الفقرة السابعة عشر :
نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص الشیخ عبد الرحمن أحمد الجامی 898 هـ :
17 – شرح نقش فص حکمة وجودیة فی کلمة داودیة
إنّما خصّت الکلمة الداودیة بالحکمة الوجودیة لأنّ الوجود إنّما تمّ بالخلافة الإلهیة فی الصورة الانسانیة، و أوّل من ظهر فیه الخلافة فی هذا النوع کان آدم علیه السلام.
و أوّل من کمل فیه الخلافة بالتسخیر- حیث سخّر الله له الجبال و الطیر فی ترجیع التسبیح معه.
کما قال تعالى: "إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ یُسَبِّحْنَ بِالْعَشِیِّ وَ الْإِشْراقِ وَ الطَّیْرَ مَحْشُورَةً کُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ"- و جمع الله فیه بین الملک و الحکمة و النبوّة، .
فی قوله تعالى: «وَ شَدَدْنا مُلْکَهُ وَ آتَیْناهُ الْحِکْمَةَ وَ فَصْلَ الْخِطابِ»، و خاطبه بالاستخلاف ظاهرا صریحا، هو داود علیه السلام.
و لمّا کان التصرّف فی الملک بالتسخیر أمرا عظیما لم یتمّ علیه بانفراده، وهبه سلیمان و شرّکه فی ذلک، کما قال:«وَ لَقَدْ آتَیْنا داوُدَ وَ سُلَیْمانَ عِلْماً وَ قالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِی فَضَّلَنا عَلى کَثِیرٍ من عِبادِهِ الْمُؤْمِنِینَ»
و قال تعالى: "فَفَهَّمْناها سُلَیْمانَ وَ کُلًّا آتَیْنا حُکْماً وَ عِلْماً."
و کان تتمّة لکماله فی الخلافة بما خصّصه الله به من کمال التصرّف فی العموم. فبلغ الوجود بوجوده کماله فی الظهور.
وهذا هو السرّ فی اقتران الحکمة الداودیة بالحکمة السلیمانیة.
و تقدیم السلیمانیة على الداودیة للمزیة الظاهرة له بخصوصیته:
فانّ داود علیه السلام کان مظهر کلیات الأحکام الأسمائیة و الصفات الربّانیة و الآثار الروحانیة و القوى الطبیعیة و مجتمعها، فاستحقّ لظهور مقام الخلافة و أحکامها و أحکام الحکمة و فصل الخطاب .
وورثه سلیمان فی الجمع وزاد فی التفصیل الفعلى والحکم الظاهر الجلی والتسخیر العامّ الکلى العلى.
فما ظهر فی الوجود أحد من الناس أعظم ملکا ولا أعمّ حکما منه، ولا یظهر بعده، لأنّه لمّا بلغ ظهور ما قدّر الله ظهوره من أسرار الربوبیة و الأمور التی سبق ذکرها المضافة إلى الحق وإلى الکون من حضرة العلم إلى أقصى درجات الظهور المعلومة عند الله، وقع التحجیر باجابة دعوته.
فعادت هذه الأمور بعد کمال ظهورها راجعة من حضرة الظهور إلى حضرة البطون بنحو من التدریج الواقع فی أزمنة بروزها من حضرة البطون إلى حضرة الظهور فانّه ما ثمّ إلّا ظهور من بطون أو بطون من ظهور.
فما نقص من الباطن، أخذه الظاهر، و بالعکس.
قال الشیخ رضی الله عنه : (وهب داود فضلاً معرفة به لا یقتضیها عمله.
فلو اقتضاها عمله لکانت جزاء، ووهب له فضلاً سلیمان علیه السلام: " وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَیْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ " [ص: 30].
وبقی قوله: " وَلَقَدْ آتَیْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً یَا جِبَالُ أَوِّبِی مَعَهُ وَالطَّیْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِیدَ " [سبأ: 10].
هل هذا العطاء جزاء أو بمعنى الهبة؟.)
اعلم أنّ النبوّة و الرسالة تکونان بالاختصاص الإلهی و لیستا بکسب و لا مجازاة عن عمل أو ثوابا عن سابق حسنة و طاعة تکونان نتیجة عنها، و لا لشکر أو عبادة متوقّعة منهم علیهما.
