عرفان شیعی

عرفان اسلامی در بستر تشیع

عرفان شیعی

عرفان اسلامی در بستر تشیع

الفقرة الثانیة عشر :

    

کتاب تعلیقات د أبو العلا عفیفی على فصوص الحکم الشیخ الأکبر ابن العربی 1385 هـ :

21 – فص حکمة مالکیة فی کلمة زکریاویة

الفص الحادی و العشرون حکمة مالکیة فی کلمة زکریاویة

(1) حکمة مالکیة فی کلمة زکریاویة

(1) یختلف هذا الفص عن غیره من فصوص الکتاب فی أنه لا ذکر فیه- إلا فی عنوانه- للنبی الخاص الذی تنسب إلیه حکمته.

وقد جرت عادة المؤلف فی الفصوص الأخرى أن یجعل محور کلامه فی کل فص حول مناقشة بعض الآیات القرآنیة الواردة فی حق النبی المنسوب إلیه حکمة الفص، وأن یشرح- على لسان النبی المزعوم- أسرار الحکمة التی یرید شرحها.

ولکنه فی الفص الذی نحن بصدده یغفل تمام الإغفال اسم زکریا النبی کما یغفل جمیع الآیات القرآنیة الواردة فی حقه.

نعم هناک إشارة غیر مباشرة إلى قوله تعالى فی سورة مریم: «ذکر رحمت ربک عبده زکریا» حیث یتکلم المؤلف عن الرحمة الإلهیة ومن ذکرته الرحمة ومن لم تذکره، ولکنه لا یذکر اسم زکریا صراحة ولا یذکر الآیة.

والظاهر أن هذه الإشارة البعیدة إلى الآیة المذکورة قد أثارت فی نفسه کل هذا الکلام الذی یفیض به الفص عن الرحمة ومعناها وأنواعها وأثرها فی الوجود.


(2) «اعلم أن رحمة الله وسعت کل شیء وجودا وحکما».

(2) سبقت الإشارة مرارا إلى المعنى الخاص الذی یستعمل فیه ابن العربی کلمة «الرحمة»، فإنه لا یقصد بها الشفقة على العباد ولا غفران المعاصی للعاصین، وإنما یرید بها النعمة السابغة الشاملة التی أسبغها الله على الوجود بأسره، أو هی بعبارة أخرى منح کل موجود وجوده الخاص به، وإظهار حکمها فیه بإظهار الصفات الوجودیة التی یتمیز بها کل موجود من غیره.

وسواء أ کان الوجود بالقوة أو بالفعل، بسیطا أو مرکبا، خیرا أو شرا، طاعة أو معصیة، فالرحمة شاملة له أی معطیة إیاه وجوده الخاص به لأنه إما موجود بالفعل متحقق الوجود، أو موجود بالقوة صائر إلى الوجود بالفعل. فالنظرة التی ینظر بها المؤلف إلى الرحمة نظرة میتافیزیقیة لا خلقیة.

ولذلک لا یفرق بین مقولتی الخیر والشر کما لا یمیز- إلا فی مجرد التسمیة- بین صفتی الغضب والرضا اللتین وصف الحق بهما نفسه. (قارن التعلیق الثالث على الفص السادس عشر).

وبالرغم من أن الرحمة نفسها لیس لها وجود عینی- لأنها من الأمور الکلیة المعنویة، فإن لها الحکم فی إیجاد کل ما له وجود عینی، شأنها فی ذلک شأن جمیع المعانی الکلیة التی لها أثر وحکم فی أعیان الموجودات، مع أنها لیست من الموجودات العینیة.

وإلى هذا المعنى أشار بقوله: «وقد ذکرنا فی الفتوحات أن الأثر لا یکون إلا للمعدوم، وإن کان للموجود فبحکم المعدوم (قارن الفص الأول).

هذه مسألة یرى ابن العربی أنها لا تدرک إلا بالذوق الصوفی وأنه لا مجال للعقل فیها، و إلا فکیف یدرک العقل أن الرحمة الإلهیة قد وسعت المعاصی والآلام و الأمراض ونحوها مما یظهر للعقل البشری أنه من مظاهر الغضب الإلهی لا الرحمة؟


(3) فأول ما وسعت رحمة الله شیئیة تلک العین الموجدة للرحمة بالرحمة إلى قوله ومرکبا وبسیطا».

