عرفان شیعی

عرفان اسلامی در بستر تشیع

عرفان شیعی

عرفان اسلامی در بستر تشیع

الفقرة التاسعة عشر :


کتاب تعلیقات د أبو العلا عفیفی على فصوص الحکم الشیخ الأکبر ابن العربی 1385 هـ :

22 – فص حکمة إیناسیة فی کلمة إلیاسیة

الفص الثانی و العشرون حکمة إیناسیة فی کلمة إلیاسیة

(1) حکمة إیناسیة فی کلمة إلیاسیة «إلیاس الذی هو إدریس»:

(1) أشار إلیه فی الفص السابع و نسب إلیه الحکمة القدوسیة.

یذهب الکتاب المسلمون أمثال القفطی و الیعقوبی و ابن أبی أصیبعة - متبعین فی ذلک بعض المصادر العبریة- إلى أن إدریس الوارد ذکره فی القرآن هو هرمیس إله الحکمة عند المصریین و الیونان، و أنه أیضا أخنوخ النبی الیهودی.

وقد أدى إلى هذا الخلط الغریب، التطورات التی مر بها تاریخ هرمیس إله الحکمة عند قدماء المصریین و الیونان على ید وثنیی حران من جهة و المسلمین و الیهود من جهة أخرى. فإننا نعلم أنه عند ما قلت أهمیة هرمیس فی العالم الهلینی القدیم و قلت عنایة هذا العالم بالکتابات الهرمیسیة منذ منتصف القرن السادس المیلادی، انتقل مرکز العنایة به وبهذه الکتابات إلى حران المرکز الثقافی الوثنی العظیم فی بلاد الجزیرة.


و لیس هناک من شک فی أن الکتابات الهرمیسیة کانت معروفة باللغة العربیة فی هذا الجزء من العالم حوالی القرن التاسع المیلادی، و أنه یحتمل أن تکون قد ترجمت من أصلها الیونانی إلى اللغة السریانیة قبل ذلک بقرون.

و مما هو جدیر بالذکر هنا أنه قبل أن یعرف العرب هرمیس کان بعض الکتاب من الشرقیین قد غیروا کثیرا من معالم شخصیته و بدلوا کثیرا من الکتابات الهرمیسیة فمزجوا هذه الکتابات بأفکار یهودیة و غیر یهودیة مما کان شائعا فی الشرق عندئذ، کما صوروا هرمیس إله الحکمة عند الیونان بصورة نبی من أنبیاء بنی إسرائیل. و مما یدل على ذلک دلالة قاطعة عدهم هرمیس وأخنوخ و إدریس و إلیاس شخصا واحدا، و وصف بعض المسلمین لهرمیس الأکبر الذی هو هرمیس الهرامسة (لأنهم یذکرون ثلاثة منهم) بنفس الأوصاف التی یصف الیهود بها أخنوخ و إدریس.

نعم، لم یذکر ابن العربی شیئا عن هرمیس، و لکن لیس هناک من شک فی أن ما یذکره عن إدریس النبی مأخوذ من المصادر الهرمیسیة الیهودیة. فإنه یقول مثلا إن إدریس «کان نبیا قبل نوح و رفعه الله مکانا علیا فهو فی قلب الأفلاک ساکن و هو فلک الشمس».


وهذا وصف ینطبق فی ظاهره على وصف الیهود لأخنوخ.

ولکن لإدریس عند ابن العربی معنى آخر یختلف تماما عن هذا، فإنه مجرد رمز للعقل الإنسانی فی حال تجرده التام عن جمیع علاقاته بالبدن، أو هو العقل المحض المتجه نحو المعرفة الکاملة بالله.

وهو بهذا المعنى قریب الشبه جدا بالصورة التی صور بها الیونان هرمیسهم.

فالعبارة الرمزیة الواردة فی بدء الفص عن إدریس، تفسر العلاقة بین عقل الإنسان و جسمه.

فإن جبل لبنان الذی یقول فیه إن اسمه مشتق من اللبانة أی الحاجة لیس إلا رمزا للجسم الإنسانی الذی هو موضع الشهوات والحاجات، والفرس الناری لیس إلا رمزا للنفس الحیوانیة کما یصفها أفلاطون.

و الآلات الناریة التی على الفرس هی شهوات البدن و أهواؤه.

