الفقرة السادسة عشر :
شرح فصوص الحکم من کلام الشیخ الأکبر ابن العربی أ. محمود محمود الغراب 1405 هـ:
19 - فص حکمة غیبیة فی کلمة أیوبیة
اعلم أن سر الحیاة سرى فی الماء فهو أصل العناصر والأرکان، ولذلک جعل الله «من الماء کل شیء حی»: وما ثم شیء إلا وهو حی، فإنه ما من شیء إلا وهو یسبح بحمد الله ولکن لا نفقة تسبیحه إلا بکشف إلهی.
ولا یسبح إلا حی. فکل شیء حی. فکل شیء الماء أصله. "2"
ألا ترى العرش کیف کان على الماء لأنه منه
……………………………………….
1 - المناسبة فی تسمیة الفص بحکمة غیبیة فی کلمة أیوبیة ،
هی أن سر الحیاة غیب باطن فی الماء ، کما أن الصبر والرضا غیبان بأطنان فی الشکوى إلى الله ، فناسبت الغیبیة بینهما بتسمیة الفص ونسبته إلى أیوب علیه السلام ، وخاصة أن الحق قد جمع بین أیوب علیه السلام والماء فی قوله « هذا مغتسل » فعم الاغتسال بالماء أیوب علیه السلام کما عم باطنه الصبر والرضا عن الله .
2 - سر الحیاة سری فی الماء
قال تعالى : "وجعلنا من الماء کل شیء حی " هذا الماء هو الماء الذی هو أصل فی وجود کل شیء ، وبه حیاته ، ولحیاته وصف بالتسبیح ، وهو غیر هذا الماء المرکب البسیط المعهود ، فالماء أصل الحیاة فی الأشیاء ، فهو سر الحیاة ،
حتى العرش لما خلقه الله ما کان إلا على الماء فسرت الحیاة فیه منه ، فبالماء حیاة الأحیاء لما فیه من سر الحیاة ، فکل شیء من الماء عینه ومن الهواء حیاته ،
وأما قوله " فهو أصل العناصر والأرکان" ، فالمراد به ما أشار إلیه بقوله « وهو غیر هذا الماء المرکب البسیط » .
لذلک نراه یقول : الأرواح کلها آباء والطبیعة أم لما کانت محل الاستحالات ، وتتوجه هذه الأرواح على هذه الأرکان التی هی العناصر القابلة للتغییر والاستحالة ، تظهر فیها المولدات ، وهی المعادن والنبات والحیوان والجان ، والإنسان أکملها ، کذلک الأرکان من عالم الطبیعة أربعة، وبنکاح العالم العلوی لهذه الأربعة یوجد الله ما یتولد فیها ، واختلفوا فی ذلک على ستة مذاهب ، فطائفة زعمت أن کل واحد من
ص 298
تکون "3"
فطفا علیه فهو یحفظه من تحته، کما أن الإنسان خلقه الله عبدا فتکبر على ربه وعلا علیه، "4"
فهو سبحانه مع هذا یحفظه من تحته بالنظر إلى علو
……………………………………………………...
هذه الأربعة أصل فی نفسه ، وقالت طائفة رکن النار هو الأصل فما کثف منه کان هواء وما کثف من الهواء کان ماء وما کثف من الماء کان ترابا ، وقالت طائفة رکن الهواء هو الأصل فما سخف منه کان تارا وما کثف منه کان ماء ، وقالت طائفة الأصل أمر خامس لیس واحدة من هذه الأربعة ، وهذا المذهب بالأصل الخامس هو الصحیح عندنا وهو المسمى بالطبیعة ، فإن الطبیعة معقول واحد عنها ظهر رکن النار وجمیع الأرکان .
فتوحات ج 1 / 138 ، 293 ، 332 - ج 2 / 174 - ج 4 / 219 ، 356 .
3 - «وکان عرشه على الماء » الآیة
و على هنا بمعنى فی . أی کان العرش فی الماء ، کما أن الإنسان فی الماء ، أی منه تکون ، فإن الماء أصل الموجودات کلها ، وهو عرش الحیاة الإلهیة ،
ومن الماء خلق الله کل شیء حی ، وکل ما سوى الله سبح بحمد الله ، ولا یکون التسبیح إلا من حی ، فالعرش عبارة عن الملک ، و « کان » حرف وجودی، فمعناه أن الملک موجود فی الماء ، أی الماء أصل ظهور عینه .
فتوحات ج 3 / 65.
4 - التکبر على الحق *
عنایة ربی أدرکت کل کائن …. من الناس فی ختم القلوب وفی الطبع
ومن أجل ذا لم یدخل الکبر قلبهم …. على موجد الصنع الذی جل من صنع
قال تعالى : « کذلک یطبع الله على کل قلب متکبر جبار ، وهذا من رحمة الله الخفیة ، فإنه طبع على قلب کل من ظهر فی ظاهر لقومه بصفة الکبریاء والجبروت ، وما جعل ذلک فی قلوبهم ، فهم عند أنفسهم بما یجدونه من العلم الضروری أذلاء صاغرون لذلک الطبع ، فما دخل الکبریاء على الله قلب مخلوق أصلا ، وإن ظهرت منه صفات الکبریاء فثوب ظاهر لا بطانة له منه ، فالله یطبع على قلب کل متکبر جبار أن یدخله کبریاء الهی أصلا ، إذ لا ینبغی ذلک الوصف إلا لمن لا یتقید وهو الحق تعالى ، فلا یدخل القلب الکبریاء والجبروت وإن ظهر بهما ، فإن الإنسان یعرف فی
"" القصیدة فی وصف الحج وعرفات وتساوی الخلق فی المشهد
لقد سحت فی شرق البلاد وغربها… ..... …وما حفیت نعلی ولا انقطعت شسعی
وفی عرفات ما عرفت حقیقتی… ..... …ولا عرفت حتى أتیت إلى جمع
ولما شهدناها وجئت إلى منى… ..... …بذلت له بالنحر ما کان فی وسعی
حصبت ندوّى جمرة بعد جمرة… ..... …ببضع من الأحجار بورک من بضع
ولما أتیت البیت طفت زیارة… ..... …حنینا بها من فوق أرقعة سبع
عنایة ربی أدرکت کلّ کائن… ..... …من الناس فی ختم القلوب وفی الطبع
ومن أجل ذا لم یدخل الکبر قلبهم… ..... …على موجد الصنع الذی جل من صنع
ولولا وجود السمع فی الناس ما اهتدوا… ..... …ولیس سوى علم الشریعة والوضع
فکم بین أهل النقل والعقل یا فتى… ..... …وهل تبلغ الألباب منزلة السمع""
ص 229
هذا العبد الجاهل بنفسه، وهو قوله علیه السلام «لو دلیتم بحبل لهبط على الله».
فأشار إلى نسبة التحت إلیه کما أن نسبة الفوق إلیه فی قوله «یخافون ربهم من
………………………………………………………….
قلبه أنه لا فرق بالأصالة بینه وبین من نکبر علیهم وتجبر ، فلا یدخله کبر وإن ظهر به ، فإنه مجبول على الذلة والافتقار والحاجة بالأصالة ، لا یقدر أن ینکر هذا من قفسه ، وذلک یعنی أن الطابع الإلهی یستع أن تدخل هذه الصفات الفاب .
فیظهر المدعی فی ظاهره الکبریاء والجبروت على من استحق من قومه ، إما فی زعمه وتخیله وإما فی نفس الأمر ، وهو فی قلبه معصوم من ذلک الکبریاء والجبروت ، لأنه یعلم عجزه وذلته وفقره لجمیع الموجودات ، وأن قرصة البرغون توله .
والمرحاض یطلبه الدفع الم البول والخراء عنه ، ویفتقر إلى کسیرة خبز یدفع بها عن نفسه ألم الجوع؛ فمن صفته هذه کل یوم ولیلة کیف یصح أن یکون فی قلبه کبریاء وجبروت ، وهذا هو الطابع الإلهی على قلبه ، فلا یدخله شیء من ذلک . فإن الاسم الغیور ختم على کل قلب أن تدخله ربوبیة الحق نعتا له ، فما من أحد یجد فی قلبه أنه رب إله ، بل یعلم من نفسه أنه فقیر محتاج ، وأما ظهور ذلک على ظاهره فسام .
