الفقرة التاسعة عشر :
شرح فصوص الحکم من کلام الشیخ الأکبر ابن العربی أ. محمود محمود الغراب 1405 هـ:
17 - فص حکمة وجودیة فی کلمة داودیة
قال الشیخ رضی الله عنه : (اعلم أنه لما کانت النبوة والرسالة اختصاصا إلهیا لیس فیها شیء من الاکتساب:
أعنی نبوة التشریع، کما کانت عطایاه تعالى لهم علیهم السلام من هذا القبیل مواهب لیست جزاء: ولا یطلب علیها منهم جزاء.
فإعطاؤه إیاهم على طریق الإنعام والإفضال. فقال تعالى ووهبنا له إسحاق ویعقوب یعنی لإبراهیم الخلیل علیه السلام.
وقال فی أیوب «ووهبنا له أهله ومثلهم معهم»، وقال فی حق موسى «ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبیا» إلى مثل ذلک.
فالذی تولاهم أولا هو الذی تولاهم فی عموم أحوالهم أو أکثرها، ولیس إلا اسمه الوهاب. "2"
وقال فی حق داود «ولقد آتینا داود منا فضلا» فلم یقرن به جزاء یطلبه منه، ولا أخبر أنه أعطاه هذا الذی ذکره جزاء.
ولما طلب الشکر على ذلک العمل طلبه من آل داود ولم یتعرض لذکر داود لیشکره الآل على ما أنعم به على داود.
فهو فی حق داود عطاء نعمة وإفضال، وفی حق آله على غیر ذلک لطلب المعاوضة فقال تعالى «اعملوا آل داود شکرا وقلیل من عبادی الشکور».
وإن کانت الأنبیاء علیهم السلام قد شکروا الله على ما أنعم به علیهم ووهبهم، فلم یکن ذلک على طلب من الله، بل تبرعوا بذلک من نفوسهم کما قام رسول الله صلى الله علیه وسلم حتى تورمت قدماه شکرا لما غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
فلما قیل له فی ذلک قال «أفلا أکون عبدا شکورا»؟
وقال فی نوح «إنه کان عبدا شکورا».
فالشکور من عباد الله تعالى قلیل.
فأول نعمة أنعم الله بها على داود علیه السلام أن أعطاه اسما لیس فیه حرف من حروف الاتصال، فقطعه عن العالم بذلک إخبارا لنا عنه)
.............................................................................
1 - المناسبة بین التسمیة وداود علیه السلام :
هی أن اسم داود علیه السلام مکون من ثلاثة أحرف من غیر تکرار ، والثلاثة هی أقل الفردیة ، والوجود لا یکون إلا عن الفردیة کما سبق أن ذکرناه فسمیت حکمة وجودیة فی کلیة داودیة لمناسبة الفردیة .
2 ۔ الاسم الوهاب
الله هو الوهاب بما أنعم من العطایا لینعم لا جزاء ولا لیشکر به ویذکر .
فتوحات ج 4 / 322 .
ص 275
قال الشیخ رضی الله عنه : (بمجرد هذا الاسم، وهی الدال والألف والواو.
وسمى محمدا صلى الله علیه وسلم بحروف الاتصال والانفصال، فوصله به وفصله عن العالم فجمع له بین الحالین فی اسمه کما جمع لداود بین الحالین من طریق المعنى، ولم یجعل ذلک فی اسمه، فکان ذلک اختصاصا لمحمد على داود علیهما السلام، أعنی التنبیه علیه باسمه.
فتم له الأمر علیه السلام من جمیع جهاته، وکذلک فی اسمه أحمد، فهذا من حکمة الله تعالى. "3"
ثم قال فی حق داود- فیما أعطاه على طریق الإنعام علیه- ترجیع الجبال معه التسبیح، فتسبح لتسبیحه لیکون له عملها. وکذلک الطیر.
وأعطاه القوة ونعته بها، وأعطاه الحکمة وفصل الخطاب.
ثم المنة الکبرى والمکانة الزلفى التی خصه الله بها التنصیص على خلافته.
ولم یفعل ذلک مع أحد من أبناء جنسه وإن کان فیهم خلفاء فقال «یا داود إنا جعلناک خلیفة فی الأرض فاحکم بین الناس بالحق ولا تتبع الهوى» أی ما یخطر لک)
.............................................................................
3 - حروف اسم داود علیه السلام ومحمد صلى الله علیه وسلم
لما کان داود علیه السلام فی دلالة اسمه علیه أشبه بنی آدم با دم فی دلالة اسمه علیه ، صرح الله بخلافته فی القرآن فی الأرض کما صرح بخلافة آدم فی الأرض ، فإن حروف آدم غیر متصلة بعضها ببعض ، وحروف داود کذلک ، إلا أن آدم فرق بینه وبین داود بحرف المیم ، الذی یقبل الاتصال القبلی والبعدی ، فأتى الله به آخرا حتى لا یتصل به حرف سواه ، وجعل قلبه واحدا من الحروف الستة التی لا تقبل الاتصال البعدی ، فأخذ داود من آدم ثلثی مرتبته فی الأسماء ، وأخذ محمد صلى الله علیه وسلم ثلثیه أیضا وهو المیم والدال ، غیر أن محمدا متصل کله ، والحرف الذی لا یقبل الاتصال البعدی جعل آخرة ، حتى یتصل به ، ولا یتصل هو بشیء بعده .
فناسب محمد آدم علیهما الصلاة والسلام من وجهین :
الأول مناسبة النقیض بالاتصال بادم و آدم له الانفصال کداود ، والمیم من آدم کالدال من محمد فجاءتا آخرا لذلک ، أعنی فی آخر الاسم منهما .
والثانی مناسبة النظیر التی بین آدم ومحمد. فی کون الحق علم آدم الأسماء کلها ، وأعطى محمدا من جوامع الکلم ، وعمت رسالته کما عم التناسل من آدم فی ذریته.
فالناس بنو آدم ، والناس أمة محمد صلى الله علیه وسلم ، من تقدم منهم ومن تأخر.
فتوحات ج 4 / 100
ص 267
قال الشیخ رضی الله عنه : (فی حکمک من غیر وحی منی «فیضلک عن سبیل الله». "4"
أی عن الطریق الذی أوحی بها إلى رسلی.
ثم تأدب سبحانه معه فقال «إن الذین یضلون عن سبیل)
.............................................................................
