الفقرة الثالثة عشرة :
الجزء الأول
شرح فصوص الحکم من کلام الشیخ الأکبر ابن العربی أ. محمود محمود الغراب 1405 هـ:
18 - فص حکمة نفسیة فی کلمة یونسیة
اعلم أن هذه النشأة الانسانیة بکمالها روحا وجسما ونفسا خلقها الله على صورته، "2"
فلا یتولى حل نظامها إلا من خلقها، إما بیده ولیس إلا ذلک أو بأمره.
ومن تولاها بغیر أمر الله فقد ظلم نفسه وتعدى حد الله فیها وسعى فی خراب من أمره الله بعمارته.
وأعلم أن الشفقة على عباد الله أحق بالرعایة من الغیرة فی الله.
.....................................................................................
1 - هذا الفص یقوم على بحث شرف النفس الناطقة من الإنسان
وإظهار اعتناء الحق بها وإکرامها ، فکانت المناسبة فی تسمیة هذا الفص هی إظهار اعتناء الحق بهذه النفس فی حق قوم یونس لما کشف عنهم العذاب ومتعهم إلى حین ، وقال صلى الله علیه وسلم : «لا تفضلونی على أخی یونس بن متى » وخصه بالاسم لأنه صلى الله علیه وسلم عرج به إلى سدرة المنتهى وحبس یونس علیه السلام فی بطن الحوت فی ظلمات ثلاث ، فلا تفاضل من حیث النفس الناطقة وإنما التفاضل للمراتب .
2 ۔ شرف النفس الناطقة
اعلم اسعدنا الله وإیاک بسعادة الأبد أن النفس الناطقة سعیدة فی الدنیا والآخرة، لا حظ لها فی الشقاء لأنها لیست من عالم الشقاء ، ألا ترى إلى النبی صلى الله علیه وسلم قد قام الجنازة یهودی ، فقیل له : إنها جنازة یهودی ،
فقال صلى الله علیه وسلم : ألیست نفسا ؟
فما علل بغیر ذاتها ، فقام إجلالا لها وتعظیما لشرفها ومکانتها ، وکیف لا یکون لها الشرف وهی منفوخة من روح الله ، فهی من العالم الأشرف الملکی الروحانی ، عالم الطهارة .
ولیس العالم إنسانا کبیرة إلا بوجود الإنسان الکامل الذی هو نفسه الناطقه ، کما أن نشأة الإنسان لا تکون إنسانا إلا بنفسها الناطقة ، ولا تکون هذه النفس الناطقة من الإنسان إلا بالصورة الإلهیة المنصوص علیها من الرسول صلى الله علیه وسلم بقوله : « خلق الله آدم على صورته » .
فتوحات ج 3 / 262 ، 263 - راجع فص 1. هامش 4 ، ص 25
ص 291
أراد داود بنیان البیت المقدس فبناه مرارا، فکلما فرغ منه تهدم، فشکا ذلک إلى الله فأوحى الله إلیه أن بیتی هذا لا یقوم على یدی من سفک الدماء، فقال داود یا رب أ لم یکن ذلک فی سبیلک؟ قال بلى! ولکنهم أ لیسوا عبادی؟
قال یا رب فاجعل بنیانه على یدی من هو منی، فأوحى الله إلیه أن ابنک سلیمان یبنیه.
فالغرض من هذه الحکایة مراعاة هذه النشأة الانسانیة، وأن إقامتها أولى من هدمها.
ألا ترى عدو الدین قد فرض الله فی حقهم الجزیة والصلح إبقاء علیهم، وقال «وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوکل على الله»؟
ألا ترى من وجب علیه القصاص کیف شرع لولی الدم أخذ الفدیة أو العفو، فإن أبى حینئذ یقتل؟
ألا تراه سبحانه إذا کان أولیاء الدم جماعة فرضی واحد بالدیة أو عفا، و باقی الأولیاء لا یریدون إلا القتل، کیف یراعى من عفا و یرجح على من لم یعف فلا یقتل قصاصا؟
ألا تراه علیه السلام یقول فی صاحب النسعة «إن قتله کان مثله»؟
ألا تراه یقول «وجزاء سیئة سیئة مثلها؟» فجعل القصاص سیئة، أی یسوء ذلک الفعل مع کونه مشروعا.
_______________________________________
3 - حدیث بناء بیت المقدس ورد فی الفتوحات ج 2 / 343
4 - الرحمة الإلهیة بأعداء الله
لولا الرحمة الإلهیة ما کان الله لیقول « وإن جنحوا للسلم فأجنح لها ، وما کان الله یقول « حتى یعطوا الجزیة » ألیس هذا کله إبقاء علیهم .
فتوحات ج 2 / 363
5 - « وجزاء سیئة سیئة مثلها .. » الآیة
السوء على نوعین سوء شرعی ، وسوء ما یسوءک وإن حمده الشرع ولم یذمه . فقد یکون هذا السوء من کونه یسوءک لا أن السوء فیه حکم الله ، کما قال تعالى : « وجزاء سیئة سیئة مثلها » فالسیئة الأولى شرعیة .
صاحبها مأثوم عند الله ، لأنه تعدى ، والسیئة الأخرى ما یسوء المجازی علیها ، فهی لیست بسیئة شرعا .
وإنما هی سیئة من حیث أنها تسوء المجازی علیها کالقصاص ، فسمى الله الجزاء سیئة بالمثلیة ، ولیس الجزاء بسیئة مشروعة ، لأن الله لا یشرع السوء ، فنبه تعالى بقوله « وجزاء سیئة سیئة » على الزهد والترک للأخذ علیها ، بتسمیة الجزاء سیئة.
فأنزل المسیء منزلة السیئة ، وسمی بها ، فلم یقل وجزاء المسیء ، فإن المسیء هو الذی یجازی بما أساء لا السیئة ، فإن السیئة قد ذهب عینها ، وهی لا تقبل الجزاء ؛
ص 292
«فمن عفا وأصلح فأجره على الله» لأنه على صورته.
فمن عفا عنه ولم یقتله فأجره على من هو على صورته لأنه أحق به إذ أنشأه له، وما ظهر بالاسم الظاهر إلا بوجوده "6" فمن راعاه إنما یراعی الحق.
وما یذم الإنسان لعینه وإنما یذم الفعل منه، وفعله لیس عینه، وکلامنا فی عینه.
ولا فعل إلا الله، ومع هذا ذم منها ما ذم وحمد منها ما حمد.
ولسان الذم على جهة الغرض مذموم عند الله.
فلا مذموم إلا ما ذمه الشرع، فإن ذم الشرع لحکمة یعلمها الله أو من أعلمه الله "7".
کما شرع القصاص للمصلحة إبقاء لهذا النوع وإرداعا للمعتدی حدود الله فیه.
«ولکم فی القصاص حیاة یا أولی الألباب» وهم أهل لب الشیء الذین عثروا على سر
_______________________________
وأضیف الجزاء إلى السیئة ، فللمسیء حکم السیئة ، ولذلک نبه تعالى بقوله « مثلها » فأطلق على الجزاء اسم « سیئة ، ومن اتصف بشیء من ذلک فیقال فیه إنه مسېء .
فحث تعالى على اختیار العفو على الجزاء بالمثل ، نفاسة وتقدیس نفس من أن توصف بأنها محل للسیئة والسوء ، فقال فیمن لم یفعلها « فمن عفا» فنبه على أن ترک الجزاء على السیئة من مکارم الأخلاق ،
قال رسول الله صلى الله علیه وسلم فی الرجل الذی طلب القصاص من قاتل من هو ولیه ، فطلب منه رسول الله صلى الله علیه وسلم أن یعفو عنه أو بقبل الدیة ، فأبی ، فقال خذه ، فأخذه ، فلما قفی .
قال رسول الله صلى الله علیه وسلم « أما إنه إن قناه کان مثله » یرید قوله « وجزاء سیئة سیئة مثلها » فسمی قاتلا ، فبلغ ذلک القول الرجل ، فرجع إلى النبی عل وخلى" عن قتله وترکه وعفا.
فتوحات ج 1 / 379 - ج 4 / 104 ، 171
6 - یرید قوله صلى الله علیه وسلم « خلق الله آدم على صورته » .
راجع فص 1، هامش 4 ، ص 25
"" 4 . خلق الله آدم على صورته فص 1، هامش 4 ، ص 25
اعلم أنه لا یصح أن یکون شیء من العالم له وجود لیس هو على صورة الحق، فنسبة الحق إلى الخلق نسبة الإنسان إلى کل صنف من العالم ، والعالم عند الجماعة، هو إنسان کبیر فی المعنى والجرم.
یقول الله تعالى : "لخلق السموات والأرض أکبر من خلق الناس ولکن أکثر الناس لا یعلمون" .
فلذلک قلنا فی المعنى ، وما فی العلم عن الکل وإنما نقاه عن الأکثر ، والإنسان الکامل من العالم وهو له کالروح لجسم الحیوان ، وهو الإنسان الصغیر ، وسمی صغیرا لأنه انفعل عن الکبیر وهو، مختصر فالمطول العالم کله والمختصر الإنسان الکامل ، فالإنسان آخر موجود فی العالم لأن المختصر لا یختصر إلا من مطول وإلا فلیس بمختصر ، فالعالم مختصر الحق والإنسان مختصر العالم والحق ، فهو نقاوة المختصر.
فلما کان العالم على صورة الحق وکان الإنسان الکامل على صورة العالم وصورة الحق وهو قوله : " إن الله خلق آدم على صورته"، فلیس فی الإمکان أبدع ولا أکمل من هذا العالم إذ لو کان لکان فی الإمکان ما هو أکمل من الله .
فإن آدم وهو من العالم قد خلقه الله على صورته ، وأکمل من صورة الحق فلا یکون ، وما کملت الصورة من العالم إلا بوجود الإنسان .
فمن کل شیء فی الوجود زوجان الأن الإنسان الکامل والعالم بالإنسان الکامل على صورة الحق ، فامتاز الإنسان الکامل عن العالم مع کونه من کمال الصورة للعالم الکبیر بکونه على الصورة بانفراده ، من غیر حاجة إلى العالم .
فالإنسان الکامل وحده یقوم مقام الجماعة ، فإنه أکمل من عین مجموع العالم إذ کان نسخة من العالم حرفا بحرف (سنریهم آیاتنا فی الآفاق وفی أنفسهم ) ، ویزید أنه على حقیقة لا تقبل التضاؤل « خلق الله آدم على صورته » .
فحاز الإنسان الکامل صورة العالم وصورة الحق ففضل بالمجموع فجعل الحق الإنسان الکامل نسخة من العالم کله ، فما من حقیقة فی العالم إلا وهی فی الإنسان .
