الفقرة السابعة عشر :
شرح فصوص الحکم من کلام الشیخ الأکبر ابن العربی أ. محمود محمود الغراب 1405 هـ:
13 - فص حکمة ملکیة فی کلمة لوطیة
قال الشیخ رضی الله عنه : ( الملک الشدة والملیک الشدید: یقال ملکت العجین إذا شددت عجینه. قال قیس بن الحطیم یصف طعنة:
ملکت بها کفی فانهرت فتقها ... یرى قائم من دونها ما وراءها)
.........................................................
1 - هذا الفص یبحث فی الهمة المؤثرة وهی التصرف ، وعدم إطلاقها من الرسل صلوات الله علیهم وسلامه ومن الأولیاء الکمل ، وذلک لکمال المعرفة بأن العلم تابع للمعلوم، واستشهد الشیخ على ذلک بفعل لوط علیه السلام .
وبقول أبی السعود الشبلی لمحمد بن قائد الأوانی ، وکذلک ما ذکره عن أبی مدین ، فتصرف الأولیاء بالهیة لا یکون إلا عن أمر إلهی وجبر لا اختیار .
وفی هذا یقول الشیخ رضی الله عنه « إن أکابر الرجال مع معرفتهم بما خلقوا له ، لو وقفوا مع التکوین قوبلوا ، ولکنهم ترکوا الحق یتصرف فی خلقه کما هو فی نفس الأمر ، وأبوا أن یکونوا محلا الظهور التصریف ، وإن ظهر علیهم من ذلک شیء ، فما هو عن قصد منهم لذلک ، ولکن أجراه الله لهم وأظهره علیهم الحکمة علمها الحق ، وهؤلاء عن ذلک بمعزل .
وأما أن یقصدوا ذلک فلا یتصور منهم إلا أن یکونوا مأمورین کالرسل علیهم السلام، فذلک إلى الله، وهم لا یعصون الله ما أمرهم ، فإنهم معصومون مع إضافة الأفعال إلیهم وإن ظهرت منهم ، فیقولون هی للظاهر من أسمائه فی مظاهره ، فما لنا وللدعوى، ونحن لا شیء فی حال کوننا مظاهر له ، وفی غیر هذه الحال .
والمناسبة بین تسمیة هذه الحکمة « بالملکیة » وبین لوط علیه السلام هی قوله « أو آوی إلى رکن شدید » والشدة فی اللغة الملک کما هو واضح فی أول الفص ، ولا یمتنع من التصرف مع القدرة علیه إلا کل قوی شدید .
راجع فتوحات ج 2 / 96 .
ص 198
قال الشیخ رضی الله عنه : (أی شددت بها کفی یعنی الطعنة. فهو قول الله تعالى عن لوط علیه السلام: «لو أن لی بکم قوة أو آوی إلى رکن شدید».
فقال رسول الله صلى الله علیه وسلم یرحم الله أخى لوطا: لقد کان یأوی إلى رکن شدید.
فنبه صلى الله علیه وسلم أنه کان مع الله من کونه شدیدا.
والذی قصد لوط علیه السلام القبیلة بالرکن الشدید: والمقاومة بقوله «لو أن لی بکم قوة» وهی الهمة هنا من البشر خاصة.
فقال رسول الله صلى الله علیه وسلم فمن ذلک الوقت یعنی من الزمن الذی قال فیه علیه السلام «أو آوی إلى رکن شدید» ما بعث نبی بعد ذلک إلا فی منعة من قومه، فکان یحمیه قبیله کأبی طالب مع رسول الله صلى الله علیه وسلم.
فقوله «لو أن لی بکم قوة» لکونه علیه السلام سمع الله تعالى یقول «الله الذی خلقکم من ضعف» بالأصالة، "ثم جعل من بعد ضعف قوة" فعرضت القوة بالجعل فهی قوة عرضیة، «ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشیبة» فالجعل تعلق بالشیبة، وأما الضعف فهو رجوع إلى أصل خلقه وهو قوله خلقکم من ضعف، "2" فرده لما خلقه منه کما قال «یرد إلى أرذل العمر لکیلا یعلم من بعد علم شیئا».
فذکر أنه رد إلى الضعف الأول فحکم الشیخ حکم الطفل فی الضعف.
