عرفان شیعی

عرفان اسلامی در بستر تشیع

عرفان شیعی

عرفان اسلامی در بستر تشیع

الفقرة السادس عشر : 


کتاب تعلیقات د أبو العلا عفیفی على فصوص الحکم الشیخ الأکبر ابن العربی 1385 هـ :

الفص الثالث عشر حکمة ملکیة فی کلمة لوطیة

(1) فص حکمة ملکیة فی کلمة لوطیة

(1) من أهم المسائل التی تثار فی هذا الفص مسألة «القوة»: مصدرها و ظهورها فی الإنسان، وصلتها بقوته الروحیة المسماة بالهمة، و متى یجب علیه أن یستخدمها فی التصرف بوساطة هذه القوة، و متى ینبغی علیه أن یکف عن هذا التصرف.

ویظهر أن المراد بقوم لوط شهوات النفس البهیمیة، وبلوط نفسه تلک القوة الروحیة التی تضبط هذه الشهوات وتتصرف فیها.

فهو رمز إما للهمة نفسها أو لقوة روحیة أعلى تعرف کیف ومتى تستخدم الهمة.

وقد سبق أن شرحنا معنى الهمة وبیَّنَّا بعض نواحیها ووظائفها فی الفص السادس (التعلیق الثامن) والفص الثانی عشر (التعلیق التاسع).

أما فی هذا الفص فیشرح المؤلف التصرف بها ویفسر کیف یفهم العارف التصرف ولِمَ یحجم عنه مع قدرته علیه مستنداً فی ذلک إلى نظریته العامة فی وحدة الوجود.

یقول إن الإنسان خُلِقَ من ضعف، فلا حول ولا قوة له فی ذاته، لأنه لا وجود له فی ذاته، والقوة مظهر من مظاهر الوجود، بل الموجود الحقیقی والقویُّ الحقیقی هو الحق وحده.

فإذا آنس الإنسان من نفسه قوة فالحق واهب هذه القوة، بل هو صاحبها ومالکها، ولکن فی صورته.

أی أن الإنسان یظهر بالقوة لأنه مظهر الحق والحق قوی فی ذاته، والإنسان قوی بالعرض.

هذا دوران أو طوران للإنسان وإن شئت فقل اعتباران: ضعف أصیل وعجز ذاتی ثم قوة إضافیة أو عرضیة.

وهنالک دور ثالث وهو دور العارف الذی یأنس من نفسه تلک القوة العارضة کما یحسها سائر المخلوقات، و لکنه یدرک أن هذه القوة لیست له، بل للقویِّ على الإطلاق و هو اللَّه،

ویدرک أن من الجهل وسوء الأدب مع اللَّه التصرف بها فیترک التصرف لصاحبه ویرجع بنفسه إلى الحال الأولى التی هی حال العجز المطلق.

هذا هو التفسیر الصوفی الفلسفی الذی وضعه ابن العربی لقوله تعالى «اللَّهُ الَّذِی خَلَقَکُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً، ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَیْبَةً» (قرآن س 30 آیة 54) و لعله یفهم الشیبة على أنها رمز لحالة النضوج فی المعرفة الصوفیة.


(2) «وذلک أن المعرفة لا تترک للهمة تصرفاً. فکلما علت معرفته نقص تصرفه بالهمة».

(2) یدعی جمهور الصوفیة أن العارفین منهم المتحققین بمقام الولایة والواصلین إلى درجة القرب من اللَّه، تظهر على أیدیهم الکرامات وخوارق العادات، ویرسلون هممهم على من یریدون وما یریدون فیتصرفون فی الجمیع و یسخرون الناس و الأشیاء.

و لکن ابن العربی الذی یخضع لمنطق مذهبه فی وحدة الوجود یرى أن هذه دعوى لا أساس لها عند العارف المحقق الواقف على الأمر کما هو علیه.

إذ العارف الذی وصل إلى مقام الجمع- أو مقام الفناء کما یسمونه- و تحقق من الوحدة الوجودیة للأشیاء و من وحدته الذاتیة مع الحق، یترک التصرف مع قدرته علیه، و یزهد فیه، و إن تصرف عرف من هو المتصرِّف و من المتصرِّف فیه، و بأی معنى نَسَبَ التصرف إلى نفسه.