4 - خلافة آدم وداود علیهما السلام
صرح الحق بالخلافتین على التعیین فی حق آدم وداود علیهما السلام
فقال تعالى فی خلافة آدم « إنی جاعل فی الأرض خلیفة » پرید آدم و بنیه
وقال تعالى فی داود علیه السلام « یا داود إنا جعلناک خلیفة فی الأرض » ،
ثم قال فیه ما لم یقل فی آدم « ولا تتبع الهوى » وسبب ذلک لما لم یجعل فی حروف اسمه حرف من حروف الاتصال جملة واحدة .
فما فی اسمه حرف تصل بحرف آخر من حروف اسمه .
فعلم أن أمره فیه تشتیت ، لما کان لکل إنسان من اسمه نصیب .
فکان نصیبه من اسمه ما فیه من التشتیت ، فأوصاه تعالى أن لا یتبع الهوى ، لانفراد کل حرف من اسمه بنفسه ،
ثم إن له إلى الفردیة وجوها فی حرکاته ، فهی ثلاثة وحروفه خمسة فهو فرد من جمیع الوجوه . فلولا أنه قابل لما وقعت فیه الوصیة من الله ما وصاه .
ولما علم ذلک داود بما أعلمه الله بطریق التنبیه فی نهیه إیاه أن لا یتبع الهوى ، ولم یقل هواک ، أی لا تتبع هوى أحد یشیر علیک ، واحکم بما أوحیت به إلیک من الحق ، فإن الهوى ما له حکم إلا بالاتصال ، وحروف اسم داود لا نقتضی الأتصال . فعصمه الله من وجه خاص .
واعلم أن آدم أعطى لداود من عمره ستین سنة ، حین رأى صورته بین إخوانه فأحبه، فقبل ذلک داود ، فجحد آدم بعد ذلک ما أعطاه، فانکسر قلب داود عند ذلک، فجبره الله بذکر لم یعطه آدم .
فقال فی آدم « إنی جاعل فی الأرض خلیفة » وما عینه باسمه ، ولا جمع له بین أداة المخاطب وبین ما شرفه به ، فلم یقل له وعلمتک الأسماء کلها ، وقال فی خلافة داود « یا داود إنا جعلناک خلیفة فی الأرض » فسماه ،
فلما علم الله أن مثل هذا المقام والاعتناء یورثه النفاسة على أبیه آدم ، فإنه على کل حال بشر یکون منه ما یکون من البشر ،
فلما أراد الله تأدیب داود لما یعطیه الذکر الذی سماه الله به من النفاسة على أبیه ، ولاسیما وقد تقدم من أبیه فی حقه ما تقدم من الجحد
ص 277
قال الشیخ رضی الله عنه : (الله لهم عذاب شدید بما نسوا یوم الحساب» ولم یقل له فإن ضللت عن سبیلی فلک عذاب شدید. "5"
فإن قلت وآدم علیه السلام قد نص على خلافته.
قلنا ما نص مثل التنصیص على داود، وإنما قال للملائکة «إنی جاعل فی الأرض خلیفة»، ولم )
.............................................................................
لما امتن به علیه ، لکون الإنسان إذا مسه الخیر منوعا، غیر أن آدم ما جحد ما جحده إلا لعلمه بمرتبته ، حیث جعله الله محلا لعلم الأسماء الإلهیة التی ما أثنت الملائکة على الله بها ، ولم تعط بعده إلا لمحمد صلى الله علیه وسلم ، وهو العلم الذی کنى عنه بأنه جوامع الکلم ،
فعلم آدم أن داود فی تلک المدة التی أعطاه من عمره ، لا یمکن أن یعبد الله فیها إلا على قدر کماله ، وهو أنقص من آدم بلا شک لمجود الملائکة وما علیهم من الأسماء الإلهیة ،
فطلب آدم أن یکون له العمر الذی جاد به على ابنه داود علیه السلام ، لیقوم فیه بالعبادة لله ، على قدر علو مرتبته على ابنه داود وغیره ، مما لا یقوم بذلک داود ، فإذا قام بتلک العبادة فی ذلک الزمان المعین ، وهب لابنه داود أجر ما تعطیه تلک العبادة من مثل آدم ،
ولو ترک تلک المدة لداود لم تحصل له رتبة هذا الجزاء ، وحصل لآدم علیه السلام من الله على ذلک رتبة جزاء من آثر على نفسه ، فإنه یجزی بجزاء مثل هذا لم یکن یحصل له لو لم یکن ترک المدة لداود ،
فکما أحبه فی القبضة حین أعطاه من عمره ما أعطاه ، کذلک من حبه رجع فی ذلک ، لیعطیه جزاء ما یقع فی تلک المدة من آدم من العمل ، ولا علم لداود بذلک ،
فلما جبره الله بذکر اسمه فی الخلافة ، قال له من أجل ما ذکرناه من تطرق النفاسة التی فی طبع هذه النشأة والیه " لا تتبع الهوى فیضلک عن سبیل الله" ، فحذره ، فشغله ذلک الحذر عن الفرح بما حصل له من تعیین الله له باسمه ، فأمره بمراقبة السبیل ، ثم تأدب الله معه حیث قال له « إن الذین یضلون عن سبیل الله لهم عذاب شدید » بما نسوا ، ولم یقل « فإنک إن ضللت عن سبیل الله لک عذاب شدید » .
فتوحات ج 3 / 191 - ج 4 / 155
5 - نفس العبارة بالنص واردة فی الفتوحات ج 3 ص 191
والأدب جماع الخیر ، والحق هو الخیر المحض
"" أضاف الجامع : جاء فى تفسیر روح البیان
فإن قلت : کیف یکون متابعة الهوى سببا للضلال؟.
قلت : لأن الهوى یدعو إلى الاستغراق فی اللذات الجسمانیة فیشغل عن طلب السعادات الروحانیة التی هی الباقیات الصالحات .
فمن ضل عن سبیل الله الذی هو اتباع الدلائل المنصوبة على الحق أو اتباع الحق فی الأمور وقع فی سبیل الشیطان ، بل فی حفرة النیران والحرمات.
"إن الذین یضلون عن سبیل الله" : تعلیل لما قبله ببیان غائلته وإظهار فی سبیل الله فی موضع الإضمار للإیذان بکمال شناعة الضلال عنه.
"لهم عذاب شدید بما نسوا" ؛ أی : بسبب نسیانهم.