وما بعث نبی إلا بعد تمام الأربعین وهو زمان أخذه فی النقص والضعف.
فلهذا قال «لو أن لی بکم قوة» )
.........................................................
2 - قوله تعالى « الله الذی خلقکم من ضعف ... » الآیة
خلقنا الله من ضعف وما خلقنا إلا علیه ، فما أنشأ العالم إلا منه وعلیه ، فخلق الإنسان فقیرا إلى ربه مسکینا ظاهر الضعف والحاجة ، بلسان الحال والمقال . وهکذا الطفل عند ولادته لا یقدر على القیام ، فهو طریح قریب إلى أصله وهو الأرض ، وکذا المریض الذی لا یقدر على القیام والقعود ویبقى طریا لضعفه ، وهو رجوعه إلى أصله ، فالضعف أصل الإنسان لکونه مسکنا .
والممکن لا یستطیع أن یدفع عن نفسه الترجیح على کل حال ، ثم جعل الله له قوة عارضة وهو قوله « ثم جعل من بعد ضعف قوة » لما نقلنا من حال الطفولة الى حال الشباب والتکلیف ؛ فهی قوة الشباب ، وذلک حال الفترة وفیها یسمى فتى ، وما قرن معها شیئا من الضعف.
فإن الفتوة لیس فیها شیء من الضعف ، إذ هی حالة بین الطفولة والکهولة وهو عمر الإنسان من زمان بلوغه إلى تمام الأربعین من ولادته .
إلا أنه مع هذه القوة لا یستقل ، فأمر بطلب المعونة ، فالضعف هو أول العالم وآخره فإنا ما وجدنا
ص 199
قال الشیخ رضی الله عنه : (مع کون ذلک یطلب همة مؤثرة.
فإن قلت وما یمنعه من الهمة المؤثرة وهی موجودة فی السالکین من الاتباع، والرسل أولى بها؟
قلنا صدقت: ولکن نقصک علم آخر، وذلک أن المعرفة لا تترک للهمة تصرفا.
فکلما علت معرفته نقص تصرفه بالهمة، وذلک لوجهین:
الوجه الواحد لتحققه بمقام العبودیة ونظره إلى أصل خلقه الطبیعی،
والوجه الآخر أحدیة المتصرف والمتصرف فیه: فلا یرى على من یرسل همته فیمنعه ذلک.
وفی هذا المشهد یرى أن المنازع له ما عدل عن حقیقته التی هو علیها فی حال ثبوت عینه وحال عدمه.
فما ظهر فی الوجود إلا ما کان له فی حال العدم فی الثبوت، )
.........................................................
للقوة ذکرا فی الأول ولا فی الآخر ، بل جاءت فی الوسط ، وهی محل الدعوى الواقعة من الإنسان .
وإذا نظرنا فی معنى الضعف الذی خلقنا منه لوجدناه عدم الاستقلال بالإیجاد ، فشرع لنا الاستعانة به فی الاقتدار ، ثم جعل لنا قوة غیر مستقلة ، فإنه لولا أن للمکلف نسبة وأثرا فی العمل ما صح التکلیف .
ولا صح طلب المعونة من ذی القوة المتین ، فهو وإن خلقنا من ضعف فإنه جعل فینا قوة لولاها ما کلفنا بالعمل والترک .
لأن الترک منع النفس من التصرف فی هواها ، وبهذا عمت القوة العمل والترک ، ثم رد الله تعالى الإنسان إلى أصله من الضعف ، فإن القوة لله جمیعا ، والعبد موطنه الضعف والعبودیة .
والضعف مرتبته ، فإنه خلق من ضعف ابتداء ورد إلى الضعف انتهاء ، فقال عز وجل « ثم جعل من بعد قوة » أی قوة الشباب « ضعفا » یعنی ضعف الکهولة إلى آخر العمر .
وما هو ضعف ثان من أجل ما تکره ، فهو رجوع إلى الضعف الأول ، فکان الضعف الثانی رجوعا إلى الأصل فسمى هرما .
وهذا الضعف الأخیر إنما أعده الله لإقامة النشأة الآخرة علیه، کما قامت النشأة الدنیا على الضعف ، وإنما کان هذا لیلازم الإنسان ذاته الذلة والافتقار وطلب المعونة والحاجة إلى خالقه .
