الفقرة الحادیة عشرة :
نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص الشیخ عبد الرحمن أحمد الجامی 898 هـ :
18 شرح نقش فص حکمة نفسیة فی کلمة یونسیة
قال الشیخ الکامل العارف مؤیّد الدین الجندی رحمه الله و هو الشارح الأوّل لفصوص الحکم.
«إنّما أضیفت الحکمة النفسیة إلى الکلمة الیونسیة لما نفّس الله بنفسه الرحمانى عنه کربه التی ألبّت علیه من قبل قومه و أهله و أولاده و من جهة أنّه «فَکانَ من الْمُدْحَضِینَ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِیمٌ»
فلمّا سبّح و اعترف و استغفر، " فَنادى ... أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَکَ إِنِّی کُنْتُ من الظَّالِمِینَ"، فنفّس الله عنه کربه ووهبه أهله و سر به. قال تعالى، فـ "نَجَّیْناهُ من الْغَمِّ وَ کَذلِکَ نُنْجِی الْمُؤْمِنِینَ".
وقال أیضا رحمه الله، «وجدت بخطّ الشیخ المصنّف رضى الله عنه مقیّدا بفتح الفاء فی «النفس»، فصحّحنا النسخ به. و کان عندنا بسکون الفاء فیها.
وقد شرح شیخنا الامام الأکمل أبو المعالی صدر الدین، محیى الإسلام و المسلمین، محمّد بن إسحاق بن محمّد فی فکّ الختوم له على أنّها حکمة نفسیة ... والوجهان فیها موجّهان."
قال رضى الله عنه فی فکّ الختوم، «اعلم أنّ کل نبى وولى ما عدا الکمّل منهم فانّه مظهر حقیقة کلیة من حقائق العالم و الأسماء الإلهیة الخصیصة بها وأرواحها، الذین هم الملأ الأعلى على اختلاف مراتبهم ونسبهم من العالم العلوی.
وإلیه الإشارة بقول النبی صلّى الله علیه و سلّم، «إنّ آدم فی السماء الأولى، وعیسى فی الثانیة، ویوسف فی الثالثة، وإدریس فی الرابعة، وهارون فی الخامسة، وموسى فی السادسة، وإبراهیم فی السابعة صلوات الله علیهم أجمعین".
ومن البیّن أنّ أرواحهم غیر متحیّزة. فلیس المراد من ذلک إلّا التنبیه على قوّة نسبهم من حیث مراتبهم و علومهم و أحوالهم ومراتب أممهم إلى تلک السماء التی کانت أحوالهم هنا صورة أحکامها، أعنى أحکام المراتب والسموات.
ومن هذا الباب ما یذکره الأکابر من أهل الله فی اصطلاحهم بالاتّفاق بأنّ من الأولیاء من هو على قلب جبرئیل، ومنهم من هو على قلب میکائیل، وثمّ من هو على قلب إسرافیل على جمیعهم السلام ونحو ذلک.
قال الشیخ رضی الله عنه : (عادت برکته على قومه لأن الله أضافهم إلیه وذلک لغضبه.
فکیف لو کان فی حاله حال الرضا. فظن بالله خیراً. فنجاه من الغم.
وکذلک ننجی المؤمنین. یعنی الصادقین فی أحوالهم.
ومن لطفه أنبت علیه شجرةً من یقطین إذ خرج کالفرخ.
فلو نزل علیه الذباب أذاه لمّا ساهمهم)
“وإذا تقرّر هذا، فاعلم أنّ سرّ تسمیة شیخنا قدّس الله روحه هذه الحکمة بـ «الحکمة النفسیة» هو من أجل أنّ یونس علیه السلام کان مظهرا للصفة الکلیة التی تشترک فیها النفوس الانسانیة و مثالها من حیث تدبیرها للأبدان العنصریة، وأحواله علیه السلام صور أحکام تلک الصفة الکلیة وأمثلتها بحسب ما یقتضیه مرتبته واستعداده".
(عادت برکته)، أی برکة یونس علیه السلام، (على قومه) بأن آمنوا، فنفعهم إیمانهم، وکشف عنهم العذاب، (لان الله سبحانه أضافهم الیه) و ألحقهم به إضافة الجزء إلى کلّه وإلحاق الفرع إلى أصله، وحکم الأصل یسرى إلى الفرع.