ولما کان الضلال عن سبیل الله مستلزما لنسیان یوم الحساب کان کل منهما سببا وعلة لثبوت العذاب الشدید .
"تأدب" سبحانه وتعالى مع داود ، حیث لم یسند الضلال إلیه ؛
بأن یقول : فلئن ضللت عن سبیلی فلک عذاب شدید لما هو مقتضى الظاهر بل أسنده إلى الجماعة الغائبین الذین داود علیه السلام واحد منهم.
واعلم أن الله تعالى خلق الهوى الباطل على صفة الضلالة مخالفا للحق تعالى ؛ فإن من صفته الهدایة والحکمة فی خلیفته یکون هادیا إلى الحضرة بضدیة طبعه ومخالفة أمره کما أن الحق تعالى کان هادیا إلى حضرته بنور ذاته وموافقة أمره لیسیر السائر إلى الله على قدمی موافقته أمر الله ومخالفته هواه.
ولهذا قال المشایخ : لولا الهوى ما سلک أحد طریقا إلى الله تعالى ،
وأعظم جنایات العبد وأقبح خطایاه متابعة الهوى کما قال علیه السلام : "ما عبد إله فی الأرض أبغض على الله من الهوى". ""
تفسیر روح البیان ص 22
ص 278
قال الشیخ رضی الله عنه : (یقل إنی جاعل آدم خلیفة فی الأرض.
ولو قال، لم یکن مثل قوله «جعلناک خلیفة» فی حق داود، فإن هذا محقق وذلک لیس کذلک.
وما یدل ذکر آدم فی القصة بعد ذلک على أنه عین ذلک الخلیفة الذی نص الله علیه. فاجعل بالک لإخبارات الحق عن عباده إذا أخبر.
وکذلک فی حق إبراهیم الخلیل «إنی جاعلک للناس إماما» ولم یقل خلیفة، وإن کنا نعلم أن الإمامة هنا خلافة، ولکن ما هی مثلها، لأنه ما ذکرها بأخص أسمائها وهی الخلافة.
ثم فی داود من الاختصاص بالخلافة أن جعله خلیفة حکم، ولیس ذلک إلا عن الله فقال له فاحکم بین الناس بالحق، وخلافة آدم قد لا تکون من هذه المرتبة: فتکون خلافته أن یخلف من کان فیها قبل ذلک، لا أنه نائب عن الله فی خلقه بالحکم الإلهی فیهم، "6"
وإن کان الأمر کذلک وقع، ولکن لیس کلامنا إلا فی التنصیص علیه والتصریح به.
ولله فی الأرض خلائف عن الله، وهم الرسل.
وأما الخلافة الیوم فعن الرسول لا عن الله، فإنهم ما یحکمون إلا بما شرع لهم الرسول لا یخرجون عن ذلک.
غیر أن هنا دقیقة لا یعلمها إلا أمثالنا، وذلک فی أخذ ما یحکمون به مما هو شرع للرسول علیه السلام.
فالخلیفة عن الرسول من یأخذ الحکم بالنقل عنه صلى الله علیه و سلم أو بالاجتهاد الذی أصله أیضا منقول عنه صلى الله علیه وسلم.
وفینا من یأخذه عن الله فیکون خلیفة عن الله بعین ذلک الحکم، فتکون المادة له من حیث کانت المادة لرسوله صلى الله علیه وسلم. "7"
فهو فی الظاهر متبع لعدم مخالفته فی الحکم، کعیسى إذا نزل فحکم )
.............................................................................
6 - ۔ خلافة داود علیه السلام *
الاحتمال لم یزل واردة فی النص الذی جاء فی داود علیه السلام کما جاء فی آدم علیه السلام ،
وهو قول الشیخ رضی الله عنه فی الفتوحات ج 2 / ص 96
" یاداود إنا جعلناک خلیفة فی الأرض" ، لمن تقدمک أو نیابة عنا .
وهذا یخالف ما جاء فی المتن فی حق داود علیه السلام حیث یقول « فإن هذا محقق » وفیه حق آدم علیه السلام « وذلک لیس کذلک ».
7 - أنبیاء الأولیاء
اعلم أن النبوة البشریة على قسمین :
قسم من الله إلى عبده من غیر روح ملکی بین الله وبین عبده ، بل إخبارات إلهیة ، یجدها فی نفسه من الغیب أو فی تجلیات ، لا یتعلق بذلک الإخبار حکم تحلیل ولا تحریم ، بل تعریف الهی ومزید علم بالإله .
أو تعریف بصدق حکم مشروع ثابت أنه من عند الله لهذا النبی الذی أرسل إلى من
ص 279
***
.............................................................................
أرسل إلیه ، أو التعریف بفساد حکم قد ثبت بالنقل صحته عند علماء الرسوم ، فیطلع صاحب هذا المقام على صحة ما صح من ذلک ،
وفساد ما فسد، مع وجود النقل بالطرق الضعیفة ، أو صحة ما فسد عند أرباب النقل ، أو فساد ما ص ح عندهم ، والإخبار بنتائج الأعمال وأسباب السعادات ، وحکم التکالیف فی الظاهر والباطن ، ومعرفة الحد فی ذلک والمطلع ،
کل ذلک ببینة من الله وشاهد عدل الهی من نفسه ، غیر أنه لا سبیل أن یکون على شرع یخالف شرع نبیه ورسوله الذی أرسل إلیه وأمرنا باتباعه ، فیتبعه على علم صحیح وقدم صدق ثابت عند الله تعالى ، وهذا کله کان فی الأمم السالفة ،
وأما فی هذه الأمة المحمدیة فحکمهم ما ذکرناه وزیادة ، وهو أن لهم بحکم شرع محمد ع أن یسنوا سنة حسنة مما لا نحل حراما ولا تحرم حلالا ومما لها أصل فی الأحکام المشروعة ، وتسنینه إیاها أعطاه له مقامه ، وإنما حکم به الشرع وقرره بقوله « من سن سنة حسنة ۰۰۰ ( الحدیث ) »
والقسم الثانی من النبوة البشریة ، هم الذین یکونون مثل التلامذة بین یدی الملک ، ینزل علیهم الروح الأمین بشریعة من الله فی حق نفوسهم یتعبدهم بها ، فیحل لهم ما شاء ، ویحرم علیهم ما شاء ، ولا یلزمهم اتباع الرسل ، وهذا کله کان قبل مبعث محمد صلى الله علیه وسلم ، فأما الیوم فما بقی لهذا المقام أثر إلا ما ذکرنا .
