عرفان شیعی

عرفان اسلامی در بستر تشیع

عرفان شیعی

عرفان اسلامی در بستر تشیع

الفقرة الثانیة والعشرون :


کتاب تعلیقات د أبو العلا عفیفی على فصوص الحکم الشیخ الأکبر ابن العربی 1385 هـ : 

الفص السادس عشر حکمة رحمانیة فی کلمة سلیمانیة

(1) حکمة رحمانیة فی کلمة سلیمانیة

(1) یبحث هذا الفص فی مسألتین هامتین إلى جانب مسائل أخرى کثیرة تتصل بهما: الأولى الرحمة الإلهیة: معناها و أقسامها.

و قد سبقت الإشارة إلى الرحمة فی النصوص التی علقنا علیها. و لکننا هنا بإزاء شرح أوفى لأحد قسمی الرحمة و هو رحمة الوجوب.

و لیس لاقتران اسم سلیمان علیه السلام بالحکمة الرحمانیة فی عنوان الفص من سبب ظاهر إلا ما ورد فی القرآن فی قصته مع بلقیس و الکتاب الذی أرسله إلیها یدعوها فیه إلى اللَّه، و فی فاتحة الکتاب قوله: «إِنَّهُ مِنْ سُلَیْمانَ وَ إِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِیمِ».

فلیس هذا الاقتران إذن إلا أمراً عرضیاً صرفاً، و لو ذکر اسم رسول آخر غیر سلیمان فی معرض ذکر سلیمان لسمیت الحکمة باسمه.

""أضاف الجامع :  الورود بالقرآن کفی به علما و أمرا ممن هو المسبب وهو الأسباب وهو المحل المختار و الزمان لإظهاره فی الخلق وسریان حاکمیة أثاره فی کل ما خلق الله . جل شان الله ""

و لکن هذا شأن ابن العربی فی اختیار معظم عناوین فصوصه.

المسألة الثانیة الهامة هی مسألة الملک و الخلافة و التصرف، و هذه أیضاً متصلة بسلیمان على نحو ما فصله القرآن فی شأنها.

 

(2) «فأخذ بعض الناس فی تقدیم اسم سلیمان على اسم اللَّه تعالى، و لم یکن کذلک».

(2) یذهب بعض المفسرین إلى أن سلیمان علیه السلام قد ذَکَر اسمه قبل اسم اللَّه تعالى فی کتابه إلى بلقیس عند ما قال: «إِنَّهُ مِنْ سُلَیْمانَ وَ إِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِیمِ»،

و لکن ابن العربی یخطئ، هذا الرأی لما یقتضیه من نسبة الجهل و عدم البصر بما یلیق نحو الجناب الإلهی إلى رسول کسلیمان.

و حجته فی ذلک أن الجملة الأولى و هی «إِنَّهُ مِنْ سُلَیْمانَ» لیست جزءاً من کلام سلیمان إلى بلقیس، بل هی إخبار منها لقومها بأنها أُلْقِیَ إلیها کتاب من سلیمان.

أما أول الکتاب فهو «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِیمِ».

و من الناس من یعتبر الجملة الأولى جزءاً من کتاب سلیمان إلى بلقیس و یلتمس لسلیمان عذراً فی تقدیم اسمه على اسم اللَّه و لا یعد ذلک جهلًا من الرسول،

بل عملًا قصد به إلى غایة خاصة، و ذلک أن سلیمان لما علم أنه لیس من عادة الملوک الاحتفاء برسالات الأنبیاء و لا تکریم حاملیها،

بل لقد یدفعهم الشطط فی امتهانها و تحقیرها إلى تمزیقها أو إحراقها أو التمثیل بها أی نوع من أنواع التمثیل کما فعل کسرى بکتاب رسول اللَّه صلى اللَّه علیه و سلم، لما علم سلیمان کل ذلک، قدم اسمه على اسم اللَّه لکی یعرض اسم هو أولًا لمثل هذه الاهانة إن وقعت.

و هذا تعلیل فی نظر ابن العربی فی غایة الضعف، إذ لو کان فی نیة بلقیس أن تمتهن کتاب سلیمان بالإحراق أو التمزیق لأصابت هذه الاهانة کل ما فیه، و لما منعها من فعلها تقدیم أحد الاسمین على الآخر.

 

(3) «فأتى سلیمان بالرحمتین: رحمة الامتنان و رحمة الوجوب اللتان هما الرحمن الرحیم».

(3) على هذین الاسمین الإلهیین: الرحمن والرحیم الوارد ذکرهما فی کتاب سلیمان إلى بلقیس، والواردان أیضاً فی فاتحة کل سورة من سور القرآن الکریم بنى ابن العربی فکرة فلسفیة من أخصب الأفکار فی مذهبه.

ولیس بین الاسمین من الناحیة اللغویة کبیر فرق، ولکنهما یستعملان فی اصطلاحة الخاص للدلالة على «الحق» باعتبارین مختلفین تمام الاختلاف.

فالرحمن هو واهب رحمة الامتنان، والرحیم هو واهب رحمة الوجوب. ورحمة الامتنان هی الرحمة العامة الشاملة لجمیع الخلق، ولیست إلا منح کل موجود وجوده على النحو الذی هو علیه فی غیر مقابلة أو عوض. فهی الرحمة التی أشار اللَّه إلیها فی قوله: «وَ رَحْمَتِی وَسِعَتْ کُلَّ شَیْءٍ»،

هی مرادفة للوجود أو لمنح الوجود على سبیل المنة، و لیس لها أی صلة بمعانی الشفقة أو العطف أو العفو، و إن کنا نستطیع أن نقول فی ضرب من التجوز ان الحق تجلى فی صور الممکنات و خلع علیها وجوده شفقة منه بها و عطفاً منه علیها.

