الفقرة الثالثة والعشرون :
شرح فصوص الحکم من کلام الشیخ الأکبر ابن العربی أ. محمود محمود الغراب 1405 هـ:
16 - فص حکمة رحمانیة فی کلمة سلیمانیة
«إنه» یعنی الکتاب «من سلیمان، وإنه» أی مضمون الکتاب «بسم الله الرحمن الرحیم».
فأخذ بعض الناس فی تقدیم اسم سلیمان على اسم الله تعالى ولم یکن کذلک.
وتکلموا فی ذلک بما لا ینبغی مما لا یلیق بمعرفة سلیمان علیه السلام بربه. "2"
وکیف یلیق ما قالوه وبلقیس تقول فیه «ألقی إلی کتاب کریم» أی یکرم علیها.
وإنما حملهم على ذلک ربما تمزیق کسرى کتاب رسول الله صلى الله علیه وسلم، وما مزقه حتى قرأه کله وعرف مضمونه.
فکذلک کانت تفعل بلقیس لو لم توفق لما وقفت له.
فلم یکن یحمی الکتاب عن الإحراق لحرمة صاحبه تقدیم اسمه علیه السلام على اسم الله عز
........................................................................
1 - المناسبة فی تسمیة هذا النص هو کتاب سلیمان علیه السلام
وما جاء فیه من ذکر « بسم الله الرحمن الرحیم » فأتى سلیمان علیه السلام بالاسمین الرحمن والرحیم ، وهذا الفص یتناول بالبحث الرحمة الإلهیة وتقسیمها وتعلق الأسماء الإلهیة بها ، فلذلک أضیفت الحکمة الرحمانیة إلى سلیمان علیه السلام الذی جمع بین هذین الاسمین فی کتابه إلى بلقیس.
2 - تقدیم اسم سلیمان علیه السلام فی کتابه إلى بلقیس.
یقول الشیخ فی شرح کتاب الإسراء وکتاب النجاة عن حجب الاشتباه فی شرح مشکل الفوائد من کتابی الإسراء والمشاهده
فعل سلیمان ذلک لأنه أدب وقته وشرع وقته ، وهو شرحه لقوله : «قدم اسمک فهو الشرع المتبع وإن لم تفعل فلست بمتبع » أی بالنسبة إلى أهل ملتک وزمانک ،
وأما قوله : « لا تقدم اسمک على اسم مولاک فإنما کان ذلک لعلة هناک » فانظر کیف جاء فی الستکة تقدیم التهلیل فی شهادة التوحید على ذکر الرسول علیه السلام ،
وقوله « إنما کان ذلک ، إشارة إلى سلیمان علیه السلام ، اصطلاحهم فی ذلک الزمان ، فلم تقتض الحکمة أن یخرج عن عادة أهل الزمان .
ص 253
وجل ولا تأخیره.
فأتى سلیمان بالرحمتین: رحمة الامتنان ورحمة الوجوب اللتان هما الرحمن الرحیم.
فامتن بالرحمن وأوجب بالرحیم.
وذا الوجوب من الامتنان.
فدخل الرحیم فی الرحمن دخول تضمن.
فإنه کتب على نفسه الرحمة سبحانه لیکون ذلک للعبد بما ذکره الحق من الأعمال التی یأتی بها هذا العبد، حقا على الله تعالى أوجبه له على نفسه یستحق بها هذه الرحمة- أعنی رحمة الوجوب. "3"
........................................................................
3 - الرحمات الإلهیة الثلاث
جعل الله فی أم الکتاب أربع رحمات فضمن الآیة الأولى من أم الکتاب وهی البسملة رحمتین وهی قوله « الرحمن الرحیم » وضمن الآیة الثالثة منها أیضا رحمتین وهما قوله « الرحمن الرحیم » فهو رحمن بالرحمتین وهی رحمة الامتنان ، وهو رحیم بالرحمة الخاصة وهی الواجبة فی قوله « فسأکتبها للذین یتقون » الآیات ، وقوله « کتب ربکم على نفسه الرحمة » وأما رحمة الامتنان فهی التی تنال من غیر استحقاق بعمل ، وبرحمة الامتنان رحم الله من وفقه للعمل الصالح الذی أوجب له الرحمة الواجبة ، فیها (أی رحمة الامتنان ) ینال العاصی وأهل النار إزالة العذاب وإن کان مسکنهم ودارهم جهنم ، وهذه رحمة الامتنان ، فالرحمن فی الدنیا والآخرة والرحیم اختصاص الرحمة بالآخرة .
واعلم أن الرحمة الإلهیة التی أوجده الله فی عباده لیتراحموا بها مخلوقة من الرحمة الذاتیة التی أوجد الله بها العالم حین أحب أن یعرف وبها کتب على نفسه الرحمة ، والرحمة المکتوبة منفعلة عن الرحمة الذاتیة ، والرحمة الامتنانیة هی التی وسعت کل شیء ، فرحمة الشیء لنفسه تمدها الرحمة الذاتیة وتنظر إلیها ، وفیها یقع الشهود من کل رحیم بنفسه ، والرحمة التی کتبها على نفسه لا مشهد لها فی الرحمة الذاتیة ولا الامتنانیة ، فإنها مکتوبة لأناس مخصوصین بصفات مخصوصة ، وأما رحمة الراحم بمن أساء إلیه وما یقتضیه شمول الإنعام الإلهی والاتساع الجودی فلا مشهد لها إلا رحمة الامتنان ، وهی الرحمة التی یترجاها إبلیس فمن دونه ، لا مشهد لهؤلاء فی الرحمة المکتوبة ولا فی الرحمة الذاتیة ، وما رأیت أحدا من أهل
ص 254
…………...
........................................................................
الله نبه على تثلیث الرحمة بهذا التقسیم ، فإنه تقسیم غریب کما هو فی نفس الأمر ، فما علمناه إلا من الکشف ، وما أدری لماذا ترک التعبیر عنه أصحابنا ، مع ظنی بأن الله قد کشف لهم عن هذا .
وأما النبوات فقد علمت أنهم وقفوا على ذلک وقوف عین ، ومن نور مشکاتهم عرفناه
الله أرحم الراحمین کما قال عن نفسه ، وقد وجدنا فی نفوسنا ومن جبلهم الله على الرحمة أنهم یرحمون جمیع عباد الله ، حتى لو حکمهم الله فی خلقه لأزالوا صفة العذاب من العالم بما تسکن حکم الرحمة من قلوبهم ، وصاحب هذه الصفة ، أنا وأمثالی ، ونحن مخلوقون أصحاب أهواء وأغراض ، وقد قال عن نفسه جل علاه إنه أرحم الراحمین ، فلا نشک أنه أرحم منا بخلقه ، و نحن قد عرفنا من نفوسنا هذه المبالغة فی الرحمة ، فکیف یتسرمد علیهم العذاب وهو بهذه الصفة من الرحمة ، إن الله أکرم من ذلک ، ولاسیما وقد قام الدلیل العقلی على أن الباری لا تنفعه الطاعات ولا تضره المخالفات ، وأن کل شیء جار بقضائه وقدره وحکمه ، وأن الخلق مجبورون فی اختیارهم، وقد قام الدلیل السمعی أن الله یقول فی الصحیح إنه ما ینقص من ملکه شیء .
أخبرنی الوارد- والشاهد یشهد له بصدقه منی - بعد أن جعلنی فی ذلک على بینة من ربی بشهودی إیاه لما ألقاه من الوجود فی قلبی ، أن اختصاص البسملة فی أول کل سورة تتویج الرحمة الإلهیة فی منشور تلک السورة أنها تنال کل مذکور فیها ، فإنها علامة الله على کل سورة أنها منه ، کعلامة السلطان على مناشیره ، فقلت للوارد فسورة التوبة عندکم ؟
قال : هی والأنفال سورة واحدة قسمها الحق على فصلین ، فإن فصلها وحکم بفصلها سماها سورة التوبة أی سورة الرجعة الإلهیة بالرحمة على من غضب علیه من العباد، فما هو غضب أبد لکنه غضب أمد ،
والله هو التواب : فما قرن بالتواب إلا الرحیم لیؤول المغضوب علیه إلى الرحمة ، أو الحکیم الضرب المدة فی الغضب وحکمها فیه إلى أجل ، فیرجع علیه بعد انقضاء المدة بالرحمة ، فانظر إلى الاسم الذی نعت به التواب تجد حکمه کما ذکرناه. والقرآن جامع لذکر
ص 255
ومن کان من العبید بهذه المثابة فإنه یعلم من هو العامل منه. "4"
والعمل مقسم على ثمانیة أعضاء من الإنسان.
وقد أخبر الحق أنه تعالى هویة کل عضو منها، فلم یکن العامل غیر الحق، والصورة للعبد، و الهویة مدرجة فیه أی فی اسمه لا غیر لأنه تعالى عین ما ظهر.
وسمی خلقا وبه کان الاسم الظاهر والآخر للعبد، وبکونه لم یکن ثم کان."5"
وبتوقف ظهوره علیه وصدور العمل منه کان الاسم الباطن والأول.
فإذا رأیت الخلق رأیت الأول والآخر والظاهر والباطن. "6"
........................................................................
من رضی عنه وغضب علیه ، وتتویج منازله بالرحمن الرحیم ، والحکم للتتویج ، فإنه به یقع القبول ، وبه یعلم أنه من عند الله ، هذا إخبار الوارد لنا ونحن نشهد ونسمع ونعقل ، لله الحمد والمنة على ذلک ، ووالله ما قلت ولا حکمت إلا عن تفث فی روع من روح الهی قدسی ، علمه الباطن حین احتجب عن الظاهر ، للفرق بین الولایة والرسالة .
الفتوحات ج 3 / 25 ، 100 ، 101 ، 496 ، 505 ، 550
4 - راجع حدیث « کنت سمعه وبصره » فص 9، هامش 9، ص 136
"" 9 - «کنت سمعه وبصره » الحدیث فص 9، هامش 9، ص 136
یقول تعالى : « ولا یزال عبدی یتقرب إلی بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته کنت سمعه الذی یسمع به وبصره الذی یبصر به ۰۰. الحدیث »
اعلم أن العبد حادث فلا تنفی عنه حقیقته لأنه لو انتفت ، انتفت عینه ، وإذا انتفت عینه فمن یکون مکلفا بالعبادة .
ففی هذا الحدیث أثبتک و نفاک ، فتکون أنت من حیث ذاتک ، ویکون هو من حیث تصرفاتک وإدراکاتک .
فأنت مکلف من حیث وجود عینک ومحل للخطاب ، وهو العامل بک من حیث أنه لا فعل لک .
إذ الحادث لا أثر له فی عین الفعل ، ولکن له حکم فی الفعل إذ کان ما کلفه الحق من حرکة وسکون لا یعمله الحق إلا بوجود المتحرک والساکن .
إذ لیس إذا لم یکن العبد موجودا إلا الحق ، والحق تعالی عن الحرکة والسکون أو یکون محلا لتأثیره فی نفسه ، فلابد من حدوث العبد حتى یکون محلا لأثر الحق ، فإذا کان العبد ما عنده من ذاته سوى عینه بلا صفة ولا اسم سوى عینه ، حینئذ یکون عند الله من المقربین و بالضرورة یکون الحق جمیع صفاته .
و یقول له : أنت عبدی حقا ، فما سمع سامع فی نفس الأمر إلا بالحق ولا أبصر إلا به ولا علم إلا به ولا حیی ولا قدر ولا تحرک ولا سکن ولا أراد ولا قهر ولا أعطى ولا منع ولا ظهر علیه وعنه أمر ما هو عینه إلا وهو الحق لا العبد.
فما للعبد سوى عینه سواء علم ذلک أو جهله ، وما فاز العلماء إلا بعلمهم بهذا القدر فی حق کل ما سوى الله لا أنهم صاروا کذا بعد أن لم یکونوا.
فالضمیر فی قوله «کنت سمعه» هو عین العبد . والسمع عین الحق فی کل حال. فکشف له سبحانه عن ذلک فإن قوله « کنت » یدل على أنه کان الأمر على هذا وهو لا یشعر .
فکانت الکرامة التی أعطاها هذا التقرب الکشف والعلم بأن الله کان سمعه وبصره فهو یتخیل أنه یسمع بسمعه وهو یسمع بربه .
کما کان یسمع الإنسان فی حال حیاته بروحه فی ظنه لجهله وفی نفس الأمر إنما یسمع بریه ، ألا ترى نبیه الصادق فی أهل القلیب کیف قال : ما أنتم بأسمع منهم ، فأثبت الله للعبد بالضمیر عینه عبدا لا ربوبیة له .
وجعل ما یظهر به وعلیه ومنه أن ذلک هو الحق تعالى لا العبد .
فما ثم إلا حق لحق وحق لخلق ، فحق الحق ربوبیته وحق الخلق عبودیته .
الفتوحات ج 1 / 203 ، 305 ، 378 ، 397 ، 406 ، 407 ، 415 ، 434 ، 445 ، 468 ، 675 .
الفتوحات ج 2 / 65 ، 189 ، 323 ، 341 ، 479 ، 502 ، 513 ، 559. أهـ ""
5 - راجع الظاهر فی المظاهر من حدیث « کنت سمعه وبصره » فص 10 ، هامش 14 ، ص 149
"" 6 - وحدة الوجود - الظاهر فی المظاهر قفرة 6 ص 84
الموجودات على تفاصیلها فی ظهور الحق فی مظاهر أعیان الممکنات بحکم ما هی الممکنات علیه من الاستعدادات ، فاختلفت الصفات على الظاهر لأن الأعیان التی ظهر فیها مختلفة ، فتمیزت الموجودات وتعددت لتعدد الأعیان وتمیزها فی نفسه فما فی الوجود إلا الله وأحکام الأعیان ، وما فی العدم شیء إلا أعیان الممکنات مهیأة للاتصاف بالوجود .
فهی لا هی فی الوجود ، لأن الظاهر أحکامها فهی ، ولا عین لها فی الوجود فلا هی ، کما هو لا هو .
لأنه الظاهر فهو والتمیز بین الموجودات معقول ومحسوس لاختلاف أحکام الأعیان فلا هو ، فیا أنا ما هو أنا ولا هو ما هو هو .
مغازلة رقیقة وإشارة دقیقة ردها البرهان ونفاها ، و أوجدها العیان وأثبتها .
ما من شیء فی تفاصیل العالم إلا وفی الحضرة الإلهیة صورة تشاکل ما ظهر ، أی یتقید بها، ولولا هی ما ظهر .
فإذا تأملت فما ثم وجود إلا الله خاصة ، وکل موصوف بالوجود مما سوى الله فهو نسبة خاصة ، والإرادة الإلهیة إنما متعلقها إظهار التجلی فی المظاهر ، أی فی مظهر ما ، وهو نسبة .
فان الظاهر لم یزل موصوفا بالوجود ، والمظهر لم یزل موصوفا بالعدم ، فإذا ظهر أعطى المظهر حکما فی الظاهر بحسب حقائقه النفسیة .
فانطلق على الظاهر من تلک الحقائق التی هو علیها المظهر المعدوم حکم یسمى إنسانا أو فلکا أو ملکا أو ما کان من أشخاص المخلوقات .
کما رجع من ذلک الظهور للظاهر اسم یطلق علیه یقال به خالق وصانع ، وضار ونافع ، وقادر.
وما یعطیه ذلک التجلی من الأسماء ، وأعیان الممکنات على حالها من العدم کما أن الحق لم یزل له حکم الوجود .
فحدث لعین الممکن اسم المظهر ، و للمتجلی فیه اسم الظاهر .
فأعطى استعداد مظهر ما أن یکون الظاهر فیه مکلفا ، فیقال له افعل ولا تفعل ، ویکون مخاطبا بأنت وکاف الخطاب .
واعلم أن التجلی الذاتی ممنوع بلا خلاف بین أهل الحقائق فی غیر مظهر .
فوقتا یکون المظهر جسمیا و وقتا یکون جسمانیا ووقتا جسدیا ، ووقتا یکون المظهر روحیا ووقتا روحانیا.
فالتجلی فی المظاهر هو التجلی فی صور المعتقدات وهو کائن بلا خلاف.
والتجلی فی المعقولات کائن بلا خلاف . وهما تجلی الاعتبارات .
لأن هذه المظاهر سواء کانت صور المعقولات أو صور المعتقدات فإنها جسور یعبر علیها بالعلم .
أی یعلم أن وراء هذه الصور أمرا لا یصح أن یشهد ولا أن یعلم .
ولیس وراء ذلک المعلوم الذی لا یشهد ولا یعلم حقیقة ما یعلم أصلا .
وأما التجلی فی الأفعال ففیه خلاف بین أهل هذا الشأن لا یرتفع دنیا ولا آخرة .
فما فی المسائل الإلهیة ما تقع فیها الحیرة أکثر ولا أعظم من مسألة الأفعال ، ولاسیما فی تعلق الحمد والذم بأفعال المخلوقین.
فیخرجها ذلک التعلق أن تکون أفعال المخلوقین لغیر المخلوقین حین ظهورها عنهم ، وأفعال الله کلها حسنة فی مذهب المخالف الذی ینفی الفعل عن المخلوق ویثبت الذم للفعل بلا خلاف .