أما رکوب الفرس فرمز لضبط النفس الشهویة عن طریق تحکیم النفس الناطقة (العقل) فیها.

 

(2) «الله أعلم حیث یجعل رسالته ... فالله أعلم موجه له وجه بالخبریة إلى رسل الله و له وجه بالابتداء إلى أعلم حیث یجعل رسالته».

(2) النص الکامل للآیة القرآنیة هو «و إذا جاءتهم آیة قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتی رسل الله، الله أعلم حیث یجعل رسالته» (سورة الأنعام آیة 124)

و یرى ابن العربی أنه یمکن فهمها على وجهین:

الوجه الأول باعتبار کلمة «الله» الثانیة خبرا لرسل الله. فکأنه یرید بهذا الوقف على أوتی، و یجعل «رسل الله» جملة خبریة تامة.

ویجعل أعلم خبرا لمبتدإ محذوف تقدیره هو أعلم حیث یجعل رسالته.

وهذا التفسیر نص فی وحدة الوجود لأنه یجعل رسل الله صورا أو مجالی لله و یجعل الله الذات المتجلیة فی هذه الصور، وهو تفسیر بعید عن روح القرآن، کما أنه بعید عن ذوق اللغة و لکنه متمش تماما مع منطق مذهب المؤلف الذی یأخذ تفسیر الآیة على هذا الوجه دلیلا على فکرته فی التشبیه المقابل للتنزیه.

و یستدل بعض الشراح على إمکان هذا التفسیر ببعض الآیات القرآنیة التی یشتم منها رائحة وحدة الوجود، مثل قوله تعالى «إن الذین یبایعونک إنما یبایعون الله» (قرآن 48 آیة 10)، و قوله «من یطع الرسول فقد أطاع الله» (سورة 4 آیة 80).

و الوجه الثانی هو الوقف على «الله» الأولى و اعتبار «الله» الثانیة مبتدأ خبره أعلم حیث یجعل رسالته.

فکأن معنى الآیة أن الکفار إذا جاءتهم آیة ما جدیدة رفضوها و قالوا لن نؤمن حتى نؤتى من الآیات مثل ما أوتی رسل الله، و لکن الله یعلم حیث یضع رسالته.

وهذا هو المعنى المفهوم عادة من الآیة و لا أثر لفکرة وحدة الوجود فیه.

وإذا أخذنا التفسیر الأول على أنه دلیل التشبیه، فإننا لا بد أن نأخذ التفسیر الثانی على أنه دلیل التنزیه، لأنه یشیر إلى التفرقة بین الحق و الخلق- بین الله و رسله- حیث تنمحی هذه التفرقة على التفسیر الأول.

وقد أراد ابن العربی بإیراد هذین الوجهین الإشارة إلى أن بعض آیات القرآن تحمل التشبیه و التنزیه معا، و هذه واحدة منها.

 

(3) «و بعد أن تقرر هذا فنرخی الستور و نسدل الحجب على عین المنتقد و المعتقد».

(3) بعد أن شرح أن الحقیقة الوجودیة یجب أن یراعى فیها جانبا التشبیه و التنزیه معا و أن مراعاة أحدهما دون الآخر یؤدی لا محالة إلى علم ناقص بحقیقة الأمر على ما هو علیه،

قال إن من واجبنا الآن أن نقف حجاجنا مع کل من المنتقد و هو صاحب النظر الفکری والمعتقد وهو التابع الآخذ بظاهر الشرع.

یشیر بذلک إلى المتکلمین والفلاسفة الذین یقولون بتنزیه الحق تنزیها مطلقا، وإلى أهل السنة الذین یقولون بالتشبیه.

وقد أوقف الحجاج مع هاتین الطائفتین لأنهما محجوبتان عن العلم الکامل بحقیقة الوجود، فإن کل طائفة منهما لا تنظر إلى هذه الحقیقة إلا من جانب واحد.

وقد فضل الصمت فی هذه المسألة لکی یظهر التفاضل بین الناس فی استعداداتهم لمعرفة الحق، فإن الحق قد تجلى فی صور أعیان الممکنات فعرفته کل صورة بحسب استعدادها.

والصور متفاضلة فی الاستعداد فهی بالتالی متفاضلة فی علمها بالله.