إنه یدرک فی هذا المقام أنه مجرد صورة لا وجود ولا قیمة لها فی ذاتها وهذا هو التحقق بالعبودیة الکاملة ویدرک من ناحیة أخرى أحدیة المتصرِّف والمتصرِّف فیه فلا یرى غیراً یسلط علیه همته أو یرسل علیه تصرّفه.

فهو من جهة یرى أن إرادته لیست سوى إرادة الحق فیه، ومن جهة أخرى یرى أن غیره من الموجودات التی یؤثر فیها بهمته وتصرفه لیست سوى مجال للحق، بل هی عین الحق لا غیره: فکیف عن التصرف ویدرک أنه لیس له من الأمر شیء.

هذا سبب، و هناک سبب آخر من أجله ترک العارفون من الصوفیة التصرف و تبرءوا منه: و ذلک أنهم أدرکوا أنه لا شی ء یظهر فی الوجود إلا بحسب ما کان علیه فی حال ثبوته الأزلی: أی أدرکوا أن الأمور مقررة مقدرة أزلًا، و أن لا قوة فی الوجود أیاً ما کانت تستطیع أن تمحو کلمة واحدة مما خطته ید القدر: ففیم إذن یتصرفون؟ و لِمَ یتصرفون؟

إن المنازع الذی یعصی رسول اللَّه لم یتعد حقیقته ولا أخل بطریقته: إنه یسیر فی الطریق التی رسمتها له طبیعة الوجود ولا مفر له من أن یسیر فیها.

ومهما یحاول الرسول رده عن هذه الطریق بهمته أو بغیرها لا یجدیه ذلک فتیلًا.

ألم یقل الحق لنبیه علیه السلام: «إِنَّکَ لا تَهْدِی مَنْ أَحْبَبْتَ؟»

وقال «لَیْسَ عَلَیْکَ هُداهُمْ وَلکِنَّ اللَّهَ یَهْدِی مَنْ یَشاءُ».

على أن هذا المنازع لیس إلا منازعاً فی الصورة، ومن قبیل العرض البحت، وإلا فهو فی حقیقة الأمر مطیع خاضع لقانون الوجود الذی هو القانون الإلهی.

راجع ما قلناه عن الأمر التکوینی و الأمر التکلیفی و ما ذکرناه عن نظریة المؤلف فی الجبریة.

(الفص الخامس: التعلیق 4، 5، 6، و الفص السابع التعلیق 4، و الفص الثامن التعلیق 6، و الفص العاشر التعلیق 6 إلخ).


(3) «والهمة لا تفعل إلا بالجمعیة التی لا متسع لصاحبها إلى غیر ما اجتمع علیه».

(3) الظاهر أن المراد بالجمعیة هنا جمعیة القلب، أی ترکیزه و توجیه نشاطه الروحی نحو أمر من الأمور أو شی ء من الأشیاء بقصد التصرف فیه حسبما یرید العارف.

 ولکن هذه الجمعیة القلبیة لا تتم أبداً لصاحب المعرفة الکاملة لأن شعوره بالعجز و القصور، و إدراکه أن ما أودع فیه من القدرة على التصرف فی الأشیاء لیس له و أنه مجرد أداة فی ید الحق، یقفان حائلًا دون حصول هذه الجمعیة فی قلبه.

وإذا لم تحصل الجمعیة القلبیة فی العارف لا یحدث التصرف، وهذا هو معنى ترک کبار الصوفیة للتصرف مع قدرتهم علیه کما فعل الشیخ أبو السعود بن الشبل البغدادی تلمیذ الشیخ عبد القادر الجیلانی، وکما فعل الشیخ العارف أبو مدین المغربی، بل کما کان علیه حال ابن العربی نفسه الذی یصف نفسه بأنه کان أتم فی مقام الضعف والعجز من أبی مدین.

فالتحقق بمقام الضعف والعجز هو الذی یمنع هؤلاء الصوفیة من إطلاق تصرفهم فی الموجودات، وهو أیضاً مقام التحقق بالعبودیة الکاملة.

