الفقرة الثامنة عشر :
کتاب تعلیقات د أبو العلا عفیفی على فصوص الحکم الشیخ الأکبر ابن العربی 1385 هـ :
الفص السابع عشر حکمة وجودیة فی کلمة داودیة
(1) فص الحکمة الوجودیة فی الکلمة الداودیة داود وسلیمان.
(1) تعتبر حکمة هذا الفص تتمة لحکمة الفص السابق فی کثیر من الوجوه.
فالمؤلف لا یزال یتکلم عن نوعی العلم الوهبی والکسبی اللذین ذکرهما هنالک وخصائص کل نوع منهما، وبأی النوعین اختص کل من داود وسلیمان، بل بأیهما اختص الأنبیاء أصحاب الشرائع والأنبیاء الذین لا شرائع لهم: ومن أی النوعین علم الأولیاء وعلم المجتهدین فی الشرع وما إلى ذلک من المسائل التی مسها مسا خفیفا فیما سبق وشرحها شرحا وافیا مفصلا هنا.
وهو لا یقصد بسلیمان وداود إلا مثالین من أمثلة «الإنسان الکامل» ظهر کل منهما بمظهر خاص من مظاهر الألوهیة وتحقق به على الوجه الأکمل، شأنهما فی ذلک شأن جمیع الأنبیاء والأولیاء الذین یدخلهم ابن العربی تحت اسم «الکلمات الإلهیة» أو الکاملین من أفراد بنی الإنسان.
وقد ظهر أن أخص الصفات التی ظهر بها سلیمان وتجلت فیه على الوجه الأکمل صفتان: القدرة على التسخیر والعلم بحقائق الأشیاء.
أما داود فقد امتاز بصفة الخلافة وکان له فیها شأن خاص.
وقد أشرنا فیما مضى فی مواضع کثیرة- وسنشیر فی هذا الفص فیما یلی- إلى أن الخلافة عن الله لیست قصرا على داود علیه السلام، فإن کل نبی، بل کل إنسان خلیفة لله فی أرضه، من حیث أن الله تعالى خلق الإنسان على صورته، وجعله ممثلا له فی إظهار جمیع کمالاته الوجودیة: وهی صفة لا توجد لغیر الإنسان من المخلوقات.
وقد کان هذا موضوع بحث الفص الأول أو الحکمة الآدمیة حیث المراد بآدم الجنس البشری بأسره.
أما الفرق الحقیقی بین داود وغیره من «الخلفاء» فهو النص الصریح على خلافته وعدم وجود مثل ذلک النص فی خلافة الآخرین.
قال تعالى: «یا داود إنا جعلناک خلیفة فی الأرض فاحکم بین الناس بالحق .. إلخ،
وقال فی حق آدم: «وإذ قال ربک للملائکة إنی جاعل فی الأرض خلیفة» ولم ینص على أنه آدم.
ولکن هذا المعنى العام لیس هو المعنى الذی یقصده ابن العربی بالخلافة هنا، ولهذا یحصر کلامه فی دائرة الأنبیاء والرسل فیما یتعلق بعلمهم بالشرائع وخلافتهم عن الله فی ذلک، أو خلافة بعضهم عن بعض ولذلک یفرق تفرقة هامة بین من یسمیهم الخلفاء عن الله ومن یسمیهم الخلفاء عن الرسل، ویقصر الوصف الأول على کل نبی لا یأخذ علمه بالشرع إلا عن الله مباشرة، کما یصف بالوصف الثانی کل نبی أو ولی یأخذ علمه بالشرع عن رسول صاحب شریعة.
ویسمی خلافة الصنف الأول خلافة التشریع کما یسمی خلافة الصنف الثانی الخلافة العامة.
فالنبی محمد صلى الله علیه وسلم خلیفة عن الله من حیث أخذه شریعته من الله، ولکنه فی الوقت نفسه خلیفة عن الرسل الذین سبقوه من حیث أخذه عنهم بعض قوانین شرائعهم.