ویستوی أن نقول إن التفاضل واقع فی صور الممکنات التی یتجلى فیها الحق، أو أن نقول کما یقول جامی، إنه واقع فی صور تجلی العلم الإلهی فی الکائنات.

فإنه لا فرق بین التعبیرین فی مذهب یقول بوحدة الوجود کمذهب ابن العربی.

وإذا عددنا المنتقد و المعتقد صورتین من بعض ما تجلى فیه الحق کما یقول، فإن هناک صورة ثالثة لم یذکرها، و لکنها تفهم من سیاق کلامه، وهی صورة العارف الکامل الذی یقول بالتشبیه والتنزیه معا.

وإذا کان المنتقد صاحب النظر یقول بالتنزیه استنادا إلى عقله، والمعتقد صاحب الوهم یقول بالتشبیه استنادا إلى وهمه، فإن العالم الکامل یجمع بین القولین استنادا إلى عقله ووهمه وذوقه.

 

(4) «فإن کان الذی یعبرها ذا کشف و إیمان فلا یجوز عنها إلى تنزیه فقط، بل یعطیها حقها فی التنزیه و مما ظهرت فیه».

(4) یشیر إلى تعبیر صاحب الکشف و الایمان للصورة التی یرى فیها الحق فی نومه فیقول إنه یعطیها حقها من التنزیه و التشبیه معا.

أما المنزه على الإطلاق فینکر تجلی الحق فی صورة من الصور، سواء أ کانت هذه الصورة من صور العالم الخارجی أم من صور الرؤیا، لأن الحق فی نظره لا یحد بحد و لا تحصره صورة.

و أما المشبه فیجیز تجلی الحق للنائم فی صورة من صور على نحو ما یعتقد من تجلیه یوم القیامة على خلقه فی صورة من الصور و لا یرى بأسا من هذا.

وأما صاحب الکشف و الإیمان فیعطی صورة الحق فی النوم حقها من التنزیه بأن یقول إنها صورة للحق و لکنه لیس منحصرا فیها بل یتجاوزها إلى غیرها من الصور التی لا تحصى عددا، کما أنه ظاهر فی العالم الخارجی بصور أعیان الممکنات من غیر أن تحصره واحدة منها.

وهذا هو معنى التنزیه عنده، أی أنه یقول «إن الحق من حیث ذاته منزه عن الصور العقلیة و المثالیة و الحسیة کلها لعجز العقول و الأوهام عن إدراکها، و إن کان بحسب أسمائه و صفاته و ظهوره فی مراتب العالم غیر منزه عنها» (القیصری ص 232).

أما حق الصورة من التشبیه فهو إعطاؤها کل مشخصاتها و ممیزاتها الخاصة بها من حیث هی کذلک، مثل الشکل و الوضع و المکان و الزمان و غیرها.

ومعنى هذا أن ابن العربی یفهم من التشبیه و التنزیه الذی ینسبه إلى صاحب الکشف و الإیمان معنى الإطلاق و التحدید، لا التنزیه و التشبیه اللذان یفهمهما عادة أهل الکلام و الفلاسفة.

وقد أشرنا إلى ذلک فیما مضى فی تعلیقاتنا على التنزیه و التشبیه فی الفص النوحی.

 

وإذا کان الأمر کذلک: أی إذا کان کل منا یصور الحق بصورة ما یقضی بها استعداده فتکون صورة تنزیه أحیانا و صورة تشبیه أحیانا أخرى، أو تجمع بین الأمرین، تبین لنا مغزى قول ابن العربی «فالله على التحقیق عبارة لمن فهم الإشارة».

أی أنه لفظ یفهمه کل إنسان بحسب استعداده و علمه بنفسه و بالعالم المحیط به، أو هو رمز لصورة اعتقاده الخاص.

والله الذی هو عبارة بهذا المعنى هو الإله المخلوق فی الاعتقاد الذی أسلفنا ذکره، لا الله من حیث هو فی ذاته، فإنه من هذه الحیثیة یتعالى عن کل علم و کل فهم.

وقد فسر القیصری «الله» فی قول المؤلف «فالله على التحقیق عبارة» بأنه «الله» الوارد فی قوله تعالى «رسل الله الله أعلم حیث یجعل رسالته» کأنما یرید أن لفظة الله فی الآیة انما هی فی الحقیقة عبارة عن حقیقة ظهرت فی صورة الرسل.

