عرفان شیعی

عرفان اسلامی در بستر تشیع

عرفان شیعی

عرفان اسلامی در بستر تشیع

الفقرة السادسة عشر :  


کتاب تعلیقات د أبو العلا عفیفی على فصوص الحکم الشیخ الأکبر ابن العربی 1385 هـ :

14 - فص حکمة قدریة فی کلمة عزیریة

(1) فص حکمة قدریة فی کلمة عزیریة

(1) یتصل موضوع هذا الفص اتصالًا وثیقاً بموضوع الفص السابق فی کثیر من الوجوه لأنه یبحث فی مشکلة القضاء والقدر التی هی مشکلة عالم الغیب حیث التقدیر الأزلی والجبریة التی یخضع لها الوجود بأسره.

وقد شرحنا فی مواطن أخرى من هذا الکتاب معنى «سر القدر» وما یتصل به من بعض المسائل، و لکننا لم نشر بعد إلى الصلة بین القضاء والقدر، ولا بین القدر ومسألة الخلق، کما أننا لم نتعرض لذکر معرفة الإنسان بعالم الغیب ومدى إمکان هذه المعرفة.

وهذه کلها أمور یناقشها المؤلف فی هذا الفص.

وقد صوِّر لنا عُزَیْراً فی صورة النبی الذی ینشد المعرفة بعالم الغیب عن طریق الوحی ویطلب الاطلاع على سر القدر، وساق لنا الآیة التی أخبر اللَّه عز وجل فیها عن عزیر أنه قال فی قریة من القرى «أَنَّى یُحْیِی هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها؟»، مظهراً بذلک شکه وعَجَبه، ومستلهماً من اللَّه حکمته الأزلیة فی إماته القریة. ثم بیَّن أن العلم بسر القدر لیس مما یوحَى به إلى الأنبیاء، وإنما هو أمر ینکشف للعارفین من الأولیاء انکشافاً ذوقیاً، وهنا نراه یقابل بین الأنبیاء والأولیاء من جهة، وبین علم الأولین ومعرفة الآخرین من جهة أخرى.

والحقیقة: أن مسألة عزیر عن القریة لیس لها کبیر صلة بموضوع الفص ولکنه یتخذ الآیات القرآنیة الواردة فیها أساساً یبنی علیه آراءه فی القضاء والقدر ویخرج منها المعانی الفلسفیة والصوفیة التی یریدها.


(2) «فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ» (قرآن س 6 آیة 150).

(2) أی فللّه الحجة البالغة على عباده، لأنهم استحقوا الثواب والعقاب بذواتهم، فمنهم تصدر الأفعال، و فی ذواتهم تتقرر من الأزل.

و لا یحکم قضاء اللَّه على الأشیاء إلا بها- أی بمقتضى طبیعتها، فهی الحاکمة على نفسها بما استقر فی أعیانها الثابتة. و لیس للَّه فی الأمر إلا أن تقتضی عنایته تحقق ما فی هذه الأعیان على ما هی علیه.

فإن فَعَلَ الإنسان الخیر فمن استعداده الأزلی لفعل الخیر، و إن فعل الشر فمن استعداده الأزلی لفعل الشر، و هو یجنی فی الحالین ثمرة غرسه، أو ثمرة ما غُرسَ فی جبلته.

فإن قیل فما معنى الجزاء، و ما معنى الثواب و العقاب فی مذهب جبری کهذا المذهب، أجاب ابن العربی أن الثواب و العقاب لیسا إلا اسمین لما علیه حال العباد من طاعة أو معصیة، و ما یعقب هذه الحالة من لذة أو ألم فی حیاة العباد فی هذه الدنیا نتیجة لأفعال طاعتهم أو معصیتهم. بل إن هذه الحال نفسها من جملة الأحوال التی تقتضیها أعیان العباد فی فطرتها الأولى.

فکما أن العبد مفطور على فعل الخیر أو الشر ومفطور على عمل الطاعة أو المعصیة، کذلک هو مفطور على أن یکون شقیاً أو سعیداً بأفعاله.

ومعنى هذا أن الثواب والعقاب لیسا جزاء من اللَّه یقضی به فی الدار الآخرة، بل هما أقرب ما یکون إلى الجزاء الطبیعی الذی یجلبه على الفاعل فعله.