أما رحمة الوجوب فهی التی أوجبها الحق على نفسه فی قوله: «کَتَبَ رَبُّکُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ»، و فی قوله: «فَسَأَکْتُبُها لِلَّذِینَ یَتَّقُونَ إلخ».

و قد یراد بها إحدى رحمتین:

الأولى: ما یمنحه الحق من الوجود للکائنات بحسب ما هی علیه فی أعیانها الثابتة، فإن هذه الأعیان تطلب بمقتضى طبیعتها و ما جبلت علیه أن یکون وجودها على نحو خاص، و لیس للحق الا أن یمنحها ذلک الوجود لأنها توجب علیه ذلک إلخ. و لیس هذا الوجوب و هذه الضرورة إلا الجبریة التی أشرنا إلیها فیما سبق.

(راجع الفص الثانی التعلیق 3 و الفص الخامس التعلیق 4 و 6 و 7 إلخ إلخ).

الثانیة: ما یمنحه الحق من رحمته للعباد بحسب أفعالهم. و هذه أیضاً واجبة علیه لأن العدل یقتضیها.وهو مذهب المعتزلة. 

وإلیه أشار بقوله: «فإنه کَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ سبحانه لیکون ذلک للعبد- بما ذکره الحق من الأعمال التی یأتی بها هذا العبد- حقاً على اللَّه تعالى أوجبه له على نفسه یستحق بها هذه الرحمة».

ولکن لما کان منح اللَّه الخلق ما یستحقون سواء بحسب ما تقتضیه أعیانهم الثابتة أو بحسب ما تقتضیه أعمالهم، داخلًا تحت الفعل الإلهی الأعم وهو منح اللَّه الوجود لجمیع الموجودات، لما کان کذلک، دخل الاسم الرحیم فی الاسم الرحمن دخول تضمن کما یقول، وکان الاسم الرحمن هو الواهب الرحمة، أی واهب الوجود اطلاقاً سواء أ کان الوجود محض امتنان من الحق للخلق، أو حقاً علیه لهم.

وقد عولجت بعض نواحی هذه المسألة الهامة فی شیء من التفصیل فیما مضى.

راجع صلتها بمدح اللَّه لأفعال العبد وذمها: الفص السابع: التعلیق 4، وصلتها بمسألة العقاب والثواب فی نفس الفص: التعلیق 11، ومنزلتها من مذهب المؤلف فی الجبر. الفص الخامس: التعلیقات 4، 6، 7 والفص الثامن: التعلیق 6.

وعن المعنى المیتافیزیقی و المعنى الخلقی للرحمة: الفص العاشر: التعلیق 2 و افتتاح الفص الحادی و العشرین.

 

(4) «و من کان من العبید بهذه المثابة فإنه یعلم من هو العامل منه».

(4) أی و من کان من العبید یمنحه اللَّه رحمة الوجوب استحقاقاً لأفعاله فإنه یعلم مَنْ هو الفاعل لأفعاله على الحقیقة! و الفاعل لجمیع الأفعال على الحقیقة هو اللَّه.

وقد یکون المراد بها أیضاً أن العبد الذی یمنحه اللَّه رحمة الوجوب جزاء لأفعاله یعلم ما یَفْعَل منه: أی یعلم العضو الذی یقوم بالعمل فیستحق الجزاء.

ویؤید هذا التأویل أن المؤلف أخذ بعد ذلک مباشرة فی شرح أعضاء الإنسان المقسَّم بینها العمل، ولکنه یعود إلى المعنى الأول وهو المعنى المتصل بمذهبه فی وحدة الوجود حیث یقول «وقد أخبر الحق أنه تعالى هویَّة کل عضو منها. فلم یکن العامل غیر الحق والصورة للعبد».

فعلى الوجهین جمیعاً نراه یقرر أن الأفعال کلها للحق لأنه هویة کل فاعل وهویته ساریة- أو على حد قوله- مدرجة فی جمیع ما یفعل ومن یفعل، لا فرق فی ذلک بین عاقل وغیر عاقل وبین حی وغیر حی.

ولکن هویته مدرجة فی صور الفاعلین على نحو وجود المعنى الکلی فی جزئیاته لا على نحو وجود المتمکن فی المکان. فنظریته إذن لیست نظریة حلول أو اثنینیة، کما أنها لا تشبه نظریة الأشاعرة فی خلق الأفعال لأن اللَّه لا یخلق الفعل على ید العبد ویتخذ من العبد أداة لظهوره کما یقولون، بل یفعل الفعل الصادر عن صورة العبد وهو فی الوقت نفسه عین تلک الصورة: وهذا ما لا یمکن للأشاعرة أن یسلموا به.

 

(5) «بل هی من المُلْک الذی لا ینبغی لأحد من بعده، یعنی الظهور به فی عالم الشهادة».

(5) بعد أن شرح أن الأفعال کلها للَّه وإن ظهرت على أیدی العباد، وأن الفرق بین نسبتها إلى الحق ونسبتها إلى الخلق لیس إلا الفرق بین اسم اللَّه الباطن واسمه الظاهر، أو اسمه الأول واسمه الآخر.

