کالحار یرجع باردا أو البارد حارا.

من هذا الباب یظهر تجلی الحق فی الصور التی ینکر فیها أو یرى فی النوم، فیرى الحق فی صورة الخلق بسبب حضرة الخیال.

فإن الحضرات تحکم على النازل فیها وتکسوه من خلعها ما تشاء، أین هذا التجلی من « لیس کمثله شیء» ومن « سبحان ربک رب العزة عما یصفون » .

فالحکم للحضرة والموطن لأن الحکم للحقائق، والمعانی توجب أحکامها لمن قامت به ، فإن الله إذا تجلی فی صورة البشر کما ورد فإنه یظهر بصورتها حسا ومعنی ، وهو اتصافه بالأوصاف الطبیعیة من تغیر الأحوال فی الغضب والرضى والفرح والنزول والهرولة .

فإذا تجلى الحق للإنسان فی المنام فی صورته أو غیره فی أی صورة تجلی، فلینظر فیما یلزم تلک الصورة المتجلی فیها من الأحکام فیحکم على الحق بها فی ذاک الموطن ؛ فإن مراد الله فیها ذلک الحکم ولابد ، ولهذا نجلى فیها على الخصوص دون غیرها، ویتحول الحکم بتحول الصور .

فکما أن کل موجود هو إما محدث وهو الخلق وإما محدث اسم فاعل وهو الخالق فکذلک الصورة تقبل القدم والحدوث.

ولذلک یتجلى الحق لعباده على ما شاءه من صفاته، ولهذا ینکره قوم فی الدار الآخرة لأنه تعالی تجلى لهم فی غیر الصورة والصفة التی عرفوها منه.

ویتجلى للعارفین على قلوبهم وعلى ذواتهم فی الآخرة

 ص 191


 عموما ، وعلى التحقیق الذی لا خفاء به عندنا أن حقائق الذات هی المتجلیة للصنفین فی الدارین أن عقل أو فهم من الله تعالى ، المرئی فی الدنیا بالقلوب والأبصار ، مع أنه سبحانه النبیء عن عجز العباد عن درک کنهه .

فقال « لاتدرکه الأبصار وهو یدرک الأبصار وهو اللطیف الخبیر » لطیف بعباده بتجلیه لهم على قدر طاقتهم « خبیر » ضعفهم عن حمل تجلیه الأقدس على ما نعطیه الألوهیة ، إذ لا طاقة للتحدث على حمل القدیم.

الفتوحات ج 1 /  77 -  ج 2 / 472 - ج 3 / 280 ، 286 - ج 4 / 289 .

 

واعلم أن الله تعالی ما تجلى لک إلا فی صورة علمه بک ولا کان عالما بک إلا منک. وأنت بذاتک أعطیته العلم بک، فإن الصورة تنقلب علیک إلى ما لا نهایة له، وتتقلب فیها أنت ، وتظهر بها إلى ما لا نهایة فیه .

ولکن حالا بعد حال ، انتقالا لا یزول؛ وقد علمک تعالى فی هذه الصور على عدم تناهیها ، فیتجلى لک فی صورة لم یبلغ وقت ظهورک بها .

لأنک مقید وهو غیر مقید ، بل قیده إطلاقه ، وإنما یفعل هذا مع عباده لیظهر لهم فی حال النکرة ، ولهذا ینکرون .

إلا العارفون بهذا المقام فإنهم لاینکرونه فی أی صورة ظهر فإنهم قد حفظوا الأصل وهو أنه ما یتجلى لمخلوق إلا فی صورة المخلوق ، إما التی هو علیها فی الحال فیعرفه أو ما یکون علیه بعد ذلک فینکره.

حتى یرى تلک الصورة قد دخل فیها فحینئذ یعرفه ، فإن الله علیه وعام ما یؤول إلیه ، والمخلوق لا یعلم من أحواله إلا ما هو علیه فی الوقت ، و من عباد الله من یعلم ذلک إذا رأى الحق فی صورة لا یعرفها .

علم بحکم الوطن وما عنده من القبول أنه ما تجلى له إلا فی صورة هی له وما وصل وقتها ، فعلمها قبل أن یدخل فیها ، فهذا من الزیادة فی العلم التی زادها الله ، فشکر الله الذی عرفه من موحان الإنکار .

الفتوحات ج 4 / 109 ، 110

وصاحب الرؤیا إذا رأى ربه تعالی کفاحة فی منامه فی أی صورة یراه یقول رأیت ربی فی صورة کذا وکذا و یصدق ، ویصدق مع قوله تعالی «لیس کمثله شیء » .

 ص 192

 

فنفى عنه المماثلة فی قبوله التجلی فی الصور کلها التی لا نهایة لها لنفسه .