(3) فی هذه الفقرة المتناهیة فی الغموض شرح لفکرة هی أشبه ما تکون بفکرة الفیض الأفلوطینی، أی ظهور الواحد الحق فی مراتب الوجود من أعلاها إلى أدناها فی سلسلة من الفیوضات تنتهی بالعالم المحسوس.

والأولى ألا نستعمل کلمة الفیوضات (بالمعنى الأفلوطینی) لأنها لا مکان لها فی مذهب ابن العربی، وإنما الواجب أن نستعمل کلمة التجلیات مکانها، فإن الواحد الحق یتجلى- فی نظره- فی صور الموجودات ولا تفیض الموجودات عنه.

ومما یزید المسألة غموضا وصعوبة فی الفهم أنه یدخل فی «الفیوضات» الرحمة الإلهیة التی یخلع علیها صفة العینیة حتى یعدها مرادفة للحق نفسه أو للوجود المطلق. فإذا فهمنا الرحمة على أنها الوجود، کانت الرحمة المطلقة التی وسعت کل شیء هی والوجود المطلق الذی هو الحق شیئا واحدا.

فظهور الواحد الحق فی صورة الکثرة الوجودیة التی هی العالم یقع فی التصور على سبیل التدرج فی مراتب من الوجود تتحقق کل مرتبة منها عند ما یتجلى الواحد الحق فیها- أو عند ما تسعها الرحمة الإلهیة.


وأول هذه المراتب مرتبة الذات الإلهیة المطلقة: وهی مرتبة الوجود المطلق من حیث هو وجود: لا سبیل لنا إلى معرفتها أو وصفها بأی وصف، لأن کل وصف یحددها ویعینها، وهی متعالیة على الوصف والتحدید.

فهی مرتبة الشیئیة المطلقة التی تعتبر سائر الموجودات مظاهر لها أو صورا وتعینات فیها.

فقوله: «فأول ما وسعت رحمة الله شیئیة تلک العین الموجدة للرحمة» معناه أن أول شیء وسعته الذات الإلهیة (أو الوجود المطلق) هو ذات الوجود المطلق، وأن أول تجل للذات الإلهیة کان فیها لنفسها، وهو الفیض الأقدس الذی أشرنا إلیه فی الفص الأول.

وهو أیضا مرتبة العماء. (راجع فی معنى الشیئیة والعماء ما ذکره فی الفتوحات ج 3 ص 115، وفی معنى الشیء من حیث وجوده بالقوة، والشیء من حیث وجوده بالفعل: الفتوحات ج 4 ص 136 و213).


والمرتبة الثانیة من مراتب التجلیات هی تجلی الواحد الحق لذاته فی صور الأسماء الإلهیة، وهی مرتبة الفیض المقدس التی فیها یتجلى الحق لنفسه فی صور الموجودات من حیث وجودها فی باطن الغیب المطلق: أی من حیث هی نسب و إضافات معقولة إلى الذات الإلهیة الواحدة.

فإذا عرفنا أن اسم «الله» یشیر إلى نسبة الحقائق الوجودیة إلى الذات الإلهیة على هذا النحو، وأن الاسم «الرحمن» یشیر إلى أنه منبع الوجود وأصل کل موجود: إذا عرفنا هذا کله، أدرکنا لم یعتبر ابن العربی الاسم «الله» مرادفا للاسم «الرحمن» مستشهدا بقوله تعالى:

«قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أیا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى»، ولماذا یعتبر کلا من هذین الاسمین جامعا للأسماء الإلهیة کلها.

وإذا کان الأمر کذلک فتجلی الواحد الحق لنفسه فی صور الأسماء الإلهیة إنما هو فی الحقیقة تجلیه لنفسه فی صورة اسم «الله» أو اسم «الرحمن».

فالحق مسمى باسم الرحمن فی نظر ابن العربی لأنه یتجلى بوجوده على کل موجود، وتجلیه بوجوده على کل موجود هو رحمته التی یرحم بها هذا الموجود.

فبوجود الذات الإلهیة المطلقة- التی هی العین الواحدة- ظهرت الکثرة الوجودیة فی الواحد، وکانت فیه وجودا بالقوة ثم وجودا بالفعل.