وعیسى علیه السلام سیکون خلیفة محمد عند ما ینزل إلى الأرض ویحکم بین الناس بشریعة الإسلام.
وکذلک الحال فی کل من أتى بعد محمد وحکم بشرعه.
ولکل من الخلافتین نهایة تنتهی عندها.
فخلافة التشریع قد انتهت بخاتم الرسل محمد صلى الله علیه وسلم.
أما الخلافة العامة- التی یسمیها ابن العربی أحیانا بالنبوة العامة، فتنتهی بخاتم الأولیاء.
وهذا معناه أن الخلافة العامة قد أصبحت بعد موت محمد علیه السلام تراثا خاصا یرثه أولیاء المسلمین عن نبیهم الذی یتبعونه فیما وضع لهم من قوانین شرعه، والذین «یجتهدون» فی مسائل الشرع الأخرى التی لم یأت فیها النبی بتشریع صریح.
هؤلاء هم الورثة الروحیون للنبی، ولهم الآن دون غیرهم الخلافة العامة.
هذا هو السر فی أن المؤلف یتعرض فی هذا الفص لمسألة «الاجتهاد» ویعتبرها مظهرا خارجیا من مظاهر الخلافة الاسلامیة.
(2) «اعلم أنه لما کانت النبوة و الرسالة اختصاصا إلهیا .. لیست جزاء».
(2) المراد بالنبوة هنا نبوة التشریع لا النبوة العامة التی تصحب صفة الولایة عادة.
وقد نص على أن النبوة (بهذا المعنى) والرسالة اختصاصان إلهیان لیس فیهما شیء من الاکتساب، ولکن نظریته العتیقة فی الجبر لا تدع مجالا للتفرقة بین صفة أو حال مکتسبة وصفة أخرى أو حال یمنحها الله على سبیل الاختصاص.
وقد صرح بجبریته هذه فی مواطن کثیرة من هذا الکتاب لا سیما فی الفص الشیثی حیث بین أن أعیان الموجودات لا تعدو فی ظهورها ما کانت علیه فی حال ثبوتها، وأن کل موجود إنما هو مظهر من مظاهر الحق التی لا تحصى یتجلى فیه الحق بحسب استعداد عین الموجود نفسه.
وإذا کان الأمر کذلک لم یعد فرق بین أن یقال إن الله قد وهب کذا من الأشیاء الصفة الفلانیة على سبیل المنة، وأن یقال إن عین ذلک الشیء قد اقتضت ظهوره بهذه الصفة أی أنها کانت من کسبه هو.
ویزداد الأمر وضوحا عند ما نحلل تحلیلا دقیقا ما أورده ابن العربی نفسه فی الفتوحات المکیة (ج 1 ص 51).
من تعریف للکسب حیث قال «الکسب تعلق إرادة الممکن بفعل ما دون غیره، فیوجده الاقتدار الإلهی عند هذا التعلق: فسمی ذلک کسبا للممکن».
ولکن أ لیس هذا کسبا صوریا محضا لأن تعلق إرادة الممکن بأمر دون غیره- اختیاره هذا الشیء دون ذلک- راجع إلى ما تعین أزلا فی طبیعة ذلک الممکن.
وفی الحق یجب أن نقول إن کل نبی وکل رسول أو ولی إنما کان کذلک من الأزل لأن طبیعة أعیانهم الثابتة قد اقتضت أن یکون کل منهم على ما هو علیه.
ولکن ابن العربی، حرصا على المحافظة على کرامة الرسل، وإبقاء على مرکزهم الدینی الخطیر ومرکز الرسالات التی بعثوا بها إلى الناس،
قد وضع حدا فاصلا بین نوعین من النبوة:
النوع الأول وهو ما یسمیه نبوة الاختصاص غیر المکتسبة،
والنوع الثانی وهو النبوة المکتسبة.