فهو الکلمة الجامعة وهو المختصر الشریف وجعل الحقائق الإلهیة التی توجهت على إیجاد العالم بأسره متوجهة على إیجاد هذه النشأة الإنسانیة الإمامیة ، فخلق الله تعالى الإنسان فی أحسن تقویم ، وأبرزه نسخة کاملة جامعة لصورة حقائق الحدث وأسماء القدیم ، أقامه سبحانه معنى رابطا للحقیقتین ، وأنشأه برزخا جامعا للطرفین والرقیقتین ، أحکم بیدیه صنعته وحسن بعنایته صبغته ، وکانت مضاهاته للأسماء الإلهیة بخالقه، ومضاهاته للأکوان العلویة والسفلیة بخلقه، فتمیز عن جمیع الخلائق بالخلقة المستقیمة والخلائق ، عین سبحانه سره مثالا فی حضرة الأسرار ، ومیز نوره من بین سائر الأنوار ، وقصب له کرسی العنایة بین حضرتیه ، وصرف نظر الولایة والنیابة فیه وإلیه .
فلم یخلق الله تعالى الإنسان عبثا بل خلقه لیکون وحده على صورته ، فکل من فی العالم جاهل بالکل عالم بالبعض ، إلا الإنسان الکامل وحده ، فإن الله علمه الأسماء کلها وآتاه جوامع الکلم ، فکملت صورته ، فجمع بین صورة الحق وصورة العالم ، فکان برزخا بین الحق والعالم ، مرآة منصوبة ، یرى الحق صورته فی مرآة الإنسان ، ویرى الخلق أیضا صورته فیه ، لأن الإنسان فیه مناسب من کل شیء فی العالم ، فیضاف کل مناسب إلى مناسبه بأظهر وجوهه ، ویخصصه الحال والوقت والسماع بمناسب ما دون غیره من المناسب ، إذا کان له مناسبات کثیرة لوجوه کثیرة یطلبها بذاته، فمن حصل هذه المرتبة حصل رتبة الکمال الذی لاأکمل منه فی الإمکان، ومعنى رؤیة صورة الحق فیه ، إطلاق جمیع الأسماء الإلهیة علیه ، کما جاء فی الخبر
"فبهم تنصرون" ، والله الناصر « وبهم ترزقون » والله الرازق « وبهم ترحمون ، والله الراحم ، وقد ورد فی القران فیمن علمنا کماله صلى الله علیه وسلم واعتقدنا ذلک فیه أنه « بالمؤمنین رؤوف رحیم » ، « وما أرسلناک إلا رحمة للعالمین » أی لترحمهم ، والتخلق بالأسماء یقول به جمیع العلماء ، فالإنسان متصف یسمى بالحی والعالم المرید السمیع البصیر المتکلم القادر وجمیع الأسماء الإلهیة من أسماء تنزیه وأفعال .
ولذلک عبر عن الإنسان الکامل بمرآة الحق ، والحقیقة من قوله تعالی « لیس کمثله شیء " وهی مثلیة لغویة ، وذلک عند بروز هذا الموجود فی أصفى ما یمکن وأجلی ، ظهر فیه الحق بذاته وصفاته المعنویة لا النفسیة ، وتجلى له من حضرة الجود ، وفی هذا الظهور الکریم قال تعالى : « لقد خلقنا الإنسان فی أحسن تقویم »
فالإنسان الکامل له الشرف على جمیع من فی السماء والأرض ، فإنه العین المقصودة للحق من الموجودات ، لأنه الذی اتخذه الله مجلی ، لأنه ما کمل إلا بصورة الحق ، کما أن المرآة وإن کانت تامة الخلق فلا تکمل إلا بتجلی صورة الناظر ، فتلک مرتبتها والمرتبة هی الغایة .
راجع فتوحات ج3 /152, 315 ,331 , 398 , 409.
ج4 / 21 , 132 , 230 , 231 , 409. عقلة المستوفز ۔ ذخائر الأعلاق ""
7 - الحسن ما حسنه الشرع
إذا نظرنا إلى العالم الإنسانی أین ظهر الحسن والقبح، قلنا لا حسن یقع به المنزلة عند الله ، ولا قبح یقع باجتنابه الخیر من الله إلا ما حسنه الشرع وقبحه.
فتوحات ج 2 / 240
ص 293
لنوامیس الإلهیة والحکمیة. "8"
وإذا علمت أن الله راعى هذه النشأة وإقامتها فأنت أولى بمراعاتها إذ لک بذلک السعادة، فإنه ما دام الإنسان حیا، یرجى له تحصیل صفة الکمال الذی خلق له.
ومن سعى فی هدمه فقد سعى فی منع وصوله لما خلق له.
وما أحسن ما قال رسول الله صلى الله علیه وسلم «ألا أنبئکم بما هو خیر لکم وأفضل من أن تلقوا عدوکم فتضربوا رقابهم ویضربون رقابکم؟ ذکر الله»."9"
وذلک أنه لا یعلم قدر هذه النشأة الإنسانیة إلا من ذکر الله الذکر المطلوب منه، فإنه تعالى جلیس من ذکره، والجلیس مشهود للذاکر.
ومتى لم یشاهد الذاکر الحق الذی هو جلیسه فلیس بذاکر.
فإن ذکر الله سار فی جمیع العبد لا من ذکره بلسانه خاصة.
فان الحق لا یکون فی ذلک الوقت إلا جلیس اللسان خاصة، فیراه اللسان من حیث لا یراه الإنسان: بما هو راء وهو البصر.
فافهم هذا السر فی ذکر الغافلین.
فالذاکر من الغافل حاضر بلا شک، والمذکور جلیسه، فهو یشاهده.
والغافل من حیث غفلته لیس بذاکر: فما هو جلیس الغافل.
فالإنسان کثیر ما هو أحدى العین، والحق أحدى العین کثیر بالأسماء الإلهیة:
کما أن الإنسان کثیر بالأجزاء: وما یلزم من ذکر جزء ما ذکر جزء آخر.
فالحق جلیس الجزء الذاکر منه والآخر متصف بالغفلة عن
.................................................................................................
8 - « ولکم فی القصاص حیاة ۰۰» الآیة
لما فی ذلک من مصالح الدنیا فعلل « یا أولی الألباب » وهم الناظرون فی اللب فعلموا أن القصاص إنما شرع لأن الجاهل لا یردعه مثل "الحجة" القول فیؤدیه احتمال الکامل مع جهله إلى إهلاک أولی الألباب ، فإذا علم أن النفس بالنفس ولابد ارتدع ، فقتل الجاهل کقطع عضو لسعته الحیة من الجسد إبقاء على باقی الجسد، فهو ینقصه إلا أن فیه مصلحته .
فتوحات ج 2 / 408 - کتاب تلقیح الأذهان .
9 - ضرب الرقاب هو الشهادة ،
وثبت بهذا الحدیث أن الذاکر حی وأن الذاکر أفضل من الشهید الذی لا یذکر الله ، وحیاة الذاکر خیر من حیاة الشهید إذا لم یکن ذاکرة ربه عز وجل.
فتوحات ج 4 / 462
ص 294
الذکر.
ولا بد أن یکون فی الإنسان جزء یذکر به یکون الحق جلیس ذلک الجزء فیحفظ باقی الأجزاء بالعنایة. "10"
وما یتولى الحق هدم هذه النشاة بالمسمى موتا، ولیس بإعدام وإنما هو تفریق، فیأخذه إلیه، ولیس المراد إلا أن یأخذه الحق إلیه، «وإلیه یرجع الأمر کله» "11"
فإذا أخذه إلیه سوى له مرکبا غیر هذا المرکب من جنس الدار التی ینتقل إلیها، وهی دار البقاء لوجود الاعتدال: فلا یموت أبدا، أی لا تفرق أجزاؤه.
وأما أهل النار فمآلهم إلى النعیم، ولکن فی النار إذ لا بد لصورة النار بعد انتهاء مدة العقاب أن تکون بردا وسلاما على من فیها. وهذا
..............................................
10 - «انا جلیس من ذکرنی ۰۰۰ » الحدیث
اتخذ الله جلیسا بالذکر ، والذکر هو القرآن حتى تکون من أهل القرآن : وهم أهل الله وخاصته ، فمن کان الحق جلیسه فهو أنیسه ، فلابد أن ینال من مکارم الأخلاق على قدر مدة مجالسته ، وإذا کان الحق یرحم من جلس إلى قوم یذکرونه لأنهم القوم لا یشقى جلیسهم ، فکیف یشقى من کان الحق جلیسه .
ولابد أن یکون الله مع الذاکرین بمعیة اختصاص ، وإلا لم یکن بینهم وبین غیرهم فرقان ، فإنه تعالی معهم حیثما کانوا وأینما کانوا ، وما ثم إلا مزید علم به یظهر الفضل .
وعلى قدر ذکر الذاکر یکون الحق دائم الجلوس معه ، فکل ذاکر لا یزید علما فی ذکره بمذکوره فلیس بذاکر ، وإن ذکر بلسانه ، لأن الذاکر هو الذی یعمه الذکر ، فذلک هو جلیس الحق ، فلابد من حصول الفائدة .
فتوحات ج 1 / 407 - ج 2 / 151 - ج 3 / 457 - ج 4 / 441 ، 461
11 - « وإلیه یرجع الأمر کله » الآیة
سمی رجوعا لکونه منه خرج وإلیه یعود ، وفیما بین الخروج والعود وضعت الموازین ومد الصراط ووقعت الدعاوى وظهرت الآفات وکانت الرسل وجاءت الأدواء ، فمنهم المستعمل لها والآخذ بها والتارک لها ، فإنه لا تغرب الأمر عند المحجوبین عن موطنه بما ادعوه فیه لأنفسهم ، قیل لهم « وإلیه یرجع الأمر کله » لو نظرتم من نسبتم إلیه هذا الفعل منکم إنما هو الله لا أتم ، فأضاف الحق الأفعال إلیه ، لیحصل للعبد الطمأنینة بأن الدعوى لا تصح فیها ، مع التمییز بین ما یستحقه
ص 295
نعیمهم. "13"
فنعیم أهل النار بعد استیفاء الحقوق نعیم خلیل الله حین ألقی فی النار فإنه علیه السلام تعذب برؤیتها وبما تعود فی علمه وتقرر من أنها صورة تؤلم من جاورها من الحیوان. وما علم مراد الله فیها ومنها فی حقه.
فبعد وجود هذه الآلام وجد بردا وسلاما مع شهود الصورة اللونیة فی حقه، وهی نار فی عیون الناس.
فالشیء الواحد یتنوع فی عیون الناظرین: هکذا هو التجلی الإلهی.
فإن شئت قلت إن الله تجلى مثل هذا الأمر، وإن شئت قلت إن العالم فی النظر إلیه وفیه مثل الحق فی التجلی، فیتنوع فی عین الناظر بحسب مزاج الناظر أو یتنوع مزاج الناظر لتنوع التجلی: وکل هذا سائغ فی الحقائق. "13"
ولو أن المیت والمقتول أی میت کان أو أی مقتول کان إذا مات أو قتل لا یرجع إلى الله، لم یقض الله بموت أحد ولا شرع قتله.