وهنا نسمع صوت العاطفة الدینیة ینبعث من قلب شیخ وحدة الوجود حیث یجرد الإنسان (الصورة) من کل حول وقوة وقدرة على التصرف- بل على الفعل أیاً کان نوعه، ویلبسه ثوب الافتقار المطلق، ویعزو القوة الحقیقیة والقدرة المطلقة إلى الحق الواحد المتجلی فی جمیع الصور.

على أن الجمعیة المشار إلیها یمکن أن تفهم على وجه آخر، وفی بعض ما سبق من النصوص ما یؤید هذا الوجه.

فقد یکون المراد بها مقام الجمع: أی مقام الفناء والتحقق بالوحدة الذاتیة بین الحق والخلق.

وقد سبق أن أشرنا إلى أن هذا المقام متعذر على السالکین الکاملین ما داموا فی هذه الدنیا وما دام لهم شعور بفردیتهم.

ویکفی أن یقول الصوفی «أنا» لیثبت «مقام الفرق».

ولهذا یَسْخَر ابن العربی من أولئک الصوفیة الذین خدعوا أنفسهم فتکلموا عن الوصول و الاتحاد و الوحدة و ما شاکلها. یقول «و لهذا منع أهل الحق التجلی فی الأحدیة» راجع الفص السابع التعلیق الخامس: و الفص الثانی عشر: التعلیق 6، 7 إلخ إلخ.


(4) «فمتى تصرف العارف بالهمة فی العالم فعن أمر إلهی وجبر لا باختیار».

(4) هذه ناحیة جدیدة من نواحی نظریة ابن العربی فی الجبر.

کل شی ء فی عالم هذا الرجل یخضع لقانون الجبریة الأزلیة حتى الاعتقادات والطاعات والمعاصی، والتصرف بالفعل فی العالم وعدم التصرف فیه.

فبعد أن شرح معنى التصرف وقیمته فی نظر العارف الکامل، وبیَّن أنه قوة یتمکن بها الإنسان من إحداث ما یشاء من الآثار فی العالم الخارجی، ویحجم العارفون عن استخدامها لعلمهم بمصدرها وحقیقتها، ذکر أن الأنبیاء قد أعطوا هذه القوة لیظهروا بما تأتی به من المعجزات بین الناس فیحملوهم على الاعتقاد برسالتهم والتصدیق بهم.

هذا حق للأنبیاء المرسلین، ولکنهم لو أدرکوا الأمر على حقیقته کما یدرکه العارفون وهم لا شک یدرکونه- لصدفوا عن التصرف وترکوه جانباً، إلا أن یکون اللَّه قد قدر أزلا أنهم سیتصرفون على نحو ما، تحقیقاً لغرض معین.

هذا جانب من جوانب الجبریة فی الموضوع. وهناک جانب آخر لا یقل عنه فی أهمیته.

إذا کانت اعتقادات الخلق فی الحق مقدرة أزلًا، وإذا کان کل إنسان یولد عاصیاً أو مطیعاً نتیجة لما طبعت علیه عینه الثابتة فی العلم القدیم، وإذا کان التصدیق بالرسل والتکذیب بهم جزءاً من النظام العالم المقرر أزلًا، فما قیمة تصرف الأنبیاء وإظهارهم المعجزات؟

نعم یقول اللَّه عز وجل «وَ اللَّهُ یَهْدِی مَنْ یَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِیمٍ» * و لکنه یقول أیضاً «وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِینَ» * أی الذین اقتضت أعیانهم الثابتة هدایتهم فعلم اللَّه ذلک منهم أزلًا، و علم أنهم لن یحولوا عن طریق الهدایة أبداً کما أن أهل الضلال لن یحولوا عن طریق ضلالهم مهما بذل رسلهم من تصرف و أظهروا من معجزات.


(5) «فالکل منا ومنهم والأخذ عنا وعنهم»

إن لا یکونون منا ... فنحن لا شک منهم

(5) شرح بما لا مزید علیه من الوضوح أن الهدایة و الضلال مقدران أزلا على کل مهتد و ضال، و أن ذلک التقدیر الأزلی راجع إلى طبیعة الأشیاء ذاتها، و أنه و لیس شیئاً آخر فرضته قوة خارجة عن القوة الساریة فی الوجود بأسره.