ثم قال تعالى « وشیبة » الشیب للشیخوخة « وشیبة » یعنی وقارة أی سکونا نضعفه عن الحرکة ، فإن الوقار من الوقر وهو الثقل ، فقرن مع هذا الضعف الثانی الشیبة التی هی الوقار ، فإن الطفل وإن کان ضعیفا فإنه متحرک جدا.
راجع الفتوحات ج 1 / 241 ، 275 - ج 2 / 29 - ج 3 / 379 - ج 4 / 11 ، 281 ، 282.
ص 200
قال الشیخ رضی الله عنه : ( فما تعدى حقیقته ولا أخل بطریقته. فتسمیة ذلک نزاعا إنما هو أمر عرضی أظهره الحجاب الذی على أعین الناس کما قال الله فیهم «ولکن أکثر الناس لا یعلمون: یعلمون ظاهرا من الحیاة الدنیا وهم عن الآخرة هم غافلون»: وهو من المقلوب فإنه من قولهم «قلوبنا غلف».
أی فی غلاف وهو الکن الذی ستره عن إدراک الأمر على ما هو علیه. فهذا وأمثاله یمنع العارف من التصرف فی العالم قال الشیخ ).
.........................................................
3 - الهمة
الهمة وهی الصدق أن یرید الشیء فیمتثل المراد بین یدیه على ما أراد من غیر زیادة ولا نقصان ، فإذا أراد الإنسان أن یختبر نفسه فلینظر هل له فعل بالهمة المجردة فیما شأنه أن لا یفعل إلا بالکلام أم لا ؟
فإن أثر وحصل المقصود فهو صامت حقیقة ، مثل أن یرید أن یقول لخادمه « اسقنی ماء » أو « آتنی بطعام » أو « سر إلى فلان فقل له کذا وکذا ، ولا یشیر إلى الخادم بشیء من هذا کله ، فیجد الخادم فی نفسه ذلک کله ، بأن یخلق الله فی سمع الخادم عن ذلک .
یقول فلان قال لی افعل کذا وکذا یسمع ذلک حسیا بأذنه ، ولکن یتخیل أنه صوت ذلک الصامت ، ولیس کذلک ، فمن لیست له هذه الحالة ، فلا یدعى أنه صامت ، وهذا مما غلط فیه جماعة من أهل الطریق .
فسن نصح نفسه فقد أقمنا له میزان هذا المقام الذی یزنه به حتى لا یلتبس علیه الأمر ، وهذا لا یکون إلا للإلهیین المحسنین لا لغیرهم من المؤمنین والمسلمین الذین لم یحصل لهم مقام الإحسان .
ولیس الفعل بالهمة فی الدنیا لکل أحد، وقد کان ذلک فی الدنیا لغیر الولی کصاحب العین أو الغرانیة بإفریقیا من تأثیر الصدق فمشهود فی أشخاص ما لهم المکانة من أسباب السعادة التی جاءت بها الشرائع ولکن لهم القدم الراسخ فی الصدق، ولکن الفعل بالهمة ما یکون بسرعة تکوین الشیء بالهمة فی الدار الآخرة .
وهذا فی الدنیا نادر شاذ کقضیب البان وغیره ، وهو فی الدار الآخرة للجمیع ، فأصحاب الآثار قد یکونون أولیاء ، وقد تکون تلک الآثار الکونیة عن موازین معلومة عندنا ، وعند من یعرف همم النفوس وقدرتها وانفعال أجرام العالم لها.
ومن خالط الغرانیة ورأى ما هم علیه من عدم التوفیق مع کونهم یقتلون بالهمة ویعزلون ویتحکمون لقوة
ص 201
قال الشیخ رضی الله عنه : ( أبو عبد الله بن قاید للشیخ أبی السعود بن الشبل لم لا تتصرف؟
فقال أبو السعود ترکت الحق یتصرف لی کما یشاء: یرید قوله تعالى آمرا «فاتخذه وکیلا» فالوکیل هو المتصرف ولا سیما وقد سمع الله تعالى یقول: «وأنفقوا مما جعلکم مستخلفین فیه».