قارن ما ورد فی الثواب والعقاب وحمد الإنسان وذمه نفسه: الفص الخامس: التعلیقان 6، 7، والسابع: التعلیق 11، والثامن التعلیقان 5، 6، والعاشر: التعلیق 2 إلخ.

 

(3) «تِلْکَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ» (قرآن س 17 آیة 55).

(3) التفاضل حاصل بین الرسل کما نصت علیه الآیة المذکورة وبین النبیین بدلیل قوله تعالى «ولَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِیِّینَ عَلى بَعْضٍ»، بل بین الناس عامة کما قال تعالى «وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَکُمْ عَلى بَعْضٍ فِی الرِّزْقِ».

وعلى هذه الآیات یبنی ابن العربی نظریة لا تخلو من طرافة فی معنى أفضلیة بعض الرسل على بعض، وأفضلیة بعض الخلق على بعض، کما یشیر إلى اختلاف الرسل فی رسالاتهم باختلاف الأمم التی أرسلوا إلیها.

فاللَّه قد فضل بعض الرسل على بعض- لا بمعنى أنه خص بعضهم بفضل ما وحرم الآخرین منه، أو أکرم بعضهم أکثر مما أکرم غیره، أو غیر ذلک مما هو أدخل فی المعانی الخلقیة، ولکنه بمعنى أنه أرسل بعض الرسل برسالات لم یرسل بها غیرهم لاختلاف الأمم فی مدى استعدادهم لقبول الرسالات الإلهیة والعمل بها.

فاختلفت الرسل، واختلفت رسالاتهم باختلاف أممهم.

وفی هذا الاختلاف معنى التفاضل، ولکنه لیس تفاضلًا أخلاقیاً ولا تفاضلًا یستند إلى قیمة الرسول عند اللَّه. لیس أحد من الرسل أفضل من الآخر فی عمله ولا فی درجة قربه من اللَّه، ولکن الرسل یتفاوتون فیما أرسلوا به من الشرائع والأحکام، کل فی الزمان والمکان وإلى الأمة التی هی أحق من غیرها برسالته.

فالشرائع إذن تختلف بساطة وتعقیداً کما تختلف فی أنواعها، ویحددها فی حالة کل رسول طبیعة الأمة التی أرسل إلیها وظروفها، فهی متفاضلة أی مختلفة متفاوتة، وکذلک الرسل المرسلون بها.

ولکن لکل رسول نوعین من العلم یختلف فیهما عن غیره من الرسل:

الأول العلم الخاص بشریعته: وهذا مقید کما قلنا بظروف الأمة التی بعث إلیها.

الثانی علم بالأمور الأخرى غیر المتصلة بشریعته وهذا مقید بطبیعته هو واستعداده.

أما الأنبیاء فیقع التفاضل بینهم- أی الاختلاف- فی النوع الثانی فقط، ومن أهم أجزائه العلم بالمغیبات وأما غیر الأنبیاء والرسل من الخلق فیقع التفاضل بینهم فی الرزق، والرزق منه ما هو مادی کالأغذیة ومنه ما هو روحانی کالعلوم. ولا یعطی الحق العباد من الرزق إلا بقدر استحقاقهم، واستحقاقهم هو استعدادهم أو ما تتطلبه حقائقهم وأعیانهم الثابتة. فالتفاضل فی الأحوال الثلاثة اختلاف وزیادة ونقص لا تمییز وأفضلیة.

 

(4) «فالتوقیت فی الأصل للمعلوم، والقضاء و العلم و الإرادة و المشیئة تبع للقدر».

(4) عرَّف «القدر» فی أول الفص بأنه «توقیت ما هی علیه الأشیاء فی عینها من غیر مزید»، کما عرَّف القضاء بأنه «حکم اللَّه فی الأشیاء».

فالقدر هو تعیین حدوث شی ء من الأشیاء على ما هو علیه فی عینه الثابتة فی وقت معین، والقضاء هو حکم اللَّه فی الأشیاء أن تکون کیت وکیت على النحو الذی قدِّر لها أن تکون علیه.

وعلیه کان القدر سابقاً على القضاء.

واللَّه ینفذ حکمه فی الأشیاء بحسب علمه بها، وعلمه بها راجع إلى ما تعطیه الأشیاء نفسها مما هی علیه فی ذاتها.