فالکل فی قبضته: فلا فقدان فی حقه.
فشرع القتل وحکم بالموت لعلمه بأن عبده لا یفوته: فهو راجع إلیه على أن قوله «وإلیه یرجع الأمر کله» أی فیه یقع التصرف، وهو المتصرف، فما خرج عنه شیء لم یکن عینه، بل هویته هو عین ذلک الشیء وهو الذی یعطیه الکشف فی قوله «و إلیه یرجع الأمر کله». "14"
......................................................
الحق عز وجل وما لا یستحقه ، فإذا بلغ العبد هذا الحد رد الأمور کلها لله ، ولما رجع الأمر کله لله مسا وقعت فیه الدعاوى الکاذبة ، لم یدل رجوعها إلى الله تعالى على أمر لم یکن علیه الله ، بل هویته هی هی فی حال الدعاوى فی المشارکة ، وفی حال رجوع الأمر إلیه ، والمقام لیس إلا للتمییز .
فتوحات ج 1 / 418 - ج 2 / 144 - ج 4 / 28
12 - راجع شمول الرحمة وعدم سرمدة العذاب .
فص 7، هامش 17 ، ص 117
"" 17 ۔ شمول الرحمة وعدم سرمدة العذاب فص 7، هامش 17 ، ص 117
من اختصاص البسملة فی أول کل سورة تویج الرحمة الإلهیة فی منشور تلک السورة أنها منه کعلامة السلطان على مناشیره، وسورة التوبة والأنفال سورة واحدة قسمها الحق على فصلین ، فإن فصلها وحکم بالفصل فقد سماها سورة التوبة ، أی سورة الرجعة الإلهیة بالرحمة على من غضب علیه من العباد ، فما هو غضب أبد لکنه غضب أمد ، والله هو التواب .
فما قرن بالتواب إلا الرحیم لیؤول المغضوب علیه إلى الرحمة ، أو الحکیم لضرب المدة فی الغضب وحکمها فیه إلى أجل ، فیرجع علیه بعد انقضاء المدة بالرحمة ، فانظر إلى الاسم الذی نعت به التواب تجد حکمه کما ذکرنا ، والقرآن جامع لذکر من رضی عنه وغضب علیه ، وتتویج منازله بالرحمن الرحیم ، والحکم للتتویج ، فإنه به یقع القبول ، وبه یعلم أنه من عند الله ، فثبت انتقال الناس فی الدارین فی أحوالهم من نعیم إلى نعیم ، ومن عذاب إلى عذاب ، ومن عذاب إلى نعیم ، من غیر مدة معلومة لنا ، فإن الله ما عرفنا ، إلا أنا استروحنا من قوله « فی یوم کان مقداره خمسین ألف سنة » أن هذا القدر مدة إقامة الحدود .
خلق الله الخلق قبضتین فقال هؤلاء للنار ولا أبالی ، وهؤلاء إلى الجنة ولا أبالی .
فمن کرمه تعالی لم یقل هؤلاء للعذاب ولا أبالی وهؤلاء إلى النعیم ولا أبالی وإنما أضافهم إلى الدارین لیعمروها ، فإنه ورد فی الخبر الصحیح أن الله لما خلق الجنة والنار قال لکل واحدة منهما لها علی" ملؤها ، أی أملؤها سکانا ، فیستروح من هذا عموم الرحمة فی الدارین وشمولها حیث ذکرهما ولم یتعرض لذکر الآلام وقال بامتلائهما وما تعرض لشیء من ذلک .
فکان معنى « ولا أبالی » فی الحالتین لأنهما فی المال إلى الرحمة ، فلذلک لا یبالی فیهما ، ولو کان الأمر کما یتوهمه من لا علم له من عدم المبالاة.
ما وقع الأخذ بالجرائم ، ولا وصف الله نفسه بالغضب ، ولا کان البطش الشدید ، فهذا کله من المبالاة والتهمم بالمأخوذ ، إذ لو لم یکن له قدر ما عذب ولا استعد له ، وقد قیل فی أهل التقوى إن الجنة أعدت للمتقین ، وقال فی أهل التقاء « وأعد لهم عذابا ألیما » فلولا المبالاة ما ظهر هذا الحکم .
فما أعظم رحمة الله بعباده وهم لا یشعرون ، فإن الرحمة الإلهیة وسعت کل شیء ، فما ثم شیء لا یکون فی هذه الرحمة « إن ربک واسع المغفرة » فلا تحجروا واسعا فإنه لا یقبل التحجیر ، ولقد رأیت جماعة ممن ینازعون فی اتساع رحمة الله وأنها مقصورة على طائفة خاصة ، فحجروا وضیقوا ما وسع الله ، فلو أن الله لا یرحم أحدا من خلقه لحرم رحمته من یقول بهذا ، ولکن أبی الله تعالى إلا شمول الرحمة ،
قال تعالى لنبیه صلى الله علیه وسلم : « وما أرسلناک إلا رحمة للعالمین » ، وما خص مؤمنا من غیره ، والله أرحم الراحمین کما قال عن نفسه ، وقد وجدنا من نفوسنا ، وممن جبلهم الله على الرحمة انهم یرحمون جمیع العباد ، حتى لو حکمهم الله فی خلقه لأزالوا صفة العذاب من العالم ، بما تمکن حکم الرحمة من قلوبهم ، وصاحب هذه الصفة أنا وأمثالی مخلوقون أصحاب أهواء وأغراض ، وقد قال عن نفسه جل علاه أنه أرحم الراحمین ، فلا شک أنه أرحم منا بخلقه ، و نحن قد عرفنا من تفوسنا هذه المبالغة فی الرحمة .
فکیف یتسرمد، علیهم العذاب وهو بهذه الصفة العامة من الرحمة ، إن الله أکرم من ذلک ، ولا سیما وقد قام الدلیل العقلی على أن الباری لا تنفعه الطاعات، ولا تضره المخالفات، وان کل شیء جار بقضائه وقدره وحکمه.
وأن الخلق مجبورون فی اختیارهم ، وقد قام الدلیل السمعی أن الله یقول فی الصحیح « یا عبادی » فأضافهم إلى نفسه ، وما أضاف الله قط العباد لنفسه إلا من سبقت له الرحمة ألا یؤبد علیهم الشقاء وإن دخلوا النار .
فقال : « یا عبادی لو أن أولکم وآخرکم وإنسکم وجنکم اجتمعوا على أتقى قلب رجل واحد منکم ما زاد ذلک فی ملکی شیئا ، یا عبادی لو أن أولکم وآخرکم وإنسکم وجنکم اجتمعوا على أفجر قلب رجل واحد منکم ما نقص ذلک من ملکی شیئا » .
وهذه مسألة المکاشف لها قلیل ، والمؤمن بها أقل ، وهو سر عجیب ، ما رأینا أحدا نبه علیه من خلق الله ، وإن کانوا قد علموه بلا شک ، وما صانوه والله أعلم إلا صیانة لأنفسهم ورحمة بالخلق .
لأن الإنکار یسرع إلیه من السامعین ، ووالله ما نبهت علیه هنا إلا لغلبة الرحمة علیه فی هذا الوقت ، فمن فهم سعد ومن لم یفهم لم یشق بعدم فهمه وإن کان محروما ، فقد أظهرت أمرا فی هذه المسألة لم یکن باختیاری ، ولکن حق القول الإلهی بإظهاره ، فکنت فیه کالمجبور فی اختیاره ، والله ینفع به من یشاء لا إله إلا هو .
الفتوحات : ج2 / 148 ، 244 ، 674 - ج 3 / 25 ، 100 ، 101 ، 383 . ج 4 / 163 . ""
13 - راجع التجلی - فص 12 ، هامش 9، ص 183
"" 9 – أ - التجلی الإلهی : فص 12 ، هامش 9، ص 183
لما کان العلم الأول فی المعرفة هو العلم بالحقائق وهو العلم بالأسماء الإلهیة کان العلم الثانی من علوم المعرفة هو علم التجلی ، وهو أن التجلی الإلهی دائم لا حجاب علیه ، ولکن لا یعرف أنه هو ، فإن الحضرة الإلهیة متجلیة على الدوام لا یتصور فی حقها حجاب عناء .
واعلم أن الحق له نسبتان فی الوجود :
نسبة الوجود النفسی الواجب له .
ونسبة الوجود الصوری ، وهو الذی یتجلى فیه لخلقه .
إذ من المحال أن یتجلى فی الوجود النفسی الواجب له ، فالتجلی الذاتی منوع بلا خلاف بین أهل الحقائق فی غیر مظهر ، لأنه لا عین لنا ندر که بها، إذ نحن فی حال عدمنا ووجودنا مرجحون ، لم یزل عنا حکم الإمکان ، فلا تراه إلا بنا من حیث ما تعطیه حقائقنا ، لأن التجلی على ما هو المتجلی علیه فی نفسه محال حصوله لأحد ، فلا یقع التجلی إلا من دون ذلک مما یلیق بمن یتجلى له .
فعلمنا قطعا أن الذات لا تتجلى أبدا من حیث هی ، وإنما تتجلى من حیث صفة ما معتلیة ، والتجلی الإلهی لا یکون إلا للإله والرب، لا یکون الله أبدا فإن الله هو الغنی .
کما لا یتجلى فی الاسم الأحد ولا فی الاسم الله ولا یصح النجلی فیه ، فإنه لا یعرف معناه ، ولا یسکن وقتا ما فی معناه .
و بهذا السر تمیز الإله من المألوه ، والرب من المربوب ، وما عدا هذین الأسمین من الأسماء المعلومات لنا فإن التجلی یقع فیها ، کما أن حضرة الجلال لها السبحات المحرقة، ولهذا لا یتجلى فی جلاله أبدا ، ولکن یتجلى فی جلال جماله لعباده ، فبه یقع التجلی .
إذا علمت هذا فلابد أن یکون تجلی الحق فی الوجود الصوری ، وهو التجلی فی المظاهر ، وهو التجلی فی صور المعتقدات کائنة بلا خلاف ، والتجلی فی المعقولات کائن بلا خلاف ، وهما تجلی الاعتبارات ، لأن هذه المظاهر سواء کانت صورالمعقولات أو صور المعتقدات فإنها جسور یعبر علیها بالعلم.
أی یعلم أن وراء هذه الصور أمر لا یصح أن یشهد ولا أن یعلم ، ولیس وراء ذلک العلوم الذی لا یشهد ولا یعلم حقیقة ما یعلم أصلا، وأما التجلی فی الأفعال أعنی نسبة ظهور الکائنات والمظاهر عن الذات التی تتکون عنها الکائنات وتظهر عنها المظاهر ، فالحق سبحانه قرر فی اعتقادات قوم وقوع ذلک ، وقرر فی اعتقادات قوم منع وقوع ذلک .