فإن قیل أن الکفر مقدر على الکافر، و إن الإیمان مقدر على المؤمن، کان معنى ذلک أن العین الثابتة فی العلم الإلهی اقتضت کفر الکافر و إیمان المؤمن لا أن الحق تعالى قدر الکفر على الکافر ثم طالبه بما لیس فی وسعه أن یأتی به.

هکذا فهم ابن العربی العدالة الإلهیة وهی عدالة سلبیة أو عدالة معطلة لأن العدالة الحقیقیة عمل إرادی یصدر ممن فی قدرته أن یعدل وأن یظلم، والحق فی نظر ابن العربی لیس له إلا إرادة الموجود الثابت، أو لیس له إرادة أصلًا.

نعم لم یفرض الحق على العبد الکفر ثم یطالبه بالإیمان وإلا کان ذلک عین الظلم، ولکنه لم یفرض علیه شیئاً إطلاقاً، وإنما فرض على العبد الکفر عینُه الثابتة أو طبیعة وجوده:

فإن کان ظلم فهو الظالم لنفسه.

ویحق لنا أن نقول أیضاً، وإن کان عدل فهو العادل فی حق نفسه- ولکنا عرفنا فیما سبق أن ابن العربی لا یعتبر الکفر والمعصیة ولا أی نوع من أنواع المخالفة للشرع ظلماً أو فجوراً أو شراً إلا من ناحیة الدین: أی من ناحیة ما ورد فی الشرع من أوامر ونواه.

أما فی ذاتها فکل أفعال العباد مرضیة فی نظر أربابها، مقبولة فی نظر الحق، عادلة لا ظلم فیها لأنها تطابق تمام المطابقة قوانین الوجود.

بعد کل هذا ذکر البیتین الآنفی الذکر وختم بهما الفص: وفیهما الشیء الکثیر من الغموض مما دعا إلى اختلاف الشراح فی فهمهما اختلافاً کبیراً.

فکلمة «الکل» الواردة فی البیت الأول قد تشیر إلى کل «ما هو موجود»، أو إلى کل ما ذکره قبل ذلک من الکلام عن الأمر الإلهی (الأمر التکلیفی) و طاعة العبد.


و على المعنى الأول یکون معنى البیت: فکل ما هو موجود ینتسب لنا (الحق) من وجه، و ینتسب لهم (الخلق) من وجه آخر: أی أن الوجود حق و خلق، أو حق فی خلق کما بیَّن ذلک مراراً.

وعلى المعنى الثانی یکون معناه: فکل ما ذکرناه من أمر وطاعة صادر منا- لأنا نأمر العباد ونطیعهم بأن ننقاد إلى ما تتطلبه أعیانهم من حقائق الوجود وصادر منهم لأنهم یأمروننا بأن یطالبونا بما تقتضیه أعیانهم، و فی الوقت نفسه هم یطیعون أوامرنا.

فالأمر والطاعة من الطرفین على قدم المساواة وکذلک یقع الإبهام فی کلمة «الأخذ» التی قد تفهم بمعنى استمداد المعرفة، أو استمداد الوجود، وعلى المعنى الأول یستمد العبد معرفته الحقیقیة من الحق.

ویستمد الحق علمه بالعبد من ذات العبد وعینه الثابتة.

وعلى المعنى الثانی یستمد العبد وجوده من الحق، ویستمد الحق وجوده الظاهر ووجود ألوهیته من الخلق.

بل إن اللبس قد وقع فی الضمائر الواردة فی البیتین فی قوله منا وعنا، ومنهم وعنهم.

فقد أخذت الضمائر على أنها کلها عائدة على المخلوقات، وأخذت على أن الضمیرین فی «منَّا» و «عنَّا» عائدان على الحق، و فی «منهم» «وعنهم» عائدان على الخلق، وأخذت على أن الضمیرین فی منا و عنا عائذان على الخلق، وفی منهم و عنهم عائدان على الأسماء الإلهیة.

وقد فهم البیت الثانی «إن لا یکونون منا فنحن لا شک منهم»


بمعنى إن لم ینتسبوا إلى الحق، أو إن لم یتحقق وجودهم بوجوده، أو إن لم یستمدوا علمهم منه- فإن الحق لا شک ینتسب إلیهم (بالمعنى المتقدم)، أو یوجد فی الظاهر بوجودهم أو یستمد علمه بهم منهم.