قال إن هذا علم لا یغیب عن سلیمان، بل هو جزء من الملک الذی طلبه سلیمان من اللَّه حیث قال «وَ هَبْ لِی مُلْکاً لا یَنْبَغِی لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِی» و لم یکن ذلک المُلْک شیئاً خاصاً به دون غیره، بل کان مُلکاً منحه اللَّه أناساً قبل سلیمان و بعده.

ولکن سلیمان وحده اختص من بین سائر الخلق بالظهور به فی عالم الشهادة. فقد منح اللَّه سلیمان قوة التصرف فی الکائنات حیها و میتها، إنسها و جنها و هی قوة منحها غیر سلیمان من قبله و من بعده.

ولکنه وحده کان مأموراً من اللَّه بالظهور بها لأن اللَّه أعطاه الخلافة الظاهریة وهی المُلک: و هذه من مستلزماته.

 

(6) «وَ رَحْمَتِی وَسِعَتْ کُلَّ شَیْءٍ حتى الأسماء الإلهیة: أعنی حقائق النسب، فامتَنَّ علیها بنا».

(6) النسب هنا هی النسب بین الحق و الخلق أو بین الواحد و الکثیر- اللَّه و العالم ولیست هذه النسب سوى الأسماء الإلهیة- لا مجرد الألفاظ الدالة على هذه الأسماء، بل حقائق الأسماء.

ومن رحمة اللَّه الامتنانیة التی وسعت کل شیء رحمته بهذه الأسماء بأن حقق وجودها عن طریق وجود مظاهرها ومجالیها وهی العالم المرموز إلیه «بنا» فی قوله «فامتن علیها بنا».

فنحن (العالم) نتیجة رحمة الامتنان التی رحم بها الحق الأسماء الإلهیة لأنه بإیجادنا أوجدها، وإیجاد أی شیء هو عین الرحمة به، لا فرق فی ذلک بین ما هو خیر وما هو شر، وما هو حسن و ما هو قبیح، و ما هو طاعة و ما هو معصیة.

فإن هذه کلها معان تضاف إلى مقولة الوجود لاعتبارات خاصة خارجة عن مفهوم الوجود ذاته.

والذی تتعلق به رحمة الامتنان هو الوجود من حیث هو وجود لا من حیث هو وجود شر أو خیر أو وجود طاعة أو معصیة.

أما ظهور الأشیاء فی الوجود على النحو الذی هی علیه فمن رحمة الوجوب لا من رحمة الامتنان، لأن ظهور أی موجود بصفة ما أو على نحو ما راجع إلى طبیعة الموجود ذاته و ما توجبه هذه الطبیعة.

ولهذا قال «ثم أوجبها على نفسه»، أی فی قوله «فَسَأَکْتُبُها» بظهورها لنا: أی بظهور العالم لنا على النحو الذی ظهر فیه.

 

(7) «فعلى من امتن و ما ثَمَّ إلا هو؟ إلا أنه لا بد من حکم لسان التفصیل».

(7) بعد أن بیَّن أن الحق سبحانه قد أفاض برحمة امتنانه الوجود على الخلق بأن ظهر فی صوره، قال إن الحق هو هویة الخلق و لا اثنینیة فی الأمر على الإطلاق.

فلم یمتن الحق إلا على نفسه و لم یرحم إلا نفسه: أی لم یظهر هذا الوجود الإضافی إلا فی ذاته.

و لکن هذه لغة الوحدة أو لغة الجمع على حد قول الصوفیة.

و هنالک لغة الکثرة فی مقام التفصیل الذی هو مقام الفرق، و هذا المقام له حکمه، و إلا کیف نفسر اختلاف الخلق فی الصور و تفاوتهم فی درجات معرفتهم و ما إلى ذلک من الفروق التی نلمسها فی نواحی الوجود؟

لا یمکن أن نفسر هذا کله إلا إذا تکلمنا بلسان الفرق بین الذات الواحدة وصورها الوجودیة المختلفة مع اتحاد هذه الصور فی العین.

هذا، وقد قرأ بعض الشراح کلمة التفضیل (بالضاد) بدلًا من التفصیل (بالصاد) قائلین إن المراد أننا یجب أن نعترف بمبدإ التفضیل بین الصور الوجودیة بالرغم من اتحادها فی العین- لکی نفسر اختلاف ما ظهر من تفاضل الخلق فی العلوم وغیرها.

ولکن القراءة الأولى أدق فی نظری.

ولیست المفاضلة فی مقام التفصیل الوجودی حاصلة بین المظاهر الوجودیة وحدها، بل هی حاصلة کذلک بین الصفات الإلهیة ذاتها. فالعلم أفضل من الإرادة فی تعلق کل منهما بالأمور المعلومة والمرادة، والإرادة أفضل من القدرة فی تعلق کل منهما.

وکذلک السمع والبصر الإلهی وجمیع الأسماء الإلهیة على درجات فی تفاضل بعضها على بعض.

أما فضل العلم الإلهی على الإرادة فلعمومه وشمول تعلقه بکل ما هو معلوم سواء أ کان أمراً وجودیاً أم عدمیاً، موجوداً بالقوة أم بالفعل، ممکن الوجود أم مستحیل الوجود.

وأما فضل الإرادة على القدرة فلتقدمها علیها و لأن تعلقها أعم من تعلق القدرة.