فالتجلی الصوری هو الذی یقبل التحول والتبدل ، فتارة یوصف به الممکن الذی یختلع به ، وتارة یظهر به الحق فی تجلیه ، فإن للألوهیة أحکاما وإن کانت حکما ، وفی صورة هذه الأحکام یقع التجلی فی الدار الآخرة حیث کان ، فإنه قد اختلف فی رؤیة النبی مع ربه کما ذکر ، وقد جاء حدیث النور الأعظم من رفرف الدر والیاقوت وغیر ذلک .
واعلم أن الله تجلیین ، تجلیا عاما إحاطیا ، وتجلیا خاصا شخصیا، فالتجلی العام تجل رحمانی ، وهو قوله تعالى « الرحمن على العرش استوى » والتجلی الخاص هو ما لکل شخص شخص من العلم بالله .
فتوحات ج 1 / 41 ، 91 - ج 2 / 303 ، 542 ، 606 - ج 3 / 101 ، 178 ، 180 ، 516.
ذخائر الأعلاق - التنزلات الموصلیة .
الجزء الثانی
9 - ب - حظ العارف من العلوم فی التجلی:
لما کانت العلوم تعلو وتتضع بحسب المعلوم لذلک تعلقت الهمم بالعلوم الشریفة العالیة التی إذا اتصف بها الإنسان زکت نفسه وعظمت مرتبته .
فأعلاها مرتبة العلم بالله ، وأعلى الطرق إلى العلم بالله علم التجلیات ودونها علم النظر ، ولیس دون النظر علم إلهی وإنما هی عقائد فی عموم الخلق لا علوم، التجلی أشرف الطرق إلى تحصیل العلوم ، فأول مقام للعارف هو أن یتجلى له الحق فی غیر مادة ، لأن العارف أو العالم
فی حضرة الفکر والعقل ، فیعلم من الله على قدر ما کان ذلک التجلی ولا یقدر أحد على تعیین ما تجلى له من الحق ، إلا أنه تجلى فی غیر مادة لا غیر .
وسبب ذلک أن الله یتجلى لکل عبد من العالم فی حقیقة ما هی عین ما تجلى بها لعبد آخر ، ولا هی عین ما یتجلى له بها فی مجلى آخر .
فلذلک لا یتعین ما تجلى فیه ولا ینقال ، فإذا رجع العبد من هذا المقام إلى عالم نفسه عالم المواد صحبه تجلی الحق ، فما من حضرة یدخلها من الحشرات لها حکم إلا ویرى الحق قد تحول بحکم تلک الحضرة ، والعبد قد ضبط منه أولا ما ضبط ، فیعلم أنه قد تحول فی أمر آخر ، فلا یجهله بعد ذلک أبدا ولا ینحجب عنه .
فإن الله ما تجلى لأحد فاتحجب عنه بعد ذلک ، فإنه غیر ممکن أصلا ، فإذا نزل العبد إلى عالم خیاله وقد عرف الأمور على ما هی علیه مشاهدة وقد کان قبل ذلک عرفها علما و إیمانا ، رأى الحق فی حضرة الخیال صورة جسدیة ، فلم ینکره وأنکره العابر والأجانب .
ثم نزل من عالم الخیال إلى عالم الحس والمحسوس فنزل الحق معه لنزوله فإنه لا یفارقه ، فیشاهده صورة کل ما شاهده من العالم ، لا یخص به صورة دون صورة من الأجسام والأعراض ، ویراه عین نفسه ، ویعلم أنه ما هو عین نفسه ولا عین العالم.
ولا یحار فی ذلک لما حصل له من التحقیق بصحبة الحق فی نزوله معه من المقام الذی یستحقه ، وهذا مشهد عزیز .
ما رأیت من یقول به من غیر شهود إلا فی عالم الأجسام و الأجساد ، وسبب ذلک عدم الصحبة مع الحق لما نزل من المقام الذی یستحقه ، وما رأیت واحدا من أهل هذا المقام ذوقا .
إلا أنه أخبرتنی أهلی مریم بنت عبدون أنها أبصرت واحدا وصفت لی حاله ، فعلمت أنه من أهل هذا الشهود إلا أنها ذکرت عنه أحوالا تدل على عدم قوته فیه وضعفه مع تحققه بهذا الحال .
ورد فی الخبر الصحیح فی تجابه سبحانه فی موطن التلبیس ، وهو تجلیه فی غیر صور الاعتقادات من حضرة الاعتقادات ، فلا یبقى أحد یقبله ولا یقر به ، بل یقولون
إذا قال لهم « أنا ربکم » « نعوذ بالله منک » فالعارف فی ذلک المقام یعرفه ، غیر أنه قد علم منه بما أعلمه أنه لا یرید أن یعرفه فی تلک الحضرة من کان هنا مقید المعرفة بصورة خاصة یعبده فیها .
فمن أدب العارف أن یوافقهم فی الإنکار ولکن لا یتلفظ بما تلفظوا به من الاستعاذة منه ، فإنه یعرفه ، فإذا قال لهم الحق فی تلک الحضرة عند تلک النظرة « هل کان بینکم وبینه علامة تعرفونه بها» فیقولون « نعم » فیتحول لهم سبحانه فی تلک العلامة ، مع اختلاف العلامات .
فإذا رأوها وهی الصورة التی کانوا یعبدونه فیها ، حینئذ اعترفوا به ، ووافقهم العارف بذلک فی اعترافهم ، أدبا منه مع الله وحقیقة ، وأقر له بما أقرت الجماعة .
راجع کتابنا الخیال ص 15 ، 24، وکتابنا ترجمة حیاة الشیخ ص 171.
فتوحات ج 1/ 166 - ج 2 / 609 - ج 3 / 234 ، 235.
9 - ج - التجلی الإلهی للحس والبواطن من الاسم الإلهی الظاهر
إن الله جعل لکل شیء ونفس الإنسان من جملة الأشیاء ظاهرا وباطنا.
فهی تدرک بالظاهر أمورا تسمى عینا، وتدرک بالباطن أمورا تسمى علما، والحق سبحانه هو الظاهر والباطن، فبه یقع الإدراک.
فإنه لیس فی قدرة کل ما سوى الله أن یدرک شیئا بنفسه ، وإنما أدر که بما جعل الله فیه (راجع « کنت سمعه و بصره » (الفص 10 ص 146 ) .
و تجلی الحق لکل من تجلى له من أی عالم کان من عالم الغیب والشهادة إنما هو من الاسم الظاهر ، وأما الاسم الباطن فمن حقیقة هذه النسبة أنه لا یقع فیها تجل أبدا لا فی الدنیا ولا فی الآخرة .
إذ کان التجلی عبارة عن ظهوره لمن تجلى له فی ذلک المجلی ، وهو الاسم الظاهر ، فإن معقولیة النسب لا تتبدل وإن لم یکن لها وجود عینی لکن لها الوجود العقلی ، فهی معقولة ، فإذا تجلى الحق إما منة أو إجابة لسؤال فیه ، فتجلى لظاهر النفس ، وقع الإدراک بالحس فی الصورة فی برزخ التمثل ، فوقعت الزیادة عند المتجلى له فی علوم
الأحکام إن کان من علماء السریعة، ومن علوم موازین المعانی إن کان منطقیا، ومن علم میزان الکلام إن کان نحویا.
وکذلک صاحب کل علم من علوم الأکوان وغیر الأکوان تقع له الزیادة فی نفسه من علمه الذی هو بصدده، فأهل هذه الطریقة یعلمون أن هذه الزیادة إنما کانت من ذلک التجلی الإلهی لهؤلاء الأصناف.
فإنهم لا یقدرون على إنکار ما کشف لهم، وغیر العارفین یحسون بالزبادة وینسبون ذلک إلى أفکارهم، وغیر هذین یجدون من الزیادة ولا یعلمون أنهم استزادوا شیئا فهم فی المثل کمثل الحمار یحمل أسفارا.
وإذا وقع التجلی أیضا بالاسم الظاهر الباطن النفس وقع الإدراک بالبصیرة فی عالم الحقائق والمعانی المجردة عن المواد، وهی المعبر عنها بالنصوص.
إذ النص ما لا إشکال فیه ولا احتمال بوجه من الوجوه، ولیس ذلک إلا فی المعانی، فیکون صاحب المعانی مستریحا من تعب الفکر، فتقع الزیادة عند التجلی فی العلوم الإلهیة وعلوم الأسرار وعلوم الباطن وما یتعلق بالآخرة، وهذا مخصوص بأهل طریقنا.
فتوحات ج 1 / 166 .
9 - د - التجلی لکل مخلوق من الوجه الخاص
اعلم أنه ما من موجود فی العالم إلا وله وجه خاص إلى موجده إذا کان من عالم الخلق، وإن کان من عالم الأمر فما له سوى ذلک الوجه الخاص.
وأن الله یتجلى لکل موجود من ذلک الوجه الخاص فیعطیه من العلم به ما لا یعلمه منه إلا ذلک الموجود.
وسواء علم ذلک الموجود أو لم یعلمه، أعنی أن له وجها خاصا، وأن له من الله علما من حیث ذلک الوجه، لا علم للعقل به، فإنه سر الله الذی بینه وبین کل مخلوق لا تعرف نسبته.
ولا یدخل تحت عبارة، ولا یقدر مخلوق على إنکار وجوده، فهو المعلوم المجهول وما فضل أهل الله إلا بعلمهم بذاک الوجه، ثم یتفاضل أهل الله فی ذلک.
فمنهم من یعلم العلم الذی یحصل له من التجلی، ومنهم من لا یعلمه، أعنی على التعیین .
وما أعنی بالعلم إلا متعلق العلم هل هو کون أو هو الله من حیث أمر ما.
فتوحات ج 2 / 304 - ج 4 / 222 .
9 - هـ - أنواع التجلی الإلهی
اعلم أن التجلی الإلهی لکل مخلوق من الوجه الخاص هو التجلی فی الأشیاء المبقی أعیانها .
وأما التجلی للاشیاء فهو تجل یفنی أحوالا ویعطی أحوالا فی المتجلی له .
ومن هذا التجلی توجد الأعراض والأحوال فی کل ما سوى الله ، ثم له تجل فی مجموع الأسماء فیعطی فی هذا التجلی فی العالم المقادیر والأوزان والأمکنة والأزمان والشرائع وما یلیق بعالم الأجسام وعالم الأرواح والحروف اللفظیة والرقمیة وعالم الخیال .
ثم له تجل آخر من أسماء الإضافة خاصة ، کالخالق وما أشبهه من الأسماء ، فیظهر فی العالم التوالد والتناسل والانفعالات والاستحالات والأنساب ، وهذه کلها حجب على أعیان الذوات الحاملات لهذه الحجب عن إدراک ذلک التجلی الذی لهذه الحجب الموجد أعیانها فی أعیان الذوات . و بهذا القدر تنسب الأفعال للأسباب .