فعلم أبو السعود والعارفون أن الأمر الذی بیده لیس له وأنه مستخلف فیه.
ثم قال له الحق هذا الأمر الذی استخلفتک فیه وملکتک إیاه: اجعلنی واتخذنی وکیلا فیه، فامتثل)
.........................................................
هممهم ، وأیضا لما فی العالم من خواص الأسماء التی تکون عنها الآثار والتکوینات عند من یکون عنده علم ذلک مع کون ذلک الشخص مشرکا بالله .
فمن الناس من یکون عالما بخواص الأسماء ، فیظهر بها الآثار العجیبة والانفعالات الصحیحة ، ولا یقول إن ذلک عن أسماء عنده ، وإنما یظهر ذلک عند الحاضرین أنه من قوة الحال والمکانة عند الله والولایة الصادقة وهو کاذب ، فما هو من خصائص أولیاء الله تعالی التأثیر فی الکون .
یقول لوط علیه السلام لقومه « لو أن لی بکم قوة » أی همة فعالة ، فمن کان الحق قواه فلا همة تفعل فعل من هذه صفته ، لکن الأمر لا یکون إلا ما سبق به الکتاب ، وهو علیه السلام من أعلم الناس بالله .
ویعلم أنه ما یکون إلا ما سبق به الکتاب، ولا کتب تعالى إلا ما هو المعلوم علیه، فلا تبدیل لکلمات الله، وما یبدل القول لدیه، وما هو بظلام للعبید، فلا یقع إلا ما هو الأمر علیه، قال تعالى: "والذین جاهدوا فینا لنهدینهم سبلنا"، فإنه لما کان سبب الجهاد أفعالا تصدر من الذین أمرنا بقتالهم وجهادهم .
وتلک الأفعال أفعال الله خلقا وتقدیرا ، فما جاهدنا إلا فیه ولکن بامتثال أمره .
قال « لنهدینهم سبلنا » التی قال فیها : " ولا تتبعوا السبل فتفرق بکم عن سبیله" ، یعنی السبیل التی لکم فیها السعادة ، وسبیل السعادة هی المشروعة ، فبین لنا سبلها فندخلها ، فلا نرى مجاهدأ ولا مجاهدا فیه إلا الله .
فکان قوله تعالی « لنهدینهم سبلنا » أی تبین لهم حتى یعلموا فیمن جاهدوا ، ولذلک تسم الآیة بقوله « وإن الله لمع المحسنین » والإحسان أن تعبد الله کأنک تراه ، فإذا رأیته علمت أن الجهاد کان منه وفیه .
راجع فتوحات ج 1 / 359 - ج 2 / 148 ، 180 ، 385 ، 388 ، 667 - ج 4 / 35
ص 202
قال الشیخ رضی الله عنه : ( أبو السعود أمر الله فاتخذه وکیلا.
فکیف یبقى لمن یشهد هذا الأمر همة یتصرف بها، والهمة لا تفعل إلا بالجمعیة التی لا متسع لصاحبها إلى غیر ما اجتمع علیه؟
وهذه المعرفة تفرقه عن هذه الجمعیة. فیظهر العارف التام المعرفة بغایة العجز والضعف.
قال بعض الأبدال للشیخ عبد الرزاق رضی الله عنه : قل للشیخ أبی مدین بعد السلام علیه یا أبا مدین لم لا یعتاص علینا شیء وأنت تعتاص علیک الأشیاء: ونحن نرغب فی مقامک وأنت لا ترغب فی مقامنا؟
وکذلک کان مع کون أبی مدین رضی الله عنه کان عنده ذلک المقام وغیره: ونحن أتم فی مقام الضعف والعجز منه. )
.........................................................
4 - یروى أنه لما اجتمع محمد بن قائد الأوانی و کان من الأفراد بأبی السعود
قال له « یا أبا السعود إن الله قسم المملکة بینی وبینک ، فلم لا تتصرف فیها کما أتصرف أنا ؟ ".
فقال له أبو السعود: " یا ابن قائد وهبتک سهمی ، نحن ترکنا الحق تصرف لنا"
وهو قوله تعالى: « فاتخذه وکیلا » فامتثل أمر الله وأنصف سید الطائفة عاقل زمانه ، المنصف بحاله أبو السعود بن الشیلی .