 

(8) «وَهُوَ السَّمِیعُ الْبَصِیرُ. فأثبت بصفة تعم کل سامع بصیر من حیوان».

(8) السمیع والبصیر اسمان من أسماء اللَّه. ویمکن أن یقال إن التفاضل واقع بینهما على نحو ما تتفاضل الأسماء الإلهیة کما ذکرنا. ولکن فیلسوف وحدة الوجود یفسرهما تفسیراً آخر.

وهو أن الحق سبحانه عند ما وصف نفسه بأنه السمیع والبصیر لم یرد مجرد حمل صفتی السمع والبصر على نفسه، بل أراد فوق ذلک أن یقرر أنه وحده هو الذی یسمع فی کل ما یسمع ومن یسمع، والذی یبصر فی کل ما یبصر ومن یبصر.

هذه هی ناحیة التشبیه فی مذهب ابن العربی الذی أشرنا إلیه، وهو تشبیه یکاد یوقعه فی التجسیم المحض.

ولکنه یخفف من شناعة هذا التشبیه بما یذکره عن تنزیه الحق بمعنى إطلاقه- فی ذاته- عن کل قید وکل تحدید.

فهو لیس هذا السامع أو ذاک، ولا هذا المبصر أو ذاک، بل هو عین کل ما یسمع وما یبصر. وبهذا یصدق على الحق أنه «لَیْسَ کَمِثْلِهِ شَیْءٌ» لأنه لا یشبه أی شیء من المخلوقات وإن کان عین المخلوقات جمیعها.

وعلى هذا، إذا فهمنا التفاضل بین السمیع والبصیر على معنى أنه حاصل بین صفتین من الصفات الإلهیة، قلنا إن صفة البصر أکمل وأفضل من صفة السمع.

وإذا فهمنا السمیع والبصیر بمعنى الحق الذی یسمع فی ذات کل سامع، ویبصر فی ذات کل مبصر، کان التفاضل حاصلًا بین صور الموجودات لا بین صفتین من الصفات الإلهیة. قارن فی مسألة التنزیه والتشبیه الفص الثالث: تعلیق 1، 2 إلخ.

 

(9) «و ما ثَمَّ إلا حیوان ... إلى قوله فإنها الدار الحیوان».

(9) لیست الحیاة قاصرة على نوع معین من المخلوقات کما یظن المحجوبون بل هی مبدأ عام سار فی الوجود بأسره.

وهذا معنى قوله «فما ثَمَّ إلا حیوان»: أی فما فی الوجود إلا ذو حیاة، وإن کانت هذه حقیقة تخفى عن إدراک بعض الأفهام وتتجلى للبعض الآخر بطریق الکشف والذوق.

أما سریان الحیاة فی الوجود کله فلأنها صفة من صفات الحق تتجلى فی کل موجود بحسب استعداده وأهلیته، ولذا بدت واضحة جلیة فی بعض الکائنات فوصف بأنه حی، وبدت فی غیرها أقل وضوحاً وجلاء فلم یوصف بالحیاة.

ولو علم الناس سریان جمیع الصفات الإلهیة من العلم والحیاة والقدرة والسمع والبصر ونحوها فی الموجودات لما قالوا بغیر ما قال الشیخ: ولکنهم فی هذه الدنیا محجوبون عن مثل هذه الحقائق التی لا یرقى إلى إدراکها إلا القلیلون.

ولکن ثمة مقاماً ینکشف لکل إنسان فیه وجه الحقیقة ویرفع عن قلبه الحجاب- ولعله یرید بهذا المقام «الموت» الذی تتحرر فیه الروح من قیود البدن- أو «الفناء الصوفی» الذی یتحقق فیه هذا التحرر أیضاً، فیدرک الإنسان الحیاة فی کل شیء ویشهدها فی کل موجود.

وهذا المقام هو الذی سماه بالدار الآخرة وقال إنها المعنیة بقوله تعالى «وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِیَ الْحَیَوانُ لَوْ کانُوا یَعْلَمُونَ» (س العنکبوت آیة 64).

 

(10) «فمن عمَّ إدراکه کان الحق فیه أظهر فی الحکم ممن لیس له هذا العموم»

(10) تحتمل هذه العبارة الغامضة أحد معنیین و ذلک بحسب ما نفهمه من کلمتی «الحق» و «الحکم».

فیصح أن یکون المراد بها أن من عم إدراکه فنظر إلى الوجود نظرة شاملة وشاهد وجود الحق فی کل شیء وحیاتَه فی کل شیء، کان الحق (أی الصواب) أظهر فی حکمه ممن قصرت أفهامهم عن إدراک هذه المعانی.

ویصح من ناحیة أخرى أن یکون المراد أن من عم إدراکه للوجود (بالمعنى المتقدم)، کان الحق (أی اللَّه) فیه أظهر منه فی غیره فی الناحیة التی یحکم بها علیه.

فإن حُکِمَ على الحق بأنه حی مثلًا کان «الحق الحی» أظهر فیه منه فی غیره من المخلوقات، و إن حکم علیه بأنه سمیع أو بصیر کان «الحق السمیع» أو «الحق البصیر» فی ذلک الحاکم أظهر منه فی غیره و هکذا.

وکلا التأویلین یحتمله مذهب المؤلف فی وحدة الوجود، و إن کان التأویل الأول أظهر.

 

(11) «وأما فضل العالِم من الصنف الإنسانی على العالِم من الجن بأسرار التصریف وخواص الأشیاء فمعلوم بالقدر الزمانی».