وخلاصة هذا التعریف أن أنبیاء الأولیاء ، هم کل شخص أقامه الحق فی تجل من تجلیاته ، وأقام له مظهر محمد صلى الله علیه وسلم ومظهر جبریل علیه السلام ، حتى إذا فرغ من خطابه وفزع عن قاب هذا الولی ،
عقل صاحب هذا المشهد جمیع ما تضمنه ذلک الخطاب من الأحکام المشروعة الظاهرة فی هذه الأمة المحمدیة ، فیأخذها هذا الولی کما أخذها المظهر المحمدی للحضور الذی حصل له فی هذه الحضرة مما أمر به ذلک المظهر المحمدی من التبلیغ لهذه الأمة ،
فیرد إلى نفسه وقد وعى ما خاطب الروح به مظهر محمد صلى الله علیه وسلم ، وعلم صحته علم یقین بل عین یقین ، فأخذ حکم هذا النبی وعمل به على بینة من ربه ، فرب حدیث ضعیف قد ترک العمل به لضعف طریقه
ص 280
قال الشیخ رضی الله عنه : (وکالنبی محمد صلى الله علیه وسلم فی قوله «أولئک الذین هدى الله فبهداهم اقتده»، "8"
وهو )
.............................................................................
من أجل وضاع کان فی روایته ویکون صحیحة فی نفس الأمر ، ویکون هذا الواضع مما صدق فی هذا الحدیث ولم یضعه ، وإنما رده المحدث لعدم الثقة بقوله فی نقله ، وذلک إذا انفرد به ذلک الواضع وکان مدار الحدیث علیه ،
وأما إذا شارکه فیه ثقة سمعه معه قبل ذلک الحدیث من طریق ذلک الثقة ،
وهذا ولی سمعه من الروح یلقیه على حقیقة محمد صل کما سمع الصحابة فی حدیث جبریل علیه السلام مع محمد صلى الله علیه وسلم فی الإسلام والإیمان والإحسان فی تصدیقه إیاه ،
وإذا سمعه من الروح الملقی فهو فیه مثل الصاحب الذی سمعه من فم رسول الله ، علما لا یشک فیه ، بخلاف التابع فإنه یقبله على طریق غلبة الظن ، لارتفاع التهمة المؤثرة فی الصدق ،
ورب حدیث یکون صحیحة من طریق رواته یحصل لهذا المکاشف الذی قد عاین هذا المظهر فسأل النبی ملغ عن هذا الحدیث الصحیح فأنکره ،
وقال له لم أقله ولا حکمت به فیترک العمل به على بینة من ربه وإن کان قد عمل به أهل النقل لصحة طریقه وهو فی نفس الأمر لیس کذلک ،
وقد ذکر مثل هذا مسلم فی صدر کتابه الصحیح .
وقد یعرف هذا المکاشف من وضع ذلک الحدیث الصحیح طریقه فی زعمهم ، إما أن سمی له أو تقام له صورته ، فهؤلاء هم أنبیاء الأولیاء .
الفتوحات ج 1 / 150 - ج 2 / 254 .
للزیادة راجع کتابنا « الفقه عند الشیخ الأکبر »
و رؤیة النبی صلى الله علیه وسلم ص 22 .
و نزول الملائکة على البشر والإلهام ص 29
و الکرامات ص 38
8 - « أولئک الذین هدى الله فبهداهم اقتده » الآیة *
الوجه الأول - هدى الأنبیاء علیهم السلام هو ما کانوا علیه من الأمور المقربة إلى الله ، وفی الدعاء المأثور سئواله صلى الله علیه وسلم هدى الأنبیاء وعیشة السعداء ، و بالهدى تعطی التوفیق ، وهو الأخذ والمشی بهدی الأنبیاء ، وتعطى البیان ،
وهو شرح ما جاء به الحق ، إذ الهدی هدیان : ،
هدی تبیانی وهو قوله تعالى : " وما کان الله
ص 281
فی حق ما یعرفه من صورة الأخذ مختص موافق، هو فیه بمنزلة ما قرره النبی صلى الله علیه وسلم من شرع من تقدم من الرسل بکونه قرره فاتبعناه من حیث
.............................................................................
لیضل قوما بعد إذ هداهم حتى یبین لهم ما یتقون »
وهذا الهدی قد یعطی السعادة وفد لا یعطیها ، إلا أنه یعطی العلم ، کقوله تعالى « وأضله الله على علم » وهدى توفیقی ، وهو هدی الأنبیاء علیهم السلام وهو الذی یعطی سعادة العباد " وما توفیقی إلا بالله " ،
وإذا کان الرسول سید البشر یقال له : « أولئک الذین هدى الله فبهداهم اقتده » فما ظنک بالتابع !!
الوجه الثانی - قال الله تعالى لنبیه صلى الله علیه وسلم " اتبع ما أوحی إلیک من ربک " ، فإنی خلقتک متبعا اسم مفعول لا متبعا اسم فاعل ، ولذلک قال له عند ذکر الأنبیاء « فبهداهم اقتده » لا بهم ، وهداهم لیس سوى شرع الله ،
فقال : " شرع لکم من الدین ما وصى به نوحا" ، وذکر من ذکر ، فکان الشارع لنا الله الذی شرع لهم ، فلو أخذ عنهم لکان تابعا .
الوجه الثالث - اعلم أن کل شرع بعث به نبی من الأنبیاء فهو من شرع محمد صلى الله علیه وسلم من اسمه الباطن ، إذ کان نبیا و آدم بین الماء والطین ،
فقوله تعالى له : « أولئک الذین هدى الله فبهداهم اقتده » وما قال بهم ، إذ کان هداهم هداک الذی سرى إلیهم ، فمعناه من حیث العلم ،
إذا اهتدیت بهدیهم فهو اهتداؤک بهدیک ، لأن الأولیة لک باطنا ، والأخریة لک باطنا ، والأولیة لک فی الآخریة ظاهرا وباطنا ،
وعلمنا من ذلک أن محمدا صلى الله علیه وسلم مساو لجمیع من ذکره من الأنبیاء ومن لم یذکره ،
فإنه لکل نبی هدی کما ذکر « لکل جعلنا منکم شرعة ومنهاجا » فهو سبحانه نصب الشرائع وأوضح المناهج ،
وجمع ذلک کله فی محمد صلى الله علیه وسلم ، فمن رآه رأى جمیع المقربین ،
ومن اهتدى بهدیه فقد اهتدى بهدى جمیع النبیین ، ومن ذلک أن ما قرره النبی مع لنا مما کان شرعا للأنبیاء علیهم السلام فعلتمناه على القطع فهو شرع لنا ،
ومن هذه الآیة علمنا أنه صلى الله علیه وسلم خص بعلم الشرائع کلها ، فأبان الله تعالى له عن شرائع المتقدمین ، وأمره أن یهتدی بهداهم ، وخص بشرع لم یکن لغیره .