ولا شک عنده فی تعلق الذم، بذلک الفعل من الله،فمن الشدائد على أهل الله إذا أوقفهم فی حضرة الأفعال ،من نسبتها إلى الله ونسبتها إلى أنفسهم ،
فیلوح لهم ما لا یمکن لهم معه أن ینسبوها إلى أنفسهم ، ویلوح لهم ما لا یتمکن معه أن ینسبوه إلى الله .
فهم هالکون بین حقیقة وأدب ، والتخلص من هذا البرزخ من أشد ما یقاسیه العارفون ، فإن الذی ینزل عن هذا المقام یشاهد أحد الطرفین فیکون مستریحا لعدم المعارض.
فمذهبنا العین الممکنة إنما هی ممکنة لأن تکون مظهرا ، لا لأن تقبل الاتصاف بالوجود فیکون الوجود عینها .
إذن فلیس الوجود فی الممکن عین الموجود ، بل هو حال لعین الممکن ، به یسمى الممکن موجودا مجازا لا حقیقة ، لأن الحقیقة تأبى أن یکون الممکن موجودا ، فلا یزال کل شیء هالک .
الفتوحات ج1 / 694 , ج2 / 40,42,99,160,435,606 أهـ ""
6 - قوله تعالى « هو الأول والأخر والظاهر والباطن وهو بکل شیء علیم »
اعلم أن الذات الأزلیة لا توصف بالأولیة ، وإنما یوصف بها الله تعالى ، فقوله : و هو الأول » الضمیر یعود على الله من « الله » فی الآیة السابقة ، والأول خبر الضمیر الذی هو المبتدأ ، وهو فی موضع الصفة لله ، ومسمى الله إنما هو من حیث المرتبة ، فهو الأول له منزلة الأولیة الإلهیة ، ومن هذه الأولیة صدر ابتداء الکون ، ومنه تستمد کلها ، وهو الحاکم فیها ، وهی الجاریة على حکمه وتفی السبب عنه ، فإن أولیة الحق تمد أولیة العبد، فإن الابتداء الأکوان شواهد فیها أنها لم تکن لأنفسها ثم کانت ، فمعقولیة الأولیة للواجب المطلق نسیة وضعیة لا یعقل لها العقل سوی استناد الممکن إلیه ، فیکون أولا بهذا الاعتبار ، ولو قدر أن لا وجود لممکن
ص 256
وهذه معرفة لا یغیب عنها سلیمان، بل هی من الملک الذی لا ینبغی لأحد من بعده، یعنی الظهور به فی عالم الشهادة.
فقد أوتی محمد صلى الله علیه وسلم ما أوتیه سلیمان، وما ظهر به: فمکنه الله تعالى تمکین قهر من العفریت الذی جاءه باللیل لیفتک به فهم بأخذه وربطه بساریة من سواری المسجد حتى یصبح فتلعب به ولدان المدینة، فذکر دعوة سلیمان علیه السلام فرده الله خاسئا.
فلم یظهر علیه السلام بما أقدر علیه وظهر بذلک سلیمان.
ثم قوله «ملکا» فلم یعم، فعلمنا أنه یرید ملکا ما.
........................................................................
قوة وفعلا لاتفت النسبة الأولیة إذ لا تجد متعلقا ، فلما کان أول مخلوق ظهر هو العقل أو القلم الإلهی کان الله الأول بالمرتبة فهو الأول بأولیة الأجناس وأولیة الأشخاص و « الآخر » فهو الآخر آخریة الأجناس لا آخریة الأشخاص ، فإلیه یعود الأمر کله ، وقال « وإلیه ترجعون »
وقال « ألا إلى الله تصیر الأمور » فهو الآخر کما هو الأول وکل مقام إلهی یتأخر عن مقام کونی فهو من الاسم الآخر مثل قوله تعالى : « فاذکرونی أذکرکم »
وقوله : « من ذکرنی فی نفسه ذکرته فی نفسی ومن ذکرنی فی ملأ ذکرته فی ملأ خیر منهم » وقوله : « من تقرب إلی شبرا تقربت إلیه ذراعا »
وقوله صلى الله علیه وسلم : « فاتبعونی یحببکم الله » فالأمر یتردد بین الاسمین الإلهیین الأول والآخر ، وعین العبد مظهر لحکم هذین الاسمین فهو تعالى « الأول » بالوجود « والآخر» فی الشهود .
فالأول الحق بالوجود …. والآخر الحق بالشهود
إلیه عادت أمور کونی …. فإنما الرب بالعبید
فکل ما أنت فیه …. حق ولم تزل فی مزید
وهو الإله الظاهر والباطن ، فإنه لما کان العالم له الظهور والبطون ، کان هو سبحانه الظاهر لنسبة ما ظهر منه ، والباطن لنسبة ما بطن منه ، وهو تعالى « الظاهر » لنفسه لا لخلقه فلا یدر که سواه أصلا ، وأما ما ظهر فإنما هو ظهور أحکام أسمائه الحسنی ، وظهور أحکام أعیاننا فی وجود الحق ، وهو من وراء ما ظهر ، فلا أعیاننا تدرک رؤیة ، ولا عین الحق تدرک رؤیة ، ولا أعیان أسمائه تدرک رؤبة : ونحن
ص 257
ورأیناه قد شورک فی کل جزء من الملک الذی أعطاه الله، فعلمنا أنه ما اختص إلا بالمجموع من ذلک، وبحدیث العفریت، أنه ما اختص إلا بالظهور.
وقد یختص بالمجموع والظهور.
ولو لم یقل صلى الله علیه وسلم فی حدیث العفریت «فأمکننی الله منه» لقلنا إنه لما هم بأخذه ذکره الله دعوة سلیمان لیعلم أنه لا یقدره الله على أخذه، فرده الله خاسئا.
فلما قال فأمکننی الله منه علمنا أن الله تعالى قد وهبه التصرف فیه.
ثم إن الله ذکره فتذکر
........................................................................
لا نشک أنا قد أدرکنا أمرا ما رؤیة ، وهو الذی تشهده الأبصار منا، فما ذلک إلا الأحکام التی لأعیاننا ظهرت لنا فی وجود الحق ، فکان مظهرا لها ، فظهرت أعیاننا ظهور الصور فی المرائی ، ما هی عین الرائی ، ولا هی عین المجلى ، « والباطن » البطون الذی یختص بنا کما یختص به الظهور ، وإن کان له البطون فلیس هو باطن لنفسه ولا عن نفسه ، کما أنه لیس ظاهرا لنا ، فالبطون الذی وصف نفسه به إنما هو فی حقنا ، فلا یزال باطنا عن إدراکنا إیاه حسا ومعنى ، فإنه لیس کمثله شیء ، ولا تدرک إلا الأمثال ، ولما کان التجلی عبارة عن ظهوره لمن تجلى له فی ذلک المجلى وهو الاسم الظاهر ، فالظاهر للصور والباطن للعین ، فالعین غیب أبدا ، والصورة شهادة أبدا ، وکل زیادة فی العلم أی علم کان لا تکون إلا عن التجلی الإلهی ، فالتجلی الصوری یدرک بعالم الحس فی برزخ التمثل الظاهر النفس ، وإذا وفع التجلی بالاسم الظاهر الباطن النفس وقع الإدراک بالبصیرة فی عالم الحقائق والمعانی المجردة عن المواد ، وهو المعبر عنها بالنصوص ،
فالحق هو الظاهر الذی نشهده العیون والباطن الذی تشهده العقول ، فهو مشهود للبصائر والأبصار ، غیر أنه لا یلزم من الشهود العلم بأنه هو ذلک المطلوب إلا بإعلام الله ،
فتجلی الحق لکل من تجلى له من أی عالم کان من عالم الغیب والشهادة إنما هو من الاسم الظاهر ،
وأما الاسم الباطن فمن حقیقة هذه النسبة أن لا یقع فیها تجل أبدا ، لا فی الدنیا ولا فی الآخرة ، فأحوال العالم مع الله على ثلاث مراتب ، مرتبة یظهر فیها تعالى بالاسم الظاهر فلا یبطن عن العالم شیء من الأمر ، وذلک فی موطن مخصوص ، وهو فی العموم موطن القیامة ، ومرتبة یظهر فیها الحق فی العالم فی الباطن فتشهده القلوب
ص 258
دعوة سلیمان فتأدب معه، فعلمنا من هذا أن الذی لا ینبغی لأحد من الخلق بعد سلیمان الظهور بذلک فی العموم. "7"
ولیس غرضنا من هذه المسألة إلا الکلام والتنبیه على
........................................................................
دون الأبصار ، ولهذا یرجع الأمر إلیه ، ویجد کل موجود فی فطرته الاستناد إلیه والإقرار به من غیر علم به ولا نظر فی دلیل ، فهذا من حکم نجلیه سبحانه فی الباطن ومرتبة ثالثة له فیها تجل فی الظاهر والباطن ، فیدرک منه فی الظاهر قدر ما تجلى به ویدرک منه فی الباطن قدر ما تجلى به ، فله تعالى التجلی الدائم العام فی العالم على الدوام وتختلف مراتب العالم فیه لاختلاف مراتب العالم فی نفسها فهو یتجلى بحسب استعدادهم ، فهو عند العارفین الیوم فی الدنیا على حکم تجلیه فی القیامة ، فیشهده العارفون فی صور الممکنات المحدثات الوجود .
وینکره المحجوبون من علماء الرسوم ، ولهذا یسمى بالظاهر فی حق هؤلاء العارفین والباطن فی حق هؤلاء المحجوبین ، ولیس إلا هو سبحانه : فأهل الله الذین هم أهله لم یزالوا ولا یزالود دنیا وآخرة فی مشاهدة عینیة دائمة وإن اختلفت الصور فلا یقدح ذلک عندهم .
راجع فتوحات ج 1 / 46 ، 166 ، 175 - ج 2 / 31 ، 56 ، 95 - ج 3 / 161 ، 178 ، 484 ، 541 - ج 4 / 299 ، 301 - دیوان.
7 ۔ قول سلیمان علیه السلام « وهب لی ملکا لا بنبغی لأحد من بعدی »
یرید لا ینبغی ظهوره فی الشاهد للناس لأحد ، وإن حصل بالقوة لبعض الناس - کمسألة رسول الله صلى الله علیه وسلم مع العفریت الذی فتک علیه فأراد أن یقبضه ویربطه بساریة من سواری المسجد حتى ینظر الناس إلیه فتذکر دعوة أخیه سلیمان فرده الله خاسئا ، فعلمنا من ذلک أنه أراد الظهور فی ذلک لأعین الناس، فأجاب الله سلیمان علیه السلام إلى ما طلب
منه بأن ذکر رسول الله صلى الله علیه وسلم بدعوة أخیه سلیمان حی لا یمضی ما فام بخاطره من إظهار ذلک ، ومن هذه الآیة نعلم أن حب العارف للمال والدنیا لا یقدح فی حبه لله وللآخرة ، فإنه ما یحبه منه لأمر ما إلا ما یناسب الأمر فی الإلهیات ، أترى سلیمان علیه السلام سأل ما یحجبه عن الله ، أو سأل ما یبعده عن الله ، هیهات .
بل هی صفة کمالیة سلیمانیة لذلک قال « إنک أنت الوهاب » فما ألیق هذا الاسم بهذا السؤال .
الفتوحات ج 1 / 584 ، 585 .
ص 259
الرحمتین اللتین ذکرهما سلیمان فی الاسمین اللذین تفسیرهما بلسان العرب الرحمن الرحیم.
فقید رحمة الوجوب وأطلق رحمة الامتنان فی قوله تعالى «ورحمتی وسعت کل شیء» حتى الأسماء الإلهیة، أعنی حقائق النسب.
فامتن علیها بنا. "8"
فنحن نتیجة رحمة الامتنان بالأسماء الإلهیة والنسب الربانیة.
ثم أوجبها على نفسه بظهورنا لنا وأعلمنا أنه هویتنا لنعلم أنه ما أوجبها على نفسه إلا لنفسه.
فما خرجت الرحمة عنه.
فعلى من امتن وما ثم إلا هو؟
إلا أنه لا بد من حکم لسان التفصیل لما ظهر من تفاضل الخلق فی العلوم، حتى یقال إن هذا أعلم من هذا مع أحدیة العین.
ومعناه معنى نقص تعلق الإرادة عن تعلق العلم، فهذه مفاضلة فی الصفات الإلهیة، کمال تعلق الإرادة وفضلها وزیادتها على تعلق القدرة.
وکذلک السمع والبصر الإلهی.
........................................................................
8 - افتقار الأسماء
حاجة الأسماء إلى التأثیر فی أعیان الممکنات أعظم من حاجة الممکنات إلى ظهور الأثر فیها ، وذلک أن الأسماء لها فی ظهور آثارها السلطان والعزة ، والممکنات قد یحصل فیها أثر تضرر به وقد تنتفع وهی على خطر ، فتکون الأعیان أقل افتقارة من الأسماء ، والأسماء أشد افتقارا لما لها فی ذلک من النعیم ، فإن الوجود لا یصح إلا من أصلین ، الواحد الاقتدار وهو الذی یلی جانب الحق ، والأصل الثانی القبول وهو الذی یلی جانب الممکن فلا استقلال لواحد من الأصلین بالوجود ولا بالإیجاد ، فالأمر المستفاد الوجود ما استفاده إلا من نفسه بقبوله وممن نفذ فیه اقتداره وهو الحق ، غیر أنه لا یقول فی نفسه إنه موجد نفسه بل یقول إن الله أوجده ، فالحق وإن ظهر بصور الممکنات واتصف بالغنی ، فإن ذلک لا یخرجه عن عدم الاستقلال فی وجود الحادث به ، إذ لابد من قبوله .
الفتوحات ج 4 / 101
راجع محاضرة الأسماء و تحاورها .
فص 1، هامش 2، ص 20 -
فص 15 ، هامش 23، ص 241 .
راجع قلب العبد أوسع من رحمة الله . فص 12 ، هامش 2، ص 176
2 - محاضرة الأسماء و تحاورها فقرة 2 ص 20
اجتماع الأسماء فی حضرة المسمى وظهور أحکامها
إن الأسماء اجتمعت بحضرة المسمى ، ونظرت فی حقائقها ومعانیها ، فطلبت ظهور أحکامها حتى تتمیز أعیانها بآثارها.
فإن الخالق الذی هو المقدر والعالم والمدبر والمفصل والبارئ والمصور والرزاق والمحینی والمیت والوارث والشکور .
وجمیع الأسماء الإلهیة نظروا فی ذواتهم ولم یروا مخلوقا ولا مدبرا ولا مفصلا ، ولا مصورا ولا مرزوقا.
فقالوا کیف العمل حتى تظهر هذه الأعیان التی تظهر أحکامنا فیها فیظهر سلطاننا ؟ فلجأت الأسماء الإلهیة التی تطلبها بعض حقائق العالم بعد ظهور عینه إلى الاسم البارئ فقالوا له : " عسى أن توجد هذه الأعیان لتظهر أحکامنا وینبت سلطاننا إذ الحضرة التی نحن فیها لا تقبل تأثیرنا " .
فقال الباریء : « ذلک راجع إلى الاسم القادر فإنی تحت حیطته ».
وکان أصل هذا أن الممکنات فی حلل نعدمها سألت الأسماء الإلهیة سؤال حال ذلة وافتقار .
وقالت لها : إن العدم قد أعمانا عن إدراک بعضنا بعضا وعن معرفة مایجب لکم من الحق علینا، فلو أنکم أظهرتم أعیاننا و کسوتمونا حلة الوجود أنعمتم علینا بذلک وقمنا بما ینبغی لکم من الجلال والتعظیم ، وأنتم أیضا کانت السلطنة تصح لکم فی ظهورنا بالفعل ، والیوم .أتم علینا.
سلاطین بالقوة والصلاحیة، فهذا الذی نطلبه منکم. هو فی حقکم أکثر منه فی حقنا.
فقالت الأسماء : إن هذا الذی ذکرته الممکنات صحیح فتحرکوا فی طلب ذلک ، فلما لجأوا إلى الاسم القادر .
قال القادر : أنا تحت حیطة المزید فالا أوجد عینا منکم إلا باختصاصه ، ولا یمکننی الممکن من نفسه إلا أن یأتیه أمر الأمر من ربه ، فإذا أمره بالتکوین وقال له کن مکننی من نفسه و تعلقت بإیجاده فکونته من حینه.
فلجأوا إلى الاسم المرید ، فقالوا له : إن الاسم القادر سألناه فی إیجاد أعیانبا فأوقف أمر ذلک علیک فما ترسم ؟
وقال المرید صدق القادر. ولکن ما عندی خبر ما حکم الأمم العالم فیکم ، هل سبق علمه بإیجادکم فنخصص أو لم یسبق؟
فأنا تحت حیطة الاسم العالم ، فسیروا إلیه واذکروا له قضیتکم.
فساروا إلى الاسم العالم وذکروا ما قاله الأسم المرید .
فقال العالم : صدق المرید وقد سبق علمی بإیجادکم ؛ ولکن الأدب أولى :" فإن لنا حضرة مهیمنة علینا وهی الاسم الله .
فلابد من حضورنا عنده ، فإنها حضرة الجمع ، فاجتمعت الاسماء کلها فی حضرة الله .
فقال : ما بالکم ؟ فذکروا له الخبر .
فقال : أنا اسم جامع لحقائقکم وإنی دلیل على مسمى وهو ذات مقدسة له نعوت الکمال والتنزیه، فقفوا حتى أدخل على مدلولی ، فدخل على مدلوله فقال له ما قالته الممکنات وما تحاورت فیه الأسماء.