ولا یطلب الله على منح النوع الأول جزاء ولا شکورا، کما أنه لا یمنحه لمن أراد فی مقابلة عوض.
أما النوع الثانی وهو النبوة المکتسبة فهو درجة من درجات الروحیة التی یصل إلیها الإنسان بطرق خاصة، کما یصل الصوفیة إلى حالتهم الروحیة الخاصة المعروفة بحال الوجد أو الفناء.
(3) الاجتهاد.
(3) تستعمل کلمة الاجتهاد فی الفقه الإسلامی للدلالة على المنهج الخاص الذی یتبع فی الوصول إلى قانون من قوانین الشرع لم یرد فیه نص صریح فی الکتاب أو السنة، وإن کان یجب أن یستند إلى أصل ما من الأصول الواردة فی القرآن أو الحدیث الصحیح.
وعلى هذا فالاجتهاد نوع واحد لا أنواع کثیرة، وهو حق لکل مسلم یأنس من نفسه القدرة على القیام به وتکون فیه الأهلیة لذلک، وإن کان العرف الاسلامی قد جرى باعتبار الأئمة الأربعة هم المجتهدین دون غیرهم.
والحق أنه لا معنى لهذا الحصر ولا لإقفال باب الاجتهاد فی وجه أی مسلم بعد الأئمة الأربعة ما دمنا نفهم الاجتهاد على أنه نوع من التفقه فی الدین والبحث فی أحکام الشرع بحثا یعتمد على طریقة القیاس وطرق الاستدلال الفقهیة الأخرى، وما دامت الشروط اللازمة له متوافرة فی الشخص الذی یقوم به.
ولکن ابن العربی یعطینا فی هذا الفص وفی الفص الذی سبقه صورة جدیدة عن الاجتهاد مختلفة تماما عما یفهمه فقهاء المسلمین منه.
فالمجتهد فی نظره لیس المسلم الذی تفقه فی الدین وأعمل عقله فی استنباط الأحکام غیر المنصوص علیها، بل هو خلیفة الرسول، أو هو "الإمام".
ویظهر أن استعمال کلمة «أمام» هذا الاستعمال الخاص راجع إلى تأثر نظریة ابن العربی بأفکار الشیعة فی الإمام المعصوم." .
الذی أخذ علمه بالشرع من نفس المنبع الروحی الذی أخذ منه الرسول علمه:
وهو بهذا المعنى وارث الرسول بل مشارک له فی رسالته، وله القدرة على أن یغیر ما شاء من قوانین الشرع التی وصل إلیها غیره من المجتهدین کما سیحدث عند ما ینزل عیسى علیه السلام إلى هذه الأرض ویحکم فیها بشرع النبی محمد صلى الله علیه وسلم، فإنه سیرد الإسلام إلى سیرته الأولى، وینقض بعض أحکام المجتهدین من المسلمین لا سیما ما حدث فیها خلاف حول نص خاص من نصوص الدین. بل إن لهذا الخلیفة الإمام الحق فی أن یرفض التسلیم بصحة أی حدیث نبوی اتخذه غیره أساسا لاجتهاده فی مسألة من المسائل ثم کشف لهذا الإمام عن خطأ هذا الاجتهاد.
وعلى هذا فللاجتهاد نوعان عند ابن العربی: الأول اجتهاد الأولیاء (وهم الأئمة الخلفاء الذین أشرنا إلیهم) وهو حکمهم فی مسألة من مسائل الشرع بما یطابق ما ورد فی شریعة الرسول- أو یطابق حکم الله فی هذه المسألة لو أن الله تعالى قد تولاها بنفسه.
ولهؤلاء الأولیاء نفس المرتبة الروحانیة التی للرسل، وعلمهم بالشرع المحمدی مستمد من نفس المصدر الذی استمد منه محمد علیه السلام علمه بشرعه، لأنهم یأخذون هذا العلم عن الله مباشرة، ویترجمون هذا العلم إلى الناس.