(11) یشیر إلى مسألة نقل عرش بلقیس إلى مجلس سلیمان وما قاله کل من العفریت و الرجل الذی عنده علم من الکتاب فی ذلک.

قال الأول: «أَنَا آتِیکَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِکَ»، وقال الآخر: «أَنَا آتِیکَ بِهِ قَبْلَ أَنْ یَرْتَدَّ إِلَیْکَ طَرْفُکَ».

ویظهر فضل الثانی على الأول- کما یقول- فی القدر الزمانی الذی حدده لنقل العرش.

فإن زمن القیام من المکان مدة یمکن قیاسها، وهی أعظم بکثیر من زمن ارتداد الطرف من شیء مرئی إلى الشخص الرائی. بل إن زمن ارتداد الطرف لحظة لا یمکن قیاسها، لأن الزمان الذی یتحرک فیه البصر لیرى شیئاً من الأشیاء هو عین الزمان الذی تقع فیه الرؤیة مهما بعدت المسافة بین الرائی والمرئی.

لهذا کان آصف بن برخیا، و هو الرجل الذی عنده علم من الکتاب، أَتم فی علمه وفی عمله من العفریت.

لکن ما ذا حدث لعرش بلقیس؟

هل نقل من مکانه إلى مجلس سلیمان فی اللحظة التی ذکرها آصف؟

یقول ابن العربی إنه لم یحدث انتقال من مکان إلى مکان، کما أن سلیمان ومن کان فی حضرته لم یتخیلوا أنهم رأوا العرش فی حین أنهم لم یروه بدلیل قوله تعالى «فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّی».

لم یحدث هذا ولا ذاک وإنما الذی حدث هو خلق جدید للعرش: أی إعدام له فی مکانه الأصلی وإیجاد له فی مجلس سلیمان: کل ذلک فی لحظة واحدة. و أن الذی قام بذلک هو آصف بن برخیا الذی کانت له قوة على التصرف فی الأشیاء و علم بخصائصها و أسرارها.

 

(12) «الخلق الجدید».

(12) بیّنا فی التعلیق السابق کیف فسر ابن العربی مسألة عرش بلقیس على أساس فکرته فی الخلق الجدید، ولکن أمر الخلق الجدید لیس قاصراً على هذه المسألة، بل هو فکرة من أخصب أفکاره یفسر بها کثیراً من المشکلات العویصة الأخرى سواء ما اتصل من ذلک بمسائل ما بعد الطبیعة وما اتصل منها بالتصوف.

فالعلیَّة والتعدد والتغیر وما إلى ذلک من صفات العالم الخارجی متصلة اتصالًا وثیقاً بفکرته فی الخلق الجدید، وکذلک مسألة خلق الأفعال على أیدی العباد وبأی معنى یعتبرهم فاعلین لها وبأی معنى یعتبرهم غیر فاعلین وهکذا.

بل إن مسألة الخلق الجدید عنده هی مسألة الخلق إطلاقاً: یفسر بها بأی معنى یصح لنا أن نتحدث عن خلق العالم.

لیس الخلق فی نظر ابن العربی إیجاداً لشیء لا وجود له، فهذا مستحیل عقلًا وعملًا، ولا هو فعل قام به الحق فی زمن مضى دفعة واحدة ثم انتهى منه، بل هو حرکة أزلیة دائمة، عنها یظهر الوجود فی کل آن فی ثوب جدید وتتعاقب علیه الصور التی لا تتناهى عدّا من غیر أن تزید فیه أو تنقص منه شیئاً فی جوهره وذاته.

 

فالخلق بمعنى الإیجاد من العدم أو الابتداع على غیر مثال سابق، والخالق بمعنى الموجد من العدم أو المبدع على غیر مثال سابق، لا محل لهما فی مذهبه: و إنما الخالق عنده هو جوهر أزلی أبدی یظهر فی کل آن فی صور ما لا یحصى من الموجودات، فإذا ما اختفت فیه تلک، تجلَّى فی غیرها فی اللحظة التی تلیها.

 

والمخلوق هو هذه الصور المتغیرة الفانیة التی لا قوام لها فی ذاتها: أو هی الأعراض التی تتعاقب على هذا الجوهر الثابت الدائم.

وفی هذا تکرار لنظریة الأشاعرة فی الجواهر والأعراض و قولهم بالتجدد الدائم للأعراض على نحو ما أشرنا إلیه فی الفص الثانی عشر (التعلیق 13) فما یسمیه ابن العربی الخلق الجدید أو تجدید الخلق مع الأنفاس هو بعینه ما یسمیه الأشاعرة تجدید الأعراض و إن اختلفت الفکرة الأساسیة فی المذهبین.

 

ففی هذا البحر اللانهائی من الوجود تتقلَّب الموجودات فی کل آن فی صور جدیدة أو تخلق خلقاً جدیداً على حد قول ابن العربی، وإن کان هذا التغیر، أو هذا الخلق، غیر مدرک بالحسّ.

وهذا فی نظره سرّ ما یشعر به الناس من لبس فی شأنه. قال تعالى: «بَلْ هُمْ فِی لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِیدٍ» (سورة ق آیة 15) وغنی عن البیان أن الآیة لا صلة لها بشیء مما یقوله.

وعند ما یتحدث عن الفناء الصوفی یضیف إلى معناه العادی معنى فلسفیاً متصلًا شدید الاتصال بهذا الخلق الجدید.