فقال : اخرج وقل لکل واحد من الأسماء یتعلق بما تقتضیه حقیقته فی الممکنات فإنی الواحد لنفسی من حیث نفسی ، والممکنات إنما تطلب مرتبتی وتطلبها مرتبتی، والأسماء الإلهیة کلها للمرتبة لا لی إلا الواحد خاصة فهو اسم خصیص بی لا یشارکنی فی حقیقته من کل وجه أحد. لا من الأسماء ولا من المراتب ولا من الممکنات.
فخرج الاسم الله ومعه الاسم المتکلم یترجم عنه للممکنات والأسماء، فذکر لهم ما ذکره المسمى ، فتعلق العالم والمرید والقائل والقادر .
فظهر الممکن الأول من الممکنات بتخصیص المرید وحکم العالم ، فلما ظهرت الأعیان والآثار فی الأکوان ، وتسلط بعضها على بعض ، وقهر بعضها بعضا ، بحسب ما تستند إلیه من الأسماء ، فادی إلى منازعة وخصام.
فقالوا : إنا نخاف علینا، أن یفسد نظامنا وتلحق بالعدم الذی کنا فیه .
فنبهت الممکنات الأسماء بما ألقى إلیها الأسم العلم والمدبر.
وقالوا : أنتم أیها الأسماء لو کان حکمکم على میزان معلوم وحد مرسوم بإمام ترجعون إلیه یحفظ علینا وجودا وتحفظ علیکم تأثیراتکم فینا ، لکان أصلح لنا ولکم ، فالجأوا إلى الله عسى یقدم من یحد لکم حدا تقفون عنده وإلا، هلکنا وتعطلتم .
فقالوا : هذا عین المصلحة وعین الرأی ، ففعلوا ذلک .
فقالوا : إن الاسم المدبر هو ینهی أمرکم ، فأنهوا الى المدبر الأمر .
فقال : أنا لها ، فلخل وخرج بأمر الحق إلى الاسم الرب .
وقال له : افعل ما تقتضیه المصلحة فی بقاء أعیان هذه الممکنات .
فاتخذ: وزیرین یعیناته على ما أمر به ، الوزیر الواحد الاسم المدبر ،والوزیر الآخر المفصل.
قال تعالى : یدبر الأمر یفصل الآیات لعلکم بلقاء ربکم توقنون، الذی هو الإمام، فانظر ما أحکم کلام الله تعالى ، حیث جاء بلفظ مطابق للحال الذی ینبغی أن یکون الأمر علیه ، فحد الاسم الرب لهم الحدود ووضع لهم المراسم لإصلاح المملکة لیبلوکم أیهم أحسن عملا .
محاضرة الأسماء فی حضرة الذات ... دلیل على الماضی دلیل على الآتی
أقول بها والکون یعطی وجودها ... لوجدان آلام ووجدان لذات
فلولا وجود المحو ما صح عندنا ... ولا عند من یدری وجود لأثبات
ویقول فی موطن آخر :
اعلم أن السدنة من الأسماء الإلهیة لما کانت بأیدیهم مقالید السموات والأرض ، ولا سماء ولا أرض ، بقی کل سادن بمقلاده لا یجد ما یفتح .
فقالوا : یا للعجب خزان بمفاتیح مخازن لا تعرف مخزنا موجودا ، فما نصنع بهذه المقالید ، فأجمعوا أمرهم وقالوا «لابد لنا من أئمتنا السبعة الذین أعطونا هذه المقالید ولم یعرفونا المخازن التی تکون علیها ، فقاموا على أبواب الأمة ، على باب الإمام المخصص والإمام المنعم والإمام المقسط ، فأخبرهم الأمر ، فقالوا: صدقتم ، الخبر عندنا ، و سنعینها لکم إن شاء الله تعالى ، ولکن تعالوا نصل إلى من بقی من الأئمة ونجتمع على باب حضرة الإمام الإلهی إمام الأئمة ، فاجتمع الکل وهم بالإضافة إلى الإمام.
المعروف « بالله » سدنة ، فوقف الجمیع ببابه فبرز لهم.
وقال : ما الذی جاء بکم ؟
فذکروا له الأمر وأنهم طالبون وجود السموات والأرض حتى یضعوا کل مقلاد على بابه ، فقال : أین الإمام المخصص ؟
فبادر إلیه المرید ، فقال له : ألیس الخبر عندک وعند العلیم ؟
فقال له نعم ، قال : فإن کان فأرح هؤلاء مما هم فیه من تعلق الخاطر وشغل البال ، فقال العلیم والمرید : أیها الإمام الأکمل .
قل الإمام القادر یساعدنا والقائل ، فإنه لا تقوم به بأنفسنا إلا أربعتنا ، فنادى الله تعالى القادر والقائل ، وقال لهما : أعینا أخویکما فیما هما بسبیله.
فقالا « نعم » فدخلا حضرة الجواد .
فقالا للجواد : عزمنا على إیجاد الأکوان وعالم الحدثان ، وإخراجهم من العدم إلى الوجود، وهذا من حضرتک حضرة الجود.
فادفع لنا من الجود ما تبرزهم به ، فدفع لهم الجود المطلق ، فخرجوا به من عنده ، وتعلقوا بالعالم فأبرزوه على غایة الإحکام والإتقان ، فلم یبق فی الإمکان أبدع منه ، فإنه ص در عن الجود المطلق .
ولو بقی أبدع منه لکان الجواد قد بخل بما لم یعط وأبقاه عنده من الکمال ، ولم یصح علیه إطلاق اسم الجواد وفیه شیء من البخل .
فلیس اسم الجواد علیه فیما أعطى بأولى من اسم البخیل علیه فیما أمسک ، وبطلت الحقائق ، وقد ثبت أن اسم البخیل علیه محال ، فکونه أبقى عنده ما هو أکمل منه محال ، وما ظهر الإمام المقسط إلا بعد نزول الشرائع.
راجع فتوحات ج 1 / 323 – ج 2 / 556 , کتاب إنشاء الجداول والدوائر. أهـ
23 - محاضرة الأسماء ومحاوریها فص 15 ص 241
یقول الشیخ فی کتابه « عنقاء مغرب » فی باب محاضرة أزلیة على نشأة أبدیه : اجتمعت الأسماء بحضرة المسمى اجتماعا کریما وتریا منزهة عن العدد ، من غیر مادة الأمد ، فلما أخذ کل اسم فیها مرتبته ، ولم یتعد منزلته ، فتنازعوا الحدت دون محاورة ، وأشار کل اسم إلى الذی یجانبه دون ملاصقة ومجاورة ، وقالت .
یا لیت شعرنا ، هل یتضمن الوجود غیرنا ، فما عرف أحد منهم ما یکون ، إلا اسان أحدهما العلم المکنون ، فرجعت الأسماء إلى الاسم العلیم الفاضل :
وقالوا أنت لنا الحکم العادل، فقال نعم " باسم الله"، وأشار إلى الاسم الجامع « الرحمن » وأشار إلى الاسم التابع «الرحیم»، وأشار إلى الاسم العظیم وصلى الله» ورجع إلى الاسم الجامع من جهة الرحمة « على النبی » وأشار إلى الاسم الخبیر والعلی" ، بمحمد الکریم ، وأشار إلى الاسم الحمید « خاتم الأنبیاء وأول الأمة، وصاحب لواء الحمد والنعمة » ،
فنظر فی الأسماء من لم یکن له فیما ذکره العلیم حظ ، ولا جرى علیه من اسسه التکریم لفظ ، وقال العلیم ، من ذا الذی صلیت علیه ، وأثرت فی کلامک إلیه ، وقرنته بحضرة جمعنا (قرن الشهادة أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ) .
وقرعت به باب سمعنا ، ثم خصصت بعضنا بالإشارة والتقیید، إلى اسمه الرحیم والحمید ، فقال لهم یا عجبا ، وهذا هو الذی سألتمونی عنه أن أبینه لکم تحقیقا ، وأوضح لکم إلى معرفته طریقا ، هو موجود یضاهیکم فی حضرتکم ، وتظهر علیه آثار نفحتکم، فلا یکون فی هذه الحضرة شیء إلا ویکون فیه ، ویحصله ویستوفیه ، ویشارککم فی أسمائکم ، ویعلم بی حقائق انبائکم ، وعن هذا الوجود المذکور الصادر من حضرتکم ، وأشار إلى بعض الأسماء منها الجود والنور یکون الکون ، والکیف والأین ، وفیه تظهر بالاسم الظاهر حقائقکم ، وإلیه بالاسم المنان وأصحابه تستد رقائقکم ، فقالت تنبیها على أمر لم یکن به علیما ، وکان هذا الاسم - وأشارت إلى المفضل - علینا عظیما ، فمتى یکون هذا الأمر ، ویلوح هذا السر ؟
فقال سألتم الخبیر ، واهتدیتم بالبصیر ، ولسنا فی زمانه ، فیکون بیننا وبین هذا الکون مدة وأوان ، فغایة الزمان فی حقنا ملاحظة المشیئة حضرة التقدیم ، فتعالوا نسأل هذا الاسم الإحاطی فی جنسه ، المنزه فی نفسه ، وأشارت إلى المرید ، فقیل له متى یکون عالم التقیید فی الوجود الذی یکون لنا فیه الحکم والصولة، ونجول بظهور آثارنا علیه فی الکون على ما ذکره الاسم الحکیم جولة ؟
فقال المرید وکان به قد کان ، ویوجد فی الأعیان ، وقال الاسم العلیم ویسی بالإنسان ، ویصطفیة الاسم الرحمن ، ویفیض علیه الاسم المحسن وأصحابه سوابغ الإحسان ، فأطلق الاسم الرحمن محیاه ، وحیا الاسم المحسن وبیاه ، وقال نعم الأخ ونعم الصاحب ، وکذلک الاسم الواهب ، فقام الاسم الوهاب ، فقال وأنا المعطی بحساب وبعیر حساب .
فقال الاسم الحسیب ، أقید علیکم ما تهبونه ، وأحسب علیکم ما تعطونه ، بشهادة الاسم الشهید ، فإنه صاحب الضبط والتقیید ، غیر أن الاسم العلیم قد یعرفی المعطى له ما یحصل له فی وقت ، ویبهم علیه الاسم المرید فی وقت إبهامه یعلمه ولا یمضیه ، ویأمر بالشیء ویرید ضده فلا یقضیه ، فلا زوال لی عنکما ، ولا فراق لی منکما ، فأنا لکم لزیم ، فنعم الجار والحمیم ، فتوزعت الأسماء کلها مملکة العبد الإنسانی، على هذا الحد الربانی وتفاخرت فی الحضرة الإلهیة الذائیة بحقائقها .
وبینت حکم مسالکها وطرائقها ، وتعجلت وجود هذا الکون ، رغبة فی أن یظهر لهم عین ، فلجأوا إلى الاسم المرید ، الموقوف علیه تخصیص الوجود ، وقالوا سألناک بهذه الحضرة التی جمعتنا ، والذات التی شملتنا ، إلا ما علقت نفسک بهذا الوجود المنتظر فأردته ، وأنت یا قادر سألناک بذاک إلا ما أوجدته ، وأنت یا حکیم سألناک بذلک إلا ما أحکمته ، وأنت یا رحمن سألناک بذاک إلا ما رحمته ، ولم نزل الأساء تسأل کلها واحدة واحدة ، قائما وقاعدة ، فقال القادر یا إخواننا على المرید بالتعلق وعلی بالإیجاد ، وقال الحکیم على القادر بالوجود وعلی" بالإحکام .
فقام الرحمن وقال علی بصلة الأرحام فإنه شجنة منی فلا صبر لها عنی ، فقال له القادر کل ذلک تحت حکمی وقهری ،
فقال له القاهر لا تفعل إن ذلک لی وأنت خادمی ، وإن کنت صاحبی وحمیمی ، فقال العلیم أما الذی قال تحت حکمی فلیقدم علی .
فتوقف الأمر على جمیع الأسماء ، وأن بجملتها یصح وجود عالم الأرض والسماء ، وما بینهما إلى مقام الأستواء ، ولو فتحنا علیک باب توقفها والتجاء بعضها إلى بعض لرأیت أمرا یهولک منظره ، ویطیب لک خبره ، ولکن فیما ذکرناه ، تنبیه على ما سکتنا عنه وترکناه .
ولنرجع ونقول والله یقول الحق ویهدی السبیل ، فعندما وقع هذا الکلام الأنفس ، فی هذا الجمع الکریم الأقدس ، تعطشت الأسماء إلى ظهور آثارها فی الوجود ، ولاسیما الاسم المعبود ، ولذلک خلقهم سبحانه وتعالى لیعرفوه بما عرفهم ، ویصفوه بما وصفهم .
فقال « وما خلقت الجن والإنس إلا لیعبدون ، ما أرید منهم من رزق وما أرید أن یطعمون » فلجأت الأسماء کلها إلى اسم الله الأعظم ، والرکن القوی الأعصم .
فقال ما هذا اللجاء ولأی شیء هذا الالتجاء ، فقالت أیها الإمام الجامع ، لما نحن علیه من الحقائق والمنافع ، ألست العالم أن کل واحد منا فی نفسه على حقیقة ، وعلى سنة وطریقة ، وقد علمت یقینا أن المانع من إدراک الشیء مع وجود النظر ، کونک فیه لا اکثر ، ولو تجرد عنک بمعزل لرأیته ، وتنزهت بظهوره وعرفته .
ونحن بحقائقنا متحدون لا نسمع لها خبرا ، ولا نرى لها أثرا، ولو برز هذا الوجود الکونی ، وظهر هذا العالم الذی یقال له العلوی والسفلی ، لامتدت إلیه رقائقنا ، وظهرت فیه حقائقنا ، فکنا نراه مشاهدة عین ، لما کان منا فی أین ، وفی حال فصل وبین ، ونحن باقون على تقدیسنا من الأینیة ، وتنزیهنا عن إحاطتهم بنا من جهة الماهیة والکیفیة ، فغایتهم أن یستدلوا برقائقها على حقائقنا استدلال مثال ، وطروق خیال ، وقد لجأنا إلیک مضطرین ، ووصلنا إلیک قاصدین ، فلجأ الاسم الأعظم إلى الذات ، کما لجأت إلیه الأسماء والصفات ، وذکر الأمر ، وأخبر السر ، فأجاب نفسه المتکلم بنفسه العلیم ، لک ذلک .