فهم ألسنة الحق بین الخلق، وهم الکاملون من الناس الذین لم یزل الله یلقی کلامه إلى قلوبهم: «فإن کلام الله ینزل على قلوب أولیاء الله تلاوة فینظر الولی ما تلی علیه مثل ما ینظر النبی فیما أنزل علیه فیعلم ما أرید به فی تلک التلاوة کما یعلم النبی ما أنزل علیه فیحکم بحسب ما یقتضیه الأمر».
وهذا معناه أن النبوة العامة لم تنقطع بموت النبی محمد علیه السلام وإن کانت الرسالة قد انقطعت.
والنوع الثانی من الاجتهاد هو اجتهاد أرباب النظر الذین یعتمدون على العقل والاستدلال دون الذوق والکشف: إن صح أی إن طابق ما ورد فی الشرع فبمحض المصادفة، وإن أخطأ فلا سبیل لمعرفة صاحبه بخطئه ولا لمعرفة غیره ممن یتخذون العقل عمادا لهم فی اجتهادهم بمثل هذا الخطأ.
وإنما یعرفه الولی الذی تنکشف له أصول الشرع وقوانینه بالإلهام والذوق.
(4) «و أما قوله علیه السلام إذا بویع لخلیفتین فاقتلوا الآخر منهما ... »
(4) اختلف الشراح فی تفسیر هذه الفقرة لصعوبتها ورداءة أسلوبها.
غیر أن معناها العام یمکن أن یلخص فیما یأتی: للخلافة نوعان:
1 - خلافة روحیة أو باطنة.
2 - و خلافة حکم أو ظاهرة.
و کلا الخلافتین فیه تمثیل لله و نیابة عنه فی الأرض، و لا یختلفان إلا فی أن الخلیفة الباطن یستمد علمه من الله مباشرة، فی حین أن الخلیفة الظاهر لیس إلا تابعا للرسول یستمد علمه منه.
و الأول هو خلیفة الله على الحقیقة.
أما الثانی فهو خلیفة الله من حیث هو خلیفة رسول الله.
ولا یستحق اسم الخلافة إلا إذا عدل فی خلافته.
لم یذکر النبی فی الحدیث المذکور شیئا عن عدد الخلفاء الباطنیین، فقد یوجد منهم فی الزمان الواحد واحد أو أکثر من واحد، ولو أن بعض الشراح مثل القاشانی والقیصری قد قرروا استحالة وجود أکثر من خلیفة باطنی واحد فی أی زمان، وذلک الخلیفة هو الذی یسمونه بالقطب.
غیر أن الحدیث صریح فی أنه إذا بویع خلیفتان فی زمان واحد وجب قتل الآخر منهما فلا بد أن یکون المراد بالخلفاء هنا الخلفاء الظاهریین.
وحکمة القتل فی نظر المؤلف ترجع إلى أن مبایعة خلیفتین کل منهما ممثل لله فی الأرض توهم بوجود إلهین لأن قبول الاثنین على أنهما ممثلان ظاهران لله یتضمن التسلیم بوجود إلهین، وهذا مخالف لعقیدة التوحید الاسلامیة، أما الخلفاء الباطنیون فلا یظهرون بین الناس بخلافتهم ولا یعرفون بها ولا بیعة لهم فلا خطر منهم على عقائد الناس.
هذا هو السر فی نظر ابن العربی فی أن الإسلام یسمح بکل نوع من أنواع الخلاف فی الرأی فی مسائل الفقه- ما دامت مستندة إلى اجتهاد صحیح- فی حین أنه یحارب ما استطاع الخلاف فی الرأی فیما یتعلق بالخلافة الظاهرة.
(5) «و لهذا جعلها أبو طالب عرش الذات ... ».
(5) الإشارة هنا إلى المشیئة الإلهیة التی بمقتضاها یقع کل ما یقع فی الکون من أحداث.