فالکبریاء والعظمة من النعوت التی غار الله علیها أن تکون لغیر الله ، فحجرها ولذلک قال : «یطبع الله على کل قلب متکبر جبار» فلا یدخل مع هذا الطابع قلب کون من الأکوان تکبر على الله ولا جبروت لأجل هذا الطبع ، فعلم کل من أظهر من المخلوقین دعوی الألوهیة کفرعون وغیره وتکبر وتجبر ، کل ذلک فی ظاهر الکون ، وهذا الذی ظهرت منه صفة الکبریاء مطبوع على قلبه أن یدخل فیه الکبریاء على الله ، فإنه یعلم من نفسه افتقاره وحاجته وقیام الآلام به ، من ألم جوع وعطش وهواء ومرض ، التی لا تخلو هذه النشأة الحیوانیة عنه فی هذه الدار ، وتعذر بعض الأغراض أن تنال مرادها ، وتألمه لذلک ، ومن هذه صفته من المحال أن یتکبر فی نفسه على ربه ، فهذا معنى الطابع الذی طبع الله على قلب المتکبر الذی یظهر لکم به الدعوى .
بالعلم یطبع رب العالمین على قلب العبید فلا کبر یحل به لأنه یجد الأبواب مغلقة بفطرة هو فیها أو بمکسبه وکیف یدخل کبر من حقیقته فقر وعجز وموت عند منتبه
ص 300
فوقهم»، «وهو القاهر فوق عباده». فله الفوق والتحت. "5"
ولهذا ما ظهرت الجهات الست إلا بالإنسان، وهو على صورة الرحمن.
ولا مطعم إلا الله، وقد قال فی حق طائفة «ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجیل»، ثم نکر وعم فقال «وما أنزل إلیهم من ربهم»، فدخل فی قوله «وما أنزل إلیهم من ربهم» کل حکم منزل على لسان رسول أو ملهم، «لأکلوا من فوقهم» وهو المطعم من الفوقیة التی نسبت إلیه، «ومن تحت أرجلهم»، وهو المطعم من التحتیة التی نسبها إلى نفسه على لسان رسوله المترجم عنه صلى الله علیه وسلم. "6"
ولو لم یکن العرش على الماء ما انحفظ وجوده، فإنه
………………………………………………...
ویقول :
لقد طبع الله القلوب بطابع ….. من الطبع حتى لا یداخلها الکبر
وکیف یکون الکبر فی قلب عاجز …. ذلیل له من ذاته العجز والفقر
فتوحات ج 1 / 436 - ج 2 / 244 ، 328 ، 342 - ج 3 / 220 ، 514 - ج 4 / 230 - دیوان / 152 ، 202 ، 461 .
5 - «لو دلیتم بحبل لهبط على الله » الحدیث
فإن نسبة العلو والسفل إلى الله واحدة ، فإن الله بکل شیء محیط ، وهو حفیظ للعلو والسفل ، فنبه صلى الله علیه وسلم بذلک الحدیث أن نسبة التحت والفوق إلیه سبحانه على السواء لا تحده الجهات ولا تحصره ، وفی الحدیث إشارة بدیعة فی الاعتصام بحبل الله أنه یوصلنا إلى الله .
فتوحات ج 1 / 506 ، 681 - ج 3 / 152 - ج 4 / 189 ، 431
" وهو القاهر فوق عباده "
لا یلزم من الإیمان القول بالجهة ، فلا یلزم الشبه ، الجهة ما وردت ، والفوقیة الإلهیة قد ثبتت.
فتوحات ج 4 / 374
6 - "لأکلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم" نفس المعنى فی فتوحات ج 4 / 431
حیث یقول : و «لأکلوا من فوقهم » پریده استواءه على العرش والسماء ، بل کل ما علا « ومن تحت أرجلهم » یرید نسبة التحت إلى الله من قوله صلى الله علیه وسلم « لو دلیتم بحبل لهبط على الله » مع أنه لیس کمثله شیء فالنسب إلیه على السواء ، فلله الفوق والتحت .
ص 301
بالحیاة ینحفظ وجود الحی.
ألا ترى الحی إذا مات الموت العرفی تنحل أجزاء نظامه وتنعدم قواه عن ذلک النظم الخاص؟
قال تعالى لأیوب «ارکض برجلک هذا مغتسل»، یعنی ماء، «بارد» لما کان علیه من إفراط حرارة الألم، فسکنه الله ببرد الماء.
ولهذا کان الطب النقص من الزائد والزیادة فی الناقص.
والمقصود طلب الاعتدال ولا سبیل إلیه إلا أنه یقاربه. "7"
وإنما قلنا ولا سبیل إلیه- أعنی الاعتدال- من أجل أن الحقائق والشهود تعطی التکوین مع الأنفاس على الدوام، ولا یکون التکوین إلا عن میل فی الطبیعة یسمى انحرافا أو تعفینا وفی حق الحق إرادة وهی میل إلى المراد الخاص دون غیره.
والاعتدال یؤذن بالسواء فی الجمیع، وهذا لیس بواقع، فلهذا منعنا من حکم الاعتدال.
وقد ورد فی العلم الإلهی النبوی اتصاف الحق بالرضا والغضب، وبالصفات.
والرضا مزیل للغضب، والغضب مزیل للرضا عن المرضی عنه والاعتدال أن یتساوى الرضا والغضب، فما غضب الغاضب على من غضب علیه وهو عنه راض. فقد اتصف بأحد الحکمین فی حقه وهو میل.
وما رضی الراضی عمن رضی عنه وهو غاضب علیه، فقد اتصف بأحد الحکمین فی حقه وهو میل. "8"
وإنما قلنا هذا من أجل من یرى أن أهل النار لا یزال غضب الله علیهم
………………………………...
أما من حیث المعانی فی تفسیر الآیة والإشارات فیها ، فمن أراد زیادة معان فلیراجع فتوحات ج 1 / 192 ، 631 - ج 2 / 488 ، 594 ، 595
أما قوله « ولو أنهم أقاموا التوراة » یعنی امة موسى علیه السلام « والإنجیل » وهم أمة عیسى "وما أنزل إلیهم من ربهم" ، وهم أهل القرآن وجمیع کل من أنزلت علیه صحیفة • فتوحات ج 4 / 431
7 - نفس العبارة فی فتوحات ج 2 / 236
"" قال الشیخ رضی الله عنه فی الفتوحات الباب الخامس عشر :-
"روینا عن مسلمة بن وضاح مسندا إلیه وکان من أهل قرطبة فقال :-
قال الله فی بعض ما أنزله على أنبیاء بنى إسرائیل إنی خلقت یعنی آدم من تراب وماء ونفخت فیه نفسا وروحا
فسویت جسده من قبل التراب ورطوبته من الماء وحرارته من النفس وبرودته من الروح
قال ثم جعلت فی الجسد بعد هذا أربعة أنواع أخر لا تقوم واحدة منهن إلا بالأخرى وهی المرتان والدم والبلغم
ثم أسکنت بعضهن فی بعض فجعلت مسکن الیبوسة فی المرة السوداء ومسکن الحرارة فی المرة الصفراء ومسکن الرطوبة فی الدم ومسکن البرودة فی البلغم
ثم قال جل ثناؤه فأی جسد اعتدلت فیه هذه الأخلاط کملت صحته واعتدلت بنیته فإن زادت واحدة منهن على الأخرى وقهرتهن دخل السقم على الجسد بقدر ما زادت وإذا کانت ناقصة ضعفت عن مقاومتهن فدخل السقم بغلبتهن إیاها وضعفها عن مقاومتهن
فعلم الطب أن یزید فی الناقص أو ینقص من الزائد طلب الاعتدال ".أهـ ""
8 ۔ الاعتدال لا یکون عنه شیء
اعلم أن الطبیعة حکمها فی الصور لا یمکن أن یثبت على حالة واحدة فلا سکون عندها ، ولهذا الاعتدال فی الأجسام الطبیعیة العنصریة لا یوجد ، فهو معقول
لا موجود ، ولو کانت الطبیعة تقبل المیزان على السواء لما صح عنها وجود شیء ، ولا ظهرت عنها صورة ، ثم نشأة الصور الطبیعیة دون العنصریة إذا ظهرت أیضا لا تظهر والطبیعة معتدلة أبدا ، بل لابد من ظهور بعض حقائقها على بعض الأجل الإیجاد ، ولولا ذلک ما تحرک فلک ولا سبح ملک ولا وصفت الجنة بأکل وشرب
ص 302
دائما أبدا فی زعمه .