قد کان بالرحمن ، فقل للاسم المرید یقول للاسم القائل یأمر بکن ، والقادر یتعلق بإیجاد الأعیان فیظهر ما تمنیتم ، ویبرز لعیانکم ما اشتهیتم ، فتعلقت الإرادة والعلم والقول والقدرة ، فظهر أصل العدد والکثرة، وذلک من حضرة الرحمة وفیض النعمة . أهـ
2 - قلب العارف أوسع من رحمة الله فص 12 ص 176
الفقرة الواردة فی هذا الفص توضح ما أشار إلیه الشیخ رضی الله تعالی عنه فی الفتوحات الجزء الرابع ص 99 حیث یقول فی هذه المسألة :
إلا أن فی الأمر نکتة أومیء إلیها ولا أنص علیها ، وذلک أن الله قد وصف نفسه بالغضب والبطش الشدید بالمغضوب علیه ، والبطش رحمة لما فیه من التنفیس وإزالة الغضب وهذا القدر من الإیماء کاف فیما ترید بیائه من ذلک . أهـ ""
""أضاف الجامع :
قال الشیخ رضی الله عنه فی الفتوحات الباب السبعون وأربعمائة فی حال قطب کان منزله وما خَلَقْتُ الْجِنَّ والْإِنْسَ إِلَّا لِیَعْبُدُونِ»
"بقوله : ووسعنی قلب عبدی"
فلما وسع قلبه الحق والأمور منه تخرج التی یقع فیها التفویض ممن وقع
فهو کالبحر وسائر القلوب کالجداول
وقال فی هذا المقام : لو أن العرش یرید به ما سوى الله وما حواه مائة ألف ألف مرة یرید الکثرة بل یرید ما لا یتناهى فی زاویة من زوایا قلب العارف ما أحس به
یعنی لاتساعه حیث وسع الحق
ومن هنا قلنا إن قلب العارف أوسع من رحمة الله لأن رحمة الله لا تنال الله ولا تسعه وقلب العبد قد وسعه
إلا إن فی الأمر نکتة أومئ إلیها ولا أنص علیها وذلک أن الله قد وصف نفسه بالغضب والبطش الشدید بالمغضوب علیه والبطش رحمة لما فیه من التنفیس وإزالة الغضب
وهذا القدر من الإیماء کاف فیما نرید بیانه من ذلک فإن الرسل تقول ولن یغضب بعده مثله فالانتقام رحمة وشفاء ولو لا کونه رحمة ما وقع فی الوجود وقد وقع
ولکن ینبغی لک أن تعلم بمن هو وقوع الانتقام رحمة فبان لک من هنا رتبة أبی یزید من غیره من العارفین لأنه وأمثاله لا یتکلمون إلا عن أحوالهم وذوقهم فیها
ومن أسمائه تعالى الواسع کما ورد فباتساعه قبل الغضب فلو ضاق عنه ما ظهر للغضب حکم فی الوجود لأنه لم یکن له حقیقة إلهیة یستند إلیها فی وجوده وقد وجد فلا بد أن ینسب الغضب إلى الله کما یلیق بجلاله
وقد وسع القلب الحق ومن صفاته الغضب فقد وسع الغضب فلا ینکر على العارف مع کونه ما یرى إلا الله أن یغضب ویرضى ویتصف بأنه یؤذی وإن لم یتأذ فما أذى من لا یتأذى غیر أنه لا یقال ذلک فی الجناب الإلهی
إلا أنه تسمى بالصبور وأعلمنا بالصبر ما هو وعلى ما ذا یکون ولا نقول هو فی حق الحق حلم فإن الحلیم کما ورد کذلک ورد الصبور
ولکل وارد معنى ما هو عین الآخر فتتغیر الأحوال على العارفین تغیر الصور على الحق ولو لا ذلک ما تغیرت الأحکام فی العالم لأنها من الله تظهر فی العالم وهو موجدها وخالقها
فلا بد من قیام الصفة به وحینئذ یصح وجودها منه
کان الموجد اسم فاعل ما کان وکان الموجد اسم مفعول ما کان
فإن لم تعلم التفویض کما ذکرته لک وإلا وقعت فی إشکال لا ننحل منه أعنی فی العلم بالتفویض ما هو فهذا نسبته إلى المخلوق
وأما التفویض الإلهی وهو أن یکون هو المفوض أمره إلى عباده فیه فإنه کلفهم وأمرهم ونهاهم فهذا تفویض أمره إلى عباده فإنه فاض عما یجب للحق لأن التکلیف لا یصح فی حق الحق فلما فاض عنه لم یکن إفاضته إلا على الخلق وأراد منهم أن یقوموا به حین رده إلیهم کما یقوم الحق به إذا فوض العبد أمره إلى الله
فمنهم من تخلق بأخلاق الله فقبل أمره ونهیه وهو المعصوم والمحفوظ
ومنهم من رده
ومنهم من قبله فی وقت وفی حال ورده فی وقت وفی حال وکذلک فوض إلیهم أمره فی القول فیه
فاختلفت مقالاتهم فی الله
ثم أبان لهم على ألسنة رسله ما هو علیه فی نفسه لتقوم له الحجة على من خالف قوله
فقال فی الله ما یقابل ما قاله عن نفسه
فلما اختلفت المقالات تجلى لأهل کل مقالة بحسب أو بصورة مقالته
وسبب ذلک تفویضه أمره إلیهم وإعطاؤه إیاهم عقولا وأفکارا یتفکرون بها وأعطى لکل موف حقه فی الاجتهاد بنظره نصیبا من الأجر أخطأ فی اجتهاده أو أصاب
فإنه ما أخطأ إلا المقالة الواردة فی الله بلسان الشرع خاصة فحاد عنها بتأویل فیها أداه إلیه نظره وورد شرع أیضا یؤیده فی ذلک
فما ترک المقالة من حیث علیها وإنما استند فیما ذهب إلیه لأمر مشروع ودلیل عقل وکونه أصاب أو أخطأ ذلک أمر آخر زائد على کونه اجتهد
فإنه ما یطلب باجتهاده إلا الدلیل الذی یغلب على ظنه أنه یوصله إلى الحق والإصابة لا غیر
فتکلیفه عین تفویضه ..... فنحن وإیاه فیه سوا
فتسبیحنا عین تسبیحه ..... وتسبیحه بلسان السوی
وکل امرئ إنما حظه ..... من الذکر لله ما قد نوى
فتفویضه فی قوله :" وأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَکُمْ مُسْتَخْلَفِینَ فِیهِ "
وتفویضنا إذ أمرنا أن نتخذه وکیلا فیما استخلفنا فیه " فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ کَیْ تَقَرَّ عَیْنُها ".
ولما کان العالم تحت حکم الأسماء الإلهیة وهی أسماؤه فما تلقى تفویضه إلا هو لا نحن
فإنه بأسمائه تلقیناه فهو الباطن من حیث تفویضه وهو الظاهر من حیث قبوله
فکان الأمر بیننا کما تنزل الأمر بین السماء وهو العلى وبین الأرض وهی الذلول
فهکذا الأمر فلا تخفه ..... فإنه أوضحه کونه
وشاهد الحق به ناطق ..... فإنه فی کونه عینه
وهو ما ذکرناه من أنه ما تلقى تفویض الحق إلا اسمه فهو المکلف والمکلف لأنه قال وإِلَیْهِ یُرْجَعُ الْأَمْرُ کُلُّهُ فهو عین الموجودات إذ هو الوجود.
والله یَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ یَهْدِی السَّبِیلَ
والکلام فی هذا الباب یطول ویتداخل وینعطف بعضه على بعض فیظهر ویخفى
فإنه الله الذی لا إله إلا هو لِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى سبحانه وتعالى عما یقول الظالمون علوا کبیرا. أهـ . ""
ص 260
وجمیع الأسماء الإلهیة على درجات فی تفاضل بعضها على بعض. "9"
کذلک تفاضل
........................................................................
9 - تفاضل الأسماء والصفات الإلهیة والمراتب *
للشیخ فی هذه المسألة نظرتان :
الأولى من حیث دلالة الأسماء على الذات الإلهیة الواحدة فلا تفاضل بینها ،
والأخرى من حیث دلالة کل اسم على معنی لیس للاسم الآخر فی العموم والإحاطة وتعلقه بمتعلق أعم فالمراتب تتفاضل ،
لذلک نراه یقول :
الحقائق والنسب الإلهیة لا نهایة لها ولا یصح أن یکون فی الإلهیات تفاضل لأن الشیء لا یفضل نفسه ، فکما هو الأول هو الآخر وکما هو الظاهر هو الباطن فالمراتب ما فیها تفاضل عندنا ، لارتباطها بالأسماء الإلهیة والحقائق الربانیة ، ولا تصح مفاضلة بین الأسماء الإلهیة لوجهین ، الواحد أن الأسماء نسبتها إلى الدات نسبة واحدة فلا مفاضلة فیها ، فلو فضلت المراتب بعضها بعضا بحسب ما استندت إلیه من الحقائق الإلهیة لوقع الفضل فی أسماء الله ، فیکون بعض الأسماء الإلهیه أفضل من بعض ، وهذا لا قائل به عقلا ولا شرعا ، ولا یدل عموم الاسم على فضله ، لأن الفضلیة إنما تقع فیما من شأنه أن یقبل فلا یتعمل فی القبول ، أو فیما یجوز أن یوصف به فلا یتصف به ؛ والوجه الآخر أن الأسماء الإلهیة راجعة إلى ذاته والذات واحدة ، والمفاضلة تطلب الکثرة ، والشیء لا یفضل نفسه ، فإذا المفاضلة لا تصح ، ولا یقال إن خلة الحق أشرف من کلامه ، ولا إن کلامه أشرف من خلقه پیدیه ، بل کل ذلک راجع إلى ذات واحدة لا تقبل الکثرة ولا العدد ، فهی بالنسبة إلى کذا خالقة ، وبالنسبة إلى کذا مالکة وبالنسبة إلى کذا عالمة إلى ما نسبت من صفات الشرف والعین واحدة .
أما بالنسبة للتعلق کتسبة العلم الإلهی إلى القدرة الإلهیة ، فإن القدرة وإن تعلقت بما لا یتناهی من الممکنات فلا نشک أن العلم أکثر إحاطة منها ، لأنه یتعلق بها وبالممکنات والواجبات والمستحیلات والکائنات وغیر الکائنات ، مع ما یعطی الدلیل أن ما لا یتناهى لا یفضل ما لا یتناهى ، والقدرة ما لها تعلق إلا بالإیجاد ، فإن القدرة للإیجاد وهو العمل ، وهو العلیم سبحانه بما یوجد ، القدیر على إیجاد ما یرید إیجاده.
ص 261
تفاضل ما ظهر فی الخلق من أن یقال هذا أعلم من هذا مع أحدیة العین.
وکما أن کل اسم إلهی إذا قدمته سمیته بجمیع الأسماء ونعته بها،. "10"
کذلک فیما یظهر من الخلق فیه أهلیة کل ما فوضل به.
فکل جزء من العالم مجموع العالم، أی هو قابل للحقائق
........................................................................
لا مانع له ، وقال تعالى : « أحاط بکل شیء علما» ولا تعم الإحاطة کل شیء إلا إذا کان معنى ، ولا یعلم الشیء من جمیع وجوهه إلا الله عز وجل ، الذی أحاط بکل شیء علما سواء کان الشیء ثابتا أو موجودا أو متناهیا أو غیر متناه ، فالمعلوم لا یزال محصورا فی العلم لهذا کان المعلوم محاطا به ،
فقال تعالى « أحاط بکل شیء علما » من الواجبات والجائزات والمستحیلات ، وهو تعلق أعم فأنزل الله العالم بحسب المراتب التعمیر المراتب لیتمیز الکثیر الاختصاص بالله الذی اصطنعه الله لنفسه من عباد الله عن غیره من العبید ، فلو لم یقع التفاضل فی العالم لکان بعض المراتب معطلا غیر عامر ، وما فی الوجود شیء معطل بل هو معمور کله ، فلابد لکل مرتبة من عامر یکون حکمه بحسب مرتبته ،
ولذلک فضل العالم بعضه بعضا ، وأصله فی الأسماء الإلهیة ، أین إحاطة العالم من إحاطة المرید من إحاطة القادر ، فتمیز العالم عن المرید ، والمرید عن القادر ، بمرتبة المتعاق ، فالعالم أعم إحاطة ، فقد زاد وفضل على المرید والقادر بشیء لا یکون للمرید ولا للقادر من حیث أنه مرید وقادر ،
فإنه یعلم نفسه ولا یتصف بالقدرة على نفسه ولا بالإرادة لوجوده ، إذ من حقیقة الإرادة أن لا تعلق إلا بمعدوم والله موجود ،
ومن شأن القدرة أن لا تتعلق إلا بممکن أو واجب بالغیر ، وهو واجب الوجود لنفسه ، فمن هناک ظهر التفاضل فی العالم لتفاضل المراتب ، فلابد من تفاضل العامرین لها ، فلابد من التفاضل فی العالم ، إذ هو العامر لها الظاهر بها ، وهذا مما لایدرک کشفا بل ادراکه بصفاء الإلهام ، فیکشف المکاشف عمارة المراتب بکشفه للعامرین لها ، ولا یعلم التفاضل إلا بصفاء الإلهام الإلهی .
الفتوحات ج 1 / 141 - ج 2 / 61 ، 326 ، 501 ، 527 - ج 3 / 382 - ج 4 / 317
""و أضاف الجامع :
قال الشیخ رضی الله عنه فی الفتوحات الباب الأحد والسبعون وأربعمائة فی معرفة حال قطب کان منزله "قُلْ إِنْ کُنْتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِی یُحْبِبْکُمُ الله" :
قال صَلَّى اللهُ عَلیهِ وسَلَّم فی خطبته لما أثنى على ربه "فإنما نحن به وله". رواه ابو داود والبیهقی
فخاطب وسمع وهذا أمر لا یندفع فإنه عین الأمر غیر إن الفضل بین الناس هو بما شاهده بعضهم وحرمه بعضهم
فیعلم العالم من غیره ما لا یعلمه الغیر من نفسه مما هو علیه فی نفسه
فظهر التفاضل ومع هذا الظهور لا یخرج المخلوق عن أن یکون الحق هویته بدلیل تفاضل الأسماء الإلهیة وهی الصفات ولیست غیره
فلا یعلم الخلق إلا به ..... ولا یعلم الحق إلا بها
وأما وصفه بالغنى عن العالم أنما هو لمن توهم إن الله تعالى لیس عین العالم
وفرق بین الدلیل والمدلول ولم یتحقق بالنظر إذا کان الدلیل على الشیء نفسه فلا یضاد نفسه
فالأمر واحد وإن اختلفت العبارات علیه
فهو العالم والعلم والمعلوم فهو الدلیل والدال والمدلول
فبالعلم یعلم العلم ، فالعلم معلوم للعلم فهو المعلوم والعلم والعلم ذاتی للعالم وهو قول المتکلم ما هو غیره فقط
وأما قوله وما هو هو بعد هذا فهو لما یرى من أنه معقول زائد على ما هو
فبقی أن یکون هو وما قدر على أن یثبت هو من غیر علم یصفه به فقال ما هو غیره
فحار فنطق بما أعطاه فهمه
فقال إن صفة الحق ما هی هو ولا هی غیره
ولکن إذا قلنا نحن مثل هذا القول ما نقوله على حد ما یقوله المتکلم فإنه یعقل الزائد ولا بد ونحن لا نقول بالزائد
فما یزید المتکلم على من یقول" إِنَّ الله فَقِیرٌ" إلا بحسن العبارة
ونعوذ بالله أن نکون من الجاهلین فهذا بعض نتائج هذا الهجیر.
والله یَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ یَهْدِی السَّبِیلَ . أهـ. ""
الجزء الثالث
10 - کل اسم إلهی مسمى بجمیع الأسماء الإلهیة .
راجع فص 4، هامش 10، ص 81
"" 10 - کل اسم إلهی یتسمى بجمیع الأسماء وینعت بها فص 4، هامش 10، ص 81
سبب ذلک التوحید العین ، وعدم التشبیه بالکون ، وهذا مشهد عزیز لا یناله إلا الأعز من عباده ، المتوحدین به الذین لانظر لأنفسهم إلا بعینه , والمغیب کونهم فی کونه .
"یشیر إلى الحدیث : فإذا أحببته، کنت سمعه الذی یسمع به، وبصره الذی یبصر به، ویده التی یبطش بها، ورجله التی یمشی بها فإن سألنی عبدی، أعطیته، وإن استعاذنی، أعذته "
الموحد له لا لهم ، فلا یطلب بالعقول مالا یصح الیه الوصول فکل اسم إلهی یتضمن جمیع الأسماء کلها .
ولتعلم وفقک الله أن کل اسم ینعت بجمیع الأسماء فی أفقه ، فکل اسم فهو حی قادر سمیع بصیر متکلم فی أفقه وفی علمه ، وإلا فکیف یصح أن یکون ربا لعابده ؟
فکل اسم جامع لما جمعت الأسماء من الحقائق .
الفتوحات ج1/ 101 , ذخائر الأعلاق
راجع "لکل عبد اسم هو ربه" فص 7 هامش 2 ص 105
2 - لکل عبد اسم هو ربه فص 7 هامش 2 ص 105
لولا العصر والمعاصر ، و الجاهل والخابر ، ما عرف أحد معنى اسمه الأول والآخر ، ولا الباطن والظاهر ، وإن کانت أسماؤه الحسنى ، على هذا الطریق الأسنى ،
ولکن بینها تباین فی المنازل ، یتبین ذلک عندما تتخذ وسائل لحلول النوازل ، فلیس عبد الحلیم هو عبد الکریم ، ولیس عبد الغفور هو عبد الشکور ، فکل عبد له اسم هو ربه ، وهو جسم ذلک الاسم قلبه .
ویقول رضی الله عنه :
فقد أنشأ سبحانه الحقائق على عدد أسماء حقه ، وأظهر ملائکة التسخیر على عدد خلقه ، فجعل لکل حقیقة اسما من أسمائه تعبده وتعلمه ، وجعل لکل سر حقیقة ملکا یخدمه ویلزمه .
فمن الحقائق من حجبته رؤیة نفسه عن اسمه، فخرج عن تکلیفه وحکمه ، فکان له من الجاحدین ، ومنهم من ثبت الله أقدامه واتخذ اسمه أمامه ، وحقق بینه وبینه العلامة وجعله إمامه ، فکان له من الساجدین .
اعلم علمک الله سرائر الحکم ووهبک من جوامع الکلم ، أن الأسماء الحسنى التی تبلغ فوق أسماء الإحصاء عددا ، وتنزل دون أسماء الإحصاء سعادة ، هی المؤثرة فی هذه العالم ، وهی المفاتح الأولى التی لا یعلمها إلا هو ، وأن لکل حقیقة اسما ما یخصها من الأسماء ، وأعنی بالحقیقة حقیقة تجمع جنسا من الحقائق ، رب تلک الحقیقة ذلک الاسم .
وتلک الحقیقة عابدته و تحت تکلیفه لیس غیر ذلک - وإن جمع لک شیء ما أشیاء کثیرة فلیس الأمر على ما توهمته ، فإنک إن نظرت إلى ذلک الشیء وجدت له من الوجوه ما یقابل به تلک الأسماء التی تدل علیها وهی الحقائق التی ذکرناها .
مثال ذلک ، ما ثبت لک فی العلم الذی فی ظاهر العقول وتحت حکمها فی حق موجود ما فرد لا ینقسم ، مثل الجوهر الفرد الجزء الذی لا ینقسم ، فإن فیه حقائق متعددة تطلب أسماء إلهیة على عددها ، فحقیقة إیجاده یطلب الاسم القادر ووجه أحکامه یطلب الاسم العالم .
ووجه اختصاصه یطلب الاسم المرید ، ووجه ظهوره یطلب الاسم البصیر والرائی إلى غیر ذلک ، فهذا وإن کان فردا فله هذه الوجوه وغیرها مما لم نذکرها.