أما أبو طالب فهو محمد بن علی المکی مؤلف قوت القلوب المعروف توفی سنة 386 هـ.
یشیر ابن العربی إلى أبی طالب وقولته هذه فی غیر الفصوص من کتبه: راجع الفتوحات ج 2 ص 51، ج 3 ص 62، ج 4 ص 55.
یسمی أبو طالب المکی المشیئة عرش الذات، ویسمیها ابن العربی أحیانا بالوجود (فتوحات ج 4 ص 55 س 6 من أسفل)
وبالحق (الله) ویمیزها عن الإرادة الإلهیة التی تخرج إلى الوجود بالفعل کل ما هو موجود بالقوة، أما المشیئة فهی القوة الإلهیة التی تقضی بأن یکون کل ما فی الوجود مما هو بالفعل أو بالقوة على النحو الذی هو علیه.
فهی فی الحقیقة عین الله أو هی القوة الخالقة الساریة فی الوجود بأسره الظاهرة فی صور ما لا یحصى عدده من مظاهر الکون.
هی الحقیقة أو الشیء فی ذاته أو المطلق فی اصطلاح بعض المحدثین مثل شوبنهور.
أما تسمیها بعرش الذات فراجعة إلى أنه بواسطتها تظهر الذات الإلهیة فی صورة العالم الخارجی الذی یطلق علیه الصوفیة أحیانا اسم العرش.
أما عن الفرق بین المشیئة والإرادة فراجع مطلع الفص الثالث والعشرین.
(6) «وعلى الحقیقة فأمر المشیئة إنما یتوجه على إیجاد عین الفعل لا على من ظهر على یدیه».
(6) یرید بذلک أن المشیئة الإلهیة تقضی بوجود أفعال العباد من حیث هی أفعال لا بأن هذه الأفعال تظهر على ید فلان أو فلان من الفاعلین، وإلا استحال على أی إنسان بعینه أن یأتی فعلا غیر ما قضت به المشیئة.
فهنا نوع من الجبریة ولکنها جبریة منصبة على المشروط الذی هو الفعل لا على الشرط الذی هو الفاعل.
ولیس هناک تناقض بین أن یشاء الله حصول معصیة من المعاصی وبین تحریمه ارتکابها، فإن فعل المعصیة من حیث هو فعل تقضی به المشیئة الإلهیة، ولیس لها شأن بتحققه على ید فلان أو فلان من الناس، فإن هذا التحقق یرجع أمره إلى الناس أنفسهم، فإن فعلوا ما یوافق الأمر الإلهی (أمر الشرع) سمی فعلهم طاعة، وإن فعلوا ما یخالف ذلک الأمر سمی فعلهم معصیة.
والفعل فی کلتا الحالتین موافق تمام الموافقة للأمر التکوینی الذی به تظهر الأشیاء فی وجودها على نحو ما کانت علیه فی ثبوتها فی العلم القدیم. راجع التعلیق التاسع فی الفص الثامن.
(7) «ویتبعه لسان الحمد أو الذم على حسب ما یکون».
(7) لا یعتبر الفعل محمودا أو مذموما إلا فی نظر الشرع لأنه إما أن یوافق أو یخالف الأوامر الشرعیة التی أتى بها دین من الأدیان.
أما فی نظر الله أو فی نظر المشیئة الإلهیة التی لها أمر التکوین، فالأفعال لا محمودة و لا مذمومة، و لکنها حتمیة الوقوع لأنها صادرة عن المشیئة الإلهیة القدیمة الخاضعة بدورها لطبیعة الأشیاء ذاتها فالجبریة التی یقول بها ابن العربی لیست راجعة إلى عامل خارج عن طبیعة الأشیاء بل مصدرها فی النهایة طبائع الأشیاء ذاتها. راجع الفص الثامن.
أما مشیئة الله تعالى حدوث الأفعال التی توافق أوامر الشرع وحدوث الأخرى التی تخالفها، فلإظهار أثر صفات الجلال والجمال فی صور خارجیة.