فما لهم حکم الرضا من الله، فصح المقصود.
فإن کان کما قلنا مآل أهل النار إلى إزالة الآلام وإن سکنوا النار، فذلک رضا "9"
فزال الغضب لزوال الآلام إذا عین الألم عین الغضب إن فهمت.
فمن غضب فقد تأذى، فلا یسعى فی انتقام المغضوب علیه بإیلامه إلا لیجد الغاضب الراحة بذلک، فینتقل الألم الذی کان عنده إلى المغضوب علیه.
والحق إذا أفردته عن العالم یتعالى علوا کبیرا عن هذه الصفة على هذا الحد.
وإذا کان الحق هویة العالم، فما ظهرت الأحکام کلها إلا منه وفیه، وهو قوله «وإلیه یرجع الأمر کله» حقیقة وکشفا "10"
«فاعبده و توکل علیه» حجابا وسترا .
فلیس فی الإمکان أبدع من هذا العالم لأنه على صورة الرحمن، أوجده الله أی ظهر وجوده تعالى بظهور العالم ، "11"
کما ظهر الإنسان
…………………………………………………….
وظهور فی صور مختلفة ولا غیرت الأنفاس فی العالم جملة واحدة ، فإن الطبیعة أظهرت حکمها فی الجسم الکل فقبل الحرارة والرطوبة والبرودة والیبوسة ، بحکم التجاوز فی النقیضین ، فتحرک بغلبة الحرارة علیه ،
فإن الاعتدال لا یظهر عنه شیء أصلا ، ولهذا وصف الحق نفسه بالرضا والغضب ، والرحمة والانتقام .
والحلم والقهر ، فالاعتدال لا یصح معه وجود ولا تکوین .
الا ترى أنه لولا التوجه الإلهی على إیجاد کون ما ما وجد، ولولا ما قال له کن ما تکون، وأصل ذلک فی العلم الإلهی کونه تعالى "کل یوم هو فی شأن" ، والیوم الزمن الفرد ، والشأن ما یحدث الله فیه ، فمن أین یصح أن تکون الطبیعة معتدلة الحکم فی الأشیاء ، ولیس لها مستند فی الإلهیات ؟
فتوحات ج 2 / 431 ، 433 .
9 - شمول الرحمة وعدم سرمدة العذاب
راجع فص 7، هامش 17 ، ص 117
"" 17 ۔ شمول الرحمة وعدم سرمدة العذاب فص 7 رقم ۰17ص 117
من اختصاص البسملة فی أول کل سورة تتویج الرحمة الإلهیة فی منشور تلک السورة أنها منه کعلامة السلطان على مناشیره، وسورة التوبة والأنفال سورة واحدة قسمها الحق على فصلین ، فإن فصلها وحکم بالفصل فقد سماها سورة التوبة ، أی سورة الرجعة الإلهیة بالرحمة على من غضب علیه من العباد ، فما هو غضب أبد لکنه غضب أمد ، والله هو التواب .
فما قرن بالتواب إلا الرحیم لیؤول المغضوب علیه إلى الرحمة ، أو الحکیم لضرب المدة فی الغضب وحکمها فیه إلى أجل ، فیرجع علیه بعد انقضاء المدة بالرحمة ، فانظر إلى الاسم الذی نعت به التواب تجد حکمه کما ذکرنا ، والقرآن جامع لذکر من رضی عنه وغضب علیه ، وتتویج منازله بالرحمن الرحیم ، والحکم للتتویج ، فإنه به یقع القبول ، وبه یعلم أنه من عند الله ، فثبت انتقال الناس فی الدارین فی أحوالهم من نعیم إلى نعیم ، ومن عذاب إلى عذاب ، ومن عذاب إلى نعیم ، من غیر مدة معلومة لنا ، فإن الله ما عرفنا ، إلا أنا استروحنا من قوله « فی یوم کان مقداره خمسین ألف سنة » أن هذا القدر مدة إقامة الحدود .
خلق الله الخلق قبضتین فقال هؤلاء للنار ولا أبالی ، وهؤلاء إلى الجنة ولا أبالی .
فمن کرمه تعالی لم یقل هؤلاء للعذاب ولا أبالی وهؤلاء إلى النعیم ولا أبالی وإنما أضافهم إلى الدارین لیعمروها ، فإنه ورد فی الخبر الصحیح أن الله لما خلق الجنة والنار قال لکل واحدة منهما لها علی" ملؤها ، أی أملؤها سکانا ، فیستروح من هذا عموم الرحمة فی الدارین وشمولها حیث ذکرهما ولم یتعرض لذکر الآلام وقال بامتلائهما وما تعرض لشیء من ذلک .
فکان معنى « ولا أبالی » فی الحالتین لأنهما فی المال إلى الرحمة ، فلذلک لا یبالی فیهما ، ولو کان الأمر کما یتوهمه من لا علم له من عدم المبالاة.
ما وقع الأخذ بالجرائم ، ولا وصف الله نفسه بالغضب ، ولا کان البطش الشدید ، فهذا کله من المبالاة والتهمم بالمأخوذ ، إذ لو لم یکن له قدر ما عذب ولا استعد له ، وقد قیل فی أهل التقوى إن الجنة أعدت للمتقین ، وقال فی أهل التقاء « وأعد لهم عذابا ألیما » فلولا المبالاة ما ظهر هذا الحکم .
فما أعظم رحمة الله بعباده وهم لا یشعرون ، فإن الرحمة الإلهیة وسعت کل شیء ، فما ثم شیء لا یکون فی هذه الرحمة « إن ربک واسع المغفرة » فلا تحجروا واسعا فإنه لا یقبل التحجیر ، ولقد رأیت جماعة ممن ینازعون فی اتساع رحمة الله وأنها مقصورة على طائفة خاصة ، فحجروا وضیقوا ما وسع الله .
فلو أن الله لا یرحم أحدا من خلقه لحرم رحمته من یقول بهذا ، ولکن أبی الله تعالى إلا شمول الرحمة ، قال تعالى لنبیه صلى الله علیه وسلم : « وما أرسلناک إلا رحمة للعالمین » ، وما خص مؤمنا من غیره ، والله أرحم الراحمین کما قال عن نفسه .
وقد وجدنا من نفوسنا ، وممن جبلهم الله على الرحمة انهم یرحمون جمیع العباد ، حتى لو حکمهم الله فی خلقه لأزالوا صفة العذاب من العالم ، بما تمکن حکم الرحمة من قلوبهم .
وصاحب هذه الصفة أنا وأمثالی مخلوقون أصحاب أهواء وأغراض ، وقد قال عن نفسه جل علاه أنه أرحم الراحمین ، فلا شک أنه أرحم منا بخلقه ، و نحن قد عرفنا من تفوسنا هذه المبالغة فی الرحمة .
فکیف یتسرمد، علیهم العذاب وهو بهذه الصفة العامة من الرحمة ، إن الله أکرم من ذلک ، ولا سیما وقد قام الدلیل العقلی على أن الباریء لا تنفعه الطاعات، ولا تضره المخالفات، وان کل شیء جار بقضائه وقدره وحکمه.
وأن الخلق مجبورون فی اختیارهم ، وقد قام الدلیل السمعی أن الله یقول فی الصحیح « یا عبادی » فأضافهم إلى نفسه ، وما أضاف الله قط العباد لنفسه إلا من سبقت له الرحمة ألا یؤبد علیهم الشقاء وإن دخلوا النار .