فکأن القضاء والعلم تابعان للمعلوم، وکذلک الإرادة والمشیئة.

أما القدر، وهو تعیین الوقت، فسابق على هذه کلها.

وهو راجع إلى الشی ء المقدر نفسه- المشار إلیه بالمعلوم.

و یظهر أنه یستعمل کلمتی الإرادة و المشیئة بمعنیین مختلفین جریاً على عادته (راجع الفص الثالث و العشرین) مع أنه لا فرق بینهما فی الاصطلاح العادی.

فالارادة عنده تتعلق بوجود ما لا وجود له فقط، و لکن المشیئة تتعلق بوجود ما لا وجود له کما تتعلق بعدم ما هو موجود.

وهذه التفرقة نفسها ملاحظة فی القرآن الکریم الذی یظهر أن ابن العربی أخذها منه. یقول اللَّه تعالى «فَمَنْ یُرِدِ اللَّهُ أَنْ یَهْدِیَهُ یَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ یُرِدْ أَنْ یُضِلَّهُ یَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَیِّقاً حَرَجاً».

و یقول «وَ لَوْ شاءَ لَهَداکُمْ أَجْمَعِینَ»، «إِنْ یَشَا یُذْهِبْکُمْ وَ یَاتِ بِخَلْقٍ جَدِیدٍ» *.

 

(5) «فسِرُّ القدر من أجلِّ العلوم ... فالعلم به یعطی الراحة الکلیة للعالِم به، و یعطی العذاب الألیم للعالم به أیضاً».

(5) سر القدر إما الأعیان الثابتة للموجودات الحاصلة من الأزل فی العلم القدیم، أو کون الموجودات تظهر فی وجودها على نحو ما کانت علیه فی ثبوتها.

فالعلم بسر القدر إذن هو العلم بسر الوجود و حقیقته، لأن به ینکشف معنى الوجود و معنى شیئیة الأشیاء، و کیف ظهرت على النحو الذی ظهرت علیه.

کذلک تنکشف به الصلة بین الحق وبین هذا النظام الوجودی الذی نسمیه بالعالم، ویظهر للعالم به کیف یقرر کل موجود مصیرَه بنفسه.

لا عجب إذن أن العلم بسر القدر مصدر راحة تامة لصاحبه ومصدر عذاب ألیم له أیضاً.

فهو مصدر راحة من حیث إنه یکشف لصاحبه أن کل ما یجری فی الوجود إنما هو نتیجة للقوانین المغروسة فی طبیعة الوجود ذاتها، وأن کل إنسان مقدّر علیه أن یکون ما هو علیه فی الواقع، وأن یظهر بالصورة التی ظهر فیها.

لا مناص من ذلک ولا معدى عنه.

ومن شأن هذا العلم أن یبعث فی نفس صاحبه الرضا التام بکل ما یحکم به القضاء، وأن یوقفه من الوجود کله موقف التفاؤل.

وأی شیء أدعى للتفاؤل وأجلب لرضا النفس من أن تعلم أن کل ما یصد منها إنما هو من غرس یدها ومن مقتضى طبیعتها، وأن کل جزاء تلقاه إنما هو جزاء عادل؟

وأی رحابة صدر بل أی تسامح أعظم من ذلک الذی یشعر به الواقف على سر القدر وهو ینظر إلى غیره من العباد وقد ضلوا سواء السبیل وارتکبوا المعاصی و الآثام؟

بل أی الناس أقبل منه لما یأتی به قضاء اللَّه المحتوم من محن وآلام، وأبعد عن الشکوى ولو کانت إلى اللَّه؟

ولکن العلم بسر القدر کما یورث صاحبه کل الراحة والطمأنینة النفسیة والتفاؤل، یورثه، من ناحیة أخرى الألم والقلق والتشاؤم، لأنه یرى فی الکون شقاءً کثیراً وآلاماً مبرحة ومعاصی ترتکب ضد أوامر الدین ونواهیه، ولکنه قد لا یعلم فی الوقت نفسه إذا کان الخلاص من کل هذه الشرور وقد قُدِّر أیضاً فی طبیعة الوجود کما قدرت الشرور ذاتها.