فی قوله : « نحن ترکنا الحق یتصرف لنا » فلم یزاحم الحضرة الإلهیة .
وکان یقول : «إنی أعطیت التصرف فی العالم منذ خمس عشرة سنة فترکته تطرفا، وما ظهر علی منه شیء » یرید لم یکن غرضنا المزاحمة بل الله الأمر من قبل ومن بعد، وشغلی بعبودیتی أولى من ظهوری بخلعته ، هی لمن تجب له لا لی ، فمن وقف مع الأصول کان أکمل فی المعرفة ممن حجبته هذه الخلع الإلهیة ، وما یتخذ الحق وکیلا إلا من کان الحق قواه وجوارحه ، إذ یستحیل تبدل الحقائق ، فالعبد عبد و الرب رب ، والحق حق ، والخلق خلق .
فکان أبو السعود من اللامیة ، وهم أعظم طبقة فی الرجال ما یظهر علیهم شیء من التصرف فی الأسماء الإلهیة ، فهم والعامة فی ظهور العجز وظاهر العوائد سواء .
فتوحات ج 1 / 187 ، 581 - ج 2 / 370 - ذخائر الأخلاق.
5 - هو قوله رضی الله عنه لأصحاب علم الحروف " لولا أنی آلیت عقدا أن لاظهر منی أثر عن حرف لأریتهم من ذلک عجبا " .
وقوله رضی الله عنه : « إنی ما أعرف الیوم فی علمی من تحقق بمقام العبودیة أکثر منی ، وإن کان ثم فهو مثلی ، فإنی بلغت من العبودیة غایتها ، فأنا العبد المحض الخالص لا أعرف للربوبیة طعما ».
فتوحات ج 1 / 349 - ج 2 / 300 .
ص 203
قال الشیخ رضی الله عنه : ( ومع هذا قال له هذا البدل ما قال. وهذا من ذلک القبیل أیضا.
وقال صلى الله علیه وسلم فی هذا المقام عن أمر الله له بذلک «ما أدری ما یفعل بی ولا بکم إن أتبع إلا ما یوحى إلی».
فالرسول بحکم ما یوحى إلیه به ما عنده غیر ذلک.
فإن أوحی إلیه بالتصرف بجزم تصرف: وإن منع امتنع، وإن خیر اختار ترک «6» التصرف إلا أن یکون ناقص المعرفة.
قال أبو السعود لأصحابه المؤمنین به إن الله أعطانی التصرف منذ خمس عشرة سنة وترکناه تظرفا. هذا لسان إدلال.
وأما نحن فما ترکناه تظرفا وهو ترکه إیثارا وإنما ترکناه لکمال المعرفة، فإن المعرفة لا تقتضیه بحکم الاختیار.
فمتى تصرف العارف بالهمة فی العالم فعن أمر إلهی وجبر لا باختیار.
ولا نشک أن مقام الرسالة یطلب التصرف لقبول الرسالة التی جاء بها، فیظهر علیه ما یصدقه عند أمته وقومه لیظهر دین الله. والولی لیس کذلک.
ومع هذا فلا یطلبه الرسول فی الظاهر )
.........................................................
6 - مخالفة لأصول الشیخ *
ما جاء فی هذه الفقرة یخالف ما أصله الشیخ فهو القائل : نهایات الأولیاء بدایات الأنبیاء ، فلا ذوق للولی فی حال من أحوال أنبیاء الشرائع ، وقوله : الرسل أعلم الخلق بالله .
فلا یصح أن یکون ما جاء فی هذه الفقرة من کلام الشیخ رضی الله عنه فیحکم على رسول من الرسل فی تصرفه بأنه ناقص المعرفة .