ولا بأس بهذا التفسیر و لکنی أفضل ما ذهبت إلیه.

 

(5) «فالمؤثر بکل وجه و على کل حال و فی کل حضرة هو الله ... إلى قوله فإذا ورد فالحق کل شیء بأصله الذی یناسبه».

(5) لم یذکر صراحة فاعل «ورد» مما دعا إلى غموض النص و اختلاف الشراح فیه، فإن جامی مثلا یرى أن المراد بالوارد الآثار من الکتاب أو السنة، و یفهم العبارة على أنه إذا وردت آیة أو حدیث یشیران إلى ناحیة التأثیر، فألحقهما بالأصل الذی یناسب معناهما.

و إذا وردا فی شیء یتعلق بالتأثر فألحقهما بالأصل الذی یناسب معناهما.

و یرى القیصری أن المراد بالوارد الوارد الإلهی.

و لعله یقصد بذلک المعنى الذی یلقیه الله فی القلب القاء فیتذوقه صاحبه من غیر تدبر أو تفکیر: فإذا ورد مثل هذا المعنى و کان خاصا بالله نسبه صاحب الکشف إلى أصله، و إذا ورد و کان خاصا بالعالم نسبه إلى أصله الآخر.

و إننی أرى أنه من الممکن أن یکون المراد بالوارد کل فکرة تخطر بالبال و تتصل بالأمر الذی قال انه ینقسم إلى مؤثر و مؤثر فیه، و أن معنى العبارة أنه إذا خطرت ببالک فکرة عن أمر وجودی فأحق هذا الأمر بإحدى المقولتین اللتین أشار إلیهما و هما مقولتا الفعل و الانفعال، فإن کل أمر وجودی لا یخلو عن أن یکون علة أو معلولا فاعلا أو منفعلا.

و یدل ظاهر العبارة على أن ابن العربی یعترف بأصلین أو مبدأین یستند إلیهما الوجود: هما مبدءا العلیة و المعلولیة أو التأثیر و التأثر، و لکن هذه الثنویة لیست سوى ثنویة صفات تتصف بها حقیقة واحدة لا انقسام فیها و لا تعدد، و لیست بحال من الأحوال ثنویة جوهریة تفترض وجود جوهرین مختلفین متمایزین، جوهر فاعل و آخر منفعل.

و لیس هناک ما یمنع القائل بوحدة الوجود أن یقول بثنویة الصفات فی الحقیقة الوجودیة الواحدة کما قال اسبینوزا بوجود صفتی الامتداد و العقل فی الجوهر الواحد الذی هو أصل جمیع الموجودات.

الحقیقة إذن واحدة فی نظر ابن العربی: إذا نظرنا إلیها من وجه و راعینا فیها جانب الفعل سمیناها الحق، و إذا نظرنا إلیها من وجه آخر و راعینا فیها جانب الانفعال أطلقنا علیها اسم العالم.

ولکن الفعل والانفعال مقولتان یخضع لهما العقل البشری فی تفکیره ویستعین بهما على فهم الوجود، ولکنهما لا تعبران عن حقیقة الوجود فی نفسه.

فإذا کان لا بد لنا من التمییز بین الحق و الخلق الله و العالم فأبرز صفات الأول صفة العلیة وما یتبعها، وأبرز صفات الثانی صفة المعلولیة و ما یتبعها.

وإذا ورد لنا خاطر یتصل بأمر وجودی سهل علینا على هذا النحو أن نرده إلى الله أو إلى الحضرة الإلهیة إن کان فیه صفة الفعل، أو نرده إلى العالم أو الحضرة الکونیة إن کان فیه صفة الانفعال، وان کان کل أمر فی الوجود لا یرد فی الحقیقة إلا إلى حقیقة واحدة.

 

(6) «کما کانت المحبة الإلهیة عن النوافل من العبد».

(6) شرحنا کیف یعتبر المؤلف مبدأ العلیة و المعلولیة أساسا الوجود بأسره، و کیف ینسب جانب الفعل إلى الحق و جانب الانفعال إلى الخلق مع أن الوجود فی جوهره حقیقة واحدة.