 

والعلم بسر القدر من مکنونات أسرار اللَّه وحده، ولکنه قد یطلع علیه من یختصه بفضله من عباده، وهؤلاء قد یقفون على سر القدر مجملًا أو مفصلًا، وبذلک یعلمون ما فی علم اللَّه، وتنکشف لهم أعیان الموجودات الثابتة وانتقالات الأحوال علیها إلى ما لا یتناهى.

وبذلک یأخذون العلم بحقائق الأشیاء من نفس المعدن الذی یأخذ اللَّه منه علمه بها.

راجع الفص الثانی.

 

(6) «وبه وصف الحق نفسه بالغضب والرضا، وبه تقابلت الأسماء الإلهیة».

(6) سر القدر هو القانون المتحکم فی الوجود کما قلنا، ومن أجله وصف الحق نفسه بالغضب والرضا بل وسائر الأسماء الإلهیة المتقابلة.

والمراد بالغضب هنا جملة الصفات الإلهیة التی یسمیها الصوفیة «صفات الجلال»، وبالرضا جملة الصفات التی یسمونها «صفات الجمال».

وکلا النوعین یتصف به الحق من حیث صلته بالخلق أو بالعالم.

وقد ذکرنا أن کل ما یظهر فی الوجود إنما یظهر بالصورة التی تقتضیها عینه الثابتة. فمن الموجودات ما تتجلى فیه جمیع الصفات الوجودیة کالإنسان الکامل، ومنها ما هو دون ذلک کسائر بنی الإنسان، ومنها ما هو على حظ من الوجود أدنى من ذلک کالحیوان والنبات والجماد.

ومن الخلق من تصدر أفعاله موافقة لأوامر الشرع، ومنهم من یخالفه.

وکذلک منهم من قدر له أن یفعل ما یسمیه العرف خیراً ومن یفعل ما یسمیه العرف شراً وهکذا.

وهذه تفرقة نجدها فی الدیانات المنزلة جمیعها، ونجد أن الحق قد وصف نفسه بالرضا بالاضافة إلى نوع من الخلق وبالغضب بالاضافة إلى نوع آخر.

ولکن «الحق» کما یتصوره ابن العربی لیس ذلک الإله الذی یغضب ویرضى ویحب ویکره کما تتحدث عنه الأدیان، لأنه لیس «شخصیة» تتجمع فیها هذه الصفات، وإنما هو الوجود کله، أو هو باطن الوجود والعالَمِ ظاهره.

لم یبق إذن إلا أن نقول إن هذه الصفات إن هی إلا أسماء تعبر عن نسب أو إضافات بین الحق والخلق من وجهة نظر خاصة هی وجهة نظر الدین.

فإذا أتى الإنسان معصیة مثلًا اقتضى ذلک- من ناحیة الدین- عقابه وغضب اللَّه علیه.

ولکن ابن العربی لا یقول بالعقاب، ولا بغضب اللَّه إلا من ناحیة أنه مجرد اسم أطلق علیه. بإزاء العبد العاصی.

إن منطق مذهبه فی الجبر لا یسمح إلا بهذا وإلا تناقض مع نفسه، فإن العالم الذی تصور کل ما یجری فیه خاضعاً لطبیعة وجوده لا یمکن أن یکون به متسع لغضب اللَّه ورضاه.

وقد صرح نفسه بذلک فی الفص السابع عند ما قال: والسعید من کان عنده مرضیاً، وما ثَمَّ إلا من هو مرضی عند ربه (أی الاسم الذی یتجلى فیه).

قارن التعلیق الرابع على هذا الفص.

أما تقابل الأسماء- ود أشار إلیه فیما مضى بتقابل الحضرتین- فراجع إلى أن الوجود الواحد الذی هو الحق، یتجلى فی صور أعیان الممکنات کل أنواع التجلی الممکنة ویظهر فیها بکل أنواع الأسماء المتقابلة.

ولهذا لا تحدِّد الجبریة التی یقول بها ابن العربی الوجود المقید وحده (الخلق) بل الوجود المطلق أیضاً (الحق).

وهذا ظاهر فی قوله: «فحقیقته (حقیقة سر القدر) تحکم فی الوجود المطلق والوجود المقید، لا یمکن أن یکون شی ء أتم منها ولا أقوى ولا أعظم لعموم حکمها المتعدی وغیر المتعدی».

 

(7) «مطلب العُزَیْر».