"" التعقیب على الإستاذ محمود محمود الغراب رحمه الله :
الإستاذ محمود فهم کلام الشیخ الأکبر ابن العربی من وجه دون الوجوه الآخرى وحصره فی اتجاه واحد فقط وهو ما فهمه واعتقده دون غیره مع أنه أوضح وأکثر سطوعا من شمس الظهیرة ومنه مثال واحد فقط یکفیک دلیلا :
این ذوق رسول الله موسى وهو من أولی العزم من الرسل ولا جدال من ذوق الخضر علیهما السلام ؟؟؟؟
فرسول الله موسى لم یکن على علم مطلق بما یعلمه الخضر ولا ذوق له فیه علیهما السلام
فی حین ان الخضر فیما یعلم ان رسول الله موسی لاذوق ولا علم له فیما یعلم
لقوله تعالى : " قَالَ إِنَّکَ لَنْ تَسْتَطِیعَ مَعِیَ صَبْرًا (67) وَکَیْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِی إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِی لَکَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِی فَلَا تَسْأَلْنِی عَنْ شَیْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَکَ مِنْهُ ذِکْرًا (70) فَانْطَلَقَا " سورة الکهف.
إیضاح لعبارة الشیخ ابن العربی رضی الله عنه الله عنه :
"لا ذوق الأحد فی ذوق الرسل. فلا ذوق للولی فی حال من أحوال أنبیاء الشرائع، ومن أصولنا أنا لا تتکلم إلا عن ذوق، ونحن لسنا برسل ولا أنبیاء شریعة."
یقصد به الشیخ فیما ارسلوا به من شرائع لقومهم وهو أمر خاص لهم مع شرائع قومهم فهم أعلی ذوق فیما ارسلوا به من تجلیات وامداد الله لهم.
اما فیما یعلمه الله تعالی ولم یعلمهم إیاه وعلمه احد من عباده فهو اعلى من اى بشر آخر به والدلیل شهادة الله تعالى على ذلک کما جاء بالآیات بعالیه.""
راجع فص 9 هامش 4 ص 131 – فص 10 هامش 18 ص 150
الجزء الثانی
7 - الکرامات وخوارق العادات
ما ظهر من الحال على الرسل فهو على جهة الدلالة على صدقه لیشرع لأمنه ، والوارث داع لما قرره الرسول ولیس بمشرع فلا یحتاج إلى ظهور الحال کما احتاج إلیه المشرع .
فالوارث یحفظ بقاء الدعوة فی الأمة علیها وما حظه إلا ذلک ، حتى إن الوارث لو أتی بشرع ، ولا یأتی به ، ولکن لو فرضناه ما قبلته منه الأمة ، فلا فائدة الظهور الحال إذا لم یکن القبول کما کان للرسول ، فخرق العوائد واجب سترها على الأولیاء .
کما أن إظهارها واجب على الأنبیاء لکونهم مشرعین ، وما أظهر الله على الأولیاء من الأحوال فذلک إلى الله لا عن تعمل ولا قصد من العبد .
فإن المکر الإلهی فی خصوص الخصوص هو فی إظهار الآیات وخوارق العوائد من غیر أمر ولا حد.
فتوحات ج 2 / 531 - ج 3 / 36 ، 458
ص 204
قال الشیخ رضی الله عنه : ( لأن للرسول الشفقة على قومه، فلا یرید أن یبالغ فی ظهور الحجة علیهم، فإن فی ذلک هلاکهم:
فیبقی علیهم. وقد علم الرسول أیضا أن الأمر المعجز إذا ظهر للجماعة منهم من یؤمن عند ذلک ومنهم من یعرفه ویجحده ولا یظهر التصدیق به ظلما وعلوا وحسدا، ومنهم من یلحق ذلک بالسحر والإبهام.
فلما رأت الرسل ذلک وأنه لا یؤمن إلا من أنار الله قلبه بنور الإیمان:
ومتى لم ینظر الشخص بذلک النور المسمى إیمانا فلا ینفع فی حقه الأمر المعجز. فقصرت الهمم عن طلب الأمور المعجزة لما لم یعم أثرها فی الناظرین ولا فی قلوبهم کما قال فی حق أکمل الرسل وأعلم الخلق وأصدقهم فی الحال «إنک لا تهدی من أحببت "ولکن الله یهدی من یشاء".
ولو کان للهمة أثر ولا بد، لم یکن أحد أکمل من رسول الله صلى الله علیه وسلم ولا أعلى ولا أقوى همة منه، وما أثرت فی إسلام أبی طالب عمه، وفیه نزلت الآیة التی ذکرناها:
ولذلک قال فی الرسول إنه ما علیه إلا البلاغ، وقال «لیس علیک هداهم ولکن الله یهدی من یشاء».