فقال : « یا عبادی لو أن أولکم وآخرکم وإنسکم وجنکم اجتمعوا على أتقى قلب رجل واحد منکم ما زاد ذلک فی ملکی شیئا ، یا عبادی لو أن أولکم وآخرکم وإنسکم وجنکم اجتمعوا على أفجر قلب رجل واحد منکم ما نقص ذلک من ملکی شیئا » .
وهذه مسألة المکاشف لها قلیل ، والمؤمن بها أقل ، وهو سر عجیب ، ما رأینا أحدا نبه علیه من خلق الله ، وإن کانوا قد علموه بلا شک ، وما صانوه والله أعلم إلا صیانة لأنفسهم ورحمة بالخلق .
لأن الإنکار یسرع إلیه من السامعین ، ووالله ما نبهت علیه هنا إلا لغلبة الرحمة علیه فی هذا الوقت ، فمن فهم سعد ومن لم یفهم لم یشق بعدم فهمه وإن کان محروما ، فقد أظهرت أمرا فی هذه المسألة لم یکن باختیاری ، ولکن حق القول الإلهی بإظهاره ، فکنت فیه کالمجبور فی اختیاره ، والله ینفع به من یشاء لا إله إلا هو .
الفتوحات : ج 2 / 148 ، 244 ، 674 - ج 3 / 25 ، 100 ، 101 ، 383 . - ج 4 / 163 . ""
10 – "وإلیه یرجع الأمر کله» حقیقة وکشفا
راجع الظاهر فی المظاهر - فص 5 ، هامش 1 ص 84
"" 6 - وحدة الوجود - الظاهر فی المظاهر فص 5 ، هامش 1 ص 84
الموجودات على تفاصیلها فی ظهور الحق فی مظاهر أعیان الممکنات بحکم ما هی الممکنات علیه من الاستعدادات ، فاختلفت الصفات على الظاهر لأن الأعیان التی ظهر فیها مختلفة ، فتمیزت الموجودات وتعددت لتعدد الأعیان وتمیزها فی نفسه فما فی الوجود إلا الله وأحکام الأعیان ، وما فی العدم شیء إلا أعیان الممکنات مهیأة للاتصاف بالوجود .
فهی لا هی فی الوجود ، لأن الظاهر أحکامها فهی ، ولا عین لها فی الوجود فلا هی ، کما هو لا هو .
لأنه الظاهر فهو والتمیز بین الموجودات معقول ومحسوس لاختلاف أحکام الأعیان فلا هو ، فیا أنا ما هو أنا ولا هو ما هو هو .
مغازلة رقیقة وإشارة دقیقة ردها البرهان ونفاها ، و أوجدها العیان وأثبتها .
ما من شیء فی تفاصیل العالم إلا وفی الحضرة الإلهیة صورة تشاکل ما ظهر ، أی یتقید بها، ولولا هی ما ظهر .
فإذا تأملت فما ثم وجود إلا الله خاصة ، وکل موصوف بالوجود مما سوى الله فهو نسبة خاصة ، والإرادة الإلهیة إنما متعلقها إظهار التجلی فی المظاهر ، أی فی مظهر ما ، وهو نسبة .
فان الظاهر لم یزل موصوفا بالوجود ، والمظهر لم یزل موصوفا بالعدم ، فإذا ظهر أعطى المظهر حکما فی الظاهر بحسب حقائقه النفسیة .
فانطلق على الظاهر من تلک الحقائق التی هو علیها المظهر المعدوم حکم یسمى إنسانا أو فلکا أو ملکا أو ما کان من أشخاص المخلوقات .
کما رجع من ذلک الظهور للظاهر اسم یطلق علیه یقال به خالق وصانع ، وضار ونافع ، وقادر.
وما یعطیه ذلک التجلی من الأسماء ، وأعیان الممکنات على حالها من العدم کما أن الحق لم یزل له حکم الوجود .
فحدث لعین الممکن اسم المظهر ، و للمتجلی فیه اسم الظاهر .
فأعطى استعداد مظهر ما أن یکون الظاهر فیه مکلفا ، فیقال له افعل ولا تفعل ، ویکون مخاطبا بأنت وکاف الخطاب .
واعلم أن التجلی الذاتی ممنوع بلا خلاف بین أهل الحقائق فی غیر مظهر .
فوقتا یکون المظهر جسمیا و وقتا یکون جسمانیا ووقتا جسدیا ، ووقتا یکون المظهر روحیا ووقتا روحانیا.
فالتجلی فی المظاهر هو التجلی فی صور المعتقدات وهو کائن بلا خلاف.
والتجلی فی المعقولات کائن بلا خلاف . وهما تجلی الاعتبارات .
لأن هذه المظاهر سواء کانت صور المعقولات أو صور المعتقدات فإنها جسور یعبر علیها بالعلم .
أی یعلم أن وراء هذه الصور أمرا لا یصح أن یشهد ولا أن یعلم .
ولیس وراء ذلک المعلوم الذی لا یشهد ولا یعلم حقیقة ما یعلم أصلا .
وأما التجلی فی الأفعال ففیه خلاف بین أهل هذا الشأن لا یرتفع دنیا ولا آخرة .
فما فی المسائل الإلهیة ما تقع فیها الحیرة أکثر ولا أعظم من مسألة الأفعال ، ولاسیما فی تعلق الحمد والذم بأفعال المخلوقین.
فیخرجها ذلک التعلق أن تکون أفعال المخلوقین لغیر المخلوقین حین ظهورها عنهم ، وأفعال الله کلها حسنة فی مذهب المخالف الذی ینفی الفعل عن المخلوق ویثبت الذم للفعل بلا خلاف .
ولا شک عنده فی تعلق الذم، بذلک الفعل من الله، فمن الشدائد على أهل الله إذا أوقفهم فی حضرة الأفعال، من نسبتها إلى الله ونسبتها إلى أنفسهم،
فیلوح لهم ما لا یمکن لهم معه أن ینسبوها إلى أنفسهم ، ویلوح لهم ما لا یتمکن معه أن ینسبوه إلى الله .
فهم هالکون بین حقیقة وأدب ، والتخلص من هذا البرزخ من أشد ما یقاسیه العارفون ، فإن الذی ینزل عن هذا المقام یشاهد أحد الطرفین فیکون مستریحا لعدم المعارض.
فمذهبنا العین الممکنة إنما هی ممکنة لأن تکون مظهرا ، لا لأن تقبل الاتصاف بالوجود فیکون الوجود عینها .
إذن فلیس الوجود فی الممکن عین الموجود ، بل هو حال لعین الممکن ، به یسمى الممکن موجودا مجازا لا حقیقة ، لأن الحقیقة تأبى أن یکون الممکن موجودا ، فلا یزال کل شیء هالک.
الفتوحات ج1 / 694 , ج 2 / 40 ، 42 ، 99 ، 160 ، 435 ، 606. ""
راجع کنت سمعه وبصره - فص 9، هامش 9 ، ص 136
"" 9 - «کنت سمعه وبصره » الحدیث فص 9، هامش 9 ، ص 136
یقول تعالى : « ولا یزال عبدی یتقرب إلی بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته کنت سمعه الذی یسمع به وبصره الذی یبصر به ۰۰. الحدیث »
اعلم أن العبد حادث فلا تنفی عنه حقیقته لأنه لو انتفت ، انتفت عینه ، وإذا انتفت عینه فمن یکون مکلفا بالعبادة .
ففی هذا الحدیث أثبتک و نفاک ، فتکون أنت من حیث ذاتک ، ویکون هو من حیث تصرفاتک وإدراکاتک .
فأنت مکلف من حیث وجود عینک ومحل للخطاب ، وهو العامل بک من حیث أنه لا فعل لک .
إذ الحادث لا أثر له فی عین الفعل ، ولکن له حکم فی الفعل إذ کان ما کلفه الحق من حرکة وسکون لا یعمله الحق إلا بوجود المتحرک والساکن .
إذ لیس إذا لم یکن العبد موجودا إلا الحق ، والحق تعالی عن الحرکة والسکون أو یکون محلا لتأثیره فی نفسه ، فلابد من حدوث العبد حتى یکون محلا لأثر الحق ، فإذا کان العبد ما عنده من ذاته سوى عینه بلا صفة ولا اسم سوى عینه ، حینئذ یکون عند الله من المقربین و بالضرورة یکون الحق جمیع صفاته .