فلمّا وصلت عنایة الله و رحمته إلى یونس، وصلت إلى قومه أیضا، کما قال تعالى، «فَلَوْ لا کانَتْ قَرْیَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِیمانُها إِلَّا قَوْمَ یُونُسَ».
وذلک، أی عود برکته إلى قومه، کان لغضبه علیهم فیه، أی فی الله، حین حرج صدره لطول ما ذکّرهم، فلم یذکّروا وأقاموا على کفرهم، ففارقهم.
فظنّ أنّ ذلک یسوغ حیث لم یفعله إلّا غضبا فی الله و تعصّبا لدینه وبغضا للکفر و أهله.
وکان علیه أن یصابر و ینتظر الاذن من الله فی المهاجرة عنهم. فابتلى ببطن الحوت.
و لمّا عادت برکته علیه السلام علیهم مع کون حاله معهم حال الغضب علیهم فی الله، (فکیف) کان الأمر (لو کان حاله علیه السلام معهم حال الرضا) عنهم فیه سبحانه؟
(فظن) یونس علیه السلام باللَّه سبحانه (خیرا)، کما أخبر سبحانه عنه بقوله، «فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَیْهِ»،
أی لن نضیّق علیه فی مهاجرته قومه من غیر انتظار لأمر الله.
(فنجاه (الله سبحانه (من الغم) ببرکة ذلک الظنّ.
(و کذلک ینجى) الله سبحانه المؤمنین، یعنى المؤمنین (الصادقین فی أحوالهم)، کصدق یونس علیه السلام فی حاله، أعنى الغضب فی الله.
)و من لطفه) سبحانه و عنایته به علیه السلام أنبت «عَلَیْهِ شَجَرَةً من یَقْطِینٍ»، أی الدّبّاء، فانّ من فوائد الدبّاء أنّ الذباب لا یجتمع عنده.
فکان یستظلّ بها (إذ خرج) من بطن الحوت و نبذ بالعراء، کالفرخ الذی لیس علیه ریش.
(فلو نزل علیه الذباب، آذاه.)
ثمّ إنّه (لما ساهمهم)، أی قارع أهل السفینة حین ذهب مغاضبا على قومه و رکب فی السفینة، فوقفت فقالوا، «هاهنا عبد آبق من سیّده» و فیما یزعم البحّارون أنّ السفینة إذا کان فیها آبق، لم تجر- (أدخل نفسه فیهم)، أی فی أهل السفینة، فقال، «اقترعوا».
قال الشیخ رضی الله عنه : (أدخل نفسه فیهم. فعمت الرحمة جمیعهم.)
فخرجت القرعة علیه. فقال، «أنا الآبق»، و أوقع نفسه فی الماء، فالتقمه الحوت.
(فعمت الرحمة جمیعهم) ببرکة إدخاله نفسه فیهم عند تلک المساهمة، فانّ الحوت سار مع السفینة رافعا رأسه، یتنفّس فیه یونس و یسبّح، و لم یفارقهم حتّى انتهوا إلى البرّ.
فلفظه سالما، لم یتغیّر منه شیء. فلمّا شاهدوا ذلک، أدرکتهم الرحمة، وأسلموا.
قال صاحب الفکوک قدّس سرّه، «لمّا کانت النفوس فی الأصل منبعثة عن الأرواح العالیة الکلیة المسمّاة عند الحکماء بـ «العقول»، و کان للنفوس الانسانیة شبه قوى بتلک الأرواح من وجوه شتّى- من جملتها البساطة و دوام البقاء ظنّت أنّ تعلّقها بالأجسام من حیث التدبیر والتحکّم لا یکسبها تقییدا و تعشّقا و أنّها متى شاءت، أعرضت عن التدبیر بصفة الاستغناء، وکانت کالأرواح التی انبعثت عنها.
وذهلت عن نزول درجتها عن درجة تلک الأرواح فی هذا الأمر وعن عدم استغنائها عن التعلّق والتدبیر.