وزاد فی سورة القصص «وهو أعلم بالمهتدین» أی بالذین أعطوه العلم بهدایتهم فی حال عدمهم بأعیانهم الثابتة.
فأثبت أن العلم تابع للمعلوم. فمن کان مؤمنا فی ثبوت عینه وحال عدمه ظهر بتلک الصورة فی حال وجوده.
وقد علم الله ذلک منه أنه هکذا یکون، فلذلک قال «وهو أعلم بالمهتدین».
فلما قال مثل هذا قال أیضا «ما یبدل القول لدی» لأن قولی على حد علمی فی خلقی، «وما أنا بظلام للعبید» أی ما قدرت علیهم الکفر الذی یشقیهم ثم طلبتهم بما لیس فی وسعهم أن یأتوا به.
بل ما عاملناهم إلا بحسب ما علمناهم، وما علمناهم إلا بما أعطونا من نفوسهم مما هم علیه، فإن کان ظلم فهم الظالمون.
ولذلک قال «ولکن کانوا أنفسهم یظلمون». فما ظلمهم الله. "8"
کذلک ما قلنا لهم إلا ما أعطته ذاتنا أن نقول لهم، وذاتنا معلومة لنا بما هی علیه من أن نقول کذا ولا نقول کذا.
فما قلنا إلا ما علمنا أنا نقول، فلنا القول منا، "9"
ولهم الامتثال وعدم الامتثال مع السماع منهم ) "10"
.........................................................
8 - العلم تابع للعلوم - راجع فص 2 رقم 3 ص 42
"" العلم تابع للعلوم - الفص 2 رقم 3 ص 42
3 - العلم تابع للمعلوم
لیس سر القدر الذی یخفى عن العالم عینه الا اتباع العلم المعلوم ، فلا شیء أبین منه ولا أقرب مع هذا البعد ، فإن العلم تابع للمعلوم ما هو المعلوم تابع للعلم فافهمه.
وهذه مسألة عظیمة دقیقة ما فی علمی أن أحدا نبه علیها إلا إن کان وما وصل إلینا ، وما من أحد إذا تحققها یمکن له إنکارها ، وفرق یا أخی بین کون الشیء موجودا فیتقدم العلم وجوده ، وبین کونه على هذه الصورة فی حال عدمه الأزلی ، فهو مساوق للعلم الإلهی به ومتقدم علیه بالرتبة .
لأنه لذاته أعطاه العلم به ، فإن المعلوم متقدم بالرتبة على العلم وإن تساوقا فی الذهن من کون المعلوم معلوما ، لا من کونه وجودا أو عدما ، فإنه المعطی العالم العلم .
فاعلم ما ذکرناه فإنه ینفعک ویقویک فی باب التسلیم والتفویض للقضاء والقدر الذی قضاه حالک ، فلو لم یکن فی هذا الکتاب « الفتوحات المکیة » إلا هذه المسألة لکانت کافیة لکل صاحب نظر سدید و عقل سلیم .
واعلم أن الله تعالى ما کتب إلا ما علم ولا علم إلا ما شهد من صور المعلومات على ما هی علیه فی أنفسها ما یتغیر منها وما لا یتغیر ، فیشهدها کلها فی حال عدمها على تنوعات تغییراتها إلى ما لا یتناهی ، فلا یوجدها إلا کما هی علیه فی نفسها ، فمن هنا تعلم علم الله بالأشیاء معدومها وموجودها ، وواجبها وممکنها ومحالها ، ومن هنا إن عقلت وصف الحق نفسه بأن له الحجة البالغة لو توزع .
فإنه من المحال أن یتعلق العلم إلا بما هو المعلوم علیه فی نفسه ، فلو احتج أحد على الله بأن یقول له علمک سبق فیه بأن أکون على کذا فلم تواخذنی ، یقول له الحق هل علمتک إلا بما أنت علیه ؟
فلو کنت على غیر ذلک لعلمتک على ما تکون علیه ، ولذلک قال « حتى تعلم » فارجع إلى نفسک وأنصف فی کلامه ، فإذا رجع العبد على نفسه ونظر فی الأمر کما ذکرناه علم أنه محجوج، وأن الحجة لله تعالى علیه.