و إذا کانتا کذلک، فلا تحصلان لأحد بتعمّل و کسب و عمل، کما توهّم القائلون من أهل النظر الفکرى بأنّهما تحصلان لمن کمل علمه و عمله فانّ النبوّة عندهم عبارة عن کمال العلم و العمل فمن کمل علومه و أعماله، فهو نبى فی زعمهم. و هذا باطل.
و إلّا لکان کلّ من تکامل علمه و عمله رسولا نبیا یوحى إلیه، و ینزل علیه الملک بالوحی و التشریع.
فصحّ أنّهما لیستا إلّا من اختصاص إلهى، من لوازمهما کمال العلم و العمل.
فلا یتوقّف تحقّقهما على لوازمهما: فانّ تحقّق وجود اللازم إنّما هو بتحقّق وجود الملزوم، لا بالعکس و هذا ظاهر.
و لمّا کانتا من اختصاص إلهى، لم یطلب منهم علیهما جزاء و لا شکورا.
و إن وقع الشکر منهم دائما، و أتوا بالأعمال الصالحات فی مقابلتهما، فلیس ذلک مطلوبا بالقصد الأوّل من الاختصاص، و لا هم مطالبون بذلک عوضا عنهما.
فلو اقتضاها، أی تلک المعرفة، عمله علیه السلام- کما قال النبی صلّى الله علیه و سلّم، «من عمل بما علم، ورّثه الله علم ما لم یعلم»- لکانت تلک المعرفة جزاء، لا هبة و عطاء. و قد سبق أنّ النبوّة و الرسالة اختصاص إلهى، لا مدخل فیهما للکسب و التعمّل، و کذلک أکثر ما یترتّب علیهما من المواهب و العطایا.
(و) کذلک (وهب) الله سبحانه (له) ، أی لداود، (سلیمان علیه السلام)، لیکون تتمّة فی کماله فی خلافته، فقال تعالى، "وَ وَهَبْنا لِداوُدَ سُلَیْمانَ".
و بقی قوله تعالى، «وَ لَقَدْ آتَیْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا» فی محلّ التوقّف، حیث لم یصرّح فیه بالهبة و لا بما یقابلها.
(هل هذا العطاء) المعبّر عنه بـ «إیتاء الفضل» عطاء جزاء لعمله، فیکون فضلا على مثل العمل- کقوله تعالى، «من جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها»- .
(أو) هو عطاء (بمعنى الهبة)، غیر مترتّب على عمل
قال الشیخ رضی الله عنه : ( وقال: " وَقَلِیلٌ مِّنْ عِبَادِیَ الشَّکُورُ " [سبأ: 13]، ببنیة المبالغة.
لیعم شکر التکلیف. وشکر التبرع.
فشکر التبرع : (أفلا أکون عبداً شکوراً)، قول النبی علیه السلام.
وشکر التکلیف ما وقع به الأمر مثل: (واشکروا لله)، (واشکروا نعمة الله).
وبین الشکرین ما بین الشکورین لمن غفل عن الله.
وداود "منصوصٌ" على خلافته والإمامة. وغیره لیس کذلک.)
و لا مطلوب منه جزاء؟
لکنّ الظاهر هو الثانی، لأنّه تعالى ذکر أنّه آتى داود فضلا، و لم یذکر أنّه أعطاه ما أعطاه جزاء لعمله. و لم یطلب منه جزاء على ذلک الفضل.
و لمّا طلب الشکر على ذلک بالعمل، طلبه من آله، لا منه، کما قال تعالى، «اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُکْراً»، لأنّ النعمة على الأسلاف نعمة على الأخلاف فهو فی حق داود علیه السلام عطاء هبة و إفضال، و فی حق آله لطلب المعاوضة.
(و قال تعالى) بعد ما طلب من آل داود الشکر بالعمل، ("وَ قَلِیلٌ من عِبادِیَ الشَّکُورُ". )
فأورد «الشکور» (ببنیة المبالغة)- فانّ صیغة «فعول» هاهنا للمبالغة فی فاعل- (لیعم) و یشمل (شکر التکلیف)، الذی کلّف الله سبحانه به عباده، (و شکر التبرع)، الذی لم یکلّفهم به، لکنّهم أتوا به تبرّعا فانّ المبالغة فی الشکر إنّما هو بالإتیان بقسمیه کلیهما.
(فشکر التبرع ) ما یشیر إلیه قوله، («أ فلا أکون عبدا شکورا»- قول النبی صلّى الله علیه و سلّم) حیث قام اللیل کله حتّى تورّمت قدماه، فقیل له، «اقصر، فقد غفر الله لک ما تقدّم من ذنبک[203] و ما تأخّر».