فالفناء لیس معناه محو صفات الصوفی أو ذاته، أو تحققه فی مقام خاص بوحدته الذاتیة مع الحق فحسب، بل هو رمز على محو صور المحدثات محواً مستمراً فی کل آن من الآنات، وبقائها فی الجوهر الواحد المطلق- الحق. فالفناء لیس معنى یتعارض مع فعل الخلق، بل هو أحد وجهی هذا الفعل، والوجه الآخر هو البقاء.

والخلق سلسلة من التجلیات الإلهیة: کل حلقة منها ابتداء ظهور صورة من صور الوجود واختفاء صورة أخرى. أی أن اختفاء صور الموجودات فی الواحد الحق- وهو فناؤها- هو فی الوقت ذاته عین ظهورها فی صور تجلیات إلهیة أخرى- وهو البقاء.

وهذا معنى قوله فی الفص الثانی عشر «ویرون أیضاً شهوداً أن کل تجلٍ یعطی خلقاً جدیداً ویذهب بخلق: فذهابه هو الفناء عند التجلی والبقاء لما یعطیه التجلی الآخر».

 

لیس بغریب إذن ألا یکون للدار الآخرة بمعناها الدینی موضع من فلسفة ابن العربی. فإن العالم الذی هو تجلی الحق الدائم أزلی کما هو أبدی. یصرح عن هذا المعنى کل الصراحة فی فتوحاته حیث یقول «النهایة فی العالم غیر حاصلة، والغایة من العالم غیر حاصلة، فلا تزال الآخرة دائمة التکوین عن العالم» «فتوحات ج 1 ص 338 س 15 من أعلى»

ولیس دوام تکون الآخرة عن العالم إلا أنها اسم لفناء صور الموجودات عند ما تفنى، کما أن العالم اسم لبقاء صورها عند ما تبقى: أی أن الدنیا و الآخرة مجرد اسمین للوجهین اللذین ینطوی علیهما الخلق الجدید.

 

(13) «ولا علم لأحد بهذا القدر، بل الإنسان لا یشعر به من نفسه أنه فی کل نَفَس لا یکون ثم یکون».

(13) أی أن الإنسان لا علم له بهذا التغیر الدائم الجاری فی الکون بأسره، ولا یحس من نفسه أنه فی کل نَفَسٍ و فی کل آن ینعدم ثم یخلق من جدید.

ولکن انعدام أی شیء ثم وجوده یقعان فی آن واحد من غیر أن تنقضی بینهما فترة من الزمان.

ولا یقال إن «ثُمَّ» تقتضی التراخی أو المهلة فإنها لیست کذلک دائماً، فقد تشیر إلى ترتب عِلِّیٍ بین علة و معلول یتلاقیان فی الزمان الواحد، مثل هز الردینی و اضطرابه فی قول أبی داود جاریة (أو جویرة) بن الحجاج.

کهز الردینی تحت العجاج  .... جرى فی الأنابیب ثم اضطرب

فإن هز الردینی علة فی حدوث الاضطراب به و هما حاصلان فی الرمح فی آن واحد.

و کذلک الحال فی «ثُمَّ» إذا استعملت فی تفسیر معنى الخلق الجدید.

 

(14) «وأما علمه فقوله تعالى «فَفَهَّمْناها سُلَیْمانَ» - مع نقیض الحکم».

(14) اختص اللَّه سلیمان فی جملة ما اختصه به من النعم بالعلم والحکم، ولکنه علم من نوع خاص یختلف عن علم أبیه داود الذی ذکره اللَّه أیضاً على سبیل المنة فی قوله «وَکُلًّا آتَیْنا حُکْماً وَعِلْماً» «سورة الأنبیاء آیة 79».

والعبارة تشیر هنا إلى نوعی العلم اللذان وهبهما اللَّه داود وسلیمان، ونوعی الحکم اللذان صدرا عنهما فی قصة الحرث والغنم المشهورة.

فإنه لما نفشت غنم بعض القوم فی حرث بعضهم شکا إلى داود وکان بمحضره ابنه سلیمان. فقضى داود لصاحب الحرث أن یأخذ الغنم عوضاً عن التلف الذی أحدثته بحرثه.

ولکن ابنه سلیمان الذی لم تتجاوز سنه الحادیة عشرة حینئذ قضى لصاحب الحرث بأن ینتفع بالغنم: لبنها وصوفها ونتاجها: إلى أن یصلح حرثه: فوافق داود على حکم ابنه سلیمان.

هذه هی القصة کما یرویها المفسرون، ولکن ابن العربی یعتبر حکمی داود وسلیمان فیها مثالین لنوعین مختلفین من المعرفة یسمى الأول علماً والثانی فهماً- مستنداً إلى الآیة: «فَفَهَّمْناها سُلَیْمانَ».

فحکم داود کان نوعاً من العلم وهبه اللَّه إیاه کما وهبه لغیره من بنی الإنسان:

أو هو العلم الإنسانی العادی المبنی على الرویة والتفکیر أما علم سلیمان- الفهم- فهو علم اللَّه خاصة یهبه لمن یشاء من عباده فیظهر فیهم بظهوره تعالى فی صورهم، وذلک عند فنائهم فیه وتحققهم بوحدتهم الذاتیة معه.

فلم یکن سلیمان هو الذی أصدر الحکم بل الحق هو الذی تکلم بلسان الصورة السلیمانیة الخاصة ولذلک یسمیه ابن العربی «ترجمان حق فی مقعد صدق».