أما سمعته تعالى یقول: « وما ظلمهم الله" "وما ظلمناهم" .
وقال « ولکن کانوا أنفسهم یظلمون ، کما قال « ولکن کانوا هم الظالمین » یعنی أنفسهم .
فإنهم ما ظهروا لنا حتى علمناهم وهم معدومون إلا بما ظهروا به فی الوجود من الأحوال ، فعندنا ما کانت الحجة البالغة لله على عباده إلا من کون العلم تابعا للمعلوم ما هو حاکم على المعلوم.
فإن قال المعلوم شیئا کان الله الحجة البالغة علیه بأن یقول له ما علمت هذا منک إلا بکونک علیه فی حال عدمک ، وما أبرزتک فی الوجود إلا على قدر ما أعطیتنی من ذاتک بقبولک ، فیعرف العبد أنه الحق فتندحض حجة الخلق ، فلا نزال نراقب حکم العلم فینا من الحق حتى تعلم ما کنا
فیه ، فإنه لا یحکم فینا إلا بنا.
فمن وقف فی حضرة الحکم وهی القضاء على حقیقتها شهودا علم سر القدر ، وهو أنه ما حکم على الأشیاء إلا بالأشیاء ، فما جاءها شیء من خارج ، "ولا ینکشف هذا السر حتى یکون الحق بصر العبد" ، فإذا کان بصر العبد بصر الحق نظر الأشیاء ببصر الحق، حینئذ انکشف له علم ما جهله، إذ کان بصر الحق لا یخفى علیه شیء ، ومن وقف على سر القدر ،" وهو أن الإنسان مجبور فی اختیاره "، لم یعترض على الله فی کل ما یقضیه و یجریه على عباده وفیهم ومنهم ، وهذا یشرح ما ذکره الشیخ فی کتابه المشاهد القدسیة من أن الحق قال له « أنت الأصل وأنا الفرع ".
وعلامة من یعلم سر القدر هو أن یعلم أنه مظهر ، وعلامة من یعلم أنه مظهر ، أن تکون له مظاهر حیث شاء من الکون کقضیب البان ، فإنه کان له مظاهر فیما شاء من الکون حیث شاء من الکون.
وإن من الرجال من یکون له الظهور فیما شاء من الکون لا حیث شاء ، ومن کان له الظهور حیث شاء من الکون کان له الظهور فیما شاء من الکون.
فتکون الصورة الواحدة تظهر فی أماکن مختلفة ، وتکون الصور الکثیرة على التعاقب تلبس الذات الواحدة فی عین المدرک لها ، ومن عرف هذا ذوقا .
کان متمکنا من الاتصاف بمثل هذه الصفة ، وهذا هو علم سر القدر الذی ینکشف لهم .
راجع الفتوحات ج2 / 2 , 13 . ج4/ 16 , 70 , 74 , 182 , 235. أهـ. ""
9 - [ کذلک ما قلنا ۔ منا ]
إذا کان الضمیر یعود على الحق تعالى ، فهو التفات إلى القول المشروع، وإذا کان الضمیر یعود على الشیخ رضی الله عنه ، فإنه یعنی أنه ما قال فی کتبه ولا کلامه إلا ما علمه من نفسه على ما کانت علیه فی ثبوتها .
10 - [ ولهم الامتثال .. منهم ]
الضمیر فی الحالة الأولى یعود على المکلفین فمنهم
ص 205
قال الشیخ رضی الله عنه : (
فالکل منا ومنهم …… والأخد عنا وعنهم
أن لا یکونون منا ……. فنحن لا شک منهم
فتحقق یا ولی هذه الحکمة الملکیة فی الکلمة اللوطیة فإنها لباب المعرفة
فقد بان لک السر …… وقد اتضح الأمر
وقد أدرج فی الشفع …… الذی نسل هو الوتر )
.........................................................
من امتثل أمر الحق فأطاعه ومنهم من لم یمتثل فعصی.
وفی الحالة الثانیة یعود الضمیر على من قبل کلام الشیخ أو رفضه، وهذا کله عائد إلى ما کانت علیه الأعیان فی الثبوت.
والوجه الثانی أرجح فإنه یتناسب مع سیاق الکلام عن أن العلم تابع للمعلوم.
ص 206