فتوحات ج 1 / 635 - ج 2 / 125 - ج 4 / 77 ، 82 ، 313 ، 408
ص 282
قال الشیخ رضی الله عنه : ( تقریره لا من حیث إنه شرع لغیره قبله. "9"
وکذلک أخذ الخلیفة عن الله عین ما أخذه منه الرسول.
فنقول فیه بلسان الکشف خلیفة الله وبلسان الظاهر خلیفة رسول الله.
ولهذا مات رسول الله صلى الله علیه وسلم وما نص بخلافة عنه إلى أحد.
ولا عینه لعلمه أن فی أمته من یأخذ الخلافة عن ربه فیکون خلیفة عن الله مع الموافقة فی الحکم المشروع.
فلما علم ذلک صلى الله علیه وسلم لم یحجر الأمر.
فلله خلفاء فی خلقه یأخذون من معدن الرسول والرسل ما أخذته الرسل علیهم السلام،. "10"
ویعرفون فضل المتقدم هناک لأن الرسول قابل للزیادة: وهذا الخلیفة لیس بقابل للزیادة التی لو کان الرسول قبلها. "11"
فلا یعطی من العلم والحکم فیما شرع إلا ما شرع للرسول خاصة، فهو فی الظاهر متبع غیر مخالف، بخلاف الرسل.
ألا ترى عیسى علیه السلام لما تخیلت الیهود أنه لا یزید على موسى، مثل ما قلناه فی الخلافة الیوم مع الرسول، آمنوا به وأقروه:
فلما زاد حکما أو نسخ حکما قد قرره موسى لکون عیسى رسولا لم یحتملوا ذلک لأنه خالف اعتقادهم فیه؟
وجهلت الیهود الأمر على ما هو علیه فطلبت قتله، فکان من قصته ما أخبرنا الله فی کتابه العزیز عنه وعنهم.
فلما کان رسولا قبل الزیادة، إما بنقص حکم قد تقرر، أو زیادة حکم.
على أن النقص زیادة حکم بلا شک.
والخلافة الیوم لیس لها هذا المنصب . "12"
وإنما تنقص أو تزید على الشرع الذی تقرر بالاجتهاد )
.............................................................................
9 - شرع من قبلنا :
شرع من قبلنا ما یلزمنا اتباعه إلا ما قرر شرعنا منه ، مع کون ذلک شرعا حقا لمن خوطب به ، لا نقول فیه بالباطل ؛ بل تؤمن بالله ورسوله وما أنزل إلیه وما أنزل من قبله من کتاب وشرع منزل ، فإن شرع محمد صلى الله علیه وسلم تضمن جمیع الشرائع المتقدمة، وما بقی لها حکم فی هذه الدنیا إلا ما قررته الشریعة المحمدیة ، فبتقریرها ثبتت ، فتعبدنا بها نفوسنا من حیث أن محمدا قررها لا من حیث أن النبی الخصوص بها فی وقتها قررها فی ح 2 / 165 .
10 - ما هنا موصولة ولیست بنافیة .
11 ، 12 - المعنى واحد وهو قول الشیخ رضی الله عنه فی الفتوحات ج 3 / 458.
الوارث یحفظ بقاء الدعوة فی الأمة علیها ، وما حظه إلا ذلک ، حتى إن الوارث
ص 283
قال الشیخ رضی الله عنه : (لا على الشرع الذی شوفه به محمد صلى الله علیه وسلم، فقد یظهر من الخلیفة ما یخالف حدیثا ما فی الحکم فیتخیل أنه من الاجتهاد ولیس کذلک: وإنما هذا الامام لم یثبت عنده من جهة الکشف ذلک الخبر عن النبی صلى الله علیه وسلم، ولو ثبت لحکم به.
وإن کان الطریق فیه العدل عن العدل فما هو معصوم من الوهم ولا من النقل على المعنى.
فمثل هذا یقع من الخلیفة الیوم، "13"
وکذلک یقع من عیسى علیه السلام، فإنه إذا نزل یرفع کثیرا من شرع الاجتهاد المقرر فیبین برفعه صورة الحق المشروع الذی کان علیه علیه السلام، ولا سیما إذا تعارضت أحکام الأئمة فی النازلة الواحدة. فنعلم قطعا أنه لو نزل وحی لنزل بأحد الوجوه، فذلک هو الحکم الإلهی.
وما عداه وإن قرره الحق فهو شرع تقریر لرفع الحرج عن هذه الأمة واتساع الحکم فیها.
وأما قوله علیه السلام إذا بویع الخلیفتین فاقتلوا الآخر منهما هذا فی الخلافة الظاهرة التی لها السیف. وإن اتفقا فلا بد من قتل أحدهما. بخلاف الخلافة المعنویة فإنه لا قتل فیها.
وإنما جاء القتل فی الخلافة الظاهرة وإن لم یکن لذلک الخلیفة هذا المقام، وهو خلیفة رسول الله صلى الله علیه وسلم إن عدل فمن حکم الأصل الذی به تخیل وجود إلهین، «لو کان فیهما آلهة إلا الله لفسدتا»، وان اتفقا: فنحن نعلم أنهما لو اختلفا تقدیرا لنفذ حکم أحدهما، فالنافذ الحکم هو الإله على الحقیقة، والذی لم ینفذ حکمه لیس بإله. "14" )
.............................................................................
لو أتی بشرع ، ولا یأتی به ، ولکن لو فرضناه ما قبلته منه الأمة ، فلا فائدة لظهور الحال إذا لم یکن القبول کما کان للرسول .