والآن نراه یسوق مسألة الحب الإلهی الناشىء من تعبد العبد بالنوافل شاهدا على وجود هذا المبدأ، یؤیده الحدیث الوارد فیه وهو الحدیث القدسی الذی یقول الله فیه «ما یزال عبدی یتقرب إلی بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته کنت سمعه الذی یسمع به و بصره الذی یبصر به و یده التی یبطش بها» إلخ.

فیرى المؤلف أن فی هذا الحدیث إشارة إلى مؤثر (علة) و هو النوافل و متأثر (معلول) و هو المحبة الإلهیة إذ المحبة الإلهیة للعبد نتیجة لازمة عن تقرب العبد إلى ربه بالنوافل. و قد یبدو فی ظاهر هذا الکلام تناقض لما قرره من قبل أن المؤثر على الإطلاق و بکل وجه و فی کل حضرة هو الحق.

ولکن لا تناقض على الحقیقة إذا اعتبرنا أن المؤثر فی صورة العبد المتقرب بالنوافل هو الحق الظاهر بهذه الصورة، لأن النوافل أفعال وجودیة ظاهرة من الحق فی مظهر العبد: فهی من حیث إنها أمور وجودیة مؤثرة، مستندة إلى الحق سبحانه.

ولو کان فیها نقص أو قصور فهی مستندة إلى استعداد العبد: و الأثر لها من الحیثیة الأولى.

أما المتأثر فهو العبد من حیث ظهور آثار المحبة الإلهیة فیه. فالمؤثر فیه على الحقیقة العبد لا الحق، کما أن المؤثر على الحقیقة الحق لا العبد.

ثم ساق مثلا آخر یوضح به مبدأ التأثیر والتأثر فقال: «وکما کان الحق سمع العبد وبصره وقواه عن هذه المحبة»: یشیر بذلک إلى الجزء الأخیر من الحدیث القدسی المذکور آنفا.

فالمحبة الإلهیة الحاصلة عن قرب النوافل أصل، و کون الحق سمع العبد وبصره وسائر قواه فرع: والمؤثر هو الحق من حیث حبه للعبد والمتأثر العبد من حیث ظهور أثر تلک المحبة فیه. وکمال المحبة إنما یکون فی أن یدرک العبد أن الحق سمعه وبصره وسائر قواه.

 

(7) «و أما العقل السلیم» إلى قوله «لغفلته عن نفسه».

(7) المراد بالعقل السلیم القلب الساذج من العقائد الفاسدة، الباقی على الفطرة الأولى.

ولا یخلو صاحب هذا القلب من أن یکون أحد رجلین: رجل تجلى له الحق فی مجلى طبیعی إما فی نفسه أو فی أیة صورة أخرى وکشف له تجلیه فی هذه الصورة وعرفه أنه عین هذا المجلى من وجه وغیره من وجه آخر: و هذا یعرف ما أشار إلیه المؤلف من أن الحق عین قوى العبد من سمع وبصر وید و رجل وغیر ذلک، أو یعرف ما قال من أن الامر منقسم إلى مؤثر و مؤثر فیه، وأن المؤثر فی جمیع الحضرات الکونیة والإلهیة هو الحق، والمؤثر فیه فی جمیع هذه الحضرات هو أعیان الممکنات.

ورجل مؤمن بما وردت به الاخبار الإلهیة، مسلم بأوامر الرسل منقاد إلیهم.

وهذا یؤمن بالأمر الذی ورد فی الحدیث الصحیح من أن العبد یتقرب إلى الحق بالنوافل حتى یحبه فإذا أحبه کان سمعه وبصره و یده ورجله إلى آخره.

أما صاحب العقل الذی یخیل إلیه أنه یحکم عقله وحده فی مسائل الإلهیات - کالمعتزلة من النظار- فهو واهم فی ظنه، خاضع لسلطان الوهم من حیث لا یدری:

لأنه لا بد أن یعترف بما جاء به الحق من أنه عین العبد و سمعه و غیر ذلک من القوى- إن کان مؤمنا به.

واعترافه هذا نتیجة لاستعمال وهمه. و قد جاءت الشریعة التی یؤمن بها بالتنزیه الذی یحکم به العقل و التشبیه الذی یحکم به الوهم. فاعتقاده أنه یعمل عقله وحده وهم منه و خطأ.