وهذا هو معنى قوله: «تلک العین الموجدة للرحمة بالرحمة» أی تلک العین التی أخرجت الوجود من القوة إلى الفعل.


والتجلی الثالث هو تجلی الواحد الحق فی صور أعیان الموجودات أو العالم الخارجی، وهذا أیضا ناشئ عن الرحمة.

إذ بالرحمة الإلهیة منح الله الوجود لکل موجود، أو على حد قول المؤلف أعطى کل موجود شیئیته سواء أ کان جوهرا أو عرضا، بسیطا أو مرکبا (قارن التعلیقین السابع والثامن على الفص السادس عشر).


(4) «و لا یعتبر فیها حصول غرض و لا ملاءمة طبع، بل الملائم و غیر الملائم کله وسعته الرحمة الإلهیة وجودا».

(4) هذه نتیجة لازمة عن تعریف الرحمة الإلهیة على الوجه الذی ذکرناه، فإن الرحمة لو کان معناها الشفقة بالعباد والعنایة بهم، لدخل فی حساب الراحم فعل ما هو ملائم لطباع الناس وما هو محقق لأغراضهم، بل لقصرت الرحمة على هذا الصنف من الأعمال دون غیره.

ولکنها أوسع من أن تنحصر فی هذا الصنف لأنها عامة تشمل الملائم وغیر الملائم، والخیر والشر، وکل ما یتحقق فی الوجود على أی وجه.

فلا یعنیها أن ما یتحقق وجوده ملائم أو غیر ملائم لغرض هذا الفرد أو ذاک، لأن الملاءمة وغیر الملاءمة أمران اعتباریان لا دخل لهما فی الأشیاء من حیث هی، وکذلک الخیر والشر أمران اعتباریان لا دخل لهما فی الأفعال من حیث هی.

والرحمة تتوجه إلى إیجاد الأشیاء والأفعال من حیث هی، فهی- بهذا المعنى- مرادفة للمشیئة الإلهیة التی هی أعم قانون فی الوجود.


(5) «وقد ذکرنا فی الفتوحات أن الأثر لا یکون إلا للمعدوم لا للموجود، وإن کان للموجود فبحکم المعدوم».

(5) بعد أن ذکر أن الصفات الإلهیة- وهی فی ذاتها لیست وجودا عینیا- لها أثر فی کل ما له وجود عینی، أراد أن یبین هنا أن کل ما له أثر فی متأثر فإنما هو معدوم (أی لیس له وجود عینی خارجی).

وإن تأثر متأثر بموجود فإنما یکون ذلک لحکم «معدوم» فیه.

وظاهر من هذا أن المؤلف لا یعنی بالمعدوم المعدوم إطلاقا فإن المعدوم المطلق سلب محض ولیس له أثر ولا یمکن أن یکون له أثر فی متأثر، وإنما یرید بالمعدوم هنا الذی لا وجود له فی العالم الخارجی، أعنی الموجود العقلی أو الروحی.

إن العالم الخارجی وهو عالم الظواهر الذی له وجود عینی فی تغیر مستمر، ولا بد لکل تغیر من علة تحدثه.

ولا یرى ابن العربی أن الظواهر الطبیعیة أو حالات المادة هی العلل فی وجود ظواهر طبیعیة أخرى أو حالات جدیدة فی المادة، بل العلل فی نظره أمور غیر مادیة أو کما یقول غیر وجودیة: وأحیانا یصف الأسماء الإلهیة- وهی فی نظره صفات معقولة محضة لیس لها وجود مستقل عن الذات التی تصفها- بأنها علل جمیع الموجودات بمعنى أنها حقائق کلیة معقولة متجلیة فی صور العالم الخارجی التی لا تتناهى عددا.


فلیست الذات الإلهیة من حیث هی- أی لیست الذات معراة عن جمیع الصفات التی توصف بها- علة فی وجود أی معلول.

وإنما هی علة فی وجود کل معلول من حیث هی متصفة بصفاتها المتجلیة فی جمیع نواحی الوجود.

ویشیر ابن العربی إلى هذا المعنى فی قوله فیما بعد: «فلها الحکم (أی للرحمة التی هی أمر معقول) لأن الحکم إنما هو فی الحقیقة للمعنى القائم بالمحل.