و یقول له : أنت عبدی حقا ، فما سمع سامع فی نفس الأمر إلا بالحق ولا أبصر إلا به ولا علم إلا به ولا حیی ولا قدر ولا تحرک ولا سکن ولا أراد ولا قهر ولا أعطى ولا منع ولا ظهر علیه وعنه أمر ما هو عینه إلا وهو الحق لا العبد.
فما للعبد سوى عینه سواء علم ذلک أو جهله ، وما فاز العلماء إلا بعلمهم بهذا القدر فی حق کل ما سوى الله لا أنهم صاروا کذا بعد أن لم یکونوا.
فالضمیر فی قوله «کنت سمعه» هو عین العبد . والسمع عین الحق فی کل حال. فکشف له سبحانه عن ذلک فإن قوله « کنت » یدل على أنه کان الأمر على هذا وهو لا یشعر .
فکانت الکرامة التی أعطاها هذا التقرب الکشف والعلم بأن الله کان سمعه وبصره فهو یتخیل أنه یسمع بسمعه وهو یسمع بربه .
کما کان یسمع الإنسان فی حال حیاته بروحه فی ظنه لجهله وفی نفس الأمر إنما یسمع بریه ، ألا ترى نبیه الصادق فی أهل القلیب کیف قال : ما أنتم بأسمع منهم ، فأثبت الله للعبد بالضمیر عینه عبدا لا ربوبیة له .
وجعل ما یظهر به وعلیه ومنه أن ذلک هو الحق تعالى لا العبد .
فما ثم إلا حق لحق وحق لخلق ، فحق الحق ربوبیته وحق الخلق عبودیته .
الفتوحات ج 1 / 203 ، 305 ، 378 ، 397 ، 406 ، 407 ، 415 ، 434 ، 445 ، 468 ، 675 .
الفتوحات ج 2 / 65 ، 189 ، 323 ، 341 ، 479 ، 502 ، 513 ، 559.
إکماله فص 10 هامش 9 ص 137
اعلم أن القرب قربان:
قرب فی قوله تعالى «ونحن أقرب إلیه من حبل الورید » وقوله تعالى «وهو معکم أینما کنتم».
وقرب هو القیام بالطاعات وهو المقصود فی هذا الحدیث ، فالقرب الذی هو القیام بالطاعات فذلک القرب من سعادة العبد من شقاوته ، وسعادة العبد فی نیل جمیع أغراضه کلها ، ولا یکون ذلک إلا فی الجنة ، وأما فی الدنیا فإنه لابد من ترک بعض أغراضه القادحة فی سعادته .
فالقرب من السعادة بأن یطیع لیسعد ، وهذا هو الکسب فی الولایة بالمبادرة لأوامر الله التی ندب إلیها ، أما قوله « من أداء ما افترضته علیه » لأنها عبودیة اضطراریة « ولا یزال
العبد یقترب إلی بالنوافل » وهی عبودیة اختیار « حتى أحبه » .
إذ جعلها نوافل ، فإذا ثابرت على أداء الفرائض فإنک تقربت إلى الله بأحب الأمور المقربة إلیه ، وإذا کنت صاحب هذه الصفة کنت سمع الحق و بصره .
وتکون یدک ید الحق « إن الذین بیا یعونک إنما یبایعون الله ید الله فوق أیدیهم » وهذه هی المحبة العظمى التی ما ورد فیها نص جلی کما ورد فی النوافل ، فإن للمثابرة على النوافل حبا إلهیا منصوصا علیه یکون الحق سمع العبد ونظره ، فانظر ما تنتجه محبة الله ، فثابر على أداء ما یصح به وجود هذه المحبة الإلهیة .
ولا یصح نفل إلا بعد تکملة الفرض ، فالحق سبحانه روح العالم وسمعه وبصره ویده ، فبه یسمع العالم و به یبصر وبه یتکلم وبه یبطش و به یسعى ، إذ لا حول ولا قوة إلا بالله العلی العظیم .
ولا یعرف هذا إلا من تقرب إلى الله بنوافل الخیرات ، کما ورد فی الحدیث الصحیح ، فانتبه لقوله « کنت سمعه الذی یسمع به ولسانه الذی یتکلم به وما تکلم إلا القائل فی الشاهد وهو الإنسان، وفی الإیمان الرحمن ، فمن کذب العیان کان قوی الإیمان ، ومن تردد فی إیمانه تردد فی عیانه ، فلا إیسان عنده ولا عیان ، فما هو صاحب مکان ولا إمکان .
ومن صدق العیان وسلم الإیمان کان فی أمان ، فإن الله أثبت أن ذلک للعبد بالضمیر عینه عبدا لا ربوبیة له ، وجعل ما یظهر به وعلیه ومنه أن ذلک هو الحق تعالى لا العبد فما ثم إلا حق لحق وحق لخلق ، فحق الحق ربوبیته ، وحق الخلق عبودیته.
فنحن عبید وإن ظهرنا بنعوته ، وهو ربنا وإن ظهر بنعوتنا ، فإن التعوت عند المحققین لا أثر لها فی العین المنعوتة.
ولهذا تزول بمقابلها إذا جاء ولا تذهب عینا .
فقوله تعالی « کنت سمعه وبصره » جعل کینوتنه سمع عبد منعوت بوصف خاص ، وهذا أعظم اتصال یکون من الله بالعبد حیث یزیل قواه من قواه ویقوم بکینوته فی العبد مقام ما أزال على ما یلیق بجلاله من غیر تشبیه ولا تکییف ولا حصر ولا إحاطة ولا حلول
ولا بدلیه ، فإنه أثبت عین الشخص بوجود الضمیر فی قوله « کنت سمعه » فهذه الهاء عینه ، والصفة عین الحق لا عینه ، فالشخص محل لأحکام هذه الصفات التی هی عین الحق لا غیره.
کما یلیق بجلاله ، فنعته سبحانه بنفسه لا بصفته ، فهذا الشخص من حیث عینه هو ومن حیث صفته لا هو ، وهذا من ألطف ما یکون فظهور رب فی صورة خلق عن إعلام إلهی لا تعرف له کیفیة ولا تنفک عنه بینیة .
والکرامة التی حصلت لهذا الشخص إنما هی الکشف والاطلاع لا أنه لم یکن الحق سمعه ثم کان ، والجاهل إذا سمع ذلک أداه إلى فهم محظور من حلول أو تحدید ، فبالوجه الذی یقول فیه الحق إنه سمع العبد به بعینه یقول إنه حیاة العبد وعلمه وجمیع صفاته .
فمثلا سر الحیاة سری فی الموجودات فحییت بحیاة الحق ، فهی نسب وإضافات وشهود حقائق ، والله هو العلی الکبیر عن الحلول والمحل.
الفتوحات ج 3 / 14 ، 63 ، 68 ، 184 ، 298 ، 356 ، 531 ، 557 - ج 4 / 5 ، 362 ، 449 . أهـ . ""
11 - لیس فی الإمکان أبدع من هذا العالم
اعلم أن العالم خلقه الله فی غایة الإحکام والإتقان ، کما قال الإمام أبو حامد الغزالی من أنه لم یبق فی الإمکان أبدع من هذا العالم ، فصدق لأنه لیس أکمل من الصورة التی خلق علیها الإنسان الکامل ، فلو کان لکان فی العالم ما هو أکمل
ص 303
بوجود الصورة الطبیعیة.
فنحن صورته الظاهرة، وهویته روح هذه الصورة المدبرة لها. "12"
فما کان التدبیر إلا فیه کما لم یکن إلا منه.
فـ هو «الأول» بالمعنى «والآخر» بالصورة وهو «الظاهر» بتغیر الأحکام والأحوال، «والباطن» بالتدبیر، "13"
«وهو بکل شیء علیم» فهو على کل شیء شهید، لیعلم عن شهود لا عن فکر.