فقال صلّى الله علیه و سلّم ذلک.
(و شکر التکلیف ما وقع به الامر) التکلیفی الإلهی، مثل قوله تعالى، (وَ اشْکُرُوا لِلَّهِ)، و قوله تعالى، ("وَ اشْکُرُوا نِعْمَتَ الله")، و غیر ذلک ممّا ورد فی الکتاب و السنّة.
(و بین الشکرین) شکر التکلیف و شکر التبرّع- من التفاوت و التفاضل (ما بین الشکورین) الشکور المکلّف و الشکور المتبرّع، فکما أن الشکور المتبرّع أفضل من الشکور المکلّف، فکذلک شکر التبرّع أفضل من شکر التکلیف. و ذلک ظاهر جلى (لمن عقل) و فهم الأمور (من الله)، لا من نظره العقلی.
(و داود علیه السلام منصوص على خلافته) عن الله سبحانه فی الحکم على الخلیقة و التصرّف فیهم، کما قال عزّ من قائل، «یا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناکَ خَلِیفَةً فی الْأَرْضِ فَاحْکُمْ بَیْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ»، على صورة التفویض، مخاطبا إیّاه، آمرا له بالحکم، )و الامامة(، أی و کذلک هو علیه السلام منصوص على إمامته فانّ الامامة بالنسبة إلى الخلافة کالولایة بالنسبة إلى النبوّة، فکل خلیفة إمام من غیر عکس.
)و غیره ( ، أی غیر داود، کآدم و الخلیل علیهم السلام، )لیس کذلک (منصوصا على خلافته و إمامته معا: أمّا الخلیل علیه السلام، فلأنّه تعالى قال فی حقّه، «إِنِّی جاعِلُکَ لِلنَّاسِ إِماماً»، و لم یقل، «خلیفة».
و إن کنّا نعلم أنّ الامامة هاهنا خلافة، و لکن ما هی مثلها لو ذکرها بأخصّ أسمائها، أعنى «الخلافة».
و أمّا آدم علیه السلام، فلأنّه و إن نصّ على خلافته، فلیس ما نصّ مثل التنصیص على خلافة داود علیه السلام فانّه تعالى قال للملائکة، «إِنِّی جاعِلٌ فی الْأَرْضِ خَلِیفَةً»، و لم یقل، «إنّى جاعل آدم خلیفة».
و ما ذکر فی قصّته بعد ذلک لا یدلّ على أنّه عین ذلک الخلیفة الذی نصّ الله علیه.
و أیضا لم یصرّح سبحانه بتحکیمه فی الناس.
فیجوز أن یکون خلافة فی الأرض أن یخلف فیها من کان قبله، لا أنّه نائب عن الله فی خلقه بالحکم الإلهی فیهم- و إن کان الأمر فی نفسه کذلک- إذ لیس کلامنا إلّا فی التنصیص علیه و التصریح به.
و قال بعضهم قدّست أسرارهم، إنّ فی قوله تعالى: «إِنِّی جاعِلٌ فی الْأَرْضِ خَلِیفَةً»، احتمالا فی حق آدم علیه السلام من کونه أوّل الخلفاء و أباهم.
و لکنّ الاحتمال متناول غیره من أولاده: و قرینة الحال تدلّ على أنّ الاحتمال فی حق داود أرجح، لأنّ آدم ما أفسد و لا سفک الدماء.
و محاجّة الملائکة مع الربّ تعالى فی جواب قوله، «إِنِّی جاعِلٌ فی الْأَرْضِ خَلِیفَةً»، بقولهم، «أَتَجْعَلُ فِیها من یُفْسِدُ فِیها وَ یَسْفِکُ الدِّماءَ»، مرجّحة للاحتمال فی حق داود، لأنّه سفک دماء أعداء الله من الکفرة کثیرا وقتل جالوت وأفسد ملکه وجعل کما قال تعالى حکایة عن بلقیس،
"إِنَّ الْمُلُوکَ إِذا دَخَلُوا قَرْیَةً أَفْسَدُوها وَ جَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَ کَذلِکَ یَفْعَلُونَ".
فظهر من داود علیه السلام هذا النوع من الفساد فی الکفّار، الذین أمر الله داود و أولى العزم من خلفائه بإفساد ملکهم و حالهم، لأنّه عین إصلاح الملک و الدین.