ومهما یکن من أمر القصة نفسها، بل ومن أمر ما أصدره کل من داود وسلیمان فیها من حکم، فإن التفرقة التی وضعها ابن العربی بین العلم والفهم:

أو بین العقل والذوق، تفرقة لها قیمتها فی فهم نظریته الإبستمولوجیة (الخاصة بطبیعة المعرفة). ومن سوء الحظ أنه ساق هذه القصة مثلًا یوضح به ما یرید، لأننی لا أرى أن حکم سلیمان فیها یمت إلى العلم الذوقی فی کثیر أو قلیل على الرغم من أنه کان حکماً أدق وأکثر توفیقاً من حکم أبیه.

 

وأفضل من هذا بکثیر المثال الثانی الذی ساقه لیوضح به الفرق بین نوعی المعرفة الآنفی الذکر، وهو مثال العلم عن طریق الاجتهاد. 

فإن الاجتهاد نوعان: 

مصیب وهو ما یأتی موافقاً لحکم اللَّه فی مسألة من مسائل الدین بحیث لو تولاها اللَّه بنفسه 

أو أوحى فی شأنها إلى رسوله لما حکم فیها بغیر ما حکم صاحب هذا الاجتهاد المصیب.

 

وهذا النوع من الاجتهاد وقف على الکاملین من أولیاء اللَّه الذین یستمدون علمهم بالشرع من نفس المعدن الذی یستمد منه الرسول. فهم یأخذون علمهم عن الله مباشرة، وبألسنتهم ینطق الله. 

یقول ابن العربی فی وصف نوع من أنواع الفتح على الولی «ویکون التنزل على صاحب هذا الفتح من المرتبة التی نزل فیها القرآن خاصة ... فإن کلام الله لا یزال ینزل على قلوب أولیاء الله تلاوة، فینظر الولی ما تلی علیه مثل ما ینظر النبی فیما أنزل علیه فیعلم ما أرید به فی تلک التلاوة کما یعلم النبی ما أنزل علیه فیحکم بحسب ما یقتضیه الأمر» «الفتوحات ج 2 ص 666 س 10 وما بعده.»

وذا هو المعنى الذی أشار إلیه فیما سبق عند ما ذکر النبوة العامة- لا نبوة التشریع- وقال إنها لم تنقض بموت النبی. 

وغنی عن البیان أن هذا النوع من العلم لا یصدق علیه اسم «علم الاجتهاد» بأی معنى من معانیه، لأنه لا معنى لاجتهاد الحکم فیه نتیجة للوحی ولا یکون لصاحبه من الأثر فیه إلا تلقی ما یوحى به إلیه.

هذا النوع من العلم الاجتهادی هو الذی یذکره ابن العربی فی محاذاة علم سلیمان.

وأما النوع الثانی فهو الاجتهاد المخطئ الذی لا یأتی موافقا لحکم الله فی مسألة من مسائل الدین.

وهو ولید التفکیر والاستدلال لا الوحی أو الإلهام، وقد ذکره فی محاذاة علم داود.

ولصاحب النوع الأول عنده أجران: أجر لاجتهاده، وأجر لأنه أصاب فی اجتهاده. أما صاحب النوع الثانی فلیس له إلا أجر واحد لاجتهاده فقط.

 

(15) «فنحن معه بالتضمین، و هو معنا بالتصریح».

(15) لما کان کل ما هو موجود مظهرا ومجلى للوجود الحق، وأعیان الممکنات باقیة على حالة عدمها أو موجودة بالوجود الحق، کان الحق معنا (أی الموجودات) ظاهرا صریحا کما قال: «و هو معکم أین ما کنتم» و کانت أعیاننا معه باطنا و ضمنا.

هذا إذا فهمنا التصریح والتضمین بمعنى الظهور والبطون أو الفعل والقوة اللذین هما وجها الحقیقة الوجودیة.

أما إذا فهمناهما بمعناهما المنطقی على أنهما من أوصاف القضایا، أمکننا أن نقول- اعتمادا على ما ذکرناه آنفا من أن الوجود الحقیقی هو وجود الحق- إن القول الصریح هو «أن الحق هو الموجود»، فإذا أضفنا لأنفسنا وجودا- کما نضیف للظلال وجودا فی حین أنها لا جود لها فی ذاتها- کان قولنا «نحن موجودون» متضمنا فی قولنا «إن الحق موجود».

وکذلک الحال فی المشی على الصراط المستقیم الذی هو صراط الوجود، فإن الحق على هذا الصراط صریحا، ونحن علیه بالتبعیة لأنه لیس فی الوجود إلا الحق، وأعیاننا العدمیة على الصراط المستقیم بتبعیته.

وهذا معنى کونه آخذا بنواصینا فی قوله تعالى: «ما من دابة إلا هو آخذ بناصیتها إن ربی على صراط مستقیم».

ومعنى هذا کله أنک إذا نظرت إلى الحقیقة الوجودیة من حیث إنها «الحق» کان الوجود الظاهر (العالم) شیئا موجودا فیه بالقوة أو متضمنا کما یقول، وإذا نظرت إلیها من حیث إنها الخلق الظاهر، قلت إن ذلک الظاهر مجلى للحق و مظهر و إن الحق متضمن فیه

 

(16) «و أما التسخیر الذی اختص به سلیمان و فضل به غیره إلخ ... ».