ولکل وجه وجوه متعددة تطلب من الأسماء بحسبها ، وتلک الوجوه هی الحقائق عندنا الثوانی والوقوف علیها عسیر وتحصیلها من طریق الکشف أعسر - واعلم وفقک الله أن کل اسم إلهی یتضمن جمیع الأسماء کلها وأن کل اسم ینعت بجمیع الأسماء فی أفقه .
فکل اسم حی قادر سمیع بصیر متکلم فی أفقه وفی علمه ، وإلا فکیف یصح أن یکون ربا لعابده ، هیهات هیهات.
فکل اسم جامع لما جمعت الأسماء من الحقائق ، ولکل عین من أعیان الممکنات اسم إلهی خاص ینظر إلیه ، وهو یعطیه وجهه الخاص الذی یمتاز به عن غیره ، والممکنات غیر متناهیة فالأسماء غیر متناهیة ، لأنها تحدث النسب بحدوث الممکن ، ولذلک فالحضرات الإلهیة تکاد لا تنحصر لأنها نسب ، ومعنی توجه اسم معین على إیجاد موجود معین هو کون ذلک الاسم هو الأغلب علیه وحکمه أمضى فیه ، مع أنه ما من ممکن یوجد إلا و للأسماء المتعلقة بالأکوان فیه أثر .
ولکن بعضها أقوى من بعض فی ذلک الممکن المعین وأکثر حکما ، فلهذا ننسبه إلیه ، فالحضرة الإلهیة اسم لذات وصفات وأفعال ، وإن شئت قلت صفة فعل وصفة تنزیه ، وهذه الأفعال تکون عن الصفات والأفعال أسماء لا بد ، فالحضرات الإلهیة کنی عنها بالأسماء الحسنى ، وکل حضرة لها عبد کما لها اسم إلهی ، وکل متخلق باسم من الأسماء یسمى عبد کذا ، مثل عبد الرحمن ، وعبد الملک ، وعبد القدوس الفتوحات ج 1 / 2 ،4 ، 99 ج 2 / 468 ج 4 / 196 ، 204 ، 208 ، 288 ، 318 . أهـ ""
"" و أضاف الجامع : قال الشیخ رضی الله عنه فی الفتوحات الباب الثامن والتسعون ومائتان فی معرفة منزل الذکر من العالم العلوی فی الحضرة المحمدیة : [إن الله قد أودع فی الإنسان علم کل شیء]
ومما یتضمن هذا المنزل کون الإنسان قد أودع الله فیه علم کل شیء ثم حال بینه وبین أن یدرک ما عنده مما أودع الله فیه وما هو الإنسان مخصوص بهذا وحده بل العالم کله على هذا
وهو من الأسرار الإلهیة التی ینکرها العقل ویحیلها جملة واحدة وقربها من الذوات الجاهلة فی حال علمها قرب الحق من عبدهوهو قوله تعالى :" ونَحْنُ أَقْرَبُ إِلَیْهِ مِنْکُمْ ولکِنْ لا تُبْصِرُونَ " . وقوله : "ونَحْنُ أَقْرَبُ إِلَیْهِ من حَبْلِ الْوَرِیدِ "
ومع هذا القرب لا یدرک ولا یعرف إلا تقلیدا ولو لا إخباره ما دل علیه عقل وهکذا جمیع ما لا یتناهى من المعلومات التی یعلمها هی کلها فی الإنسان
وفی العالم بهذه المثابة من القرب وهو لا یعلم ما فیه حتى یکشف له عنه مع الآنات ولا یصح فیه الکشف دفعة واحدة لأنه یقتضی الحصر
وقد قلنا إنه لا یتناهى فلیس یعلم الأشیاء بعد شیء إلى ما لا یتناهى وهذا من أعجب الأسرار الإلهیة أن یدخل فی وجود العبد ما لا یتناهى کما دخل فی علم الحق ما لا یتناهى من المعلومات وعلمه عین ذاته والفرق بین تعلق علم الحق بما لا یتناهى وبین أن یودع الحق فی قلب العبد ما لا یتناهى :
إن الحق یعلم ما فی نفسه وما فی نفس عبده تعیینا وتفصیلا والعبد لا یعلم ذلک إلا مجملا ولیس فی علم الحق بالأشیاء إجمال مع علمه بالإجمال من حیث إن الإجمال معلوم للعبد من نفسه ومن غیره فکل ما یعلمه الإنسان دائما وکل موجود فإنما هو تذکر على الحقیقة وتجدید ما نسیه ویحکم هذا المنزل على إن العبد أقامه الحق فی وقت ما فی مقام تعلق علمه بما لا یتناهى ولیس بمحال عندنا وإنما المحال دخول ما لا یتناهى فی الوجود لا تعلق العلم به ثم إن الخلق أنساهم الله ذلک کما أنساهم شهادتهم بالربوبیة فی أخذ المیثاق مع کونه قد وقع وعرفنا ذلک بالأخبار الإلهی
فعلم الإنسان دائما إنما هو تذکر فمنا من إذا ذکر تذکر أنه قد کان علم ذلک المعلوم ونسیه کذی النون المصری ومنا من لا یتذکر ذلک مع إیمانه به
أنه قد کان یشهد بذلک ویکون فی حقه ابتداء علم
ولو لا أنه عنده ما قبله من الذی أعلمه ولکن لا شعور له بذلک ولا یعلمه إلا من نور الله بصیرته وهو مخصوص بمن حاله الخشیة مع الأنفاس وهو مقام عزیز لأنه لا یکون إلا لمن یستصحبه التجلی دائما
ویتضمن هذا المنزل مسائل ذی النون المشهورة وهی إیجاد المحال العقلی بالنسب الإلهیة
ویتضمن علم المفاضلة بین المتنافرین من جمیع الوجوه
ویتضمن أن کل جوهر فی العالم یجمع کل حقیقة فی العالم
کما إن کل اسم إلهی مسمى بجمیع الأسماء الإلهیة وذلک قوله تعالى: " قُلِ ادْعُوا الله أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَیًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى "
وهذا العلم خاصة انفردت به دون الجماعة فی علمی فلا أدری هل عثر علیه غیری وکوشف به أم لا من جنس المؤمنین أهل الولایة لا جنس الأنبیاء .
وأما فی الأسماء الإلهیة فقد قال به أبو القسم بن قسی فی خلع النعلین له فرحم الله عبدا بلغه إن أحدا قال بهذه المسألة عن نفسه کما فعلت أنا أو عن غیره فیلحقها بکتابی هذا فی هذا الموضع استشهاد إلی فیما ادعیته فإنی أحب الموافقة وأن لا أنفرد بشیء دون أصحابی.
والله یَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ یَهْدِی السَّبِیلَ. أهـ
وقال الشیخ رضی الله عنه فی الفتوحات الباب الخامس فی معرفة أسرار بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِیمِ والفاتحة من وجه ما لا من جمیع الوجوه
"الأسماء الإلهیة متحدة من حیث الذات مختلفة من حیث التعلقات"
وربما یقول القائل یا أیها المحقق وکیف ترى الأسماء هذا المثال ولا یراه إلا الاسم البصیر خاصة لا غیره وکل اسم على حقیقة لیس الاسم الآخر علیها ؟
قلنا له لتعلم وفقک الله: أن کل اسم إلهی یتضمن جمیع الأسماء کلها وأن کل اسم ینعت بجمیع الأسماء فی أفقه فکل اسم فهو حی قادر سمیع بصیر متکلم فی أفقه وفی علمه وإلا فکیف یصح أن یکون ربا لعابده هیهات غیر إن ثم لطیفة لا یشعر بها وذلک أنک تعلم قطعا فی حبوب البر وأمثاله إن کل برة فیها من الحقائق ما فی أختها کما تعلم أیضا أن هذه الحبة لیست عین هذه الحبة الأخرى وإن کانتا تحویان على حقائق متماثلة فإنهما مثلان فابحث عن هذه الحقیقة التی تجعلک تفرق بین هاتین الحبتین وتقول إن هذه لیست عین هذه وهذا سار فی جمیع المتماثلات من حیث ما تماثلوا به ، کذلک الأسماء کل اسم جامع لما جمعت الأسماء من الحقائق
ثم تعلم على القطع أن هذا الاسم لیس هو هذا الآخر بتلک اللطیفة التی بها فرقت بین حبوب البر وکل متماثل فابحث عن هذا المعنى حتى تعرفه بالذکر لا بالفکر
غیر أنی أرید أن أوقفک على حقیقة ما ذکرها أحد من المتقدمین وربما ما أطلع علیها فربما خصصت بها ولا أدری هل تعطی لغیری بعدی أم لا من الحضرة التی أعطیتها فإن استقرأها أو فهمها من کتابی فأنا المعلم له
وأما المتقدمون فلم یجدوها وذلک أن کل اسم کما قررنا یجمع حقائق الأسماء ویحتوی علیها مع وجود اللطیفة التی وقع لک التمییز بها بین المثلین
وذلک أن الاسم المنعم والاسم المعذب اللذین هما الظاهر والباطن کل اسم من هذین الاسمین یتضمن ما تحویه سدنته من أولهم إلى آخرهم
غیر إن أرباب الأسماء ومن سواهم من الأسماء على ثلاث مراتب منها ما یلحق بدرجات أرباب الأسماء ومنها ما ینفرد بدرجة فمنها ما ینفرد بدرجة المنعم وبدرجة المعذب فهذه أسماء العالم محصورة والله المستعان. أهـ ""
ص 262
متفرقات العالم کله، . "11"
فلا یقدح قولنا إن زیدا دون عمرو فی العلم أن تکون هویة الحق عین زید وعمرو، وتکون فی عمرو أکمل وأعلم منه فی زید، کما تفاضلت الأسماء الإلهیة ولیست غیر الحق. "12"
فهو تعالى من حیث هو عالم أعم فی التعلق من حیث ما هو مرید وقادر، وهو هو لیس غیره.
فلا تعلمه هنا یا ولی وتجهله هنا، وتثبته هنا وتنفیه هنا إلا إن أثبته بالوجه الذی أثبت نفسه، ونفیته عن کذا بالوجه الذی نفى نفسه کالآیة الجامعة للنفی والإثبات فی حقه حین قال «لیس کمثله شیء» فنفى، «وهو السمیع البصیر» فأثبت بصفة تعم کل سامع بصیر من حیوان وما ثم إلا حیوان إلا أنه بطن فی الدنیا عن إدراک بعض الناس،. "13"
وظهر فی الآخرة لکل
........................................................................
11 - جمیع العلوم باطنة فی الإنسان بل فی العالم کله . راجع فص 2 ، هامش 13 ، ص 59.
12 - کما تفاضلت الأسماء الإلهیة ولیست غیر الحق راجع هامش 9 - راجع فص 2 ، هامش 11، ص 58
"" 9 - تفاضل الأسماء والصفات الإلهیة والمراتب فص 16 هامش 9 ص 261
للشیخ فی هذه المسألة نظرتان :
الأولى من حیث دلالة الأسماء على الذات الإلهیة الواحدة فلا تفاضل بینها ،
والأخرى من حیث دلالة کل اسم على معنی لیس للاسم الآخر فی العموم والإحاطة وتعلقه بمتعلق أعم فالمراتب تتفاضل ،
لذلک نراه یقول :
الحقائق والنسب الإلهیة لا نهایة لها ولا یصح أن یکون فی الإلهیات تفاضل لأن الشیء لا یفضل نفسه .
فکما هو الأول هو الآخر وکما هو الظاهر هو الباطن فالمراتب ما فیها تفاضل عندنا ، لارتباطها بالأسماء الإلهیة والحقائق الربانیة ، ولا تصح مفاضلة بین الأسماء الإلهیة لوجهین ، الواحد أن الأسماء نسبتها إلى الدات نسبة واحدة فلا مفاضلة فیها ، فلو فضلت المراتب بعضها بعضا بحسب ما استندت إلیه من الحقائق الإلهیة لوقع الفضل فی أسماء الله ، فیکون بعض الأسماء الإلهیه أفضل من بعض.
وهذا لا قائل به عقلا ولا شرعا ، ولا یدل عموم الاسم على فضله ، لأن الفضلیة إنما تقع فیما من شأنه أن یقبل فلا یتعمل فی القبول ، أو فیما یجوز أن یوصف به فلا یتصف به ؛ والوجه الآخر أن الأسماء الإلهیة راجعة إلى ذاته والذات واحدة ، والمفاضلة تطلب الکثرة ، والشیء لا یفضل نفسه ، فإذا المفاضلة لا تصح ، ولا یقال إن خلة الحق أشرف من کلامه ، ولا إن کلامه أشرف من خلقه پیدیه ، بل کل ذلک راجع إلى ذات واحدة لا تقبل الکثرة ولا العدد ، فهی بالنسبة إلى کذا خالقة ، وبالنسبة إلى کذا مالکة وبالنسبة إلى کذا عالمة إلى ما نسبت من صفات الشرف والعین واحدة .
أما بالنسبة للتعلق کتسبة العلم الإلهی إلى القدرة الإلهیة ، فإن القدرة وإن تعلقت بما لا یتناهی من الممکنات فلا نشک أن العلم أکثر إحاطة منها ، لأنه یتعلق بها وبالممکنات والواجبات والمستحیلات والکائنات وغیر الکائنات ، مع ما یعطی الدلیل أن ما لا یتناهى لا یفضل ما لا یتناهى ، والقدرة ما لها تعلق إلا بالإیجاد ، فإن القدرة للإیجاد وهو العمل ، وهو العلیم سبحانه بما یوجد ، القدیر على إیجاد ما یرید إیجاده.
لا مانع له ، وقال تعالى : « أحاط بکل شیء علما» ولا تعم الإحاطة کل شیء إلا إذا کان معنى ، ولا یعلم الشیء من جمیع وجوهه إلا الله عز وجل ، الذی أحاط بکل شیء علما سواء کان الشیء ثابتا أو موجودا أو متناهیا أو غیر متناه ، فالمعلوم لا یزال محصورا فی العلم لهذا کان المعلوم محاطا به ،
فقال تعالى « أحاط بکل شیء علما » من الواجبات والجائزات والمستحیلات ، وهو تعلق أعم فأنزل الله العالم بحسب المراتب التعمیر المراتب لیتمیز الکثیر الاختصاص بالله الذی اصطنعه الله لنفسه من عباد الله عن غیره من العبید ، فلو لم یقع التفاضل فی العالم لکان بعض المراتب معطلا غیر عامر ، وما فی الوجود شیء معطل بل هو معمور کله ، فلابد لکل مرتبة من عامر یکون حکمه بحسب مرتبته ،
ولذلک فضل العالم بعضه بعضا ، وأصله فی الأسماء الإلهیة ، أین إحاطة العالم من إحاطة المرید من إحاطة القادر ، فتمیز العالم عن المرید ، والمرید عن القادر ، بمرتبة المتعاق ، فالعالم أعم إحاطة ، فقد زاد وفضل على المرید والقادر بشیء لا یکون للمرید ولا للقادر من حیث أنه مرید وقادر ، فإنه یعلم نفسه ولا یتصف بالقدرة على نفسه ولا بالإرادة لوجوده ، إذ من حقیقة الإرادة أن لا تعلق إلا بمعدوم والله موجود ،
ومن شأن القدرة أن لا تتعلق إلا بممکن أو واجب بالغیر ، وهو واجب الوجود لنفسه ، فمن هناک ظهر التفاضل فی العالم لتفاضل المراتب ، فلابد من تفاضل العامرین لها ، فلابد من التفاضل فی العالم ، إذ هو العامر لها الظاهر بها ، وهذا مما لایدرک کشفا بل ادراکه بصفاء الإلهام ، فیکشف المکاشف عمارة المراتب بکشفه للعامرین لها ، ولا یعلم التفاضل إلا بصفاء الإلهام الإلهی .
الفتوحات ج 1 / 141 - ج 2 / 61 ، 326 ، 501 ، 527 - ج 3 / 382 - ج 4 / 317 أهـ. ""
""و أضاف الجامع : قال الشیخ رضی الله عنه فی الفتوحات الباب الأحد والسبعون وأربعمائة فی معرفة حال قطب کان منزله "قُلْ إِنْ کُنْتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِی یُحْبِبْکُمُ الله" :
قال صَلَّى اللهُ عَلیهِ وسَلَّم فی خطبته لما أثنى على ربه "فإنما نحن به وله". رواه ابو داود والبیهقی
فخاطب وسمع وهذا أمر لا یندفع فإنه عین الأمر غیر إن الفضل بین الناس هو بما شاهده بعضهم وحرمه بعضهم
فیعلم العالم من غیره ما لا یعلمه الغیر من نفسه مما هو علیه فی نفسه
فظهر التفاضل ومع هذا الظهور لا یخرج المخلوق عن أن یکون الحق هویته بدلیل تفاضل الأسماء الإلهیة وهی الصفات ولیست غیره
فلا یعلم الخلق إلا به ..... ولا یعلم الحق إلا بها
وأما وصفه بالغنى عن العالم أنما هو لمن توهم إن الله تعالى لیس عین العالم
وفرق بین الدلیل والمدلول ولم یتحقق بالنظر إذا کان الدلیل على الشیء نفسه فلا یضاد نفسه فالأمر واحد وإن اختلفت العبارات علیه
فهو العالم والعلم والمعلوم فهو الدلیل والدال والمدلول
فبالعلم یعلم العلم ، فالعلم معلوم للعلم فهو المعلوم والعلم والعلم ذاتی للعالم وهو قول المتکلم ما هو غیره فقط
وأما قوله وما هو هو بعد هذا فهو لما یرى من أنه معقول زائد على ما هو
فبقی أن یکون هو وما قدر على أن یثبت هو من غیر علم یصفه به فقال ما هو غیره فحار فنطق بما أعطاه فهمه
فقال إن صفة الحق ما هی هو ولا هی غیره ولکن إذا قلنا نحن مثل هذا القول ما نقوله على حد ما یقوله المتکلم فإنه یعقل الزائد ولا بد ونحن لا نقول بالزائد فما یزید المتکلم على من یقول" إِنَّ الله فَقِیرٌ" إلا بحسن العبارة ونعوذ بالله أن نکون من الجاهلین فهذا بعض نتائج هذا الهجیر.