فکذلک علم الأذواق لا عن فکر وهو العلم الصحیح وما عداه فحدس وتخمین لیس بعلم أصلا. "14"
ثم کان لأیوب علیه السلام ذلک الماء شرابا لإزالة ألم العطش الذی هو من النصب والعذاب الذی مسه به الشیطان، أی البعد عن
………………………………………………………….
من الصورة التی هی الحضرة الإلهیة ، وقد قال صلى الله علیه وسلم إنه تعالی خلق آدم على صورته.
والإنسان مجموع العالم ، والعبد الکامل المخلوق على الصورة الجامع للحقائق الإمکانیة الإلهیة هو المظهر الأکمل الذی لا أکمل منه ،
الذی قال فیه أبو حامد ما کان أبدع من هذا العالم لکمال وجود الحقائق کلها فیه : وهو العبد الذی ینبغی أن یسمی خلیفة ونائبا .
فتوحات ج 1 / 4 ، 259 - ج 2 / 103 ، 345
ولیس الکون بزائد عن کن بواوها الغیبة ، فظهر الکون على صورة کن ،
وکن أمره ، وأمره کلامه ، وکلامه علمه ، وعلمه ذاته ،
فظهر العالم على صورته ، فالأمر فی نفسه صعب تصوره من الوجه الذی یطلبه الفکر ، سهل فی غایة السهولة من الوجه الذی قرره الشرع .
فتوحات ج 2 / 402 ، 403
12 - هویته روح هذه الصورة المدبرة لها هو الظاهر فی المظاهر
راجع الهامش 10 بالفص الحالی
13 - هو الأول فی الوجود، والآخر فی الشهود
فالأول الحق بالوجود ….. والآخر الحق بالشهود
ولما کان العالم له الظهور والبطون کان هو سبحانه الظاهر لنسبة ما ظهر منه والباطن لنسبة ما بطن منه .
فتوحات ج 3 / 178 - دیوان 181
14 - علم الأذواق - راجع فص 10 ، هامش 8 ، ص 144
"" 8 - العلوم الإلهیة الذوقیة فص 10 ، هامش 8 ، ص 144
علوم الأذواق لا سبیل إلیها إلا بالذوق، فلا یقدر عاقل على أن یحدها ولا یقیم على معرفتها دلیلا، کالعلم بحلاوة العسل ومرارة الصبر ولذة الجماع والعشق والوجد والشوق وما شاکل هذا النوع من العلوم.
فهذه علوم من المحال أن یعلمها أحد إلا بأن یتصف بها ویذوقها ، وبالذوق تتمیز الأشیاء عند العارفین .
والکلام على الأحوال لا یحتمل البسط وتکفی فیه الإشارة إلى المقصود ، ومهما بسطت القول
فیه أفسدته ، فعلوم الأذواق لا تنقال ولا تنحکی ، ولا یعرفها إلا من ذاقها ، ولیس فی الإمکان أن یبلغها من ذاقها إلى من لم یذقها .
وبینهم فی ذلک تفاضل لا یعرف ، ولا یمکن أن یعرف عین ما فضله به ، وما من أمر إلا وهو یقبل التعبیر عنه ، ولا یلزم من ذلک فهم السامع الذی لا یفهم ذلک الاصطلاح ولا تلک العبارة ، فإن علوم الأذواق والکیفیات وإن قبلت لا تنقال ، ولکن لما کان القول بها والعبارة عنها لإفهام السامع .
لذلک قالوا ما ینقال ، ولا یلزم ما لا یفهم السامع - المدرک له أن لا یصطلح مع نفسه على لفظ بدل به على ما ذاقه ، لیکون ذلک اللفظ منبها ومذکرة له إذا نسی ذلک فی وقت آخر ، وإن لم یفهم عنه من لا ذوق له فیه ، فالله یرزقنا الإصابة فی النطق والإخبار عما أشهدناه وعلمناه من الحق علم کشف و شهود وذوق ، فإن العبارة عن ذلک فتح من الله تأتی بحکم المطابقة ، وکم من شخص لا یقدر أن یعبر عما فی نفسه، وکم من شخص تفسد عبارته صحة ما فی نفسه ، والصحیح أن کل علم لا یکون عن ذوق فلیس بعلم أهل الله .
ولما کانت العلوم تعلو وتنضع بحسب المعلوم ، لذلک تعلقت الهمم بالعلوم الشریفة العالیة التی إذا اتصف بها الإنسان زکت نفسه وعظمت مرتبته ، فأعلاها مرتبة العلم بالله .
وأعلى الطرق إلى العلم بالله علم التجلیات ، ودونها علم النظر ، فالتجلی أشرف الطرق إلى تحصیل العلوم ، وهی علوم الأذواق .
ولما لم تر إلا التقلید ترجح عندنا تقلید هذا المسمى برسول والمسمى بکلام الله ، وعملنا علیه تقلیدا حتى کان الحق سمعنا وبصرنا فعلمنا الأشیاء بالله .
فرجال الله علموا الله بإعلام الله ، فکان هو علمهم کما کان بصرهم.
فمثل هؤلاء لو تصور منهم نظر فکری لکان الحق عین فکرهم کما کان عین علمهم وعین بصرهم وسمعهم ، لکن لا یتصور من یکون مشهده هذا وذوقه أن یکون له فکر البتة فی شیء إنما هو مع ما یوحی إلیه على اختلاف ضروب الوحی ، وإنه من ضروب الوحی الفهم عن الله ابتداء من غیر تعکر ،
فإن أعطی الفهم عن تفکر فما هو ذلک الرجل فإن الفهم عن الفکر یصیب وقتا ویخطىء وقتا ، والفهم لا عن فکر وحی صحیح صریح من الله لعبده ، وذوق الأنبیاء علیهم السلام فی هذا الوحی یزید على ذوق الأولیاء .
وأهل الله من الأنبیاء والأولیاء ینسبون فیما یدرکونه من العلوم على غیر الطریق المعتادة ، فإذا أدرکوها تسبوا إلى تلک الصفة التی أدرکوا بها المعلومات ، فیقولون فلان صاحب نظر أی بالنظر یدرک جمیع المعلومات .
وهذا ذقته مع رسول الله صلى الله علیه وسلم ، وفلان صاحب سمع ، وفلان صاحب طعم ، وصاحب نفس وأنفاس یعنی الشم ، وصاحب لمس.
فمن علوم الوهب العلم عن النظرة والضربة والرمیة وکیف نقوم هذه الأمور مقام کلام العالم للمتعلم ، وذوقنا من هذا الفن ذوق النظرة فتستفاد علوم کثیرة من مجرد ضرب أو نظر ، قد رأینا هذا کله بحمد الله من نفوسنا فلا نشک فیه .
الفتوحات ج 1 / 31 ، 166 ، 214 ، 483 ، 551 - ج 2 / 298 ، 482 ، 608 ، 754 - ج 3 / 60 - ج 4 / 38 . أهـ ""
ص 304
الحقائق أن یدرکها على ما هی علیه فیکون بإدراکها فی محل القرب. "15"
فکل مشهود قریب من العین ولو کان بعیدا بالمسافة.
فإن البصر یتصل به من حیث شهوده ولولا ذلک لم یشهده، أو یتصل المشهود بالبصر کیف کان. فهو قرب بین البصر والمبصر.
ولهذا کنى أیوب فی المس، فأضافه إلى الشیطان مع قرب المس فقال البعید منی قریب لحکمه فی.
وقد علمت أن البعد والقرب أمران إضافیان، فهما نسبتان لا وجود لهما فی العین مع ثبوت أحکامها فی البعید والقریب.
واعلم أن سر الله فی أیوب الذی جعله عبرة لنا وکتابا مسطورا حالیا تقرؤه هذه الأمة المحمدیة لتعلم ما فیه فتلحق بصاحبه تشریفا لها.
فأثنى الله علیه- أعنی على أیوب- بالصبر مع دعائه فی رفع الضر عنه.
فعلمنا أن العبد إذا دعا الله فی کشف الضر عنه لایقدح فی صبره وأنه صابر "16"
وأنه نعم العبد کما قال تعالى «إنه أواب» أی رجاع إلى الله لا إلى
……………………………………………….