فإن کل من سواه تعالی ممن له التجلی فی الصور لا یتجلى فی شیء منها لنفسه ، وإنما یتجلى فیها بمشیئة خالقه وتکوینه ، فیقول للصورة التی یدخل فیها من هذه صفته کن فتکون الصورة فیظهر بها من له هذا القبول إذا شاء الحق .

قال تعالى : " فی أی صورة ما شاء رکبک "، فجعل الترکیب الله لا له ، وفی نسبة الصورة لله تعالى یقال فی أی صورة شاء ظهر من غیر جعل جاعل ، فلا یلتبس علیک الأمر فی ذلک .

ولما لم یکن له تعالی ظهور إلى خلقه إلا فی صورة ، وصوره مختلفة فی کل تجل ، لا تتکرر صورة ، فإنه سبحانه لا یتجلى فی صورة مرتین ، ولا فی صورة واحدة لشخصین.

فإن الآیة من کتاب الله ترد واحدة العین على الأسماع ، فسامع یفهم منها أمرا وسامع آخر لا یفهم منها ذلک الأمر ویفهم منها أمرا آخر .

وآخر یفهم منها أمورا کثیرة ، ولهذا یستشهد کل واحد من الناظرین فیها بها لاختلاف استعداد الأفهام .

وهکذا فی التجلیات الإلهیة ، فالمتجلی من حیث هو فی نفسه واحد العین ، واختلفت التجلیات أعنی صورها بحسب استعدادات المتجلى لهم .

ولما کان الأمر کذلک لم ینضبط للعقل ولا للعین على ما هو الأمر علیه ، وهذا هو التوسع الإلهی الذی لا ینحصر ولا یدخل تحت الحد فیضبطه الفکر .

ولا یمکن للعقل تقییده بصورة ما من تلک الصور ، فإنه ینتقض له ذلک الأمر فی التجلی الآخر بالصورة الأخرى ، وهو الله فی ذلک کله .

لا یشک ولا یرتاب ، إلا إذا تجلى له فی غیر معتقده فإنه یتعوذ منه کما ورد فی صحیح الأخبار .

فیعلم أن ثم فی نفس الأمر عینا تقبل الظهور فی هذه الصور المختلفة لا یعرف لها ماهیة أصلا ولا کیفیة ، وإذا حکم ولابد بکیفیة فیقول : الکیفیة ظهورها فیما شاء من الصور فتکون الصور مشاءة .

فالعارفون أهل الله علموا أن الله لا یتجلى فی صورة واحدة لشخصین ولا فی صورة واحدة مرتین.

فلم ینضبط لهم الأمر، لما کان لکل شخص تجلی یخصه ، ورآه

ص 193

 

الإنسان من نفسه ، فإنه إذا تجلى له فی صورة ثم تجلى له فی صورة غیرها ، فعلم من هذا التجلی ما لم یعلمه من هذا التجلی الآخر من الحق ، هکذا دائما فی کل تجلی.

علم أن الأمر فی نفسه کذلک فی حقه وحق غیره ، فلا یقدر أن یعین فی ذلک اصطلاحا تقع به الفائدة بین المتخاطبین ، فهم یعلمون ولا ینقال ما یعلمون .

ولا فی قوة أصحاب هذا المقام الأبهج الذی لا مقام فی الممکنات أعلى منه .

أن یضع علیه لفظا یدل على ما علمه منه ، إلا ما أوقعه تعالى وهو قوله تعالى: « لیس کمثله شیء » فنفى المماثلة .

فما صورة یتجلى فیها لأحد تماثل صورة أخرى .

فتوحات ج 1 / 287 - ج 3 / 384 - ج 4 / 19 - کتاب التنزلات الموصلیة .

 

8 - ط۔ - خلاصة بحث التجلی:

یقول الشیخ فی مشاهدة مشهد البیعة الإلهیة على لسان الحق :

إنی وإن احتجبت فهو تجل لا یعرفه کل عارف ، إلا من أحاط علما بما أحطت به من المعارف .

ألا ترانی أتجلى لهم فی القیامة فی غیر الصورة التی یعرفونها والعلامة فینکرون ربوبیتی ومنها یتعوذون و بها یتعوذون ، ولکن لا یشعرون .

ولکنهم یقولون لذلک المتجلی « نعوذ بالله منک وها نحن لربنا منتظرون » .

فحینئذ أخرج علیهم فی الصورة التی لدیهم ، فیقرون لی بالربوبیة ، وعلى أنفسهم بالعبودیة.

فهم لعلامتهم عابدون، وللصورة التی تقررت عندهم مشاهدون، فمن قال منهم انه عبدنی فقوله زور وقد باهتنی (یعنی بقوله نعوذ بالله منک).