والله یَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ یَهْدِی السَّبِیلَ . أهـ. ""
13 - حیاة الوجود الحادث
قال تعالى " وإن من شیء إلا یسبح بحمده "
الوجود کله حی ناطق بتعظیم الحق سبحانه ، ولکن الحیاة منها ما ظهر للحس ومنها ما لم یظهر ، فما لم یظهر بالعادة ظهر بخرق العادة ، فالکل حی ناطق بتسبیح الله وحمده ، حی فی نفس الأمر ذو نفس ناطقة ،
ولا یمکن أن یکون فی العالم صورة لا نفس لها ولا حیاة ولا عبادة ذاتیة وأمریة ، سواء کانت تلک الصورة مما یحدثها الإنسان من الأشکال ، أو یحدثها الحیوان ، ومن أحدثها من الخلق عن قصد وعن غیر قصد،
فما هو إلا أن تتصور الصورة کیف تصورت وعلى ید من ظهرت ، إلا ویلبسها الله تعالی روحا من أمره ، ویتعرف إلیها من حینه ،
فتعرفه منها وتشهده فیهاء هکذا الأمر دنیا و آخرة ،
فالتحقیق أن کل ما سوى الله حی فإنه ما من شیء إلا یسبح بحمده ،
ولا یکون التسبیح إلا من حی سواء کان میتا أو غیر میت فإنه حی،
لأن الحیاة للأشیاء فیض من حیاة الحق علیها ، فهی حیة فی حال ثبوتها ، ولولا حیاتها ما سمعت قوله « کن » بالکلام الذی یلیق بجلاله فکانت ، والشیء أنکر النکرات ، وإن کان الله قد أخذ بأسماعنا عن تسبیح الجماد والنبات والحیوان الذی لا یعقل
ص 263
الناس، فإنها الدار الحیوان، وکذلک الدنیا إلا أن حیاتها مستورة عن بعض العباد لیظهر الاختصاص والمفاضلة بین عباد الله بما یدرکونه من حقائق العالم.
فمن عم إدراکه کان الحق فیه أظهر فی الحکم ممن لیس له ذلک العموم.
فلا تحجب بالتفاضل وتقول لا یصح کلام من یقول إن الخلق هویة الحق بعد ما أریتک التفاضل فی الأسماء الإلهیة التی لا تشک أنت أنها هی الحق ومدلولها المسمى بها ولیس إلا الله تعالى. "14"
ثم إنه کیف یقدم سلیمان اسمه على اسم الله کما زعموا وهو من جملة من أوجدته الرحمة: فلا بد أن یتقدم الرحمن الرحیم لیصح استناد المرحوم.
هذا عکس الحقائق: تقدیم من یستحق التأخیر وتأخیر من یستحق التقدیم فی الموضع الذی یستحقه.؟! "15"
ومن حکمة بلقیس وعلو علمها کونها لم تذکر من ألقى إلیها الکتاب، وما عملت
........................................................................
کما أخذ بأبصارنا عن إدراک حیاة الجماد و النبات إلا من خرق الله له العادة ، فمن هذه الآیة تعلم أن سر الحیاة الإلهیة سری فی جمیع الموجودات فحییت بحیاة الحق ، فمنها ما ظهرت حیاتها لأبصارنا ، ومنها ما أخذ الله بأبصارنا عنها فی الدنیا ، إلا الأنبیاء وبعض الأولیاء ، فإنه کشف لهم عن حیاة کل شیء ، ولسریان هذه الحیاة فی أعیان الموجودات ، نطقت مسبحة بالثناء على موجدها ، وهذه الحیاة وباقی الصفات نسب وإضافات وشهود حقائق ،
فإن الله هو العلی الکبیر عن الحلول والحل ، وعن ذلک نزهته الأشیاء فی تسبیحها فإن التسبیح تنزیه ، وأما الدار الآخرة فهی دار ناطقة ظاهرة الحیاة ، ثابتة العین غیر زائلة ، وما سماها الله بدار الحیوان إلا لأن الأمر ینکشف فیها للعموم ، فما ترى فیها شیئا إلا حیا ناطقا ، بخلاف حالک فی الدنیا ، فالکل حیوان .
الفتوحات ج 1 / 138 ، 147 - ج 3 / 244 ، 437 ، 557 - ج 4 / 299 . کتاب المسائل - کتاب الشأن.
14 - راجع هامش 9
15 - مخالفه لما نص علیه الشیخ فی کتاب الإسراء * راجع هامش 2 من الفص
، وقوله : « فلابد أن یتقدم الرحمن الرحیم لیصح استناد المرحوم » جملة معترضة .
التعقیب : " هذا عکس الحقائق " على هیئة تعجب وسؤال للفت الإنتباه لمن لا یعلم "عن أدب الوقت وشرع الوقت " لقوله : «قدم اسمک فهو الشرع المتبع وإن لم تفعل فلست بمتبع » أی بالنسبة إلى أهل ملتک وزمانک.
"" 2 - تقدیم اسم سلیمان علیه السلام فی کتابه إلى بلقیس. ف 16 هامش 2 ص 253
یقول الشیخ فی شرح کتاب الإسراء وکتاب النجاة عن حجب الاشتباه فی شرح مشکل الفوائد من کتابی الإسراء والمشاهده
فعل سلیمان ذلک لأنه أدب وقته وشرع وقته ، وهو شرحه لقوله : «قدم اسمک فهو الشرع المتبع وإن لم تفعل فلست بمتبع » أی بالنسبة إلى أهل ملتک وزمانک ،
وأما قوله : « لا تقدم اسمک على اسم مولاک فإنما کان ذلک لعلة هناک » فانظر کیف جاء فی الستکة تقدیم التهلیل فی شهادة التوحید على ذکر الرسول علیه السلام ،
وقوله « إنما کان ذلک ، إشارة إلى سلیمان علیه السلام ، اصطلاحهم فی ذلک الزمان ، فلم تقتض الحکمة أن یخرج عن عادة أهل الزمان . أهـ ""
ص 264
ذلک إلا لتعلم أصحابها أن لها اتصالا إلى أمور لا یعلمون طریقها، وهذا من التدبیر الإلهی فی الملک، لأنه إذا جهل طریق الإخبار الواصل للملک خاف أهل الدولة على أنفسهم فی تصرفاتهم، فلا یتصرفون إلا فی أمر إذا وصل إلى سلطانهم عنهم یأمنون غائلة ذلک التصرف.
فلو تعین لهم على یدی من تصل الأخبار إلى ملکهم لصانعوه وأعظموا له الرشا حتى یفعلوا ما یریدون ولا یصل ذلک إلى ملکهم.
فکان قولها «ألقی إلی» ولم تسم من ألقاه سیاسة منها أورثت الحذر منها فی أهل مملکتها وخواص مدبریها، وبهذا استحقت التقدم علیهم.
وأما فضل العالم من الصنف الإنسانی على العالم من الجن بأسرار التصریف وخواص الأشیاء، فمعلوم بالقدر الزمانی: فإن رجوع الطرف إلى الناظر به أسرع من قیام القائم من مجلسه، لأن حرکة البصر فی الإدراک إلى ما یدرکه أسرع من حرکة الجسم فیما یتحرک منه، فإن الزمان الذی یتحرک فیه البصر عین الزمان الذی یتعلق بمبصره مع بعد المسافة بین الناظر والمنظور : فإن زمان فتح البصر زمان تعلقه بفلک الکواکب الثابتة، وزمان رجوع طرفه إلیه هو عین زمان عدم إدراکه.
والقیام من مقام الإنسان لیس کذلک: أی لیس له هذه السرعة. "16"
فکان آصف ابن برخیا أتم فی العمل من الجن، فکان عین قول آصف بن برخیا عین الفعل فی الزمن الواحد.
فرأى فی ذلک الزمان بعینه سلیمان علیه السلام عرش بلقیس مستقرا عنده لئلا یتخیل أنه أدرکه وهو فی مکانه من غیر انتقال،. "17"
ولم یکن عندنا باتحاد
........................................................................
19 - سرعة البصر
إن البصر لا شیء أسرع منه ، فإن زمان لمحة العین أی زمان التحاظه عین زمان تعلقه بالملموح ، ولو کان البعد ما کان، فهو زمان التحاقه بغایة ما یمکن أن ینتهی إلیه فی التعلق ، وأبعد الأشیاء فی الحس الکواکب الثابتة التی فی فلک المنازل ، وعندما تنظر إلیها یتعلق اللمح بها ، فهذه سرعة الحس ، فإن اللمحة الواحدة م ن البصر تعم من أحکام المرئیات من حیث الرائی إلى الفلک الأطلس جمیع ما یحوی
علیه فی تلک اللمحة من الذوات والأعراض القائمة بها من الأکوان والألوان.
الفتوحات ج 1 / 702 - ج 2 / 82 ، 402
17 - آصف بن برخیا
آصف بن برخیا کان یعلم الاسم الأعظم الذی یفعل بالخاصیة ، ولولا الکتاب ما علم ذلک ، فقال لسلیمان علیه السلام : « أنا آتیک به قبل أن یرتد إلیک طرفک » فظهر بهذا الأمر تعظیما لقدر سلیمان علیه السلام عند أهل بلقیس وسائر أصحابه ،
ص 265
الزمان انتقال، وإنما کان إعدام وإیجاد من حیث لا یشعر أحد بذلک إلا من عرفه وهو قوله تعالى «بل هم فی لبس من خلق جدید.
ولا یمضی علیهم وقت لا یرون فیه ما هم راءون له.
وإذا کان هذا کما ذکرناه، فکان زمان عدمه (أعنی عدم العرش) من مکانه عین وجوده عند سلیمان،. "18"
من تجدید الخلق
........................................................................
وما طوی عن سلیمان علیه السلام العلم بهذا الاسم ، وإنما طوی عنه الإذن فی التصرف به ، تنزیها لمقامه فإنه رسول مصرف العین إلى من أرسل إلیه ، فکان ذلک من آصف بن برخیا إعلام الغیر بأن التلمیذ التابع إذا کان أمره بهذه المثابه فما ظنک بالشیخ ! فیبقى قدر الشیخ مجهولا فی غایة التعظیم ، فلو ظهر على سلیمان هذا الفعل التوهم أن هذا غایته ، وظهور هذا الفعل على ید صاحبه أتم فی حقه ، إذ کان هذا التابع مصدقا به وقائما فی خدمته بین یدیه تحت أمره ونهیه ، فیزید المطلوب رغبه فی هذا الرسول إذا رأی برکته قد عادت على تابعیه ، فیرجو هذا الداخل أن یکون له بالدخول فی أمره ما کان لهذا التابع .
الفتوحات ج 2 / 120 - ج 4 / 73
18 ۔ عرش بلقیس *
قالت بلقیس " کأنه هو "، وما کان إلا هو ، ولکن حجبها بعد المسافة وحکم العادة ، وجهلها بقدر سلیمان علیه السلام عند ربه ، فهذا حجبها أن تقول : هو هو .
فقالت « کأنه هو » وهو هو ، فجهلها ادخل کاف التنبیه ، فما شبهته إلا بنفسه وعینه لا بغیره ، وإنما شوش علیها بعد المسافة المعتاد ، ولو شاهدت الاقتدار الإلهی لعلمت إنه هو کما کان هو من غیر زیادة ،
فقولها « کأنه هو » حصل لها من وقوفها مع الحرکة المعهودة فی قطع المسافة البعیدة ، وعلمت بعد ذلک أنه هو لا غیره .
واعلم أن الله لا یرد ما أوجده إلى عدم ، بل هو یوجد على الدوام ولا یعدم .
فالقدرة فعالة دائما ، فإنه ما شاء إلا الإیجاد ،
ولهذا قال : « إن یشأ یذهبکم » والذهاب انتقالکم من الحال التی أتم فیها إلى حال تکونون فیها ، فیکسو الخلق الجدید عین هذه الأحوال التی کانت لکم ٹو شاء ، لکنه ما شاء ، فلیس الأمر إلا کما هو فإنه لا یشاء إلا ما هی علیه ، لأن الإرادة لا تخالف العلم ، والعلم لا یخالف
ص 266
الجزء الرابع
مع الأنفاس. "19"
ولا علم لأحد بهذا القدر، بل الإنسان لا یشعر به من نفسه أنه فی کل نفس لا یکون ثم یکون.
ولا تقل «ثم» تقتضی المهلة، فلیس ذلک بصحیح، وإنما «ثم» تقتضی تقدم الرتبة العلیة عند العرب فی مواضع مخصوصة کقول الشاعر :
" کهز الردینی ثم اضطرب "
........................................................................
المعلوم ، والمعلوم ما ظهر ووقع ، فلا تبدیل لکلمات الله ، فإنها على ما هی علیه ، فقوله تعالى : « إن یشأ یذهبکم وبأت بخلق جدید » معناه إن یشأ یشهدکم فی کل زمان فرد الخلق الجدید ، الذی أخذ الله بأبصارکم عنه ، فإن الأمر هکذا هو فی نفسه ، والناس منه فی لبس ، فبقاء الجوهر لیس لعینه ، وإنما بقاؤه للصور التی تحدث فیه، فلا یزال الافتقار منه إلى الله دائما، فالجوهر فقره إلى الله للبقاء ،والصور فقرها إلى الله لوجودها ، فالکل فی عین الفقر إلى الله ، فالحق له الاقتدار ، والاقتدار لا یکون عنه إلا الوجود ، فأبى الاقتدار إلا الوجود ، وعلق الإرادة بالإعدام ،
والله لا یعدم الأشیاء القائمة بأنفسها بعد وجودها ، ولا یتصف بإعدام أحوالها ولا أعراضها بعد وجودها ، وإنما الأشیاء تکون على أحوال ، فتزول تلک الأحوال عنها ، فیخلع الله علیها أحوالا غیرها ، أمثالا کانت أو أضدادا ، مع جواز إعدام الأشیاء بمسکه الإمداد بما به بقاء أعیانها ، لکن قضى القضیة أن لا یکون الأمر إلا هکذا ، ولذلک قال : « إن یشأ یذهبکم و یأت بخلق جدید » ولکن ما فعل .
ما جاء فی هذه الفقرة یخالف تماما ما ذهب إلیه الشیخ وثبت عنه فإنه لو کان إعداما وإیجادا ، لما کان هو .
فلابد من بقاء الجوهر الفرد ، وإذا بقی الجوهر الفرد فلابد من انتقاله من الیمن إلى بیت المقدس ، فهو انتقال کما أوضحه الشیخ لا إعدام وإیجاد .
الفتوحات ج 1 / 496 ، 664 - ج 2 / 15 ، 483 ، 495 ، 539 ، 539 - ج 3 / 460 - ج 4 / 240 .
19 - بل هم فی لبس من خلق جدید - الآیة
هذا فی مفهوم العموم النشأة الآخرة ، وفی مفهوم الخصوص تجدد النشأة فی کل نفس دنیا وآخرة ، فعین کل شخص یتجدد فی کل نفس لابد من ذلک ، فالخلق الجدید حیث کان دنیا وآخرة ، فدوام الإیجاد الله تعالى، ومن المحال بقاء حال على عین
ص 267
و زمان الهز عین زمان اضطراب المهزوز بلا شک. وقد جاء بـ "ثم" ولا مهلة.
کذلک تجدید الخلق مع الأنفاس: زمان العدم زمان وجود المثل کتجدید الأعراض فی دلیل الأشاعرة.
فإن مسألة حصول عرش بلقیس من أشکال المسائل إلا عند من عرف ما ذکرناه آنفا فی قصته. فلم یکن لآصف من الفضل فی ذلک إلا حصول التجدید فی مجلس سلیمان علیه السلام.
فما قطع العرش مسافة، ولا زویت له أرض ولا خرقها لمن فهم ما ذکرناه. "20"
وکان ذلک على یدی بعض أصحاب سلیمان لیکون أعظم لسلیمان علیه السلام فی نفوس الحاضرین من بلقیس وأصحابها.
وسبب ذلک کون سلیمان هبة الله تعالى لداود من قوله تعالى «ووهبنا لداود سلیمان».
والهبة عطاء الواهب بطریق الإنعام لا بطریق الوفاق أو الاستحقاق.
فهو النعمة السابغة والحجة البالغة والضربة الدامغة.
وأما علمه فقوله تعالى «ففهمناها سلیمان» مع نقیض الحکم، وکلا آتاه الله حکما وعلما.
فکان علم داود علما مؤتى آتاه الله، وعلم سلیمان علم الله فی المسألة إذ کان الحاکم بلا واسطة. فکان سلیمان ترجمان حق فی مقعد صدق.
کما أن المجتهد المصیب لحکم الله الذی یحکم به الله فی المسألة لو تولاها بنفسه أو بما یوحی به لرسوله له أجران،
........................................................................