فهو (الحق) الراحم على الحقیقة:

فلا یرحم الله عباده المعتنى بهم إلا بالرحمة»: أی لا یرحم من یرحمه من حیث هو ذات معراة عن صفة الرحمة، بل یرحم من حیث هو موصوف بصفة الرحمة.

ولکنه أحیانا یتکلم عن «الأعیان الثابتة» للموجودات کما لو کانت هی الأخرى عللا فی وجودها لأنها فی نظره- مثل المثل فی نظر أفلاطون- العلل الحقیقیة لکل ما هو موجود فی عالم الظاهر.

فإن کل موجود إنما یوجد على الصورة التی یوجد علیها لأن عینه الثابتة قد قضت أزلا أن یکون على هذه الصورة.

فهی علة وجوده بهذا المعنى. ولکن هذه الأعیان الثابتة لا تخلو عند الفحص الدقیق عن أن تکون إما المثل المعقولة التی قال بها أفلاطون أو التعینات الأولى التی ظهرت فی الذات الإلهیة من حیث إضافة هذه الذات إلى العالم کما یقول ابن العربی.

أی أنها لا تخلو عن أن یکون المراد بها العالم المعقول أو الأسماء الإلهیة.

وإذا کان هذا الأخیر فیستوی أن تنسب العلیة فی عالم الظاهر إلى الأسماء الإلهیة أو تنسبها إلى الأعیان الثابتة. وهناک احتمال ثالث.

فإن من الممکن أن یکون المراد بالمعدوم، ما لا وجود له فی العالم الخارجی وهو مع ذلک علة فی وجود التغیرات: أقول من الممکن أن یکون المراد بهذا المعدوم الحقیقة غیر المدرکة بالحس المختفیة وراء الظواهر.

وبهذا المعنى تکون علة التغیر فی کل موجود جوهره المتقوم به الذی هو محل للتغیر، ویکون الوجود ثنویا.

ولکنها ثنویة فی وحدة کما یقول ابن العربی، فإن لکل موجود ناحیتین: ناحیة الظاهر أو الخلق التی یسمیها بالناسوت وناحیة الباطن أو الحق التی یسمیها باللاهوت.

والناحیة الأولى هی ناحیة المعلولیة فی الموجود کما أن الثانیة ناحیة العلیة فیه.


أما قوله: «وهو علم غریب وسألة نادرة ولا یعلم تحقیقها إلا أصحاب الأوهام» فالظاهر أن السبب فیه أن أصحاب الأوهام یتأثرون بأمور لیس لها وجود عینی خارجی، فهم لذلک أدنى من غیرهم إلى فهم المؤثرات التی لیس لها وجود محسوس.

وقد یکون ذلک کذلک لو أدرک أصحاب الأوهام حقیقة ما یؤثر فیهم، أی لو عرفوا أنهم یتأثرون بأمور لیست موجودة بالفعل، مع أن الأمر على خلاف ذلک لأن المتسلط علیه الوهم یعتقد أثناء تسلطه علیه أن ذلک الذی یؤثر فیه له کل معانی الوجود.


(6) «ثم إن الرحمة لها أثر بوجهین: أثر بالذات ... إلى قوله و لها أثر آخر فی السؤال».

(6) تنال الرحمة الإلهیة بطریقتین: الأولى ظهور الذات الإلهیة فی صور الموجودات على نحو ما هی علیه، وبحسب استعداد هذه الموجودات المنطبع فیها من الأزل، وهذه هی الرحمة الرحمانیة التی یشیر إلیها الله فی قوله: «ورحمتی وسعت کل شیء».

والطریقة الثانیة بسؤال العبد ربه أن یعطیه کذا أو کذا مما یلائم غرضا أو یحقق له نفعا.

ولکن الرحمة لا تنال بالسؤال إطلاقا وإنما تنال إذا اقتضت طبیعة الوجود نفسها تحقیق المسئول عنه.

ومن هنا لم یکن للسؤال فی نظر العارفین قیمة أو أثر، بل إنه یدل فی نظرهم على أن السائل محجوب جاهل بحقیقة السؤال.