ولولاها لکان الکشف فلا یجهل ، فـ بالتجلی تغیر الحال على الأعیان الثابتة من الثبوت إلى الوجود ، وبه ظهر الانتقال من حال إلى حال فی الموجودات، وهو خشوع تحت سلطان التجلی .
فله النقیضان یمحو ویثبت ، ویوجد ویعدم ، فالله متجلی على الدوام لأن التغییرات مشهودة على الدوام فی الظواهر والبواطن ، والغیب والشهادة والمحسوس والمعقول ، فشأنه التجلی وشأن الموجودان التغییر بالانتقال من حال إلى حال ، فمنا من یعرفه ، ومنا من لا یعرفه .
فمن عرفه عبده فی کل حال ومن لم یعرفه أنکره فی کل حال.
فتوحات ج 2 / 303 ، 304 .
9 - و - الموانع من إدراک التجلی
القلوب أبدا لا تزال مفطورة على الجلاء مصقولة صافیة ، فکل قلب تجلت فیه الحضرة الإلهیة من حیث هی یاقوت أحمر ، الذی هو التجلی الذاتی ( هذا اصطلاح لیس المقصود منه تجلی الذات على ما هی علیه ) .
فذلک قلب المشاهد المکمل العالم الذی لا أحد فوقه فی تجلی من التجلیات ، ودونه تجلی الصفات ، ودونهما تجلی
الأفعال ، ولکن من کونها من الحضرة الإلهیة .
ومن لم تتجلى له من کونها من الحضرة الإلهیة فذلک هو القلب الغافل عن الله تعالى المطرود من قرب الله تعالى .
فانظر وفقک الله فی القلب على حد ما ذکرناه ، وإن اشتغل القلب بعلم الأسباب عن العلم بالله ، کان تعلقه بغیر الله صدأ على وجه القلب لأنه المانع من تجلی الحق إلى هذا القلب .
فما یجده عالم الطبیعة من الحجب المانعة عن إدراک الأنوار من العلوم والتجلیات بکدورات الشهوات والشبهات الشرعیة وعدم الورع فی اللسان والنظر والسماع والمطعم والمشرب والملبس والمرکب والمنکح، و کدورات الشهوات بالانکباب علیها والاستفراغ فیها وإن کانت حلالا.
وإنما لم یمنع نیل الشهوات فی الآخرة وهی أعظم من شهوات الدنیا من التجلی ، لأن التجلی هناک على الأبصار ، ولیست الأبصار محل الشهوات .
والتجلی هنا فی الدنیا إنما هو على البصائر والبواطن دون الظاهر ، والبواطن محل الشهوات .
ولا یجتمع التجلی والشهوة فی محل واحد ، فلهذا جنح العارفون والزهاد فی الدنیا إلى التقلیل من نیل شهواتها والشغل بکسب حطامها .
ومن أحدث فی نفسه ربوبیة فقد انتقص من عبودیته بقدر ما أحدث ، وإذا انتقص من عبودیته بقدر ذلک ینتقص من تجلی الحق له ، وإذا انتقص من تجلی الحق له اتنقص علمه بربه ، وإذا انتقص علمه بربه جهل منه سبحانه وتعالى بقدر ما نقصه
فتوحات ج 1 / 91 ، 154 ، 343.
9 - ز - الإستعداد للتجلی
اعلم أن نور التجلی المنفهق یسری فی زوایا الجسم فیبهت العقل وبهره ، فلا یظهر للمتجلی له تصریف ولا حرکة لا ظاهرة ولا باطنة.
فإذا أراد الله أن یبقی العبد أرسل على القلب سحابة کون ما تحول بین النور المنفهق من التجلی وبین القلب .
فیتشر النور إلیها منعکسا وتشرح الأرواح والجوارح ، وذلک هو التثبیت ، فیبقى العبد مشاهدا من وراء تلک السحابة ، لبقاء الرسم ، وبقی التجلی دائما لا یزول أبدا ، ولهذا یقول کثیر إن الحق ما تجلى لشیء قط ثم انحجب عنه بعد ذلک ، ولکن تختلف الصفات .
واعلم أیدنا الله وإیاک ، أن الأمر فی التجلی قد یکون بخلاف ترتیب الحکمة التی عهدت ، وذلک أنا قد بینا استعداد القوابل .
وأن هناک لیس منع بل فیض دائم وعطاء غیر محظور [ فلو لم یکن المتجلى له على استعداد ، أظهر له ذلک الاستعداد هذا المسمى تجلیا ، ما صح أن یکون هذا التجلی ، فکان ینبغی له أن لا یقوم به دک ولا صعق ، هذا قول المعترض علینا ] .
قلنا له یا هذا :
الذی قلناه من الاستعداد ، نحن على ذلک ، الحق متجلی دائما والقابل لإدراک هذا التجلی لا یکون إلا باستعداد خاص ، وقد صح له ذلک الاستعداد فوقع التجلی فی حقه ، فلا یخلو أن یکون له أیضا استعداد البقاء عند التجلی أو لا یکون له ذلک .
فإن کان له ذلک فلابد أن یبقى ، وإن لم یکن له فکان له استعداد قبول التجلی ولم یکن له استعداد البقاء .
ولا یصح أن یکون له فإنه لابد من اندکاک أو صعق أو فناء أو غیبة أو غنیة ، فإنه لا یبقى له مع النهود غیر ما شهد فلا تطمع فی غیر مطمع.
إذا تجلى لمن تجلى ... أصعقه ذلک التجلی
وإن تولى عمن تولى ... أهلکه ذلک التولی
وإن تدلى بمن تدلى ... نوره ذلک التدلی
قلت الذی قدسمعتموه ... بالله یا سیدی فقل لی
لما رأیت الذی تجلى ... اشهدنی فیه عین ظلی
من لی إذا لم أکن سواه ... ولیس عینی قل لی فمن لی
الله لا ظاهر سواه ... فی کل ضد وکل مثل
وکل جنس وکل نوع ... وکل وصل وکل فصل
وکلحس وکل عقل ... وکل جسم وکل شکل
فلیس التفاضل ولا الفضل فی التجلی ، وإنما التفاضل والفضل فیما یعطی الله لهذا المتجلى له من الاستعداد .
وعین حصول التجلی عین حصول العلم لا یعقل بینهما بون ، کوجه الدلیل فی الدلیل سواء ، بل هذا أتم وأسرع فی الحکم ، ولا یدل تعدد التجلیات ولا کثرتها على الأشرفیة،
وإنما الأشرف من له المقام الأعم، وأما التجلی الذی یکون معه البقاء والعقل والالتذاذ والخطاب والقبول فذلک التجلی الصوری.
ولابد مع التجلی من تعریف إلهی، إما بصفاء الإلهام أو بما شاء الحق من أنواع التعریف، ومن لم یر غیر التجلی الصوری ربما حکم على التجلی بذلک مطلقا من غیر تقیید، والذی ذاق الأمرین فرق ولابد.
الفتوحات ج 1 / 295 - ج 2 / 541 - ج 4 / 191 ، 192 - کتاب التدبیرات الإلهیة .
9 - ح - التجلی الإلهی فی الصور فی حضرة الخیال المطلق
الحقائق لا تنقلب فاللطف محال أن یرجع کثافة، ولکن اللطیف یرجع کثیفا کالحار یرجع باردا أو البارد حارا.
من هذا الباب یظهر تجلی الحق فی الصور التی ینکر فیها أو یرى فی النوم، فیرى الحق فی صورة الخلق بسبب حضرة الخیال.
فإن الحضرات تحکم على النازل فیها وتکسوه من خلعها ما تشاء، أین هذا التجلی من « لیس کمثله شیء» ومن « سبحان ربک رب العزة عما یصفون » .
فالحکم للحضرة والموطن لأن الحکم للحقائق، والمعانی توجب أحکامها لمن قامت به ، فإن الله إذا تجلی فی صورة البشر کما ورد فإنه یظهر بصورتها حسا ومعنی ، وهو اتصافه بالأوصاف الطبیعیة من تغیر الأحوال فی الغضب والرضى والفرح والنزول والهرولة .
فإذا تجلى الحق للإنسان فی المنام فی صورته أو غیره فی أی صورة تجلی، فلینظر فیما یلزم تلک الصورة المتجلی فیها من الأحکام فیحکم على الحق بها فی ذاک الموطن ؛ فإن مراد الله فیها ذلک الحکم ولابد ، ولهذا نجلى فیها على الخصوص دون غیرها، ویتحول الحکم بتحول الصور .
فکما أن کل موجود هو إما محدث وهو الخلق وإما محدث اسم فاعل وهو الخالق فکذلک الصورة تقبل القدم والحدوث.
ولذلک یتجلى الحق لعباده على ما شاءه من صفاته، ولهذا ینکره قوم فی الدار الآخرة لأنه تعالی تجلى لهم فی غیر الصورة والصفة التی عرفوها منه.
ویتجلى للعارفین على قلوبهم وعلى ذواتهم فی الآخرة
عموما ، وعلى التحقیق الذی لا خفاء به عندنا أن حقائق الذات هی المتجلیة للصنفین فی الدارین أن عقل أو فهم من الله تعالى ، المرئی فی الدنیا بالقلوب والأبصار ، مع أنه سبحانه النبیء عن عجز العباد عن درک کنهه .
فقال « لاتدرکه الأبصار وهو یدرک الأبصار وهو اللطیف الخبیر » لطیف بعباده بتجلیه لهم على قدر طاقتهم « خبیر » ضعفهم عن حمل تجلیه الأقدس على ما نعطیه الألوهیة ، إذ لا طاقة للتحدث على حمل القدیم.
الفتوحات ج 1 / 77 - ج 2 / 472 - ج 3 / 280 ، 286 - ج 4 / 289 .
واعلم أن الله تعالی ما تجلى لک إلا فی صورة علمه بک ولا کان عالما بک إلا منک. وأنت بذاتک أعطیته العلم بک، فإن الصورة تنقلب علیک إلى ما لا نهایة له، وتتقلب فیها أنت ، وتظهر بها إلى ما لا نهایة فیه .
ولکن حالا بعد حال ، انتقالا لا یزول؛ وقد علمک تعالى فی هذه الصور على عدم تناهیها ، فیتجلى لک فی صورة لم یبلغ وقت ظهورک بها .
لأنک مقید وهو غیر مقید ، بل قیده إطلاقه ، وإنما یفعل هذا مع عباده لیظهر لهم فی حال النکرة ، ولهذا ینکرون .
إلا العارفون بهذا المقام فإنهم لاینکرونه فی أی صورة ظهر فإنهم قد حفظوا الأصل وهو أنه ما یتجلى لمخلوق إلا فی صورة المخلوق ، إما التی هو علیها فی الحال فیعرفه أو ما یکون علیه بعد ذلک فینکره.