نفسین أو زمانین للاتساع الإلهی ، ولبقاء الافتقار على العالم إلى الله ، فالتغییر له واجب فی کل نفس ، والله خالق فیه فی کل نفس ، فنحن فی خلق جدید بین وجود وانقضاء ، فأحوال تتجدد على عین لا تتعدد بأحکام لا تنفد ، فهذا هو الخلق الجدید الذی أکثر الناس منه فی لبس وشک ، والحجاب لیس إلا التشابه والتماثل ولولا ذلک لما التبس على أحد الخلق الجدید الذی لله فی العالم فی کل نفس بکل شأن ، فالخلق الجدید فی کل نفس دنیا وآخرة ، ونفس الرحمن لا یزال متوجها ، والطبیعة لا تزال تکون صورة لهذا النفس ، حتى لا یتعطل الأمر الإلهی ، إذ لا یصح التعطیل، فصور تحدث ، وصور تظهر بحسب الاستعدادات ، لقبول النفس الرحمانی إلى ما لا یتناهی ، فالأول منها وإن کان صورة فهو المبدع ، والثانی لیس بمبدع فإنه على مثاله ولکنه مخلوق .
الفتوحات ج 1 / 461 - ج 3 / 253 ، 395 ، 506 - ج 4 / 22 ، 280 ،
439.
20 - راجع هامش 18
ص 268
والمخطئ لهذا الحکم المعین له أجر مع کونه علما وحکما. "21"
فأعطیت هذه الأمة المحمدیة رتبة سلیمان علیه السلام فی الحکم، ورتبة داود علیه السلام.
فما أفضلها من أمة.
ولما رأت بلقیس عرشها مع علمها ببعد المسافة واستحالة انتقاله فی تلک المدة عندها، «قالت کأنه هو»، وصدقت بما ذکرناه من تجدید الخلق بالأمثال، وهو هو، وصدق الأمر،. "22"
کما أنک فی زمان التجدید عین ما أنت فی الزمن الماضی.
ثم إنه من کمال علم سلیمان التنبیه الذی ذکره فی الصرح.
فقیل لها «ادخلی الصرح» وکان صرحا أملس لا أمت فیه من زجاج.
فلما رأته حسبته لجة أی ماء، «وکشفت عن ساقیها».
حتى لا یصیب الماء ثوبها.
فنبهها بذلک على أن عرشها الذی رأته من هذا القبیل، وهذا غایة الانصاف.
فإنه أعلمها بذلک إصابتها فی قولها «کأنه هو».
فقالت عند ذلک «رب إنی ظلمت نفسی وأسلمت مع سلیمان»:
أی إسلام سلیمان: «لله رب العالمین».
فما انقادت لسلیمان وإنما انقادت لله رب العالمین، وسلیمان من العالمین.
فما تقیدت فی انقیادها کما لا تتقید الرسل فی اعتقادها فی الله، بخلاف فرعون فإنه قال «رب موسى وهارون»، "23"
وإن کان یلحق بهذا الانقیاد البلقیسی من وجه، ولکن لا یقوى قوته فکانت أفقه من فرعون فی الانقیاد لله وکان فرعون تحت حکم الوقت حیث قال «آمنت بالذی آمنت به بنو إسرائیل».
فخصص، وإنما خصص لما رأى السحرة قالوا فی إیمانهم بالله «رب موسى وهارون».
فکان إسلام بلقیس إسلام سلیمان إذ قالت «مع سلیمان» فتبعته.
فما یمر بشیء من العقائد إلا مرت به معتقدة ذلک.
کما نحن على الصراط المستقیم الذی الرب علیه
........................................................................
21 - نفس المعنى فی کتاب تلقیح الأذهان.
"" أضاف الجامع : قال الشیخ رضی الله عنه فی الفتوحات الباب الثمانون ومائتان فی معرفة منزل مالی وأسراره من المقام الموسوی :-
ولا شک أن المجتهد الذی أخطأ فی اجتهاده فی الأصول یقطع أنه على برهان فیما أداه إلیه نظره وإن کان لیس ببرهان فی نفس الأمر، فقد یعذره الله تعالى لقطعه بذلک عن اجتهاده
کما قطع الصاحب أنه رأى دحیة وکان المرئی جبریل فهذا قاطع على غیر علم فاجتهد فأخطأ فإنه غیر ذاکر لما نقصه من التقسیم فإنه لو قال إن لم یکن روحا تجسد وإلا فهو دحیة بلا شک فتدبر ما قررناه فی مثل هذا
فإن النبی صلى الله علیه وسلم یقول فی المجتهد" إذا اجتهد فأصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر" ولم یفصل بین الاجتهاد فی الأصول والفروع وقال تعالى : "وما کُنَّا مُعَذِّبِینَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا"،
ویلحق بهذا الباب طوائف ممن أوجب أکثر العلماء علیهم العذاب وحکموا علیهم بالشقاء من غیر دلیل واضح یفید العلم
فأنزلوهم منازل الأشقیاء بالظن والقطع على غیر علم فی نفس الأمر
فالإله لا یکون بالحسبان فثبت بما ذکرناه أنه من ظن لم ینج من عذاب فی الإله
فإن قیل یقول الله" أنا عند ظن عبدی بی"
قلنا له هو مذهبنا فإنه قال " بـ ی" فقد أثبته "" له تعالى"" .
وما قال أنا عند ظن العبد بمن جعله إلها
فمتعلق الظن کان عنده بالله فیما یظنه من سعادة أو شقاء
فإنه عالم بالله صاحب ظن فی مؤاخذته على الذنب أو العفو عنه وبعد أن تقرر هذا
فلتعلم إن الجنة جنتان جنة حسیة وجنة معنویة فالمحسوسة تتنعم بها الأرواح الحیوانیة والنفوس الناطقة والجنة المعنویة تتنعم بها النفوس الناطقة لا غیر وهی جنة العلوم والمعارف . أهـ. ""
22 - نفس المعنى ورد فی نقش الفصوص وهو إسماعیل بن سودکین.
"" أضاف الجامع : یقول الشیخ عبد الرحمن الجامی :
ولما قالت بلقیس فی جواب السؤال عن عرشها، حیث قیل لها، "أَهکَذا عَرْشُکِ"، قالت «کَأَنَّهُ هُوَ»، أی کأنّ العرش المشاهد المشار إلیه هو العرش الذی خلّفته فی سبا،
ففیه، أی فیما قالت بلقیس، عثور و اطّلاع منّا على علمها، أی على کونها عالمة، بتجدید الخلق بالأمثال فی کل زمان.
بل فی کل آن فأتت بلقیس بکاف التشبیه فی قولها، «کَأَنَّهُ هُوَ»، و حکمت بالمغایرة و المشابهة، فإنّ التشبیه لا یکون إلّا بین متغایرین.
و صدقت فیما قالت لما ذکرنا من تجدید الخلق بالأمثال فانّ مثل الشیء لا یکون عینه من حیث التعیّن، و هو هو من حیث الحقیقة.
وأراها، أی سلیمان بلقیس، صرح القواریر فحسبته کأنه لجة، أی ماء، فـ «کَشَفَتْ عَنْ ساقَیْها» حتّى لا یصیب الماء ثوبها.
وما کان لجة فی نفس الأمر، کما أن العرش المرئی الموجد عند سلیمان لیس عین العرش الذی خلّفته فی سبا من حیث الصورة، فانّه قد انخلع عن الصورة الأولى وتلبّس بصورة أخرى.
ولکنّ الجوهر الذی تعاقبت علیه الصورتان واحد، والصورتان متماثلتان.
فنبّهها بذلک على أنّ حال عرشها کحال الصرح فی کون کل منهما مماثلا مشابها لآخر:
أمّا العرش، فلأنّه انعدم، و ما أوجده الموجد مماثل لما انعدم وأمّا الصرح، فلأنّه من غایة لطفه و صفائه صار شبیها بالماء الصافی، مماثلا له، وهو غیره.
فنبّهها بالفعل على أنّها صدقت فی قولها، «کَأَنَّهُ هُوَ»، فإنّه لیس عینه، بل مثله. و هذا غایة الانصاف من سلیمان علیه السلام، فانّه صوّبها فی قولها، «کَأَنَّهُ هُوَ».
و هذا التنبیه الفعلى کالتنبیه القولى الذی فی سؤاله، «أَهکَذا عَرْشُکِ»، حیث لم یقل، "أهذا عرشک». فافهم.
وهذا، أی تجدید الخلق مع الآنات، لیس مخصوصا بعرش بلقیس بل هو ساری فی العالم کله، علوّه و سفله، فانّ العالم بمجموعه متغیّر أبدا، و کل متغیّر یتبدّل تعیّنه مع الآنات.
فیوجد فی کل آن متعیّن غیر المتعیّن الذی هو فی الآن الآخر، مع أنّ العین الواحدة التی یطرأ علیها هذه التغیّرات بحالها، فالعین الواحدة هی حقیقة الحق المتعیّنة بالتعیّن الأوّل اللازم لعلمه بذاته.
و هی عین الجوهر المعقول الذی قبل هذه الصور المسمّاة «عالما»، و مجموع الصور أعراض طاریة متبدّلة فی کل آن. و المحجوبون لا یعرفون ذلک.
فهم فی لبس من هذا التجدّد الدائم فی الکل.
وأمّا أهل الکشف، فانّهم یرون أنّ الله تعالى یتجلّى فی کل نفس، ولا یتکرّر التجلّى:
فانّ ما یوجب البقاء غیر ما یوجب الفناء، وفی کل آن یحصل البقاء والفناء فالتجلّى غیر مکرّر.
ویرون أیضا أنّ کل تجلّ یعطى خلقا جدیدا و یذهب بخلق. أهـ عبد الرحمن الجامی ""
23 - قول فرعون « آمنت أنه لا إله إلا الذی آمنت به بنوا إسرائیل » الآیة *
قال فرعون ذلک وما سمى الله لیرفع اللبس والشک
، إذ قد علم الحاضرون أن بنی إسرائیل ما آمنت إلا بالإله الذی جاء موسى وهارون من عنده إلیهم ، فلو قال « آمنت بالله ، وهو قد قرر أنه ما علم من إله غیره ، لقالوا لنفسه شهد لا. للذی أرسل موسى إلینا ، کما شهد الله لنفسه ، فرفع اللبس بما قاله ، وجاء فرعون باسم الصلة وهو « الذی » لیرفع اللبس عند السامعین و لرفع الإشکال عند الأشکال .
الفتوحات ج 3 / 90 .
ص 269
لکون نواصینا فی یده.
ویستحیل مفارقتنا إیاه.
فنحن معه بالتضمین، وهو معنا بالتصریح، فإنه قال «وهو معکم أین ما کنتم».
ونحن معه بکونه آخذا بنواصینا.
فهو تعالى مع نفسه حیثما مشى بنا من صراطه.
فما أحد من العالم الا على صراط مستقیم، وهو صراط الرب تعالى.
وکذا علمت بلقیس من سلیمان فقالت «لله رب العالمین» وما خصصت عالما من عالم.
وأما التسخیر الذی اختص به سلیمان وفضل به غیره وجعله الله له من الملک الذی لا ینبغی لأحد من بعده فهو کونه عن أمره.
فقال «فسخرنا له الریح تجری بأمره».
فما هو من کونه تسخیرا، فإن الله یقول فی حقنا کلنا من غیر تخصیص «وسخر لکم ما فی السماوات وما فی الأرض جمیعا منه».
وقد ذکر تسخیر الریاح والنجوم وغیر ذلک ولکن لا عن أمرنا بل عن أمر الله.
فما اختص سلیمان إن عقلت إلا بالأمر. "24"
من غیر جمعیة ولا همة، بل بمجرد الأمر.
وإنما قلنا ذلک لأنا نعرف أن أجرام العالم تنفعل لهمم النفوس إذا أقیمت فی مقام الجمعیة. "25"
وقد عاینا ذلک فی هذا الطریق.
فکان من سلیمان مجرد التلفظ بالأمر لمن أراد تسخیره من غیر همة ولا جمعیة.
واعلم أیدنا الله وإیاک بروح منه، أن
........................................................................
25 - تسخیر الریح لسلیمان علیه السلام
ثم إن الله تمم النعمة لسلیمان علیه السلام بدار التکلیف فقال : « فسخرنا له الریح تجری بأمره رخاء حیث أصاب ، فجعل الله الریح مأمورة ، یعلمنا أنها تعقل ، فالریح ذو روح تعقل کسائر أجسام العالم ، وهبوبه تسبیحه .
الفتوحات ج 1 / 585 - ج 2 / 450.
25 - الهمة والجمعیة
اعلم أن الهمة یطلقها. القوم بإزاء تجرید القلب للمنی ، ویطلقونها إزاء صدق المرید، ویطلقونها بإزاء جمع الهمم بصفاء الإلهام ، فیقولون الهسة على ثلاث مراتب هیة تنبه ، وهمة إرادة ، وهمة حقیقة ، فاعلم أن همة التنبه هی تیقظ القلب لما تعطیه حقیقة الإنسان مما یتعلق التمنی س واء کان محالا او ممکنا ، فهی تجرد القلب للمنی ، فتجعله هذه الهمة أن ینظر فیما یتمناه ما حکمه ، فیکون بحسب ما یعطیه العلم بحکمه ، وأما همة الإرادة وهی أول صدق المرید فهی همة جمعیة ، لا یقوم
ص 270
مثل هذا العطاء إذا حصل للعبد أی عبد کان فإنه لا ینقصه ذلک من ملک آخرته، ولا یحسب علیه، مع کون سلیمان علیه السلام طلبه من ربه تعالى.
فیقتضی ذوق الطریق أن یکون قد عجل له ما ادخر لغیره ویحاسب به إذا أراده فی الآخرة.
فقال الله له «هذا عطاؤنا» ولم یقل لک ولا لغیرک، «فامنن» أی أعط «أو أمسک بغیر
........................................................................
لها شیء ، فإنه إذا اجتمع الإنسان فی نفسه حتى صار شیئا واحدا نفذت همته فیما یرید ، وهذا ذوق أجمع علیه أهل الله قاطبه فإن بد الله مع الجماعة فإنه بالمجموع ظهر العالم ،
وهذه الهمة توجد کثیرة فی قوم یسمون بإفریقیا الغرانیة یقتلون بها من یشاؤون ، فإن النفس إذا اجتمعت أثرت فی أجرام العالم وأحواله ولا یعتاص علیها شیء، حتى أدى من علم ذلک ممن لیس عنده کشف ولا قوة إیمان أن الآیات الظاهرة فی العالم على أیدی بعض الناس إنما ذلک راجع إلى هذه الهمة ،
ولها من القوة بحیث أن لها إذا قامت بالمرید أثرا فی الشیوخ الکمال ، فیتصرفون فیهم بها ، وقد یفتح على الشیخ فی علم لیس عنده ولا هو مراد به بهمة هذا المرید الذی یرى أن ذلک عند هذا الشیخ ، فیحصل ذلک العلم فی الوقت للشیخ بحکم العرض لیوصله إلى هذا الطالب صاحب الهمة ، إذ لا یقبله إلا منه ،
وذلک لأن هذا المرید جمع همته على هذا الشیخ فی هذه المسألة ، ولذلک من جمع همته على ربه أنه لا یغفر الذنوب إلا هو وأن رحمته وسعت کل شیء کان مرحوما بلا شک ولا ریب ،
وأما همة الحقیقة التی هی جمع الهمم بصفاء الإلهام ، فتلک همم الشیوخ الأکبر من أهل الله ، الذین جمعوا هممهم على الحق ، وصیروها واحدة لأحدیة المتعلق ، هربا من الکثرة وطلبة التوحید الکثرة أو التوحید ، فإن العارفین أنفوا من الکثرة لا من أحدیتها ، فی الصفات کانت أو فی النسب أو فی الأساء ، وهم متمیزون فی ذلک ، وهم على طبقات مختلفة ، وإن الله یعاملهم بحسب ما هم علیه ، لا یردهم عن ذلک إذ لکل مقام وجه إلى الحق .
الفتوحات ج 2 / 526 - راجع فص 13 ، هامش 3، ص 201
"" 3 – الهمة فص 13 ، هامش 3، ص 201
الهمة وهی الصدق أن یرید الشیء فیمتثل المراد بین یدیه على ما أراد من غیر زیادة ولا نقصان ، فإذا أراد الإنسان أن یختبر نفسه فلینظر هل له فعل بالهمة المجردة فیما شأنه أن لا یفعل إلا بالکلام أم لا ؟
فإن أثر وحصل المقصود فهو صامت حقیقة ، مثل أن یرید أن یقول لخادمه « اسقنی ماء » أو « آتنی بطعام » أو « سر إلى فلان فقل له کذا وکذا ، ولا یشیر إلى الخادم بشیء من هذا کله ، فیجد الخادم فی نفسه ذلک کله ، بأن یخلق الله فی سمع الخادم عن ذلک .
یقول فلان قال لی افعل کذا وکذا یسمع ذلک حسیا بأذنه ، ولکن یتخیل أنه صوت ذلک الصامت ، ولیس کذلک ، فمن لیست له هذه الحالة ، فلا یدعى أنه صامت ، وهذا مما غلط فیه جماعة من أهل الطریق .