فإن الطاعة وما یتبعها أثر ومظهر لصفات الجمال، والمعصیة وما یتبعها أثر ومظهر لصفات الجلال.
ویحاول ابن العربی أن یحمل الإنسان جزءا من تبعة أعماله فی وسط هذه الجبریة الصارخة التی یقول بها.
فإنه یرى أن الطاعة والمعصیة یصدران عن طبیعة الإنسان نفسه.
فإن الإنسان الذی یطیع الأمر الإلهی أحیانا ویعصیه أحیانا أخرى یطیع فی الوقت نفسه دائما طبیعته الخاصة التی تخضع لقانون الوجود العام.
وذا القانون هو قانون المشیئة الإلهیة. فمن حیث خضوع الإنسان فی أفعاله لطبیعة ذاته یجعله ابن العربی مسئولا عن خیرها وشرها و إن کان فی الوقت نفسه یسلب هذه الطبیعة کل قوة عند ما یخضعها لقانون المشیئة الإلهیة.
(8) «فیکون الحکم لها فی کل واصل إلیها بحسب ما تعطیه حال الواصل إلیها».
(8) من الواضح أن المراد بالرحمة هنا هو منح الوجود للموجودات لا الرحمة بمعناها الدینی المعروف.
وقد سبقت الإشارة إلى ذلک فی مواضع أخرى من هذا الکتاب، وبهذا المعنى وسعت رحمة الله کل شیء وتقدمت على کل شیء حتى على الغضب الإلهی الذی هو الحرمان من الوجود.
فإذا رحم الله شیئا بهذا المعنى أوجده فی الصورة التی تقتضیها طبیعة الشیء ذاته.
وهذا معنى قوله إن حکم الرحمة فی المرحوم یکون لها بحسب ما تعطیه حال المرحوم نفسه.
ولیست الرحمة الإلهیة قاصرة على إیجاد الأشیاء، أی أعیان الموجودات، بل تشمل الأفعال الانسانیة أیضا.
قارن الفص السادس عشر، التعلیق الثالث.
(9) «فمن کان ذا فهم یشاهد ما قلنا».
(9) سبق أن ذکرنا أن کلمة فهم ترادف فی اصطلاح ابن العربی کلمة الذوق أو الکشف الصوفی. قارن الفص 16 تعلیق 19.
وهو یرى أن الفهم وحده هو الوسیلة التی یعرف بها الإنسان کیف وسعت الرحمة الإلهیة کل شیء، وکیف کانت الغایة التی یتجه إلیها کل شیء، فإن غایة کل موجود هی أنه یوجد، والرحمة الإلهیة هی الموصلة إلى ذلک الوجود.
(10) «فجاء الشرع المحمدی بأعوذ بک منک .. فهذا روح تلیین الحدید».
(10) فی هذه الفقرة موازنة بین الحمایة من الحدید بالحدید، و الاستعاذة من الله بالله.
وفی کلتا الحالتین یشیر ابن العربی إلى مغزى فلسفی له خطره فی نظریته العامة وهو فکرة الوحدة فی الکثرة أو ذاتیة المتغایرین. فالحدید الذی تصنع منه الدروع الواقیة هو نفس الحدید الذی تصنع منه السیوف والرماح، وإن اختلفت صوره، فالذی بحمى من الحدید هو الحدید نفسه.
والله الرحمن الرحیم هو هو الله الموصوف بأنه المنتقم الجبار، وإن اختلفت علیه الأسماء والصور، فالله المستعاذ به فی الحدیث الشریف هو هو الله المستعاذ منه، وکما أن الحدید یفل الحدید ویحمى منه، کذلک تمحو صفة الرحمة صفة الغضب والانتقام ونحوهما.
هذا هو المغزى الفلسفی الذی یفهمه ابن العربی من تلیین الحدید.