وکیف یصح منه ذلک وعندها تجلیت له أنکرنی ، فمن قیدنی بصورة دون صورة، فتخیله عبد وهو الحقیقة الممکنة فی قلبه المستورة .

فهو یتخیل أنه یعبدنی وهو یجحدنی، والعارفون لیس فی الإمکان خفائی عن أبصارهم ، لأنهم غابوا عن الخلق وعن أسرارهم ، فلا یظهر لهم عندهم سوائی، ولا یعقلون من الموجودات سوى أسمائی ، فکل شیء ظهر لهم وتجلى .

قالوا أنت المسبح الأعلى .

فتوحات ج 1 / 49

 ص 194

  

مع الأنفاس.

«فی خلق جدید» فی عین واحدة، فقال فی حق طائفة، بل أکثر العالم، «بل هم فی لبس من خلق جدید». "10" 

فلا یعرفون تجدید الأمر مع الأنفاس.

...........................................


10 -  « بل هم فی لبس من خلق جدید» الآیة

هذا فی مفهوم العموم النشأة الآخرة ، وقد یتناهى الأمر فی نوع خاص کالإنسان فإن أشخاص هذا النوع متناهیة ، لا أشخاص العالم ، ولا یتناهى أیضا فی خلق أشخاص النوع الإنسانی .

فعین کل شخص یتجدد فی کل نفس لابد من ذلک ، ففی مفهوم الخصوص تجدد النشأة فی کل نفس دنیا وآخرة ، فإن أدناه تغیر الحال مع الأنفاس .

فلا یزال الحق فاعلا فی الممکنات الوجود ، ولولا تبدیل الخلق مع الأنفاس الوقع المال فی الأعیان ، فالخلق جدید حیث کان دنیا و آخرة ، فدوام الإیجاد لله تعالی.

ومن المحال بقاء حال على عین تفسین أو زمانین ، للاتساع الإلهی ، ولبقاء الافتقار على العالم الى الله ، فالتغییر له واجب فی کل نفس ، والله خالق فیه فی کل نفس ، فالأحوال متجددة مع الأنفاس على الأعیان .

فنحن فی خلق جدید بین وجود وانقضاء فأحوال تتجدد على عین لا تتعدد بأحکام لا تنفد، فهذا الخلق الجدید الذی أکثر الناس منه فی لبس وشک، وما هو إلا الاستحالة، فإن العالم کله محصور فی ثلاثة أسرار، جوهره وصوره والاستحالة.

وما ثم أمر رابع ، فلا یزال العالم یستحیل دائما من الدنیا إلى الآخرة ، والآخرة بعضها إلى بعض ، کما استحال منها ما استحال إلى الدنیا .

کما ورد فی الخبر فی النیل والفرات وسیحان وجیحان أنها من أنهار الجنة، ثم تستحیل إلى البرزخ ، وإذا استحلنا من البرزخ إلى الصور التی یکون فیها النشر والبعث ، سمیت تلک الآخرة .

ولا یزال الأمر فی الآخرة فی خلق جدید، منها فیها، أهل الجنة فی الجنة، وأهل النار فی النار، إلى ما لا یتناهی، فلا نشاهد فی الآخرة إلا خلقا جدیدا فی عین واحدة، فالعالم متناه لا متناه.

ومن ذلک تعلم أن العالم لا یخلو فی کل نفس من الاستحالة، ولولا أن عین الجوهر من الذی یقبل هذه الاستحالة فی نفسه واحد ثابت، لا یستحیل من جوهره.

ما علم حین یستحیل إلى أمر ما ما کان علیه من الحال قبل تلک الاستحالة، غیر أن الاستحالات قد یخفى

 ص 195

  

لکن قد عثرت علیه الأشاعرة فی بعض الموجودات وهی الأعراض، وعثرت علیه

...............................................


بعضها ویدق ، وبعضها یکون ظاهرا تحس به النفس .

أمر الله تبارک وتعالى نبیه مع أن یقول « رب زدنی علما » أی أرفع عنی اللبس الذی یحول بینی وبین العلم بالخلق الجدید ، فیفوتنی خیر کثیر حصل فی الوجود لا أعلمه ، والحجاب لیس إلا التشابه والتماثل .

ولولا ذلک لما التبس على أحد الخلق الجدید الذی لله فی العالم فی کل نفس بکل شأن ، فقوله تعالی: " بل هم فی لبس من خلق جدید" .

أی أنهم لا یعرفون أنهم فی کل لحظة فی خلق جدید ، فما یرونه فی اللحظة الأولى ما هو عین ما یرونه فی اللحظة الثانیة، وهم فی لبس من ذلک .