(16) قد شرحنا بعض نواحی التسخیر و التصرف فی مواضع سابقة من هذا الکتاب

(راجع الفص السادس: التعلیق 9، و الفص الثالث عشر کله) و لیس بین معنییهما کبیر فرق إلا أن التسخیر إخضاع الشیء لقوة خارجة عنه تعمل فیه، و التصرف هو استخدام تلک القوة لإحداث أی تغیر فی الشیء المسخر.

و یظهر أن ابن العربی یفرق بین نوعین مختلفین من التسخیر:

الأول التسخیر الحاصل بوساطة قوة خاصة یطلق علیها الصوفیة اسم «الهمة».

والثانی تسخیر الأشیاء بمجرد الأمر من غیر استعانة بتلک القوة.

ویلزم من هذا أن من تسخر له الأشیاء بوساطة الهمة لا بد أن یکون قد وصل إلى درجة روحیة خاصة هی درجة الجمعیة التی یوجه بها همته نحو الشیء المراد فیحصل علیه: سواء أکان ذلک من الأمور المتصلة بعالمنا الأرضی أم بالعوالم السماویة الأخرى.

و فی هذا یقول: «و إنما قلنا ذلک لأنا نعرف أن أجرام العالم تنفعل لِهَمَم النفوس إذا أقیمت فی مقام الجمعیة، و قد عاینا ذلک فی هذا الطریق».

وهذا صریح فی أن هذا النوع من التسخیر یکون بقوة مکتسبة یحصل علیها السالک إلى اللَّه أثناء سلوکه، إلا أن بعض السالکین یستخدمها، والبعض الآخر یمتنع من استعمالها (قارن الفص السادس).

أما النوع الثانی من التسخیر فهو قوة یهبها اللَّه لمن یشاء من غیر کسب ولا ریاضة ولا توجیه لهمة أو نحوها.

وقد کان سلیمان ممن أوتوا هذه القوة فجرت له الریح رخاء حیث أصاب، وخضعت له الشیاطین وغیرها من قوى الطبیعة، ولم یکن علیه سوى أن یأمرها فتأتمر ویطلب منها الفعل فتفعل.

وهذا النوع من التسخیر فی نظر المؤلف أفضل من الأول وأرقى، لأنه تأثیر مباشرة فی الأشیاء غیر مفتقر إلى فعل الإرادة وجمعیتها.

ومعنى هذا أن سلیمان- ومن أُعْطُوا موهبته فی التسخیر قد تحققت فیهم الناحیة اللاهوتیة إلى أقصى حد فغلبت على ناسوتیتهم، فی حین أن غیرهم ممن لم یصلوا إلى مرتبتهم کبعض رجال الصوفیة مثلًا- یحتاجون إلى ترویض إرادتهم ریاضة خاصة وإلى حال نفسیة خاصة یسمونها «مقام الجمع أو الجمعیة» لکی یتمکنوا من تسخیر الأشیاء والتصرف فیها.

 

(17) «ولما قال علیه السلام: «الناس نیام فإذا ماتوا انتبهوا» نبه على أنه کل ما یراه الإنسان ... خیال».

(17) یشیر الحدیث إلى غفلة الناس فی هذه الحیاة الدنیا وجهلهم بکثیر من الحقائق، وأنهم إذا ماتوا أفاقوا من غفلتهم وانتبهوا من نومهم، فإذا الحقیقة غیر ما ظنوا.

وهذا مصداق قول اللَّه عزّ وجل: «لَقَدْ کُنْتَ فِی غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَکَشَفْنا عَنْکَ غِطاءَکَ فَبَصَرُکَ الْیَوْمَ حَدِیدٌ».

ولکن ابن العربی یؤول الحدیث تأویلًا آخر صوفیاً وفلسفیاً یبعده کثیراً عن المعنى المتقدم. 

الناس نیام فی نظره: إما بمعنى أنهم فی حیاتهم هذه کالحالمین لا یرون من حقیقة الوجود إلا مقدار ما یرى النائم من حقائق الأشیاء، وإما بمعنى أنهم کالنائمین ما داموا یدرکون الوجود بوساطة حواسهم وعقولهم.

فإذا ماتوا: أی فإذا ماتوا عن حواسهم وعقولهم کما هو شأن الصوفیة فی حالهم الخاصة المعروفة بالفناء، استیقظت فیهم أرواحهم وأدرکت حقیقة الوجود بما هی علیه.

کل ما فی الوجود أحلام وظلال إذا نظر إلیه خلال الحواس والعقول: ولکنه أحلام یجب ردها إلى حقائقها، وظلال یجب ردها إلى أصولها.

إن الذی یدرکه الحسّ إنما هو من نسج الخیال، وکل ما هو من نسج الخیال رمز یجب تأویله. 

فعالم الظاهر إذن خیال کله بهذا المعنى، یجب تأویله کما تؤول أحلام النائمین.

أما عالم الباطن أو عالم الحقیقة فلیس فی متناول الحس إدراکه ولا للخیال سبیل إلى العبث به، وإنما السبیل إلى إدراکه الذوق أو الکشف الصوفی فی حالة الفناء الخاصة التی یشیر إلیها الحدیث باسم «الموت» وهو موت الحواس وحیاة الروح، وموت الجهل وحیاة المعرفة الیقینیة الحقة، وموت الوجود الظاهری الکاذب، وحیاة الوجود الباطنی الحق.