حتى یرى تلک الصورة قد دخل فیها فحینئذ یعرفه ، فإن الله علیه وعام ما یؤول إلیه ، والمخلوق لا یعلم من أحواله إلا ما هو علیه فی الوقت ، و من عباد الله من یعلم ذلک إذا رأى الحق فی صورة لا یعرفها .
علم بحکم الوطن وما عنده من القبول أنه ما تجلى له إلا فی صورة هی له وما وصل وقتها ، فعلمها قبل أن یدخل فیها ، فهذا من الزیادة فی العلم التی زادها الله ، فشکر الله الذی عرفه من موحان الإنکار .
الفتوحات ج 4 / 109 ، 110
وصاحب الرؤیا إذا رأى ربه تعالی کفاحا فی منامه فی أی صورة یراه یقول رأیت ربی فی صورة کذا وکذا و یصدق ، ویصدق مع قوله تعالی «لیس کمثله شیء » .
فنفى عنه المماثلة فی قبوله التجلی فی الصور کلها التی لا نهایة لها لنفسه .
فإن کل من سواه تعالی ممن له التجلی فی الصور لا یتجلى فی شیء منها لنفسه ، وإنما یتجلى فیها بمشیئة خالقه وتکوینه ، فیقول للصورة التی یدخل فیها من هذه صفته کن فتکون الصورة فیظهر بها من له هذا القبول إذا شاء الحق .
قال تعالى : " فی أی صورة ما شاء رکبک "، فجعل الترکیب الله لا له ، وفی نسبة الصورة لله تعالى یقال فی أی صورة شاء ظهر من غیر جعل جاعل ، فلا یلتبس علیک الأمر فی ذلک .
ولما لم یکن له تعالی ظهور إلى خلقه إلا فی صورة ، وصوره مختلفة فی کل تجل ، لا تتکرر صورة ، فإنه سبحانه لا یتجلى فی صورة مرتین ، ولا فی صورة واحدة لشخصین.
فإن الآیة من کتاب الله ترد واحدة العین على الأسماع ، فسامع یفهم منها أمرا وسامع آخر لا یفهم منها ذلک الأمر ویفهم منها أمرا آخر .
وآخر یفهم منها أمورا کثیرة ، ولهذا یستشهد کل واحد من الناظرین فیها بها لاختلاف استعداد الأفهام .
وهکذا فی التجلیات الإلهیة ، فالمتجلی من حیث هو فی نفسه واحد العین ، واختلفت التجلیات أعنی صورها بحسب استعدادات المتجلى لهم .
ولما کان الأمر کذلک لم ینضبط للعقل ولا للعین على ما هو الأمر علیه ، وهذا هو التوسع الإلهی الذی لا ینحصر ولا یدخل تحت الحد فیضبطه الفکر .
ولا یمکن للعقل تقییده بصورة ما من تلک الصور ، فإنه ینتقض له ذلک الأمر فی التجلی الآخر بالصورة الأخرى ، وهو الله فی ذلک کله .
لا یشک ولا یرتاب ، إلا إذا تجلى له فی غیر معتقده فإنه یتعوذ منه کما ورد فی صحیح الأخبار .
فیعلم أن ثم فی نفس الأمر عینا تقبل الظهور فی هذه الصور المختلفة لا یعرف لها ماهیة أصلا ولا کیفیة ، وإذا حکم ولابد بکیفیة فیقول : الکیفیة ظهورها فیما شاء من الصور فتکون الصور مشاءة .
فالعارفون أهل الله علموا أن الله لا یتجلى فی صورة واحدة لشخصین ولا فی صورة واحدة مرتین.
فلم ینضبط لهم الأمر، لما کان لکل شخص تجلی یخصه ، ورآه
الإنسان من نفسه ، فإنه إذا تجلى له فی صورة ثم تجلى له فی صورة غیرها ، فعلم من هذا التجلی ما لم یعلمه من هذا التجلی الآخر من الحق ، هکذا دائما فی کل تجلی.
علم أن الأمر فی نفسه کذلک فی حقه وحق غیره ، فلا یقدر أن یعین فی ذلک اصطلاحا تقع به الفائدة بین المتخاطبین ، فهم یعلمون ولا ینقال ما یعلمون .
ولا فی قوة أصحاب هذا المقام الأبهج الذی لا مقام فی الممکنات أعلى منه .
أن یضع علیه لفظا یدل على ما علمه منه ، إلا ما أوقعه تعالى وهو قوله تعالى: « لیس کمثله شیء » فنفى المماثلة .
فما صورة یتجلى فیها لأحد تماثل صورة أخرى .
فتوحات ج 1 / 287 - ج 3 / 384 - ج 4 / 19 - کتاب التنزلات الموصلیة .
9 - ط۔ - خلاصة بحث التجلی:
یقول الشیخ فی مشاهدة مشهد البیعة الإلهیة على لسان الحق :
إنی وإن احتجبت فهو تجل لا یعرفه کل عارف ، إلا من أحاط علما بما أحطت به من المعارف .
ألا ترانی أتجلى لهم فی القیامة فی غیر الصورة التی یعرفونها والعلامة فینکرون ربوبیتی ومنها یتعوذون و بها یتعوذون ، ولکن لا یشعرون .
ولکنهم یقولون لذلک المتجلی « نعوذ بالله منک وها نحن لربنا منتظرون » .
فحینئذ أخرج علیهم فی الصورة التی لدیهم ، فیقرون لی بالربوبیة ، وعلى أنفسهم بالعبودیة.
فهم لعلامتهم عابدون، وللصورة التی تقررت عندهم مشاهدون، فمن قال منهم انه عبدنی فقوله زور وقد باهتنی (یعنی بقوله نعوذ بالله منک).
وکیف یصح منه ذلک وعندها تجلیت له أنکرنی ، فمن قیدنی بصورة دون صورة، فتخیله عبد وهو الحقیقة الممکنة فی قلبه المستورة .
فهو یتخیل أنه یعبدنی وهو یجحدنی، والعارفون لیس فی الإمکان خفائی عن أبصارهم ، لأنهم غابوا عن الخلق وعن أسرارهم ، فلا یظهر لهم عندهم سوائی، ولا یعقلون من الموجودات سوى أسمائی ، فکل شیء ظهر لهم وتجلى .
قالوا أنت المسبح الأعلى .
فتوحات ج 1 / 49 . أهـ ""
14 - «کنت سمعه وبصره ۰۰۰» الحدیث
لا نشک إیمانا وکشفا لا عقلا أن بهویة الحق أدرک المدرک جمیع ما یدرک ، سواء أدرک جمیع ما یدرک أو بعضه ، على أی حالة یکون استعداد المدرک اسم مفعول ، فالبصر من المدرک اسم فاعل هویة الحق لابد من ذلک ، وهکذا جمیع
ص 296
ما ینسب إلى هذه الآلات من القوی ما هی سوى هویة الحق إذ یستحیل غیر ذلک ، والعبد الذی لا یعرف أن الحق هو الظاهر فی المظاهر الامکانیة بأفعاله وأسمائه لا یؤاخذ بها من جهل ذلک ، حتى یتبین له الحق فی ذلک فیکون على بصیرة من قوله « إذا أحببته کنت سمعه وبصره » فکان العبد مظهر الحق ،
کذلک یحرم علی صاحب الشهود أن یعتقد أن ثم فی الوجود غیر الله فاعلا بل ولا مشهودا إذ کان قد عمم فی الحدیث القوى والجوارح وما ثم إلا هذان .
فتوحات ج 1 / 608 - ج 4 / 19
راجع :
کنت سمعه وبصره - فص 9، هامش 9، ص 136
"" 9 - «کنت سمعه وبصره » الحدیث
یقول تعالى : « ولا یزال عبدی یتقرب إلی بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته کنت سمعه الذی یسمع به وبصره الذی یبصر به ۰۰. الحدیث »
اعلم أن العبد حادث فلا تنفی عنه حقیقته لأنه لو انتفت ، انتفت عینه ، وإذا انتفت عینه فمن یکون مکلفا بالعبادة .
ففی هذا الحدیث أثبتک و نفاک ، فتکون أنت من حیث ذاتک ، ویکون هو من حیث تصرفاتک وإدراکاتک .
فأنت مکلف من حیث وجود عینک ومحل للخطاب ، وهو العامل بک من حیث أنه لا فعل لک .
إذ الحادث لا أثر له فی عین الفعل ، ولکن له حکم فی الفعل إذ کان ما کلفه الحق من حرکة وسکون لا یعمله الحق إلا بوجود المتحرک والساکن .
إذ لیس إذا لم یکن العبد موجودا إلا الحق ، والحق تعالی عن الحرکة والسکون أو یکون محلا لتأثیره فی نفسه ، فلابد من حدوث العبد حتى یکون محلا لأثر الحق ، فإذا کان العبد ما عنده من ذاته سوى عینه بلا صفة ولا اسم سوى عینه ، حینئذ یکون عند الله من المقربین و بالضرورة یکون الحق جمیع صفاته .
و یقول له : أنت عبدی حقا ، فما سمع سامع فی نفس الأمر إلا بالحق ولا أبصر إلا به ولا علم إلا به ولا حیی ولا قدر ولا تحرک ولا سکن ولا أراد ولا قهر ولا أعطى ولا منع ولا ظهر علیه وعنه أمر ما هو عینه إلا وهو الحق لا العبد.
فما للعبد سوى عینه سواء علم ذلک أو جهله ، وما فاز العلماء إلا بعلمهم بهذا القدر فی حق کل ما سوى الله لا أنهم صاروا کذا بعد أن لم یکونوا.
فالضمیر فی قوله «کنت سمعه» هو عین العبد . والسمع عین الحق فی کل حال. فکشف له سبحانه عن ذلک فإن قوله « کنت » یدل على أنه کان الأمر على هذا وهو لا یشعر .
فکانت الکرامة التی أعطاها هذا التقرب الکشف والعلم بأن الله کان سمعه وبصره فهو یتخیل أنه یسمع بسمعه وهو یسمع بربه .
کما کان یسمع الإنسان فی حال حیاته بروحه فی ظنه لجهله وفی نفس الأمر إنما یسمع بریه ، ألا ترى نبیه الصادق فی أهل القلیب کیف قال : ما أنتم بأسمع منهم ، فأثبت الله للعبد بالضمیر عینه عبدا لا ربوبیة له .
وجعل ما یظهر به وعلیه ومنه أن ذلک هو الحق تعالى لا العبد .
فما ثم إلا حق لحق وحق لخلق ، فحق الحق ربوبیته وحق الخلق عبودیته .
الفتوحات ج 1 / 203 ، 305 ، 378 ، 397 ، 406 ، 407 ، 415 ، 434 ، 445 ، 468 ، 675 .
الفتوحات ج 2 / 65 ، 189 ، 323 ، 341 ، 479 ، 502 ، 513 ، 559.