(7) لما مرّ عُزیر ببیت المقدس (أورشلیم) بعد أن هدمه «نبوخادنصر» ورأى القریة خاویة على عروشها صاح قائلًا: «أَنَّى یُحْیِی هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها؟» (قرآن س 2 آیة 261).

فأماته اللَّه مائة عام ثم بعثه وطلب منه أن ینظر إلى طعامه الذی لم یفسد، وإلى حماره الذی مات وبلی فلم یبق منه إلا عظامه، فإذا به یرى الحمار وهو یبعث حیاً وتکسى عظامه باللحم.

هذه هی القصة کما وردت فی القرآن، ویفهم منها عادة أن عزیراً قد داخله الشک وتملکه العجب من بعث أورشلیم الحربة وأهلها إلى الحیاة مرة أخرى، فأراه اللَّه بعث الأجسام رأی العین فیما فعل بحماره.

ولکن ابن العربی لا یفهم أن هذا کان مطلب عزیر، فعزیر- فی نظره- لم یشک فی إحیاء اللَّه الموتى ولم یستعظم ذلک على اللَّه، وإنما أراد أن یعرف سرّ القدر فی الخلق: أی أراد أن یعرف کیف خلق اللَّه الخلق وأخرجه إلى الوجود، لا کیف یحیی میتاً أو أمواتاً بالذات، وأراد أن یعرف ذلک عن طریق الوحی وهو الطریق الذی یتلقى به الأنبیاء علمهم من اللَّه.

وبعبارة أخرى أراد عزیر أن یقف على أحوال الممکنات فی أعیانها الثابتة فی العلم الإلهی القدیم- أو بلغة ابن العربی نفسه- أراد أن یعرف «مفاتح الغیب» التی لا یعلمها إلا اللَّه وحده بدلیل قوله: «وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَیْبِ لا یَعْلَمُها إِلَّا هُوَ» (قرآن س 6 آیة 59).

ولذلک لم یحبه إلى طلبه حیث لا إجابة على مثل ذلک، إذ لا وسیلة إلى العلم به عن طریق الوحی.

وکل ما أجیب به کان برهاناً عملیاً فی کیفیة إحیاء اللَّه الموتى، تنبیهاً لعزیر بأن یقطع عن مطلبه الأصلی.

ولکنه ألحّ فی السؤال حتى عاتبه اللَّه- کما ورد بذلک الخبر- بقوله له: «لئن لم تنته لأمحونّ اسمک من دیوان النبوة لأن طریق الأنبیاء إلى العلم هو الوحی- أی ولأثبتنّ اسمک فی دیوان طائفة أخرى هی أصحاب الکشف والذوق الذین خصَّهم اللَّه بالعلم بمثل ذلک.

فکأنه أراد بهذا العتاب تنبیه عزیر إلى أن مثل هذا الطلب لا ینبغی أن یکون من نبی ولا أن یصدر منه على هذه الصورة، لأن ذلک لیس من علم الأنبیاء، بل هو من علم اللَّه الذی قد یطلع علیه من شاء من خاصة أولیائه بطریق الکشف لا الوحی.

على أن العتب قد وقع على عزیر من طریق آخر، وذلک أنه أراد أن یقف على سرّ الخلق أی حال تعلق القدرة الإلهیة بالموجودات، ولا ذوق لغیر اللَّه فی ذلک إذ لا قدرة ولا فعل إلا للَّه خاصة.

فکأنه بهذا السؤال أراد أن یکون له ما للَّه: أی أراد أن تکون له قدرة تتعلق بالمقدور، فطلب ما لا یمکن وجوده فی الخلق.

ومما یدلنا على أنه طلب هذا المطلب المستحیل إلحاحه فی السؤال بعد أن أراه اللَّه کیفیة إحیاء الموتى، و لو أنه أراد معرفة هذه الکیفیة لاکتفى بالدلیل العملی الذی أظهره اللَّه له، و لکنه تمادى فی السؤال فعاتبه اللَّه.

 

(8) «واعلم أن الولایة هی الفلک المحیط العام».

(8) أعظم ما یمتاز به الولی المسلم فی نظر ابن العربی هو تحققه بالوحدة الذاتیة مع الحق، وفناؤه التام فیه، وإدراکه ذوقاً أن الکثرة الوجودیة عین الوحدة.