وقد روی عن کثیر منهم أنهم کانوا یکرهون السؤال ویفوضون الأمر کله إلى الله، ولا یسألونه إلا أن تقوم بهم رحمته فإذا قامت بهم وجدوا حکمها ذوقا، أی لا یسألون الله إلا أن یقوم ذلک المعنى بهم، لا أن یرحمهم الله من حیث هو فاعل للرحمة لأن الأثر کما قلنا لیس فی الحقیقة إلا للمعانی.


(7) «ولهذا رأت الحق المخلوق فی الاعتقادات عینا ثابتة فی العیون الثابتة فرحمته بنفسها فی الإیجاد».

(7) قد شرحنا فی التعلیق الثالث على هذا الفص المرتبة الثانیة من مراتب التجلی الإلهی وذکرنا کیف وسعت الرحمة الإلهیة الأسماء التی یتسمى بها الحق وتدخل تحت اسم واحد هو اسم الله أو الرحمن.

والآن یرید المؤلف أن یفسر وجود صور المعتقدات أو صور الله فی الاعتقاد على أنها أمور وسعتها الرحمة الإلهیة أیضا.

والله لا یعرف من حیث ذاته المجردة عن الأسماء وإنما یعرف ویعبد من حیث هو ذات متصفة بأسمائها.

وأسماء الله فی نظر المؤلف هی الصفات التی یتصف بها العالم: إذ لیس للعالم معنى عنده إلا أنه الصفات التی وصف الحق بها نفسه.

فعلم الناس بالله مستمد من علمهم بالعالم.

والحق المخلوق فی الاعتقاد- وهو غیر الحق فی ذاته- صورة من صور علم الناس بالعالم.

ویلزم من هذا أن الرحمة التی وسعت الأسماء الإلهیة قد وسعت فی الوقت نفسه صور المعتقدات جمیعها، أو قد وسعت- کما یقول- الحق المخلوق فی الاعتقاد.

بعبارة أدق قد وسعت صور الاعتقاد التی قدر لها أزلا أن تکون صور اعتقاد للناس فی الله کما قدر لصاحب کل صورة من صور الاعتقاد أن یخلق هذه الصورة وفقا لما تجلى فی نفسه وفی العالم الخارجی المحیط به من الأسماء الإلهیة.

أما فکرة خلق الحق فی الاعتقاد ففکرة یرددها المؤلف فی مواضع کثیرة من هذا الکتاب، وقد أشرنا إلیها فی مثل قوله: «فأعلمه فأوجده» وقوله «فالله عبارة لمن فهم الإشارة» ونحو ذلک.


(8) «فیسأل المحجوبون الحق أن یرحمهم فی اعتقادهم، وأهل الکشف یسألون رحمة الله أن تقوم بهم».

(8) یسأل عامة الناس الذین لا یعرفون الحق إلا بطریق عقولهم الله أن یرحمهم فی اعتقاداتهم، وهذا هو عین الحجاب، لأن الحق المخلوق فی الاعتقاد إنما هو من عملهم من حیث هو صورة من صور علمهم بأنفسهم وبالعالم الذی یعرفونه.

فإذا ما دعوا الله أن یرحمهم دعوا فی الحقیقة آلهتهم المخلوقة فی اعتقاداتهم أن یغفروا لهم ذنوبهم ومعاصیهم.

أما أهل الکشف الذین یعرفون الحقیقة عن طریق الذوق، فلهم فی طلب الرحمة غایة أخرى: وهی أن تقوم الرحمة بهم أی یتحققوا بصفة الرحمة التی هی من صفات الله فیصبحوا راحمین لا مرحومین.


وهذا رأی قد یبدو غریبا لأول وهلة، غیر أن غرابته سرعان ما تزول عند ما ینظر إلیه الناظر فی ضوء مذهب وحدة الوجود الذی یقول به المؤلف، لأنه لا فرق فی الحقیقة فی مثل هذا المذهب بین راحم ومرحوم ولا معنى للاثنینیة هناک حیث لا یوجد فی الوجود إلا حقیقة واحدة، فمن الجهل إذن أن تدعو الحق أن ینزل بک رحمته أو أن یهبک أی شیء فإن الحق الذی تدعوه هو الحق الذی خلقته فی اعتقادک وهو أنت وأنت هو، بل الواجب علیک أن تتحقق ما أمکنک بصفات الکمال الإلهی التی منها الرحمة ونحوها.