فسن نصح نفسه فقد أقمنا له میزان هذا المقام الذی یزنه به حتى لا یلتبس علیه الأمر ، وهذا لا یکون إلا للإلهیین المحسنین لا لغیرهم من المؤمنین والمسلمین الذین لم یحصل لهم مقام الإحسان .
ولیس الفعل بالهمة فی الدنیا لکل أحد، وقد کان ذلک فی الدنیا لغیر الولی کصاحب العین أو الغرانیة بإفریقیا من تأثیر الصدق فمشهود فی أشخاص ما لهم المکانة من أسباب السعادة التی جاءت بها الشرائع ولکن لهم القدم الراسخ فی الصدق، ولکن الفعل بالهمة ما یکون بسرعة تکوین الشیء بالهمة فی الدار الآخرة .
وهذا فی الدنیا نادر شاذ کقضیب البان وغیره ، وهو فی الدار الآخرة للجمیع ، فأصحاب الآثار قد یکونون أولیاء ، وقد تکون تلک الآثار الکونیة عن موازین معلومة عندنا ، وعند من یعرف همم النفوس وقدرتها وانفعال أجرام العالم لها.
ومن خالط الغرانیة ورأى ما هم علیه من عدم التوفیق مع کونهم یقتلون بالهمة ویعزلون ویتحکمون لقوة هممهم ، وأیضا لما فی العالم من خواص الأسماء التی تکون عنها الآثار والتکوینات عند من یکون عنده علم ذلک مع کون ذلک الشخص مشرکا بالله .
فمن الناس من یکون عالما بخواص الأسماء ، فیظهر بها الآثار العجیبة والانفعالات الصحیحة ، ولا یقول إن ذلک عن أسماء عنده ، وإنما یظهر ذلک عند الحاضرین أنه من قوة الحال والمکانة عند الله والولایة الصادقة وهو کاذب ، فما هو من خصائص أولیاء الله تعالی التأثیر فی الکون .
یقول لوط علیه السلام لقومه « لو أن لی بکم قوة » أی همة فعالة ، فمن کان الحق قواه فلا همة تفعل فعل من هذه صفته ، لکن الأمر لا یکون إلا ما سبق به الکتاب ، وهو علیه السلام من أعلم الناس بالله .
ویعلم أنه ما یکون إلا ما سبق به الکتاب، ولا کتب تعالى إلا ما هو المعلوم علیه، فلا تبدیل لکلمات الله، وما یبدل القول لدیه، وما هو بظلام للعبید، فلا یقع إلا ما هو الأمر علیه، قال تعالى: "والذین جاهدوا فینا لنهدینهم سبلنا"، فإنه لما کان سبب الجهاد أفعالا تصدر من الذین أمرنا بقتالهم وجهادهم .
وتلک الأفعال أفعال الله خلقا وتقدیرا ، فما جاهدنا إلا فیه ولکن بامتثال أمره .
قال « لنهدینهم سبلنا » التی قال فیها : " ولا تتبعوا السبل فتفرق بکم عن سبیله" ، یعنی السبیل التی لکم فیها السعادة ، وسبیل السعادة هی المشروعة ، فبین لنا سبلها فندخلها ، فلا نرى مجاهدأ ولا مجاهدا فیه إلا الله .
فکان قوله تعالی « لنهدینهم سبلنا » أی تبین لهم حتى یعلموا فیمن جاهدوا ، ولذلک تسم الآیة بقوله « وإن الله لمع المحسنین » والإحسان أن تعبد الله کأنک تراه ، فإذا رأیته علمت أن الجهاد کان منه وفیه .
راجع فتوحات ج 1 / 359 - ج 2 / 148 ، 180 ، 385 ، 388 ، 667 - ج 4 / 35 أهـ.""
ص 271
الجزء الخامس
حساب». "26"
فعلمنا من ذوق الطریق أن سؤاله ذلک کان عن أمر ربه. "27"
والطلب إذا وقع عن الأمر الإلهی کان الطالب له الأجر التام على طلبه.
والباری تعالى إن شاء قضى حاجته فیما طلب منه وإن شاء أمسک، فإن العبد قد وفى ما أوجب الله علیه من امتثال أمره فیما سأل ربه فیه، فلو سأل ذلک من نفسه عن غیر أمر ربه له بذلک لحاسبه به.
وهذا سار فی جمیع ما یسأل فیه الله تعالى، کما قال لنبیه محمد صلى الله علیه وسلم «قل رب زدنی علما».
فامتثل أمر ربه فکان یطلب الزیادة من العلم حتى کان إذا
........................................................................
26 - عطاء الحق لسلیمان علیه السلام
قال تعالی لسلیمان علیه السلام إتماما لنعمته علیه « هذا عطاؤنا فامنن أو أمسک بغیر حساب » فرفع عنه الحجر فی التصریف بالاسم المانع والمعطی ، وما حجب هذا الملک سلیمان علیه السلام عن ربه عز وجل ، أما قوله تعالى « بغیر حساب » یعنی لست محاسبا علیه ،
ولله عباد سلیمانیون، وهم سبعون ألفا فی هذه الأمة ، قد نعتهم النبی صلى الله علیه وسلم فی الخبر الصحیح ، وعکاشة منهم بالنص علیه « وإن له عندنا » یعنی فی الآخرة « لزلفى وحسن مآب » أی ما ینقصه هذا الملک من ملک الآخرة شیء ، کما یفعله مع غیره حیث أنقصه من نعیم الآخرة على قدر ما تنعم به فی الدنیا .
الفتوحات ج 1 / 585 - ج 2 / 188 ، 207 .
27 ۔ مخالفة لأصول الشیخ *
هذا یخالف ما نص علیه الشیخ حیث یقول :
شرط أهل الطریق فیما یخبرون عنه من المقامات والأحوال أن یکون عن ذوق، ولا ذوق لنا ولا لغیرنا ولا لمن لیس بنبی صاحب شریعة فی نبوة التشریع ولا فی الرسالة ، فکیف تتکلم فی مقام لم نصل إلیه ، وعلى حال لم نذقه ، لا أنا ولا غیری ممن لیس بنبی ذی شریعة من الله ولا رسول ، حرام علینا الکلام فیه ، فما تکلم إلا فیما لنا فیه ذوق فما عدا هذین المقامین فلنا الکلام فیه عن ذوق لأن الله ما حجره
الفتوحات ج 2 / 24 .
* فلا یصح نسبة ما جاء هنا إلى الشیخ الأکبر من أن سلیمان علیه السلام سأل الحق عن أمر منه تعالى ،وأنه قد عرف ذلک من طریق الذوق.
التعقیب على أ. محمود محمود الغراب :
بل هذا لا یخالف ما نص علیه الشیخ ویصح نسبته للشیخ لانه موضوع آخر وباب آخر غیر الذی قال به الشیخ فالقرآن الکریم لا یخطیء.
انه من نفس ذوق رسول الله موسى وذوق ولی الله الخضر فى علوم موسى علیهما السلام.
فکان موسى علیه السلام من أولی العزم من الرسل وظن أنه أعلم أهل الأرض فأرسله الله تعالى لملاقاة ولیه الخضر علیهما السلام للتعلم منه :
"قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُکَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّکَ لَنْ تَسْتَطِیعَ مَعِیَ صَبْرًا (67) وَکَیْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِی إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِی لَکَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِی فَلَا تَسْأَلْنِی عَنْ شَیْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَکَ مِنْهُ ذِکْرًا (70) سورة الکهف" .
وکذوق ولى الله الخضر فى علوم رسول الله موسى علیهما السلام .فقال له " قَالَ إِنَّکَ لَنْ تَسْتَطِیعَ مَعِیَ صَبْرًا (67) وَکَیْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68)" سورة الکهف
وفى النهایة اعترف رسول الله موسی علیه السلام بذلک : "قَالَ إِنْ سَأَلْتُکَ عَنْ شَیْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِی قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّی عُذْرًا (76) سورة الکهف ".
وکان ذوق ولی الله الخضر مع رسول الله موسى علیهما السلام "قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَیْنِی وَبَیْنِکَ سَأُنَبِّئُکَ بِتَأْوِیلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَیْهِ صَبْرًا (78) أَمَّا السَّفِینَةُ فَکَانَتْ لِمَسَاکِینَ یَعْمَلُونَ فِی الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِیبَهَا وَکَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِکٌ یَأْخُذُ کُلَّ سَفِینَةٍ غَصْبًا (79) وَأَمَّا الْغُلَامُ فَکَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَیْنِ فَخَشِینَا أَنْ یُرْهِقَهُمَا طُغْیَانًا وَکُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ یُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَیْرًا مِنْهُ زَکَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَکَانَ لِغُلَامَیْنِ یَتِیمَیْنِ فِی الْمَدِینَةِ وَکَانَ تَحْتَهُ کَنْزٌ لَهُمَا وَکَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّکَ أَنْ یَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَیَسْتَخْرِجَا کَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّکَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِی ذَلِکَ تَأْوِیلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَیْهِ صَبْرًا (82) سورة الکهف "
ص 272
سیق له لبن یتأوله علما کما تأول رؤیاه لما رأى فی النوم أنه أوتی بقدح لبن فشربه وأعطى فضله عمر بن الخطاب.
قالوا فما أولته قال العلم.
وکذلک لما أسری به أتاه الملک بإناء فیه لبن وإناء فیه خمر فشرب اللبن فقال له الملک أصبت الفطرة أصاب الله بک أمتک.
فاللبن متى ظهر فهو صورة العلم، فهو العلم تمثل فی صورة اللبن کجبریل تمثل فی صورة بشر سوی لمریم.
ولما قال علیه السلام "الناس نیام فإذا ماتوا انتبهوا " نبه على أنه کل ما یراه الإنسان فی حیاته الدنیا إنما هو بمنزلة الرؤیا للنائم: خیال فلا بد من تأویله.
إنما الکون خیال ... وهو حق فی الحقیقة
والذی یفهم هذا ... حاز أسرار الطریقة . "28"
........................................................................
28 - الوجود المحدث خیال منصوب
الخیال المطلق هو المسمى به العماء ، وقد فتح الله تعالى فی ذلک العماء صور کل ما سواه من العالم ، وهو الخیال المحقق وهو من النفس وهو وجود ، وهو عین الحق المخلوق به ، وأجناس العالم مخلوقون من هذا العماء ، وأشخاص العالم مخلوقون منه أیضا ، فإذا فهمت هذا الأصل علمت أن الحق هو الناطق والمحرک والمسکن والموجد والمذهب ،فتعلم أن جمیع هذه الصور مما ینسب إلیها مما هو له.
خیال منصوب وأن حقیقة الوجود له تعالى ، ألا ترى واضع خیمة الستارة ما وضعه إلا لیتحقق الناظر فیه علم ما هو أمر الوجود علیه ، فیرى صورا متعددة حرکاتها وتصرفاتها وأحکامها لعین واحدة ، لیس لها من ذلک شیء ، والموجد لها ومحرکها ومسکنها بیننا وبینه تلک الستارة المضروبة ، وهو الحد الفاصل بیننا وبینه ، به یقع التمییز فیقال فیه إله ، ویقال فینا عبید وعالم أی لفظ شئت ، والحقائق لا تتبدل ، وحقیقة الخیال التبدل فی کل حال ، والظهور فی کل صورة ، فلا وجود حقیقی لا یقبل التبدیل إلا الله ، فما فی الوجود المحقق إلا الله ، وما سواه فهو الوجود الخیالی ،
وإذا ظهر الحق فی هذا الوجود الخیالی ما یظهر فیه إلا بحسب حقیقته ، لا بذاته التی لها الوجود الحقیقی ،
فکل ما سوى ذات الحق خیال حائل وظل زائل ، فلا ییقی کون فی الدنیا والآخرة وما بینهما ، ولا روح ولا نفس ، ولا شیء مما سوى الله ، أعنی
ص 273
فکان صلى الله علیه وسلم إذا قدم له لبن قال «اللهم بارک لنا فیه وزدنا منه» لأنه کان یراه صورة العلم، وقد أمر بطلب الزیادة من العلم، وإذا قدم له غیر اللبن قال اللهم بارک لنا فیه وأطعمنا خیرا منه.
فمن أعطاه الله ما أعطاه بسؤال عن أمر إلهی فإن الله لا یحاسبه به فی الدار الآخرة، ومن أعطاه الله ما أعطاه بسؤال عن غیر أمر إلهی فالأمر فیه إلى الله، إن شاء حاسبه وإن شاء لم یحاسبه.
وأرجو من الله فی العلم خاصة أنه لا یحاسبه به.
فإن أمره لنبیه علیه السلام یطلب الزیادة من العلم عین أمره لأمته: فإن الله یقول «لقد کان لکم فی رسول الله أسوة حسنة».
وأی أسوة أعظم من هذا التأسی لمن عقل عن الله تعالى.
ولو نبهنا على المقام السلیمانی على تمامه لرأیت أمرا یهولک الاطلاع علیه فإن أکثر علماء هذه الطریقة جهلوا حالة سلیمان ومکانته . "29"
ولیس الأمر کما زعموا.
........................................................................
ذات الحق ، على حالة واحدة لا تبدل من صورة إلى صورة دائما أبدا، ولیس الخیال إلا هذا ، فهذا هو عین معقولیة الخیال وهو العماء جوهر العالم کله ، فالعالم ما ظهر إلا فی خیال فهو متخیل لنفسه ، فهو هو وما هو هو.
مما یؤید ما ذکرناه أنک لا تشک أنک مدرک لما أدرکته أنه حق محسوس لما تعلق به الحس وأن الحدیث الوارد عن النبی صلى الله علیه وسلم فی قوله « الناس نیام فإذا ماتوا انتبهوا » فنبه أن ما أدرکتموه فی هذه الدار مثل إدراک النائم بل هو إدراک النائم فی النوم وهو خیال ،
فما أعجب الأخبار النبویة ، لقد أبانت عن الحقائق على ما هی علیه ، وعظمت ما استهوته العقل الفاصر ، فإنه ما صدر إلا من عظیم وهو الحق ، فإذا ارتقى الإنسان فی درج المعرفة علم أنه قائم فی حال الیقظة المعهودة ، وأن الأمر الذی هو فیه رؤیا إیمانا وکشفا ، ولهذا ذکر الله أمورا وافعة فی ظاهر الحس وقال « فاعتبروا » وقال « إن فی ذلک لعبرة » أی جوزوا واعبروا مما ظهر لکم من ذلک إلى علم ما بطن به وما جاء له ،
لذلک قال صلى الله علیه وسلم : « الناس نیام ، فإذا ماتوا انتبهوا » ولکن لا یشعرون ، ولهذا قلنا إیمانا ، فالوجود کله نوم ویقظته نوم .
الفتوحات ج 2 / 213 ، 310 ، 311 ، 313 ، 387 .
29 - أکثر علماء هذه الطریقة جهلوا حالة سلیمان ومکانته راجع هامش رقم 7، 26
"" 7 - قول سلیمان علیه السلام "وهب لی ملکا لا بنبغی لأحد من بعدی" فص 16 هامش رقم 7 ص 259
یرید لا ینبغی ظهوره فی الشاهد للناس لأحد ، وإن حصل بالقوة لبعض الناس - کمسألة رسول الله صلى الله علیه وسلم مع العفریت الذی فتک علیه فأراد أن یقبضه ویربطه بساریة من سواری المسجد حتى ینظر الناس إلیه فتذکر دعوة أخیه سلیمان فرده الله خاسئا ، فعلمنا من ذلک أنه أراد الظهور فی ذلک لأعین الناس، فأجاب الله سلیمان علیه السلام إلى ما طلب منه بأن ذکر رسول الله صلى الله علیه وسلم بدعوة أخیه سلیمان حی لا یمضی ما فام بخاطره من إظهار ذلک ، ومن هذه الآیة نعلم أن حب العارف للمال والدنیا لا یقدح فی حبه لله وللآخرة ، فإنه ما یحبه منه لأمر ما إلا ما یناسب الأمر فی الإلهیات ، أترى سلیمان علیه السلام سأل ما یحجبه عن الله ، أو سأل ما یبعده عن الله ، هیهات .
بل هی صفة کمالیة سلیمانیة لذلک قال « إنک أنت الوهاب » فما ألیق هذا الاسم بهذا السؤال .
الفتوحات ج 1 / 584 ، 585 .
26 - عطاء الحق لسلیمان علیه السلام فص 16 هامش 26 ص 272
قال تعالی لسلیمان علیه السلام إتماما لنعمته علیه « هذا عطاؤنا فامنن أو أمسک بغیر حساب » فرفع عنه الحجر فی التصریف بالاسم المانع والمعطی ، وما حجب هذا الملک سلیمان علیه السلام عن ربه عز وجل ، أما قوله تعالى « بغیر حساب » یعنی لست محاسبا علیه ،
ولله عباد سلیمانیون، وهم سبعون ألفا فی هذه الأمة ، قد نعتهم النبی صلى الله علیه وسلم فی الخبر الصحیح ، وعکاشة منهم بالنص علیه « وإن له عندنا » یعنی فی الآخرة « لزلفى وحسن مآب » أی ما ینقصه هذا الملک من ملک الآخرة شیء ، کما یفعله مع غیره حیث أنقصه من نعیم الآخرة على قدر ما تنعم به فی الدنیا .
الفتوحات ج 1 / 585 - ج 2 / 188 ، 207 . ""
ص 274