هذه أیضاً هی صفات «الإنسان الکامل» عنده، ولذلک کانت الولایة صفة عامة أو قدراً مشترکاً بین أفراد الإنسان الکامل جمیعهم، لا فرق فی ذلک بین ولی أو نبی أو رسول.

کل هؤلاء یجمعهم عنصر واحد هو عنصر الولایة- بالمعنى الذی أسلفناه- وتفرقهم صفات أخرى یمتاز بها کل منهم عن الآخر، و هی صفات عارضة لا تتنافى مع جوهرهم الذی هو الولایة.

فالنبی ولی اختص إلى جانب ولایته بالقدرة على الإنباء ولإخبار بالمغیبات، والرسول ولی اختص إلى جانب ولایته بتبلیغ رسالة إلهیة إلى الناس.

والولی ولی وحسب، ولو أنه یستطیع هو الآخر أن یطلع على عالم الغیب فی بعض أحواله، ولکن لیس له هذا المقام بین الناس.

والولایة- بهذا المعنى- لا تنقطع ما دام فی الناس من یصل إلى مقامها، بینما تنقطع الرسالة والنبوة الخاصة، بل إنهما قد انقطعا فعلًا بموت النبی محمد صلى اللَّه علیه وسلم آخر الأنبیاء والمرسلین الذی قال «لا نبی بعدی»: أی لا نبی بعده مشرِّعاً أو مشرَّعاً له ولا رسول: والنبی المشرِّع هو الرسول مثل موسى وعیسى ومحمد، والمشرَّع له هو الداخل فی شریعة مشرِّع. مثل أنبیاء بنی إسرائیل.

یقول ابن العربی «وقد قصم هذا الحدیث ظهور أولیاء اللَّه» لأن الکاملین من الأولیاء لا یریدون أن یتسموا باسم من الأسماء الإلهیة تحقیقاً لعبودیتهم الخالصة، واسم «الولی» من الأسماء التی أطلقها الحق على نفسه فی مثل قوله تعالى: «اللَّهُ وَلِیُّ الَّذِینَ آمَنُوا» وقوله: «وَهُوَ الْوَلِیُّ الْحَمِیدُ».

فلم یبق للکاملین إذن اسم یختصون به دون الحق لانقطاع اسمی النبوة والرسالة، بل لم یبق لهم سوى اسم الولی الذی یشارکون فیه سیدهم وهذا عزیز علیهم، لأن مقامهم الحقیقی الجدیر بهم هو مقام العبودیة الخالصة وما یلزمها من صفات.

 

(9) «فإذا رأیت النبی یتکلم بکلام خارج عن التشریع فمن حیث هو ولی وعارف».

(9) المراد بالنبی هنا أی نبی کان، وقد سبق أن ذکرنا أن کل رسول وکل نبی هو إلى جانب رسالته أو نبوته ولی.

فإذا رأیت نبیاً من الأنبیاء یتکلم بکلام لا وجود له ولا أصل له فی الشرع الخاص الذی یتبعه، فإنما یأتیه علمه بما یتکلم فیه من جهة ولایته لا من جهة نبوته.

وبعبارة أخرى یرید ابن العربی أن یقول إن هذا العلم هو من علم الوراثة، ککلام الصوفیة فی التخلق بأخلاق اللَّه وکلامهم فی قرب النوافل والفرائض وفی مقام التوکل والرضا والتسلیم والفناء والتوحید والجمع والفرق وما شاکل ذلک مما یمکن إدخاله تحت «الرهبانیة» التی قال اللَّه فیها إن أتباع عیسى بن مریم ابتدعوها ولم یکتبها اللَّه علیهم.

ولکن الرهبانیة لیست قاصرة على المسیحیین، فإن الإسلام فیما یوازیها وهی تعالیم الزهاد والصوفیة، وکلها مستمد- فی نظر الصوفیة- من العلم الباطن الذی ورثوه عن صاحب هذا العلم وهو محمد علیه السلام: فإن محمداً کان له فی زعمهم علمان: علم بظاهر الشرع وهذا هو الذی أوحى اللَّه به إلیه، وعلم بباطن الشرع ورَّثه أولیاء المسلمین من بعده.