إکماله فص 10 هامش 9 ص 137
اعلم أن القرب قربان:
قرب فی قوله تعالى «ونحن أقرب إلیه من حبل الورید » وقوله تعالى «وهو معکم أینما کنتم».
وقرب هو القیام بالطاعات وهو المقصود فی هذا الحدیث ، فالقرب الذی هو القیام بالطاعات فذلک القرب من سعادة العبد من شقاوته ، وسعادة العبد فی نیل جمیع أغراضه کلها ، ولا یکون ذلک إلا فی الجنة ، وأما فی الدنیا فإنه لابد من ترک بعض أغراضه القادحة فی سعادته .
فالقرب من السعادة بأن یطیع لیسعد ، وهذا هو الکسب فی الولایة بالمبادرة لأوامر الله التی ندب إلیها ، أما قوله « من أداء ما افترضته علیه » لأنها عبودیة اضطراریة « ولا یزال
العبد یقترب إلی بالنوافل » وهی عبودیة اختیار « حتى أحبه » .
إذ جعلها نوافل ، فإذا ثابرت على أداء الفرائض فإنک تقربت إلى الله بأحب الأمور المقربة إلیه ، وإذا کنت صاحب هذه الصفة کنت سمع الحق و بصره .
وتکون یدک ید الحق « إن الذین بیا یعونک إنما یبایعون الله ید الله فوق أیدیهم » وهذه هی المحبة العظمى التی ما ورد فیها نص جلی کما ورد فی النوافل ، فإن للمثابرة على النوافل حبا إلهیا منصوصا علیه یکون الحق سمع العبد ونظره ، فانظر ما تنتجه محبة الله ، فثابر على أداء ما یصح به وجود هذه المحبة الإلهیة .
ولا یصح نفل إلا بعد تکملة الفرض ، فالحق سبحانه روح العالم وسمعه وبصره ویده ، فبه یسمع العالم و به یبصر وبه یتکلم وبه یبطش و به یسعى ، إذ لا حول ولا قوة إلا بالله العلی العظیم .
ولا یعرف هذا إلا من تقرب إلى الله بنوافل الخیرات ، کما ورد فی الحدیث الصحیح ، فانتبه لقوله « کنت سمعه الذی یسمع به ولسانه الذی یتکلم به وما تکلم إلا القائل فی الشاهد وهو الإنسان، وفی الإیمان الرحمن ، فمن کذب العیان کان قوی الإیمان ، ومن تردد فی إیمانه تردد فی عیانه ، فلا إیسان عنده ولا عیان ، فما هو صاحب مکان ولا إمکان .
ومن صدق العیان وسلم الإیمان کان فی أمان ، فإن الله أثبت أن ذلک للعبد بالضمیر عینه عبدا لا ربوبیة له ، وجعل ما یظهر به وعلیه ومنه أن ذلک هو الحق تعالى لا العبد فما ثم إلا حق لحق وحق لخلق ، فحق الحق ربوبیته ، وحق الخلق عبودیته.
فنحن عبید وإن ظهرنا بنعوته ، وهو ربنا وإن ظهر بنعوتنا ، فإن التعوت عند المحققین لا أثر لها فی العین المنعوتة.
ولهذا تزول بمقابلها إذا جاء ولا تذهب عینا .
فقوله تعالی « کنت سمعه وبصره » جعل کینوتنه سمع عبد منعوت بوصف خاص ، وهذا أعظم اتصال یکون من الله بالعبد حیث یزیل قواه من قواه ویقوم بکینوته فی العبد مقام ما أزال على ما یلیق بجلاله من غیر تشبیه ولا تکییف ولا حصر ولا إحاطة ولا حلول
ولا بدلیه ، فإنه أثبت عین الشخص بوجود الضمیر فی قوله « کنت سمعه » فهذه الهاء عینه ، والصفة عین الحق لا عینه ، فالشخص محل لأحکام هذه الصفات التی هی عین الحق لا غیره .
کما یلیق بجلاله ، فنعته سبحانه بنفسه لا بصفته ، فهذا الشخص من حیث عینه هو ومن حیث صفته لا هو ، وهذا من ألطف ما یکون فظهور رب فی صورة خلق عن إعلام إلهی لا تعرف له کیفیة ولا تنفک عنه بینیة .
والکرامة التی حصلت لهذا الشخص إنما هی الکشف والاطلاع لا أنه لم یکن الحق سمعه ثم کان ، والجاهل إذا سمع ذلک أداه إلى فهم محظور من حلول أو تحدید ، فبالوجه الذی یقول فیه الحق إنه سمع العبد به بعینه یقول إنه حیاة العبد وعلمه وجمیع صفاته .
فمثلا سر الحیاة سری فی الموجودات فحییت بحیاة الحق ، فهی نسب وإضافات وشهود حقائق ، والله هو العلی الکبیر عن الحلول والمحل.
الفتوحات ج 3 / 14 ، 63 ، 68 ، 184 ، 298 ، 356 ، 531 ، 557 .ج 4 / 5 ، 362 ، 449 .أهـ . ""
الجزء الثالث
راجع :
الظاهر فی المظاهر - فص 5 ، هامش 6، ص 84
"" 6 - وحدة الوجود - الظاهر فی المظاهر فص 5 ، هامش 6، ص 84
الموجودات على تفاصیلها فی ظهور الحق فی مظاهر أعیان الممکنات بحکم ما هی الممکنات علیه من الاستعدادات ، فاختلفت الصفات على الظاهر لأن الأعیان التی ظهر فیها مختلفة ، فتمیزت الموجودات وتعددت لتعدد الأعیان وتمیزها فی نفسه فما فی الوجود إلا الله وأحکام الأعیان ، وما فی العدم شیء إلا أعیان الممکنات مهیأة للاتصاف بالوجود .
فهی لا هی فی الوجود ، لأن الظاهر أحکامها فهی ، ولا عین لها فی الوجود فلا هی ، کما هو لا هو .
لأنه الظاهر فهو والتمیز بین الموجودات معقول ومحسوس لاختلاف أحکام الأعیان فلا هو ، فیا أنا ما هو أنا ولا هو ما هو هو .
مغازلة رقیقة وإشارة دقیقة ردها البرهان ونفاها ، و أوجدها العیان وأثبتها .
ما من شیء فی تفاصیل العالم إلا وفی الحضرة الإلهیة صورة تشاکل ما ظهر ، أی یتقید بها، ولولا هی ما ظهر .
فإذا تأملت فما ثم وجود إلا الله خاصة ، وکل موصوف بالوجود مما سوى الله فهو نسبة خاصة ، والإرادة الإلهیة إنما متعلقها
إظهار التجلی فی المظاهر ، أی فی مظهر ما ، وهو نسبة .
فان الظاهر لم یزل موصوفا بالوجود ، والمظهر لم یزل موصوفا بالعدم ، فإذا ظهر أعطى المظهر حکما فی الظاهر بحسب حقائقه النفسیة .
فانطلق على الظاهر من تلک الحقائق التی هو علیها المظهر المعدوم حکم یسمى إنسانا أو فلکا أو ملکا أو ما کان من أشخاص المخلوقات .
کما رجع من ذلک الظهور للظاهر اسم یطلق علیه یقال به خالق وصانع ، وضار ونافع ، وقادر.
وما یعطیه ذلک التجلی من الأسماء ، وأعیان الممکنات على حالها من العدم کما أن الحق لم یزل له حکم الوجود .
فحدث لعین الممکن اسم المظهر ، و للمتجلی فیه اسم الظاهر .
فأعطى استعداد مظهر ما أن یکون الظاهر فیه مکلفا ، فیقال له افعل ولا تفعل ، ویکون مخاطبا بأنت وکاف الخطاب .
واعلم أن التجلی الذاتی ممنوع بلا خلاف بین أهل الحقائق فی غیر مظهر .
فوقتا یکون المظهر جسمیا و وقتا یکون جسمانیا ووقتا جسدیا ، ووقتا یکون المظهر روحیا ووقتا روحانیا.
فالتجلی فی المظاهر هو التجلی فی صور المعتقدات وهو کائن بلا خلاف.
والتجلی فی المعقولات کائن بلا خلاف . وهما تجلی الاعتبارات .
لأن هذه المظاهر سواء کانت صور المعقولات أو صور المعتقدات فإنها جسور یعبر علیها بالعلم .
أی یعلم أن وراء هذه الصور أمرا لا یصح أن یشهد ولا أن یعلم .
ولیس وراء ذلک المعلوم الذی لا یشهد ولا یعلم حقیقة ما یعلم أصلا .
وأما التجلی فی الأفعال ففیه خلاف بین أهل هذا الشأن لا یرتفع دنیا ولا آخرة .
فما فی المسائل الإلهیة ما تقع فیها الحیرة أکثر ولا أعظم من مسألة الأفعال ، ولاسیما فی تعلق الحمد والذم بأفعال المخلوقین.
فیخرجها ذلک التعلق أن تکون أفعال المخلوقین لغیر المخلوقین حین ظهورها عنهم ، وأفعال الله کلها حسنة فی مذهب المخالف الذی ینفی الفعل عن المخلوق ویثبت الذم للفعل بلا خلاف .
ولا شک عنده فی تعلق الذم، بذلک الفعل من الله، فمن الشدائد على أهل الله إذا أوقفهم فی حضرة الأفعال ، من نسبتها إلى الله ونسبتها إلى أنفسهم ،
فیلوح لهم ما لا یمکن لهم معه أن ینسبوها إلى أنفسهم ، ویلوح لهم ما لا یتمکن معه أن ینسبوه إلى الله .
فهم هالکون بین حقیقة وأدب ، والتخلص من هذا البرزخ من أشد ما یقاسیه العارفون ، فإن الذی ینزل عن هذا المقام یشاهد أحد الطرفین فیکون مستریحا لعدم المعارض.
فمذهبنا العین الممکنة إنما هی ممکنة لأن تکون مظهرا ، لا لأن تقبل الاتصاف بالوجود فیکون الوجود عینها .
إذن فلیس الوجود فی الممکن عین الموجود ، بل هو حال لعین الممکن ، به یسمى الممکن موجودا مجازا لا حقیقة ، لأن الحقیقة تأبى أن یکون الممکن موجودا ، فلا یزال کل شیء هالک .
الفتوحات ج1 / 694 , ج2 / 40,42,99,160,435,606 . إهـ ""
راجع :
وحدة الوجود - فص 2 ، هامش 6 ، ص 45
"" 6 - وحدة الوجود - المرایا فص 2 ، هامش 6 ، ص 45
اعلم أن المعلومات ثلاثة لا رابع لها :
وهی الوجود المطلق الذی لا یتقید وهو وجود الله تعالى الواجب الوجود لنفسه ، والمعلوم الآخر العام المطلق الذی هو عدم لنفسه وهو الذی لا یتقید أصلا وهو المحال ،
والعلوم الثالث هو البرزخ الذی بین الوجود المطلق والعدم المطلق وهو الممکن ، وسبب نسبة الثبوت إلیه مع نسبة العدم هو مقابلته للأمرین بذاته .