و نستطیع أن نلخص البیتین إجمالًا فی أن کل ما هو موجود بالقوة أو بالفعل له وجهان:

وجه إلى الحق و آخر إلى الخلق: وجه إلى الفاعل و آخر إلى القابل، و أن الحقیقة الوجودیة لا تکون إلا عن الوجهین جمیعاً. فهما الصفتان المتکاملتان فی «الواحد».

فالربوبیة وما یلزمها من الأسماء لا وجود لها إلا بالمربوبین، والعبودیة وما یلحقها من الصفات لا تَحَقُّق لها من غیر الأرباب.

فکل من الربوبیة والعبودیة إذن لا معنى لها- بل ولا تحقق- إلا بالأخرى.

وکذلک الحال فی الألوهیة والمألوهیة.

فإذا قدَّرنا أن العالم مستقل فی وجوده عن اللَّه أصبحت الألوهیة اسماً على غیر مسمى: وهذا معنى قوله: «إن لا یکونون منا فنحن لا شک منهم»، لأن الأسماء الإلهیة التی تطلب المألوهین، و منها یتکوّن مفهوم الألوهیة، تصبح فی هذه الحالة لغواً من القول. على هذا التقدیر یستقیم المعنى فی البیتین، ولکن لسوء الحظ لیس فی الفص ذکر سابق للأسماء الإلهیة حتى تعود علیها الضمائر فی منهم وعنهم.


والأقرب إلى روح الفص أن نعید الضمائر فی منا وعنا على اللَّه، وفی منهم وعنهم على العباد، لا سیما وقد ورد البیتان بعد شرح الآیة القرآنیة التی ینصف اللَّه بها نفسه من العباد فی قوله «وَما ظَلَمْناهُمْ وَلکِنْ کانُوا أَنْفُسَهُمْ یَظْلِمُونَ»


(6)  «و قد أدرج فی الشفع الذی قیل هو الوتر»

(6) الشفع هو العالم و الوتر هو الواحد الحق- الذات الإلهیة أو المطلق.

والمراد أن الذات الإلهیة المطلقة قد أدرجت فی العالم کما أدرج العدد «واحد» فی العدد «اثنین».

وهذا التمثیل الریاضی البدیع یشرح لنا نظریة ابن العربی شرحاً دقیقاً ویمیز بینها و بین النظریات الأخرى التی قد تختلط بها کنظریة الحلول أو نظریة الفیوضات التی قال بها أفلوطین.

لیس العالم فیضاً عن «الواحد المطلق» کما قال أفلوطین، بل هو هو ذلک الواحد متجلیاً فی صورة الممکنات المتعینة: أی أنه «المطلق» الذی جرده العقل من إطلاقه عند ما تصوره فی صورته المقیدة.

فکما أن «الواحد» العددی هو جوهر الاثنین والثلاثة وسائر الأعداد، وکما أن الأعداد لیست فی الحقیقة إلا صوراً معقولة للواحد المندرج فیها جمیعاً، کذلک الحال فی الواحد الحق والکثرة الوجودیة التی نسمیها بالعالم.

فالواحد العددی لیس له إلا دلالة واحدة وإشارة واحدة و هی إشارته إلى ذاته و دلالته على هذه الذاتیة.

أما الأعداد الأخرى فلکل منها دلالتان أو إشارتان: دلالته على نفسه کدلالة الاثنین على الاثنین والثلاثة على الثلاثة وهکذا.

ودلالته على «الواحد» المتکرر أو المندرج فیه.

هکذا الوتر و الشفع: الحق و العالم أو بعبارة أدق الذات الإلهیة و العالم. فإن الذات الإلهیة إذا نظر إلیها معراة عن جمیع العلاقات والنسب لم یکن لها دلالة ولا إشارة إلا على نفسها و إلى نفسها.

أما العالم الذی هو کثرة من صور الوجود فله إشارتان:

إشارة إلى نفسه، 

وإشارة إلى الذات المندرجة فی کل صورة من صوره.

والحقیقة أن الوتر هو الشفع، ولکنهما متغایران فی الذهن، کما أن الواحد العددی هو عین الأعداد کلها، ولکنه مغایر لها ذهناً