15 ۔ مخالفة لأصول الشیخ *
راجع فص 16، هامش 15، ص 263
16 - الشکوى إلى الله لا تقدح فی الصبر
إن کنت صاحب غرض وتحس بسرض وألم فاحبس نفست عن الشکوى لغیر من آلمک بحکمه علیک ، کما فعل أیوب علیه السلام . وهو الأدب الإلهی الذی علمه أنبیاءه ورسله ، وإنه ما آلمت وحکم علیک بخلاف غرضک إلا لتسأله فی رفع ذلک عنک ، فإن من لم یشک إلى الله مع الإحساس بالبلاء وعدم موافقة الغرض فقد قاوم القهر الإلهی ، فالأدب کل الأدب فی الشکوى إلى الله فی رفعه لا إلى غیره .
ویبقى علیک اسم الصبر کما قال تعالى فی رسوله أیوب علیه السلام « إنا وجدناه صابرا » فی وقت الاضطراب والرکون إلى الأسباب ، فلم یضطرب ولا رکن إلى شیء غیر الله إلا إلینا لا إلى سبب من الأسباب ، فلا یرفع اسم الصبر عن العبد إذا حل به بلاء ، فسأل الله تعالى فی رفع ذلک البلاء ، کما فعل أیوب علیه السلام . ولذلک إذا ابتلاک الحق بضر فاسأله رفعه عنک ولا تقاومه بالصبر علیه ، وما سماک صابرا إلا لکونت حبست نفسک عن سؤال غیر الحق فی کشف الضر الذی أنزله بک « إنه أواب » أی رجاع الینا فیما ابتلیناه به ، وهذا یدل على أن الشکوى إلى الله لا تقدح فی الصبر ؛ بل من آداب العبودیة الشکوى إلى الله فی رفع الضر والبلاء.
فتوحات ج 2 / 29 ، 206 - ج 4 / 143 ، 408 .
ص 305
الأسباب، والحق یفعل عند ذلک بالسبب لأن العبد یستند إلیه، إذ الأسباب المزیلة لأمر ما کثیرة والمسبب واحد العین.
فرجوع العبد إلى الواحد العین المزیل بالسبب ذلک الألم أولى من الرجوع إلى سبب خاص ربما لا یوافق علم الله فیه، فیقول إن الله لم.
فعمل أیوب بحکمة الله إذ کان نبیا، لما علم أن الصبر الذی هو حبس النفس عن الشکوى عند الطائفة، ولیس ذلک بحد للصبر عندنا.
وإنما حده حبس النفس عن الشکوى لغیر الله لا إلى الله.
فحجب الطائفة نظرهم فی أن الشاکی یقدح بالشکوى فی الرضا بالقضاء، ولیس کذلک، فإن الرضا بالقضاء لا تقدح فیه الشکوى إلى الله ولا إلى غیره، وإنما تقدح فی الرضا بالمقضی.
ونحن ما خوطبنا بالرضا بالمقضی.
والضر هو المقضی ما هو عین القضاء. "17"
وعلم أیوب أن فی حبس النفس عن الشکوى إلى
……………………………………………………………...
17 - الرضا بالقضاء
اعلم أن الله تعالى قد أمرنا بالرضا قبل القضاء مطلقا ، فعلمنا أنه یرید الإجمال فإنه إذا فصله حال المقضى علیه بالمقضی به انقسم إلى ما یجوز الرضا به وإلى ما لا یجوز ، فلما أطلق الرضا به علمنا أنه أراد الإجمال ، والقدر توقیت الحکم ،
فکل شیء بقضاء وقدر أی بحکم مؤقت ، فمن حیث التوقیت المطلق یجب الإیمان بالقدر خیره وشره ، حلوه ومره ،
ومن حیث التعیین یجب الإیمان به لا الرضا ببعضه ، وإنما قلنا یجب الإیمان به أنه شر کما یجب الإیمان بالخیر أنه خیر فتقول إنه یجب على الإیمان بالشر أنه شر ، وأنه لیس إلى الله من کونه شرا ، لا من کونه عین وجود . إن کان الشر أمرا وجودیة ،
فمن حیث وجوده أی وجود عینه هو إلى الله ، ومن کونه شرة لیس إلى الله قال له فی دعائه ربه « والشر لیس إلیک » فالمؤمن ینفی عن الحق ما نفاه عن نفسه وجناب الله أوسع من أن أرضی منه بالیسیر ، فإن متعلق الرضی الیسیر ،
ولکن أرضی عنه لا منه ، لأن الرضى منه یقطع همم الرجال ، فإن الله لا یعظم علیه شیء طلب منه ، لأن الرضى منه جهل و نقص ،
ویکون الرضا بقضاء الله لا بکل مقضی ، فإنه لا ینبغی الرضا بکل مقضی ،
فلا یلزم الراضی بالقضاء الرضى بالمقضی ، فالقضاء حکم الله ، وهو الذی أمرنا بالرضا به ، والمقضی المحکوم به ، فلا بلزمنا الرضى به.
فتوحات ج 1 / 45 - ج 2 / 213 - ج 4 / 18
ص 306
الله فی رفع الضر مقاومة القهر الإلهی، وهو جهل بالشخص إذ ابتلاه الله بما تتألم منه نفسه، فلا یدعو الله فی إزالة ذلک الأمر المؤلم، بل ینبغی له عند المحقق أن یتضرع ویسأل الله فی إزالة ذلک عنه، فإن ذلک إزالة عن جناب الله عند العارف صاحب الکشف: فإن الله قد وصف نفسه بأنه یؤذی فقال «إن الذین یؤذون الله ورسوله». "18"
وأی أذى أعظم من أن یبتلیک ببلاء عند غفلتک عنه أو عن مقام إلهی لا تعلمه
………………………………………………………….
18 - « إن الذین یؤذون الله ورسوله ۰۰۰ » الآیة *
إن الذین یؤذون الله بالتکلم فیه بما لا نبغی ، فوصف الله نفسه بأنه یؤذی . ولم یؤاخذ عن أذاه فی الوقت من آذاه . فأمهلهم ولم یؤاخذهم ، وجعل له ذلک الأذى اسم الصبور . فوصف نفسه بالصبور ، وذکر لنا من یؤذیه و بما یؤذیه .
وطلب من عباده رفع الأذى - مع قدرته على أن لا یخلق فیهم ما خلق - مع بقاء اسم الصبور علیه ، لیعلمنا أنا إذا شکونا إلیه ما نزل بنا من البلاء أن تلک الشکوى إلیه لا قدح فی نسبة الصبر إلینا ، فنحن مع هذه الشکوى إلیه فی رفع البلاء عنا صابرون ، کما هو صابر مع تعریفنا وإعلامه إیانا بین یؤذیه : وبما یؤذیه ، لننتصر له وندفع عنه ذلک .
وهو الصبور ، فمن کان عدوا لله فهو عدو للمؤمن ، وقد ورد فی الخبر "لیس من أحد أصبر على أذى من الله" ، وقد کذب وشتم ، لکونه قادرا على الأخذ وما یأخذ. ویهل باسمه الحلیم ،
ورد فی الصحیح « شتمنی ابن آدم ولم یکن ینبغی له ذلک ، وکذبنی ابن آدم ولم یکن ینبغی له - الحدیث - » رواه ابن حبان و أحمد و النسائی
فقوله « ولم یکن ینبغی له ذلک » لما له علیه من فضل إخراجه من الشر الذی هو العدم ، إلى الخیر الذی بیده تعالى وهو الوجود ، فکان التعریف بذلک لیرجع المکذب عن تکذیبه ، والشاتم عن شتمه ، فإن الدنیا موطن الرجوع والقبول منه .
والآخرة وإن کانت موطن الرجوع ولکن لیست بموطن القبول ، واتصف الحق بالصبر على أذى العبد ، وعرف أهل الاعتناء من المؤمنین بذلک ، صورة الشاکی ، لیدفعوا عنه ذلک الأذى ، فیکون لهم من الله أعظم الجزاء ، فلا أرفع ممن یدفع عن الله أذى .