على هذه النظریة التی شرح فیها ابن العربی ماهیة الرسالة والنبوة والولایة بنى دفاعه عن الرهبانیة والتصوف، ونظر إلى تعالیم الصوفیة على أنها جزء من تعالیم الإسلام بمعنى أعمّ من المعنى الذی یفهمه الناس عادة- لا الإسلام الذی یحتوی قواعد الشرع المنزل وحده، بل الإسلام الذی یحتوی هذه، کما یحتوی علم باطن الشریعة الذی أشرق فی قلب النبی من عالم الغیب بلا وساطة، وانکشف له من حیث هو ولی لا من حیث هو نبی، والذی ما زال ینکشف فی کل ولی مسلم من بعده.


و یظهر لی أنه لا تناقض مطلقاً بین هذه النظریة و ما ذکره القرآن عن الرهبانیة التی ابتدعها المسیحیون، بل أرى- على العکس من ذلک- أن نظریة ابن العربی تفسر لنا الآیة القرآنیة المشکلة التی وردت فیها الإشارة إلى الرهبانیة تفسیراً معقولًا (راجع القرآن س 57 آیة 27).

فالقرآن یقول إن الرهبانیة نظام ابتدع ابتداعاً ولم یکتبه اللَّه على أصحابه:

ومعنى هذا أنه لم یکن فی وقت من الأوقات جزءاً من شرع منزل.

ألا یمکن أن یکون هذا الابتداع من عمل قلوب الأولیاء، وراجعاً إلى طبیعة بواطنهم کما یقول ابن العربی؟

بل إنه لیذهب إلى أبعد من ذلک کما یدل علیه الفص فیما بعد، فیضع العلم الباطن فی درجة أعلى من علم الشرع الذی هو علم الظاهر کما فعل أوائل الصوفیة، ویعتبر أی رسول من حیث هو ولی أتم وأکمل منه من حیث هو رسول أو نبی: أی أن الولی فوق الرسول والنبی فی شخص واحد، لا أن مطلق ولی أفضل من مطلق نبی أو رسول کما فهم بعض الکتاب خطأ.

 

(10) «والولی اسم باق للَّه تعالى، فهو لعبیده تخلقاً وتحققاً وتعلقاً».

(10) «الولی» اسم من أسماء اللَّه کما قلنا، ولکنه یطلق على العبد أیضاً إذا اکتملت فیه صفات الولایة ووصل إلى مقامها.

وأخص صفات الولایة الاسلامیة فی نظر ابن العربی هی الفناء فی اللَّه والتحقق بالوحدة الذاتیة بین الحق والخلق.

فإذا وصل الصوفی إلى هذا المقام فقد وصل إلى غایة الطریق الصوفی کما یرسمه متصوفه وحدة الوجود، وحق له أن یسمی نفسه لا باسم الولی وحده، بل بأی اسم من الأسماء الإلهیة.

وللفناء عندهم درجات لکل منها اسم خاص: فإذا فنی الصوفی عن صفاته البشریة وتخلق بصفات الألوهیة سموا ذلک تخلقاً، وإن فنی عن ذاته وتحقق بوحدته مع الحق، سموا ذلک تحققاً، وإن بقی بعد الفناء، وعرف أن لا وجود له ولا قوام إلا باللَّه وحصل فی مقام القرب الدائم منه، سموا ذلک تعلقاً.

ولکن ابن العربی قد استعمل هذه الألفاظ الثلاثة استعمالًا آخر فی رسالة فی «شرح أسماء اللَّه الحسنى» فأضاف هذه الصفات إلى الأسماء ذاتها لا إلى المتصفین بها، أو اعتبرها دلالات مع نسب ثلاث بین الحق والخلق، أو بین الواحد والکثرة. فالتخلق هو نسبة کل اسم من الأسماء الإلهیة إلى الخلق: أی ظهوره وتجلیه فی الکثرة الوجودیة.

والتحقق هو دلالته على الحق (اللَّه) من حیث ذاته.

أی أن التخلق یشیر إلى جهة الکثرة فی حین أن التحقق یشیر إلى جهة الوحدة. أما التعلق فهو دلالة الأسماء الإلهیة على النسبة بین الحق والخلق.

الوسیلة التی بها یصیر ما بالقوة موجوداً بالفعل.

 

(11) «إذ النبوة والرسالة خصوص رتبة فی الولایة».