وبذلک یکون الافتقار للخلق دائما وأبدا ، ویکون الحق خالقا حافظا على هذا الوجود فانظر فدیتک فیما قد أتیت به   .....   فالعلم یدرک ما لا یدرک البصر

فرجال العلم أولى بالعبر   .....   ورجال العین أولى بالنظر

فالذی یوصف بالعقل له   .....   قوة تخرجه عن البصر

والذی یوصف بالکشف له   .....   صورة تسمو على کل الصور

فتراه دائما فی حاله   .....   ظاهرا من غیر إلى غیر

 

والخلق ما سمی خلقا إلا بما خلق منه ، فالخلق جدید، وفیه حقیقة اختلاق ، لأنها تنظر إلیه من وجه فتقول هو حق ، وتنظر إلیه من وجه فتقول هو خلق ، وهو فی نفسه لا حق ولا غیر حق .

فإطلاق الحق علیه والخلق کأنه اختلاق ، فغلب علیه هذا الحکم فسمی خلقا ، وانفرد الحق باسم الحق ، إذ کان له وجوب الوجود لنفسه .

وکان للخلق وجوب الوجود به ، فالحق للوجود المحض ، والخلق للإمکان المحض ، فما ینعدم من العالم ویذهب من صورته فیما یلی جانب العدم .

وما یبقى منه ولا یصح فیه عدم فما یلی جانب الوجود ، ولا یزال الأمران حاکمین على العالم دائما .

فالخلق جدید فی کل نفس دنیا وآخرة ، ونفس الرحمن لا یزال متوجها والطبیعة لا تزال تتکون صورا لهذا النفس ، حتى لا یتعطل الأمر الإلهی .

 ص 196

 

الحسبانیة  فی العالم کله. "11"

وجهلهم أهل النظر بأجمعهم.

ولکن أخطأ الفریقان: أما خطأ الحسبانیة فبکونهم ما عثروا مع قولهم بالتبدل فی العالم بأسره على أحدیة عین الجوهر الذی قبل هذه الصورة ولا یوجد إلا بها کما لا تعقل إلا به.

فلو قالوا بذلک فازوا بدرجة التحقیق فی الأمر.

وأما الأشاعرة فما علموا أن العالم کله مجموع أعراض فهو یتبدل فی کل زمان إذ العرض لا یبقى زمانین.

ویظهر ذلک فی الحدود للأشیاء، فإنهم إذا حدوا الشیء تبین فی حدهم کونه الأعراض، وأن هذه الأعراض المذکورة فی حده عین هذا الجوهر وحقیقته القائم بنفسه.

ومن حیث هو عرض لا یقوم بنفسه.

فقد جاء من مجموع ما لا یقوم بنفسه من یقوم بنفسه کالتحیز فی حد الجوهر القائم بنفسه الذاتی وقبوله للأعراض حد له ذاتی.

ولا شک أن القبول عرض إذ لا یکون إلا فی قابل لأنه لا یقوم بنفسه: وهو ذاتی للجوهر.

والتحیز عرض لا یکون إلا فی متحیز، فلا یقوم بنفسه.

ولیس التحیز عرض لا یکون إلا فی متحیز، فلا یقوم بنفسه.

ولیس التحیز والقبول بأمر زائد على عین الجوهر المحدود لأن الحدود الذاتیة هی عین المحدود و هویته، فقد صار ما لا یبقى زمانین یبقى زمانین وأزمنة وعاد ما لا یقوم بنفسه یقوم بنفسه.

ولا یشعرون لما هم علیه، وهؤلاء هم فی لبس من خلق جدید.

وأما أهل الکشف فإنهم یرون أن الله یتجلى فی کل نفس ولا یکرر التجلی، و یرون أیضا شهودا أن کل تجل یعطی خلقا جدیدا و یذهب بخلق.

فذهابه هو عین الفناء عند التجلی و البقاء لما یعطیه التجلی الآخر فافهم. "12"

.........................................................


إذ لا یصح التعطیل ، فصور تحدث وصور تظهر بحسب الاستعدادات لقبول النفس الرحمانی إلى ما لا یتناهی .

راجع فتوحات ج 1 / 461 - ج 2 / 427 - ج  3 / 253 ، 288 ، 362 ، 395 ، 506 - ج 4 / 22 ، 279 ، 280 .

 

11 - طائفة الحسبانیة

طائفة الحسبانیة تقول إن أولیة العالم و آخریته أمر إضافی إن کان له آخر .

أما فی الوجود فله آخر فی کل زمان فرد ، وتقول بتجدد الأعیان والعالم فی کل زمان فرد .

فتوحات  ج 1 / 189 - ج 2 / 398 - ج 4 / 22 ، 365 ، 379.

 

12 - راجع أنواع التجلی ص 188 والخلق الجدید ص 195

 ص 197