13 - راجع أولیاء الأنبیاء - هامش رقم 7 ص 279
14 - لو کان فیهما الهة إلا الله لفسدتا « الآیة »
اعلم أن العلم بتوحید الألوهة لمسمى الله، لا توحید الذات، فإن الذات لا یصح أن تعلم أصلا ، فالعلم بتوحید الله علم دلیل فکری لا علم شهود کشفی ،
فالعلم بالتوحید لا یکون ذوقا أبدا ، ولا تعلق له إلا بالمراتب .
قال تعالى "لو کان فیهما آلهة إلا الله" ، وهذا بطریق فرض المحال ، فوحد الإله وما تعرض لذات الله سبحانه ، لأن الفکر فیها ممنوع شرعا « لفسدتا ».
أی لم توجدا یعنی العالم العلوی وهو السماء والسفلی وهو الأرض ، أی لو کان مع الله إله آخر لفسد النظام والأمر ، وقد وجد الصلاح وهو بقاء العالم ، فدل على أن الموجد له لو لم یکن واحدة ما صح
ص 284
قال الشیخ رضی الله عنه : (ومن هنا نعلم أن کل حکم ینفذ الیوم فی العالم أنه حکم الله عز وجل، وإن خالف الحکم المقرر فی الظاهر المسمى شرعا إذ لا ینفذ حکم إلا لله فی نفس الأمر، لأن الأمر الواقع فی العالم إنما هو على حکم المشیئة الإلهیة لا علم حکم الشرع المقرر، وإن کان تقریره من المشیئة.
ولذلک نفذ تقریره خاصة فإن المشیئة لیست لها فیه إلا التقریر لا العمل)
.............................................................................
وجود العالم ، هذا دلیل الحق على أحدیته ، وطابق الدلیل العقلی فی ذلک ، ولو کان غیر هذا من الأدلة أدل منه علیه العدل إلیه وجاء به.
وما عرفنا بهذا ولا بالطریق إلیه فی الدلالة علیه ، فقوله تعالى و لو کان فیهما آلهة إلا الله لفسدتا ، هذه مقدمة.
والمقدمة الأخرى السماء والأرض - وأعنی بهما کل ما سوى الله - ما فسدتا ، وهذه هی المقدمة الأخرى ، والجامع بین المقدمتین وهو الرابط ، الفساد ، فأتجتا أحدیة المخصص ، وهی المطلوب ، وإنما قلنا ذلک لأنه لو کان ثم إله زائد على الواحد ، لم یخل هذا الزائد إما أن یتفقا فی الإرادة أو یختلفا ، ولو اتفقا فلیس بمحال أن یفرض الخلاف ، النظر من تنفذ إرادته منهما ، فإن اختلفا حقیقة أو فرضا فی الإرادة، فلا یخلو إما أن ینفذ فی الممکن حکم إرادتیهما معا وهو محال ،
لأن الممکن لا یقبل الضدین ، وإما أن لا ینفذا وإما أن ینفذ حکم إرادة أحدهما دون الآخر ، فإن لم ینفذ حکم إرادتیهما ، فلیس واحد منهما بإله ، وقد وقع الترجیح ، فلابد أن یکون أحدهما نافذ الإرادة ، وقصر الآخر عن تنفیذ إرادته ، فحصل العجز ، والإله لیس بعاجز ، فالإله من نفذت إرادته،
وهو الله الواحد لا شریک له، ولهذا الأصل، ما بعث رسول الله من بعثا قط ولو کان اثنین إلا قدم أحدهما وجعل الآخر تبعا ، وإن لم یکن کذلک فسد الأمر والنظام، فلا یصح إقامة ملک بین مدبرین وإن اتحدت إرادتهما،
ولما کان لا یصح عقلا ولا شرعا تدبیر ملک بین أمیرین متناقضین فی أحکامهما ، وإن فرض اتحاد الإرادة فی حق المخلوقین ، فإن حکم العادة والشرع یأبى ذلک فی حق هذین الأمیرین ، فلم یرد الله تعالى أن یدبر هذا الملک إلا واحد وصرح بذلک على لسان رسوله ق : إذا بویع لخلیفتین فاقتلوا الآخر منهما .
جمع الأنام على إمام واحد .... عین الدلیل على الإله الواحد
ص 285
قال الشیخ رضی الله عنه : (بما جاء به.
فالمشیئة سلطانها عظیم، ولهذا جعلها أبو طالب عرش الذات، لأنها لذاتها تقتضی الحکم.
فلا یقع فی الوجود شیء ولا یرتفع خارجا عن المشیئة، "15"
فإن الأمر الإلهی إذا خولف هنا بالمسمى معصیة، فلیس إلا الأمر بالواسطة لا الأمر التکوینی.
فما خالف الله أحد قط فی جمیع ما یفعله من حیث أمر المشیئة، فوقعت)
.............................................................................
فجعل الله للناس إماما فی الظاهر واحدة ، یرجع إلیه أمر الجمیع لإقامة الدین ، وأمر عباده أن لا ینازعوه ، ومن ظهر علیه ونازعه أمرنا الله بقناله ، لما علم أن منازعته تؤدی إلى فساد فی الدین الذی أمرنا الله إقامته ،
وأصله قوله تعالى « لو کان فیهما آلهة إلا الله لفسدتا » فمن هناک ظهر اتخاذ الإمام وأن یکون واحدة فی الزمان ظاهرة بالسیف .
فتوحات ج 1 / 262 ، 680 - ج 2 / 289 ، 619 - ج 3 / 80 ، 173 - ج 4 / 13 - کتاب التدبیرات الإلهیة .
15 - قول أبی طالب الملکی « مشیئته تعالی عرش ذاته »
اعلم أنه من شم رائحة من العلم بالله لم یقل لم فعل کذا وما فعل کذا ، وکیف یقول العالم بالله لم فعل کذا ؟
وهو یعلم أنه السبب الذی اقتضى کل ما ظهر وما یظهر وما قدم وما أخر ، وما رتب لذاته فهو عین السبب ،
فلا یوجد لعلة سواه ولا یعدم ، سبحانه وتعالى عما یقول الظالمون علوا کبیرا ، فمشیئته عرش ذاته أی ملکها ، أی بالمشیئة ظهر کون الذات ملکا ، لتعلق الاختیار بها ،
فالإختیار للذات من کونها إلها ، فإن شاء فعل وإن شاء لم یفعل ، قال علیه السلام « ما شاء الله کان وما لم یشأ لم یکن» فعلق النفی والإثبات بالمشیئة فظهر الاختیار مع المشیئة،
فإنه لیں الإرادة اختیار ولا نطق بها کتاب ولا سنة ولا دل علیها عقل ، وإنما ذلک للمشیئة ، فإن شاء کان وإن شاء لم یکن ، وما ورد ما لم یرد لم یکن ، بل ورد لو أردنا أن یکون کذا لکان کذا ،
فخرج من المفهوم الاختیار ، فالإرادة تعلق المشیئة بالمراد .