ولکنک لن تصیر فی یوم من الأیام الحق لأنک فی الحقیقة حق أی صورة من صور الحق ومظهر من مظاهره.

فإذا قامت بک صفة الرحمة (أو أیة صفة أخرى) فأظهرها لغیرک تکن راحما مرحوما، وتحقق بذلک وحدتک الذاتیة مع الحق. هذا معنى من معانی الحال الصوفی المعروف بحال الفناء وهو الحال الذی صاح فیه الحلاج بقوله: «أنا الحق».

ومعنى قوله: «فمن ذکرته الرحمة فقد رحم واسم الفاعل هو الرحیم والراحم» أن من قامت به صفة الرحمة وتحقق بها أصبح راحما لغیره من الخلق.


(9) «والحکم لا یتصف بالخلق لأنه أمر توجیه المعانی لذواتها».

(9) سبقت الإشارة إلى موضوع هذه الفقرة فیما مضى من التعلیقات على هذا الفص لا سیما التعلیق الخامس.

والمراد بالحکم هنا حکم الصفة فی الموصوف کحکم «العلم» فی العالم والإرادة فی المرید ونحوهما.

وقد انقسمت الآراء فی مسألة الصفات الإلهیة إلى قسمین: رأی أهل السنة القائلین بأن الصفات لا هی عین الذات ولا هی غیرها، ورأی المعتزلة الذاهبین إلى أن الصفات عین الذات: وکلا الرأیین مخطئ فی نظر المؤلف.

فالصفات لیست عین الذات عنده- کما یقول المعتزلة- إلا بمعنى خاص وهی أنها نسب وإضافات بین الذات الموصوفة وبین الأعیان المعقولة للصفات.

فنحن إذا وصفنا الحق بأنه «عالم» لا نقصد أن صفة العلم عین الذات العالمة، وإنما نقصد أن صفة العلم هی عین الذات المتصفة بالعلم من حیث قیام صفة العلم بها، کما تقوم الأحوال بالجواهر: أی أنها نسبة أو إضافة بین الذات المتصفة بالعلم، وبین المعنى الکلی العام- العلم.

ومعنى هذا أن العلم هو الصفة التی حکمت على الذات فصارت الذات من أجلها عالمة.

والإرادة هی الصفة التی حکمت على الذات فصارت الذات من أجلها مریدة وهکذا.

ولا یقال إن صفة العلم أو الإرادة قد خلقت فی الذات، ولا أن حکمها قد حدث أو تجدد أو وصف بأی معنى من معانی الخلق، فإن حکم الصفة فی الموصوف أمر لا یوصف بالخلق ولا بالحدوث، بل یلزم من معنى الصفات لذواتها.

وفی هذا رد على أهل السنة الذین یتحاشون القول بأن الذات عین الصفات لئلا یسووا بین الله وصفاته، کما یتحاشون القول بأن الذات غیر الصفات لئلا یقعوا فی تعدد القدیم:

إذ صفات الله قدیمة کذاته. فهم لم یستطیعوا أن ینفوا الصفات الإلهیة لثبوت حکمها فی الموصوف، ولم یستطیعوا أن یجعلوها عین الذات، فقالوا قولتهم المشهورة: «لا هی هو ولا هی غیره».

ویقول ابن العربی «وهی عبارة حسنة وغیرها أحق بالأمر منها وأرفع للإشکال وهو القول بنفی أعیان الصفات وجودا قائما بذات الموصوف».

فمذهبه إذن أدنى إلى مذهب المعتزلة، غیر أنه وإن أثبت وحدة الذات والصفات کما یثبتون، وقال بقیام الصفات بذات الموصوف کما یقولون، لا یذهب إلى أن للصفات أعیانا قائمة بذات الموصوف، وإنما هی مجرد نسب وإضافات معقولة لیس لها وجود عینی. فهی معان قائمة بذات الحق ولکن لا أعیان لها، کما أنها لا تقوم بالذات قیام الأعراض أو الحوادث بمقوماتها.



(10) «والرحمة على الحقیقة نسبة من الراحم، و هی الموجبة للحکم، و هی الراحمة. والذی أوجدها فی المرحوم ما أوجدها لیرحمه بها، و إنما أوجدها لیرحم بها من قامت به».