وذلک أن العدم المطلق قام للوجود المطلق کالمرآة فرأی الوجود فیه صورته فکانت تلک الصورة عین الممکن ، فلهذا کان للممکن عین ثابتة وشیئیة فی حال عدمه ولهذا خرج على صورة الوجود المطلق .
ولهذا أیضا اتصف بعدم التناهی فقیل فیه إنه لا یتناهی ، وکان أیضا الوجود المطلق کالمرآة للعدم المطلق فرأى العدم المطلق فی مرآة الحق نفسه .
فکانت صورته التی رأی فی هذه المرأة هو عین العدم الذی اتصف به هذا الممکن ،
وهو موصوف بأنه لا یتناهی کما أن العدم المطلق لا یتناهی ، فاتصف الممکن بأنه معدوم ، فهو کالصورة الظاهرة بین الرائی والمرأة ، لا هی عین الرائی ولا غیره
وقد علمنا أن العالم ما هو عین الحق وإنما هو ما ظهر فی الوجود الحق ، إذ لو کان عین الحق ما صح کونه بدیعا ، کما تحدث صورة المرئی فی المرآة ، ینظر الناظر فیها، فهو بذلک النظر کأنه أبدعها مع کونه لا تعمل له فی أسبابها، ولا یدری ما یحدث فیها .
ولکن بمجرد النظر فی المرآة ظهرت صور ، هذا أعطاه الحال ، فما لک فی ذلک من التعمل إلا قصدک النظر فی المرآة .
ونظرک فیها مثل قوله « إنما قولنا لشیء إذا أردناه » وهو قصدک النظر « أن نقول له کن » وهو بمنزلة النظر « فیکون » وهو بمنزلة الصورة التی تدرکها عند نظرک فی المرآة ،.
ثم إن تلک الصورة ما هی عینک الحکم صفة المرآة فیها من الکبر والصغر والطول والعرض ، ولا حکم لصورة المرآة فیک فما هی عینک ولا عین ما ظهر ممن لیس أنت من الموجودات الموازیة لنظرک فی المرآة ، ولا تلک الصورة غیرک ، لما لک فیها من الحکم .
فإنک لا تشک أنک رأیت وجهک ، ورأیت کل ما فی وجهک ظهر لک بنظرک فی المرآة من حیث عین ذلک لا من حیث ما طرأ علیه من صفة المرآة ، فما هو المرئی غیرک ولا عینک ، کذلک الأمر فی وجود العالم الحق .
أی شیء جعلت مرآة أعنی حضرة الأعیان الثابتة أو وجود الحق، فإما أن تکون الأعیان الثابتة الله مظاهر ، فهو حکم المرآة فی صورة الرائی ، فهو عینه وهو الموصوف بحکم المرآة ، فهو الظاهر فی المظاهر بصورة المظاهر.
أو یکون الوجود الحق هو عین المرآة ، فترى الأعیان الثابتة من وجود الحق ما یقابلها منه ، فترى صورتها فی تلک المرآة و یترائی بعضها البعض ، ولا ترى ما ترى من حیث ما هی المرآة علیه ، وإنما ترى ما ترى من حیث ما هی علیه من غیر زیادة ولا نقصان .
وکما لا یشک الناظر وجهه فی المرآة أن وجهه رأی ، وبما للمرآة فی ذلک من الحکم یعلم أن وجهه ما رأى .
فهکذا الأمر فانسب بعد ذلک ما شئت کیف شئت ، فإن الوجود للعین الممکنة کالصورة التی فی المرآة ، ما هی عین الرائی ولا غیر الرائی ،
ولکن المحل المرئی فیه به و بالناظر المتجلی فیه ظهرت هذه الصورة ، فهی مرآة من حیث ذاتها والناظر ناظر من حیث ذاته والصورة الظاهرة تتنوع بتنوع العین الظاهرة فیها .
کالمرأة إذا کانت تأخذ طولا ترى الصورة على طولها والناظر فی نفسه على غیر تلک الصورة من وجه ، وعلى صورته من وجه ، فلما رأینا المرآة لها حکم فی الصورة بذاتها ورأینا الناظر یخالف تلک الصورة من وجه .
علمنا أن الناظر فی ذاته ما أثرت فیه ذات المرآة ، ولما لم یتأثر ولم تکن تلک الصورة هی عین المرأة ولا عین الناظر ، وإنما ظهرت من حکم التجلی للمرآة ، علمنا الفرق بین الناظر وبین المراة وبین الصورة الظاهرة فی المرآة التی هی غیب فیها ، ولهذا إذا رؤی الناظر یبعد عن المرآة یرى تلک الصورة تبعد فی باطن المرآة ، وإذا قرب قربت .
وإذا کانت فی سطحها على الاعتدال ورفع الناظر یده الیمنى رفعت الصورة الید الیسرى ، تعرفه إنی وإن کنت من تجلیک وعلى صورتک فما أنت أنا ولا أنا أنت ، فإن عقلت ما نبهناک علیه فقد علمت من أین اتصف العبد بالوجود، ومن هو الموجود، ومن أین اتصف بالعدم، ومن هو المعدوم ومن خاطب ومن سمع ومن عمل ومن کلف .
وعلمت من أنت ومن ربک وأین منزلتک ، وأنک المفتقر إلیه سبحانه وهو الغنی عنک بذاته.
فسبحان من ضرب الأمثال وأبرز الأعیان دلالة علیه أنه لا یشبهه شیء ولا یشبه شیئا ، ولیس فی الوجود إلا هو ، ولا یستفاد الوجود إلا منه، ولا یظهر الموجود عین إلا بتجلیه.
فالمرأة حضرة الإمکان والحق الناظر فیها والصورة أنت بحسب إمکانیتک ، فإما ملک وإما فلک وإما إنسان وإما فرس ، مثل الصورة فی المرآة بحسب ذات المرآة من الهیئة فی الطول والعرض والاستدارة واختلاف أشکالها مع کونها مرآة فی کل حال .
کذلک الممکنات مثل الأشکال فی الإمکان والتجلی الإلهی یکسب الممکنات الوجود والمرآة تکسبها الأشکال ، فیظهر الملک و الجوهر والجسم والعرض ، والإمکان هو هو لا یخرج عن حقیقته ، وأوضح من هذا البیان فی هذه المسألة لا یمکن إلا بالتصریح ، فقل فی العالم ما تشاء و انسبه إلى من تشاء بعد وقوفک على هذه الحقیقة کشفة وعلما .
راجع الفتوحات ج3/ 46 , 80 , 352 . - ج4/ 316. أهـ ""
"" أضاف الجامع :
یقول الدکتور أبو العلا عفیفی:
" وحدة الوجود التی یقول بها ابن العربی الطائی الحاتمی لیست وحدة وجود مادیة تنکر الألوهیة ولوازمها أو تنکر القیم الروحیة ،
بل العکس هو الصحیح : أی أنها وحدة وجود تنکر العالم الظاهر ، ولا تعترف بالوجود الحقیقی إلا لله - الحق . أما الخلق فظل للوجود الحق ولا وجود له فی ذاته ".
تقول د. سعاد الحکیم فی وحدة الوجود عند الشیخ الأکبر ابن العربی الطائی الحاتمی
" إن عبارة وحدة الوجود لا تدخل ضمن مصطلحات ابن العربی ، إذ أنها من ناحیة لم ترد عنده مطلقا ،
ومن ناحیة ثانیة هی تشکل تیارا فکریا له جذوره البعیدة فی تأریخ النظریات الفلسفیة ،
ولکننا لم نستطع أن نتغافل عن بحثها بحجة أنها تدخل ضمن نظریات شیخنا الأکبر بالنظر لأهمیتها عنده ، إذ فیها تتبلور مصطلحاته وتتکشف ، ویتجلى وجه ابن العربی الطائی الحاتمی الحقیقی ، فنلمس فیه الفکر والمنطق إلى جانب الشهود والتصوف ".
إن عبارة وحدة الوجود ابتدعها دارسو ابن العربی الطائی الحاتمی ،
أو بالأحرى صنفوه فی زمرة لقائلین بها . إذ أن الباحث لا یلتقط فکر مفکر إلا بتحلیله إلى عناصره البسیطة ، وإعادة ترکیبه ترکیبا یتلاءم وینضبط مع التیارات الفکریة المعروفة . وبالتالی استدل الملتمس وجه ابن العربی الطائی الحاتمی من جمل أمثال :
( الوجود کله واحد ) ، ( ما ثمة إلا الله ) ، ( ما فی الوجود إلا الله ) ، إلى القول بأنه من وحدة الوجود ، وحدة تفارق وحدة المادیین بتغلیب الجانب الإلهی فیها .
ولکن ما حقیقة موقف ابن العربی الطائی الحاتمی من الوحدة الوجودیة ؟
وما نسبة التفکیر النظری إلى الشهود الصوفی فیها ؟
( وحدة وجود ) أم ( وحدة شهود ) ؟
کثیرا ما یتوقف الباحث أمام نتائج ابن العربی الطائی الحاتمی متسائلا :
أوحدة وجود عنده أم وحدة شهود ؟
ثم لا یلبث ان یقرر انها وحدة وجود ، من حیث أنها لم تبرز فی صیحة وجد ، بل کانت نتیجة باردة لتفکیر نظری .
ویعود تردد الباحث بین الوحدتین إلى أنهما یتطابقان فی النتیجة ، فکلتاهما ترى :
إن الوجود الحقیقی واحد وهو الله .
ولکن صاحب وحدة الشهود یقولها فی غمرة الحال ، على حین یدافع عنها ابن العربی الطائی الحاتمی فی صحو العلماء وبرود النظریین .
والحقیقة أن وحدة ابن العربی الطائی الحاتمی تختلف عن وحدة شهود غیره بسبب جوهری ، وهو أن الشیخ الاکبر لم یقطفها ثمرة فیض فناء فی الحق ، فناء افناه عن رؤیة کل ما سوى الحق .
ولم یقل بعدم کل ما سواه ، إن ابن العربی یرى الکثرة ، وشهوده یعطیه الکثرة ، وبصره یقع على الکثرة . إذن الکثرة عنده موجودة .
وهنا نستطیع ان نقول : أن ( وحدته ) على النقیض من وحدة الشهود ، تعطی : کثرة شهودیة . فالنظر یقع على کثرة عنده . وهذا ما لا یمکن أن ینطبق على وحدة الشهود .
ولکن ابن العربی الطائی الحاتمی لا یقف مع الکثرة الشهودیة أو بتعبیر أدق المشهودة ، بل یجعلها ( کثرة معقولة ) لا وجود حقیقی لها .
وهی - إذا أمکن التعبیر بلغتنا - خداع بصر . وبلغة ابن العربی الطائی الحاتمی : خیال . أهـ""
ص 297