فتوحات ج 2 / 39 - ج 3 / 48
ص 286
قال الشیخ رضی الله عنه : (المخالفة من حیث أمر الواسطة فافهم. "16"
وعلى الحقیقة فأمر المشیئة إنما یتوجه على إیجاد عین الفعل لا على من ظهر على یدیه، فیستحیل ألا یکون.
ولکن فی هذا المحل الخاص، فوقتا یسمى به مخالفة لأمر الله، ووقتا یسمى موافقة وطاعة لأمر الله.
ویتبعه لسان الحمد أو الذم على حسب ما یکون.
ولما کان الأمر فی نفسه )
.............................................................................
16 - الأمر الإرادی والأمر التکلیفی
الأمر أمران ، أمر بواسطة وأمر برفع الوسائط ، فأمره سبحانه لا یتصور أن یعصى ، لأنه بکن ، إذ کن لا تقال إلا لمن هو موصوف بلم یکن ، وما هو موصوف لم یکن ما یتصور منه الإبایة ،
وإذا کان الأمر الإلهی بالواسطة فلا یکون بکن ، فإنها من خصائص الأمر العدمی الذی لا یکون بواسطة ، وإنما یکون الأمر بما یدل على الفعل ، فیؤمر بإقامة الصلاة وإیتاء الزکاة ، فیقال له « أقم الصلاة » « وآت الزکاة »
فاشتق له من اسم الفعل اسم الأمر فیطیعه من یشاء منهم ویعصیه من شاء منهم ، والإنسان لا یقدر على دفع ما تکون فی نفسه فإن کن إنما تعلقت بما تکون فی نفس الإنسان ، فکان الحکم لما تکون فیمن تکون ،
فآمن ولابد أو صلى ولابد أو صام ولابد ، على حسب ما تعطیه حقیقة الأمر الذی تعلق به کن ، وقد یرد الأمر بالواسطة ولا یرد الأمر الإلهی ، فلا یجد المخاطب آلة یفعل بها ، فیظهر کأنه عاص .
وإنما هو عاجز فاقد فی الحقیقة ، لأنه ما تکون فیه ما أمر به أن تکون عنه ، فلا أطوع من الخلق لأوامر الحق ، أی لقبول ما أمر الحق بتکوینه فیه ، ولکن لا یشعرون ،
ولیست الاوامر التی أوجبنا طاعتها إلا الأوامر الإلهیة لا الأوامر الواردة على ألسنة الرسل ،
فإن الأمر من الخلق طائع فیما أمر ، لأنه لو لم یؤمر بأن یأمر ما أمر ، فلو أن الذی أمره یستمع المأمور بذلک الأمر أمره لامتثل ، فإن أمر الله لا یعصى إذا ورد بغیر الوسائط ،
فالأمر الإلهی لا یخالف الإرادة الإلهیة ، فإنها داخلة فی حده وحقیقته ، وإنما وقع الالتباس من تسمیتهم صیغة الأمر - ولیست بأمر - أمرا ، والصیغة مرادة بلا شک ، فأوامر الحق إذا وردت على ألسنة المبلغین فهی صیغ الأوامر لا الأوامر ، فتعصى ، وقد یأمر الآمر بما لا یرید وقوع المأمور به ، فما عصى أحد قط أمر الله « إذا أراد شیئا أن یقول له کن فیکون» .
فتوحات ج 2 / 588 - ج 4 / 424 ، 430
ص 287
قال الشیخ رضی الله عنه : (على ما قررناه، لذلک کان مآل الخلق إلى السعادة على اختلاف أنواعها. "17"
فعبر عن هذا المقام بأن الرحمة وسعت کل شیء، وأنها سبقت الغضب الإلهی.
والسابق متقدم، فإذا لحقه هذا الذی حکم علیه المتأخر حکم علیه المتقدم فنالته الرحمة إذ لم یکن غیرها سبق.
فهذا معنى سبقت رحمته غضبه، لتحکم على ما وصل إلیها فإنها فی الغایة وقفت والکل سالک إلى الغایة.
فلا بد من الوصول إلیها، فلا بد من الوصول إلى الرحمة ومفارقة الغضب، فیکون الحکم لها فی کل واصل إلیها بحسب ما تعطیه حال الواصل إلیها. "18" )
.............................................................................
17 - العبد مجبور فی اختیاره
قال تعالى " وما تشاؤون إلا أن یشاء الله" ، أن تشاؤوا ، فتلک على الحقیقة مشیئة الله لا مشیئته ، وأنت تشاء بها ، ونحن نقول فی النسبة الاختیاریة إن الله خلق للعبد مشیئة شاء بها ، حکم هذه النسبة وتلک المشیئة الحادثة عن مشیئة الله ،
فاثبت سبحانه المشیئة له ولنا ، وجعل مشیئتنا موقوفة على مشیئته ، هذا فی الحرکة الاختیاریة ، وأما فی الاضطراریة کحرکة المرتعش فالأمر عندنا واحد،
فالسبب الأول مشیئة الحق ، والسبب الثانی المشیئة التی وجدت عن مشیئة الحق ، فالله هو الشیء وإن وجد العبد فی نفسه إرادة لذلک ، فالحق عین إرادته ، فحکم المشیئة التی یجدها فی نفسه لیست سوى الحق ،
فإذا شاء کان ما شاءه ، فهو عین مشیئة کل مشیء.
فقوله تعالى : " وما تشاؤون إلا أن یشاء الله " و عزاء أفاد علما ، لیثبت به العبد فی القیامة حکما ، فهو تلقین حجة ، ورحمة من الله وفضل ، أی أن العبد مجبور فی اختیاره فعلم الجبر آخر ما ینتهی إلیه المعاذر ، وهو سبب مال الخلق إلى الرحمة ، فإن الله یعذر خلقه بذلک فیما کان منهم
فتوحات ج 3/ 84 ، 303 ، 351 ، 457 ، 464 .