ثم تمم فقال « لعنهم الله فی الدنیا والآخرة » أی أبعدهم ، واللعنة البعد ، وسببه وقوع الأذى منهم ، فوجبت علیهم اللعنة ، « وأعد لهم عذابا مهینا » لو کان الأمر کما یتوهمه
ص 307
لترجع إلیه بالشکوى فیرفعه عنک، فیصح الافتقار الذی هو حقیقتک، فیرتفع عن الحق الأذى بسؤالک إیاه فی رفعه عنک، إذ أنت صورته الظاهرة. "19"
کما جاع بعض العارفین فبکى فقال له فی ذلک من لا ذوق له فی هذا الفن معاتبا له، فقال العارف «إنما جوعنی لأبکی».
یقول إنما ابتلانی بالضر لأسأله فی رفعه عنی، وذلک لا یقدح فی کونی صابرا. "20"
فعلمنا أن الصبر إنما هو حبس النفس عن الشکوى لغیر الله، وأعنی بالغیر وجها خاصا من وجوه الله.
وقد عین الله الحق وجها خاصا من وجوه الله وهو المسمى وجه الهویة فتدعوه من ذلک الوجه فی رفع الضر ، "21" لا من الوجوه
……………………………………………….
من لا علم له من عدم مبالاة الحق بأهل الشقاء ، ما وقع الأخذ بالجرائم ولا وصف الله نفسه بالغضب ولا کان البطش الشدید ، فهذا کله من المبالاة والتهمم بالمأخوذ إذ لو لم یکن له قدر ما عذب ولا استعد له ، وقد قال فی أهل الشقاء « وأعد لهم عذابا مهینا » فتوحات ج 1/ 356 ، 612 ، 680 ، 730 - ج 2 / 206 - ج 3 / 36 ، 463 - ج 4 / 317 ، 318
19 - إذ أنت صورته الظاهرة (لأنه الظاهر فی المظاهر)
راجع هامش 10 "وإلیه یرجع الأمر کله" حقیقة وکشفا من هذا الفص
أو راجع فص 5 ، هامش 6 ، ص 84
20 - هذه الکلمة لأبی یزید البسطامی
فالعارف وإن وجد القوة الصبریة یفر إلى موطن الضعف والعبودیة وحسن الأدب ، فإن القوة لله جمیعا ، فیسأل ربه رفع هذا البلاء عنه ، وهذا لا یناقض الرضا بالقضاء ، فإن البلاء إنما هو عین المقضی لا القضاء ، فیرضى بالقضاء ویسأل الله فی رفع المقضی عنه ، فیکون راضیا صابرا ، فهو یبکی له وعلیه ، فإن الأکابر لا یحبسون نفوسهم عن الشکوى إلى الله .
فتوحات ج 2 / 29 ، 208
21 - الدعاء بالأسماء الإلهیة لا بالهویة *
لما کان الاسم الله جامعا للنقیضین فهو وإن ظهر فی اللفظ فلیس المقصود إلا اسما خاصا منه تطلبه قرینة الحال ، فإذا قال طالب الرزق المحتاج إلیه «یا الله ارزقنی» والله هو المانع أیضا.
فما یطلب بحاله إلا الاسم الرزاق، فما قال بالمعنى إلا « یا رزاق
ص 308
الأخر المسماة أسبابا، ولیست إلا هو من حیث تفصیل الأمر فی نفسه.
فالعارف لا یحجبه سؤاله هویة الحق فی رفع الضر عنه عن أن تکون جمیع الأسباب عینه من حیثیة خاصة. "22"
وهذا لا یلزم طریقته إلا الأدباء من عباد الله الأمناء على أسرار
……………………………………………………..
ارزقنی » فمن أراد الإجابة من الله فلا یسأله إلا بالاسم الخاص بذلک الأمر .
ولا یسأل باسم یتضمن ما یریده و غیره .
ولا یسأل بالاسم من حیث دلاله على داب المسی .
ولکن یسأل من حسن المعنى الذی هو علیه .
الذی لأجله جاء وتسبز عن غیره من الأسماء تمیز معنى لا تسیز لفظ .
فتوحات ج 2 / 462
22 - الأسباب مظاهر الحق وصور حجاب عن الحق
إثبات الأسباب أدل دلیل على معرفة المثبت لها بربه . ومن رفعها رفع ما لا یصح رفعه ، وإنما ینبغی له أن یقف مع السبب الأول ، وهو الذی خلق هذه الأسباب ونصبها ، فتبارک الله رب العالمین وضع الأسباب ، وجعلها له کالحجاب .
فهی توصل إلیه تعالى من علمها حجابا ، وهی تصد عنه کل من اتخذها أربابا .
فذکرت الأسباب فی إنبائها أن الله من ورائها ، فإنه یستحیل أن یکون للأسباب أثر فی المسببات فإن ذلک لسان الظاهر .
یقول الحق ، جمیع ما تراه من المحدثات : ما لأحد فیه أثر .
ولا شیء من الخلق ، فأنا الذی أخلق الأشیاء عند الأسباب لا بالأسباب .
واعلم أن الممکنات مفتقرة بالذات فلا یزال الفقر یصحبها دائما .
لأن ذاتها دائمة ، فوضع لها الأسباب التی یحصل لها عندها ما افتقرت فیه .
فافتقرت إلى الأسباب ، فجعل الله عین الأسباب أسماء له ، فأسماء الأسباب من أسمائه تعالى حتى لا یفتقر إلا إلیه ، لأنه العلم الصحیح ،
فلا فرق عند أهل الکشف بین الأسماء التی یقال فی العرف والشرع إنها أسماء الله وبین أسماء الأسباب أنها أسماء الله ، فإنه قال "أنتم الفقراء إلى الله"، ونحن نرى الواقع الافتقار إلى الأسباب.
فلابد أن تکون أسماء الأسباب أسماء الله تعالى ، فندعوه بها دعاء حال لا دعاء الفاظ ، ولذلک أمر بشکر الأسباب لأنه أمر بشکره فهو الثناء علیه بها ، فالملامیة من الصوفیة عبید خالصون
ص 309
الله، فإن لله أمناء لا یعرفهم إلا الله ویعرف بعضهم بعضا.
وقد نصحناک فاعمل وإیاه سبحانه فاسأل.
………………………………………………..
مخلصون لسیدهم ، مشاهدون إیاه على الدوام فی أکلهم وشربهم و یقظتهم ونومهم وحدیثهم مع الناس ، یضعون الأسباب مواضعها ، ویعرفون حکمتها ، حتى تراهم
کأنهم الذی خلق لهم کل شیء مما تراهم من إثباتهم الأسباب وتحضیضهم علیها ، یفتقرون إلى کل شیء ، لأن کل شیء عندهم هو مسمى الله ،
ورأوا الناس قد افتقروا إلى الأسباب الموضوعة کلها وقد حجبتهم فی العامة عن الله ، وهم على الحقیقة ما افتقروا فی نفس الأمر إلا إلى من بیده قضاء حوائجهم وهو الله ، قالوا فهنا قد تسمى الله بکل ما یفتقر إلیه فی الحقیقة ،
فمن رفع الأسباب فی الموضع الذی وضعه فیه واضعه وهو الحق فقد سفه واضعه وجهل قدره ، ومن اعتمد علیه فقد أشرک وألحد وإلى أرض الطبیعة أخلد ، فالملامتیة قررت الأسباب ولم تعتمد علیها ، فلا یرفع الأسباب إلا جاهل بالوضع الإلهی ، ولا یثبت الأسباب إلا عالم کبیر أدیب فی العلم الإلهی .
قال أبو بکر الصدیق الطبیب أمرضنی ، فالعلة إثبات السبب والحق عین السبب ، فإنه أثبت افتقار الناس إلیه لا إلى غیره ، لیبین لهم أنه المتجلی فی صور الأسباب وأن الأسباب التی هی صور حجاب عنه ، لیعلم العلماء لعلمهم بالمراتب .
الفتوحات ج 2 / 16 ، 123 ، 204 ، 469 ، 490 - ج 3 / 35 ، 73 ، 208 ، 416 ، 558 .
ص 310