(10) المعنى أن الحق سبحانه إذا رحم عبدا أوجد فیه الرحمة أو جعل الرحمة تقوم به بحیث یصبح قادرا على أن یرحم غیره من المخلوقات.

وبذلک یصبح المرحوم راحما. فالحق لا یوجد الرحمة فی المرحوم لیرحمه بها، بل لیکسبه الصفة الإلهیة التی بها یرحم غیره- وهذا لا یکون إلا للکاملین من العارفین.

ولا یکون قیام الرحمة بالراحم بهذا المعنى- أی لا یکون إیجادها فیه بعد أن لم تکن- إلا من صفات الإنسان الحادث، لأن الحق سبحانه لیس بمحل للحوادث، فلیس بمحل لإیجاد الرحمة فیه.

ومع ذلک فالحق هو الراحم على الإطلاق: أی هو مصدر کل رحمة، ولا تکون له هذه الصفة إلا على معنى أن رحمته عین ذاته کما بینا فی التعلیق السابق.

وها هو نص شرح القیصری على هذه المسألة الدقیقة وهو من أوضح الشروح فیها.

قال: «وإنما أوجدها لیرحم بها من قامت به» أی الحق الذی أوجد الرحمة فی هذا المرحوم الذی هو من أهل الکشف ما أوجدها لیرحمه بها فیکون مرحوما، وإنما أوجدها فیه لیکون راحما، لأنه بمجرد ما وجد أولا صار مرحوما بالرحمة الرحمانیة، وعند الوصول إلى کمال یلیق بحاله صار مرحوما بالرحمة الرحیمیة.

فإیجاد الرحمة فیه وإعطاء هذه الصفة له بعد الوجود والوصول إلى الکمال، إنما هو لیکون العبد موصوفا بصفة ربه فیکون راحما بعد أن کان مرحوما.

وإنما کان کذلک لأن الصفات الفعلیة (أی صفات الأفعال) إذا ظهرت فیمن ظهرت تقتضی ظهور الفعل منه.

ألا ترى أن الحق إذا أعطى لعبده صفة القدرة وتجلى بها له کیف تصدر منه خوارق العادات وأنواع المعجزات والکرامات؟

والرحمة مبدأ جملة الصفات الفعلیة إذ بها توجد أعیانا.

فنسأل الله (أن) یرحمنا بالرحمة التامة الخاصة والعامة": شرح القیصری على الفصوص ص 237. قارن التعلیق الثالث على الفص السادس عشر.


(11) «وإن کانت الرحمة جامعة فإنها بالنسبة إلى کل اسم إلهی مختلفة».

(11) الرحمة الإلهیة جامعة لجمیع صفات الفعل التی یتصف بها الحق لأنها مبدأ الإیجاد کما قلنا.

ولکنها تظهر فی الوجود بصور مختلفة بحسب الأسماء الإلهیة المختلفة، وتتعدد بتعددها.

وقد سبق أن ذکرنا أن الأسماء الإلهیة هی الصفات التی تتصف بها الموجودات، أو هی المعانی التی تتجلى فی الوجود بصور الموجودات فظهور الرحمة فی صور الأسماء الإلهیة معناه تجلیها فی صور الموجودات بحسب استعدادها وقابلیتها للوجود.

ومما یستدل به على عمومیة الرحمة وجامعیتها أن اسم «الرحمن» قد استعمل فی القرآن مرادفا لاسم «الله» فی قوله تعالى «قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أیا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى». واسم «الله» هو جماع الأسماء الحسنى کلها.


(12) «فرحمة الله والکنایة هی التی وسعت کل شیء، ثم لها شعب کثیرة تتعدد بتعدد الأسماء الإلهیة».

(12) الرحمة التی لها صفة العموم هی الرحمة المنسوبة إلى الاسم «الله» أو إلى یاء المتکلم (وهی المشار إلیها بالکنایة) فی قوله تعالى «ورحمتی وسعت کل شیء».

اما الرحمة التی یمنحها الله بواسطة أی اسم آخر من الأسماء الإلهیة فرحمة جزئیة لا تعم لأن الاسم الإلهی المتجلی فیها اسم خاص لا یعم.