(11) لما کان کل نبی و کل رسول ولیاً، کانت النبوة و الرسالة مرتبتین خاصتین تلحقان بالولایة و تزولان عنها بزوال أسبابهما، کما تزول عن المَلِک صفة الملکیة فیرجع إلى ما کان علیه.

والنبوة والرسالة من شئون هذا العالم لاتصال أصحابهما به. أما الولایة فلا صلة لها بشأن من شئون العالم، ولذلک لم یکن لها زمان دون زمان.

وسواء فهمنا خطاب اللَّه لعُزَیْر فی قوله: «لئن لم تنته لأمحونّ اسمک من دیوان النبوة» بمعنى الوعد أو بمعنى الوعید، فإن النبوة وهی إحدى مراتب الولایة- مقضی علیها بالانقطاع لأنها من الصفات التی تزول عمن یتصفون بها. أما الولایة فلا زوال لها.

فإذا أخرج هذا الخطاب الإلهی مخرج الوعد، دلّ على أن اللَّه تعالى أبقى على عُزیر مرتبة الولایة التی هی مرتبة جمیع الأنبیاء و الرسل فی الدار الآخرة التی لا تشریع فیها.

 

(12) «لما شرع یوم القیامة لأصحاب الفترات والأطفال الصغار و المجانین».

(12) لما ذکر أن لا شرع ولا تکلیف فی الدار الآخرة، قیده بأن ذلک لا یکون بعد دخول الخلق الجنة أو النار.

أما قبل الدخول فی الدارین فسیکون فی الآخرة تشریع وتکلیف لأصحاب الفترات وصغار الأطفال والمجانین، وتکلیف لبعض الخلق بالسجود بین یدی اللَّه کما یَدل علیه قوله تعالى: «یَوْمَ یُکْشَفُ عَنْ ساقٍ وَیُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا یَسْتَطِیعُونَ».

أما الأطفال فسیحشرهم اللَّه فی دور الرشد، وأما المجانین فسیرد إلیهم صوابهم ثم یجمع الجمیع فی صعید واحد ویُرسَل إلیهم رسول من أفضلهم یأتی لهم بنار عظیمة ویطلب إلى من آمن به منهم أن یلقی بنفسه فیها، فیطیعه بعضهم ویقتحم هذه النار ویعصاه البعض الآخر.

فمن امتثل أمره منهم ورمى بنفسه فی النار وجدها برداً وسلاماً کنار إبراهیم واستحق بطاعته الجنة: ومن عصاه استحق العقوبة بنار جهنم.

هذا لسان أهل الظاهر یردده ابن العربی فی کتابه من غیر أن یحاول وضع تأویل باطنی علیه، ولکن لا بدّ لنا من تأویل عباراته وإلا وقع فی تناقض صریح لأنه قرر فی مواضع أخرى من هذا الکتاب ما یفهمه من معنى الدار الآخرة ومعنى الجنة والنار والثواب والعقاب وما إلى ذلک.

إذا کانت الدار الآخرة فی مذهبه لیست إلا الحال التی یکون علیها الموجود بعد اختفاء صورته وظهوره بصورة أخرى، وإذا کانت الجنة والنار لیستا سوى مقامین من مقامات المعرفة بحقیقة الوجود، فما ذا یا ترى یقصد بالأطفال والمجانین وبحشرهم على النحو الذی وصفه، أمام نبی یدعوهم إلى اقتحام نار أعدها لاختیار إیمانهم به أو تکذیبهم به؟

 

إننی لا أرى مخرجاً من التناقض الذی یوقعه فیه أخذ هذه العبارات على ظاهرها إلا أن نفترض أن الأطفال والمجانین رمز للقاصرین عند تحصیل المعرفة الکاملة بالحق، وأن النبی الذی یرسل لهم یوم القیامة رمز للشخص الذی یرشد هؤلاء لضالین إلى معرفة الطریق المؤدیة إلى اللَّه- أو هو رمز للصوفی العارف الذی یرشد مریدیه، وأن النار التی یدعوهم إلى اقتحامها رمز للطریق الصوفی الشاق الذی یطالبهم بالدخول فیه، فإذا سلکوه فازوا بالمعرفة التی هی جنتهم، وإذا أبوا الدخول فیه شقوا بالجهل الذی هو نارهم