فصحّت فی حق داود علیه السلام ما قالت الملائکة.
فلقائل أن یقول : المراد على التعیین من قوله، «إِنِّی جاعِلٌ فی الْأَرْضِ خَلِیفَةً»، هو داود علیه السلام.
و فی کتاب الفکوک قدّس سرّ من أفاده: «و من جملة ما رجّحت به خلافة داود على خلافة آدم علیهما السلام أنّ حظّ آدم من الأسماء- على ما صرّح به- کان علمه بها.
و أمّا داود، فتحقّق بها علما و عملا و حالا:
قال الشیخ رضی الله عنه : ( ومن أعطی الخلافة فقد أعطی التحکم والتصرف فی العالم "ترجیع الجبال معهُ بالتسبیح والطیر" تؤذن بالموافقة. فموافقة الإنسان له أولى.)
فأمّا علما ...، فلأنّه لا یخفى على الألبّاء أنّ أعظم الشروط فی التحقّق بمرتبة الخلافة و أوّلها و أولاها هو العلم.
و أمّا تحقّقه من حیث العمل، فاخبار النبی صلّى الله علیه و سلّم عنه أنّه کان أعبد أهل الأرض.
و أمّا تحقّقه بها أعنى بالأسماء- حالا، فکون الحق سبحانه قدّر له تزویج تسع و تسعین زوجة ضرب مثال للأسماء الحسنى ...
(و أیضا فانّه) ، یعنى آدم، حین أعطى الخلافة لم یکن ثمّة من الناس من یحکم علیه.
و أمّا الجنّ، فلم یکن إلّا إبلیس، الذی أبى أن یسجد له أوّلا، و أزلّه و زوجته و دلّاهما بغرور ثانیا .
بخلاف داود وسلیمان علیهما السلام: فانّه نفذ حکمهما فی الجنّ والانس وغیرهما من الموجودات.
فکانت الجنّ و الشیاطین محکومین لهما بین «بنّاء» و غوّاص و آخرین مقرّنین فی الأصفاد. "فشتّان بین الأمرین!".
(و من أعطى الخلافة) العامّة عن الله سبحانه، (فقد أعطى التحکم و التصرف فی العالم) کلّه.
و داود علیه السلام من هذا القبیل: أعطى التصرّف فی أنواع الموجودات، کما أشار إلیه رضى الله عنه بقوله، ترجیع الجبال و تردیدها أصواتها معه،
أی مع داود علیه السلام، (بالتسبیح)، بحیث کلّما کان یرجّع التسبیح و یردّد صوته به، کانت الجبال ترجّعه و تردّد أصواتها به.
وکذلک ترجیع الطیر معه بالتسبیح (یؤذن بالموافقة)، أی بموافقة هذین النوعین و انقیادهما له.
والوجه فی تخصیص هذین النوعین بالموافقة و المتابعة هو أنّهما أشدّ أنواع الأکوان ترفّعا على الإنسان و علوّا علیه و إباء لقبول الإذعان له، لغلبة القساوة و الخفّة فیهما.
وبیّن أنّ کلّا منهما یمنع الانقیاد وقبول التصرّف:
أمّا الأوّل، فلإفراطها فی طرف الکثافة العاصیة عن القبول.
وأمّا الثانی، فلتفریطه فی طرف الخفّة و عدم استقراره بین یدی الفاعل عند التأثّر و القبول.
وبیّن أنّ الطرفین، مع غلوّ إبائهما وعلوّ هما على الإنسان، إذا دخلا فی انقیاده وموافقته، (فموافقة الإنسان) الذی هو ممّا فی أواسطهما ممّا یقرب إلى حدّ الاعتدال (له) ، أی لداود، (أولى) وأحرى، ضرورة أنّ رقیقة نسبته إلى الإنسان أوثق وأظهر.
ولا یخفى على الواقف المستبصر أنّ تأویل الجبال والطیر هاهنا بـ "العظام" و "القوى" لا یوافق کمال خلافة داود علیه السلام وانقیاد البریة له و تسلّطه علیها.
ثمّ هذا المعنى وإن کان له وجه فی حدّه عند الکلام على الحکم الأنفسیة، لکن لا یوافق المقصود، فانّه فی صدد تسخیر الأکوان الآفاقیة له على ما هو من خصائص خلافته علیه السلام.