وإذا نظرنا إلى الأسماء الإلهیة من حیث هی مجال للوجود العام أو مجال للرحمة الإلهیة العامة کانت کل رحمة خاصة تظهر على ید اسم من الأسماء بمثابة الشعبة المتفرعة عن الرحمة العامة.


(13) «إذ المصطلح علیه بأی لفظ حقیقة متمیزة بذاتها عن غیرها، وإن کان الکل قد سیق لیدل على عین واحدة مسماة».

(13) کل اسم إلهی حقیقة متمیزة بذاتها عن حقائق الأسماء الأخرى، ومن هنا استعمل لکل اسم لفظ خاص وکان له من الحکم ما لیس لغیره.

ولکن الأسماء الإلهیة کلها لها دلالة أخرى واحدة وهی دلالتها على الذات الإلهیة الواحدة المسماة بها.

وهذا هو المعنى الذی أشار إلیه أبو القاسم بن قسی الأندلسی عند ما قال: إن کل اسم إلهی على انفراده مسمى بجمیع الأسماء الإلهیة کلها.

فلا بد إذن من مراعاة الدلالتین جمیعا: دلالة کل اسم على معناه الخاص، ودلالة الأسماء الإلهیة کلها على الذات المتصفة بها.

أما طلب الرحمة بواسطة الأسماء الإلهیة، فیفهمه المؤلف على أن السائل إنما یدعو الله باسم من الأسماء من حیث دلالة ذلک الاسم على الذات الإلهیة المسماة به، لا من حیث دلالته على معناه الخاص: ولذلک یدعى الله بالاسم الرب کما یدعى بالاسم المنتقم لکی یرحم فلانا أو فلانا فیقول الداعی یا رب ارحم کما یقول یا منتقم ارحم ولا تناقض فی مثل هذا الدعاء.


(14) «أبو القاسم بن قسی».

(14) هو الشیخ أبو القاسم بن قسی شیخ طائفة المریدین فی الأندلس. مات مقتولا سنة 546 هـ.

کان معاصرا لاثنین من کبار رجال التصوف فی الأندلس وهما أبو العباس ابن العریف وأبو الحکم بن برجان اللذان اتهما بالزندقة فدعاهما صاحب شمال إفریقیة على بن یوسف إلى مراکش و حبسهما حتى ماتا فی السجن.

من ذلک الوقت استقل ابن قسی بزعامة الصوفیة فی الأندلس، وأطلق على أتباعه اسم المریدین فألف منهم جیشا قویا کان له خطره فی الشئون السیاسیة فی الأندلس وإفریقیة على السواء.

وقد خاض بهذا الجیش مواقع کثیرة فی الثورة المعروفة بثورة المریدین، واختلفت علیه الحظوظ فانتصر فی بعضها وهزم فی البعض الآخر.

ثم انتهى به الأمر إلى أن قتل فی ساحة القتال نتیجة لعقد تحالف بینه وبین نصارى البرتغال سنة 545 هـ.  أما قتله فکان فی سنة 546.

وکان بنفس الرماح التی أمده بها هؤلاء النصارى.

ولیس هناک من شک فی أن ابن قسی کانت له آمال سیاسیة واسعة استغل مریدیه لتحقیقها، ولکنه کان فی الوقت نفسه من أکبر رجال الصوفیة الذین عرفتهم الأندلس، وأنه کان ینحو فی تصوفه منحى أهل المشرق.

کان من أکبر المعجبین بالإمام الغزالی فکان یقرأ کتبه ویشرحها علانیة فی مجالسه متحدیا فی ذلک عرف أهل وطنه الذین کانوا ینقمون کل النقمة على الغزالی وکتبه.

ویحکی ابن العربی عن نفسه أنه فی زیارة له لمدینة تونس لقی ابن الشیخ ابن قسی وقرأ معه کتاب أبیه المعروف بخلع النعلین.

ولم یذکر شیئا عن کتابته شرحا على هذا الکتاب ولکن بعض المترجمین لابن العربی یذکرون له شرحا بهذا الاسم.

ولابن العربی إشارات کثیرة إلى هذا الشیخ فی کتابه الفتوحات ولکن معظمها حول مسألة الأسماء الإلهیة التی شرحنا رأی ابن قسی فی التعلیق السابق.