18 - قوله تعالی «رحمتی سبقت غضبی »
سبقت الرحمة الغضب لأنه بها کان الابتداء ، والغضب عرض ، والعرض زائل وأن الرحمة لما سبقت الغضب فی الوجود عمت الکون کله ، ووسعت کل شیء ، فلما جاء الغضب فی الوجود وجد الرحمة قد سبقته ،
ولابد من وجوده ، فکان مع الرحمة ، لذلک لم یخلص الغضب الإلهی من الرحمة ، فحکمت على الغضب لأنها صاحبة المحل ، فإن الحکم للسابق ، واللاحق متأخر عنه، فینتهی غضب الله فی
ص 288
قال الشیخ رضی الله عنه : (فمن کان ذا فهم یشاهد ما قلناه ... وإن لم یکن فهم فیأخذه عنا
فما ثم إلا ما ذکرناه فاعتمد ... علیه وکن بالحال فیه کما کنا
فمنه إلینا ما تلونا علیکم ... ومنا إلیکم ما وهبناکم منا "19" )
.............................................................................
المغضوب علیهم ، ورحمة الله لا تنتهی ، فإن غضب الله لا یخلص من رحمة إلهیة تشوبه ، فغضبه فی الدنیا ما نصبه من الحدود والتعزیرات .
وغضبه فی الآخرة ما یمیم من الحدود على من یدخل النار .
فهو وإن کان غضبا فهو تطهیر لما شابه من الرحمة فی الدنیا والآخرة ، فیرید الله بقوله : « رحمتی سبقت غضبی » أن حکمه برحمته عباده سبق غضبه علیهم فهی تحوز العالم فی الدارین بکرم الله .
وما ذلک على الله بعزیز ، وإن کانوا فی النار فلهم فیها نعیم فإنهم لیسوا منها بمخرجین .
ومن حیث المسابقة نقول قد تجاری غضب الله ورحمته فی هذا الشأو ، وهو آدم وذریته ، فسبقت رحمته غضبه، فحازتنا لأن السابق یحوز قصب السبق .
وقصب السبق هنا آدم وذریته ، ثم لحق الغضب فوجدنا فی قبضة الرحمة ، قد حازتنا بالسبق ، فلم ینفذ الغضب فینا حکم التأیید .
بل تلبس بنا للمشاهده بعض تلبس ، لما جمعنا مجلس واحد أثر فینا بقدر الاستعداد منا لذلک ، فلما انفصلت الرحمة من الغضب من ذلک المجلس أخذتنا الرحمه بحیازتها إیانا : وفارقنا غضب الله ، فحکمه فینا أعنی بنی آدم غیر مؤبد، وفی غیرنا من المخلوقین ما أدری حکمه فیهم من الشیاطین
فرحمته تعالى لما سبقت غضبه لحق الغضب بالعدم فإنه وإن کان شیئا فهو تحت إحاطة الرحمة الإلهیة الواسعة ، فکیف یتسرمد العذاب وهو بهذه الصفة العامة من الرحمة ، إن الله أکرم من ذلک ،
ولاسیما وقد قام الدلیل العقلی على أن الباری لا تنفعه الطاعات ولا تضره المخالفات ، وأن کل شیء جار بقضائه وقدره وحکمه .
وأن الخلق مجبورون فی اختیارهم .
فتوحات ج 1 / 4 ، 749 - ج 2 / 281 ، 535 ، 673 - ج 3 / 7 ، 25 ، 333 - ج 4 / 405
راجع کتاب الخیال - اجتماع الشیخ بآدم علیه السلام ص 94
19 - البیت الأول والثانی یشیران إلى شمول الرحمة وعدم سرمدة العذاب بحسب ما تقدم الکلام قبله .
ص 289
قال الشیخ رضی الله عنه : (وأما تلیین الحدید فقلوب قاسیة یلینها الزجر والوعید تلیین النار الحدید.
وإنما الصعب قلوب أشد قساوة من الحجارة، فإن الحجارة تکسرها وتکلسها النار ولا تلینها.
وما ألان له الحدید إلا لعمل الدروع الواقیة تنبیها من الله: أی لا یتقى الشیء إلا بنفسه، لأن الدرع یتقى بها السنان والسیف والسکین والنصل، فاتقیت الحدید بالحدید.
فجاء الشرع المحمدی بأعوذ بک منک، "20"
فافهم، فهذا روح تلیین الحدید فهو المنتقم الرحیم والله الموفق. )
.............................................................................
البیت الثالث : الشطر الأول - أی أن هذا من العلم الإلهی « واتقوا الله ویعلمکم الله »۰
الشطر الثانی : معناه أنا وهبناکم هذا العلم لا نرید منکم جزاء ولا شکورا .
20 - قوله « أعوذ بک منک »
التعوذ یکون باسم إلهی من اسم إلهی ، وهو الذی نبه علیه صلى الله علیه وسلم بقوله : "أعوذ بک منک" ، وهذا غایة ما یصل إلیه تعظیم المحدث إذا عظم جناب الله ،
فإنه اعلم أن الحق لا یقاوم إلا بالحق ، فیکون هو الذی یقاوم نفسه ، لأنه شتان بین مقام المعنی ومقام الحرف ، فقال تعالى الحرف بالحرف قال مع « أعوذ برضاک من سخطک » ،
وقابل المعنی بالمعنى فقال صلى الله علیه وسلم « وأعوذ بک منک » وهذا غایة المعرفة .
ومن وجه آخر لما نطق من بالاستعاذة به بضمیر الخطاب من غیر تعیین اسم لم یجد له مقابلا ، لأنه ما عین اسما ، فلم یجد من یستعیذ منه ، فرأى نفسه على صورته ،
فقال : منک ، فاستعاذ بالله من نفسه ، لأن النفس الذی هو المثل وردت فی القرآن ، مثل قوله تعالى «ولا تزکوا أنفسکم» أی أمثالکم ، فیتوجه قوله « وأعوذ بک منک» أن الکافین واحدة على الوجه الأول ویتوجه أن یکون الکاف فی منک تعود على المثل ، وهو نفس المستعیذ ، فإنه خلیفة محصل للصورة على أتم الوجوه .
فاستعاد بالله من نفسه ، لما یعلمه من المکر الخفی الإلهی ، فإنه ما أظهر الصورة المثلیة فی هذه النشأة على التشریف فقط ، بل هی شرف وابتلاء .
فتوحات ج 1 / 108 - ج 3 / 183 - ج 4 / 190
ص 290