فلمّا ألفت الأبدان و انصبغت بأحکام الأمزجة- حتّى أثّرت فیها، کما أثّرت هی فی المزاج- و تعشّقت بها، و اشتدّ تقیّدها بصحبة البدن، أراها الحقّ عجزها و قصورها عن البلوغ إلى درجة من أوجدها الحقّ بواسطته.
و رأت فقرها و تعشّقها، فرجعت متوجّهة إلى الحقّ بصفة التضرّع و الافتقار الذاتی من الوجه الذی لا واسطة فیه بینها و بین الحق.
فأجاب الحق نداءها و أمدّها من لدنه بقوّة و نور استشرفت به على ما شاء الحق أن یطلعها علیه من حضراته القدسیة و لطائف أسراره العلیة.
فانعکس تعشّقها إلى ذلک الجناب الأقدس، و اتّصلت به. و حصل لها بذلک الاتّصال الرافع لأحکام الوسائط ما أوجب انتظامها فی سلک أولى الأیدى و الأبصار.
و انفتح لها باب کان مسدودا. فصار تدبیرها مطلقا، غیر مقیّد بصورة بعینها دون صورة بل حصل لها من القوّة و الکمال ما تمکّنت به من تدبیر صور شتّى فی الوقت الواحد دون تعشّق و تقیّد و ربّما أکسبتها العنایة عزّا أنفت به أن تقف فی مراتب الأرواح العالیة و تکون کهی، لما رأت من حسن ما تجلّى لها من وراء باب الوجه الخاصّ الذی فتح لها بینها و بین موجدها و ما استفادته من ربّها من تلک الجهة.
و سرى من برکة ما حصّلته إلى صورتها- التی کانت مقیّدة بتدبیرها- قوى و أنوار ساریة متعدّیة فی الموجودات علوّا و سفلا. و صارت حافظة بأحدیة جمعها من حیث تلک الصورة التی کانت مقیّدة بتدبیرها صورة الخلاف الواقع و الثابت فی الموجودات صورة و معنى، روحا و مثالا.
" وإذا فهمت هذا، فاعلم أنّ یونس علیه السلام من حیث أحواله المذکورة لنا فی الکتاب العزیز مثال ارتباط الروح الإنسانی بالبدن و الحوت مثال الروح الحیوانی الخصیص به ،
والسرّ فی کونه حوتا هو لضعف صفة الحیاة فیه، فانّ الحوت لیست له نفس سائلة.
کذلک حیوانیة الإنسان ذات حیوة ضعیفة، و لهذا یقبل الموت بخلاف روحه المفارق، فانّ حیاته تامّة ثابتة أبدیة و الیمّ مثال عالم العناصر، و وجه شبهه بالیمّ هو أنّ تراکیب الأمزجة المتکوّنة من العناصر غیر متناهیة.
وأمّا موجب النداء و الاجابة و سرّ قوله تعالى، «فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَیْهِ»،
فقد سبقت الإشارة إلیه آنفا عند الکلام على أحوال النفوس المدبّرة للأبدان. و أمّا سرّ قوله تعالى، «وَ أَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ یَزِیدُونَ»،
فانّه إشارة إلى أمّهات حقائق العالم و قواه و أنّها على عدد الأنبیاء و هم مائة و أربعة و عشرون ألفا فانّ کل نبى و وارث من الأولیاء مظهر حقیقة کلیة من حقائق العالم و الأسماء، کما أشیر إلیه فی أوّل هذا الفص.
وأمّا سرّ قوله تعالى، «لَمَّا آمَنُوا کَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْیِ فی الْحَیاةِ الدُّنْیا وَ مَتَّعْناهُمْ إِلى حِینٍ»، فهو مثال ما ذکر من أنّ لنفوس الکمّل برکة تسرى فی أبدانهم و قواهم، فیحصل لها ضرب من البقاء، ولا تنحلّ صورة أبدانهم، وإن فارقتها أرواحهم بل یبقى إلى زمان انتشاء النشأة الأخراویة، کما قال النبی صلّى الله علیه و سلّم، «إنّ الله حرّم على الأرض أن تأکل أجساد الأنبیاء".