وأما صاحب العقل غیر المؤمن بما ورد فی الشرع من معانی التشبیه فیحکم على الوهم بالوهم، لأنه یحیل على الله تجلیه فی أیة صورة من الصور الحسیة و المثالیة: أی أنه یحکم على الوهم (الذی یؤید تجلی الحق فی الصور) بأنه کاذب فی حکمه، و لکن حکمه هذا على الوهم إنما هو بالوهم، لأنه یتوهم أو یتخیل بنظره الفکری أنه قد أحال على الله تجلیه فی الرؤیا أو فی أیة صورة من الصور، وینکر کل معنى من معانی التشبیه، والوهم فی ذلک لا یفارقه أبدا لأنه یصدقه ویخضع له من حیث لا یدری.

ولعل المؤلف یقصد بهذا الصنف الأخیر الفلاسفة.

 

(8) «و من ذلک قوله تعالى ادعونی أستجب لکم» إلى قوله «فهو کثیر بالصور و الأشخاص».

(8) أی و مما یستدل به أیضا على وجود مبدأی التأثیر و التأثر، و أن التأثیر فی کل حالة راجع إلى الحق، و التأثر فی کل حالة راجع إلى الخلق، قوله تعالى «ادعونی أستجب لکم» و قوله «و إذا سألک عبادی عنی فإنی قریب أجیب دعوة الداع إذا دعان» و نحوهما من الآیات التی تشیر إلى الاثنینیة فی ظاهرها و تدل فی باطنها على معنى الجمع و الوحدة.

فهو یقول إن الاستجابة لاتکون إلا بوجود اثنین: داع و مستجیب، إذ لایکون مستجیب إلا إذا وجد دعاء الداعین کما فی الآیة الأولى، ولا یکون مجیب إلا إذا وجد من یدعوه کما فی الآیة الثانیة.

و فی کلتا الحالتین یوجد مؤثر وهو الدعاء ومؤثر فیه وهو المجیب.

فالظاهر یقتضی وجود صورتین مختلفتین، إحداهما للداعی المؤثر و الأخرى للمجیب المتأثر، کما یقتضی أن التأثیر للعبد و التأثر للحق و لکن الأمر فی الحقیقة على خلاف ذلک: إذ عین الداعی عین المجیب بالرغم من اختلاف صورتیهما.

 

نعم توجد صورتان: إحداهما کونیة إنسانیة و هی صورة الداعی، و الأخرى إلهیة أسمائیة و هی صورة المجیب، و لکنهما صورتان لحقیقة و عین واحدة.

و لیس التأثیر المعزو إلى الأولى معزوا إلیها من حیث هی صورة کونیة إنسانیة، بل من حیث هی مجلى من مجالی الحق: أی أن المؤثر على الحقیقة هو الله. و أما المتأثر فهو العبد لظهور أحکام الإجابة فیه.

وخلاصة القول أن الأمر فی نفسه وحدة فی کثرة أو کثرة فی وحدة، و أن التفرقة بینهما تفرقة اعتباریة محضة.

ولما قرر هذه المسألة التی هی لب مذهبه و جوهره و المحور الذی یدور علیه جمیع تفکیره أخذ یتلمس لها أنواعا من التشبیه و التمثیل لا تزیدها فی الواقع إلا غموضا و تعقیدا. وغایة ما یقال فیها أنها أقیسة مع الفارق.

فقد شبه النسبة بین العین الوجودیة الواحدة و الصور المتکثرة المتغایرة بالنسبة بین النفس الواحدة الشخصیة و بین بدنها المتکثر بصور أعضائه.

فزید مثلا حقیقة واحدة و لکنه کثیر بصور أعضائه. فهو کثرة فی وحدة أو وحدة فی کثرة.

وکل صورة من صور أعضائه مختلفة متغایرة عن الصورة الأخرى، کالید التی تختلف عن الرجل و عن الرأس.

و لکن هذه الکثرة الصوریة یتألف منها کل واحد هو زید.


وفی هذا التمثیل من التضلیل ما فیه:

أولا لأنه یصور المسألة تصویرا مادیا و یجعل النسبة بین الحق و الخلق أشبه بنسبة الکل المادی إلى أجزائه، و هذا ما لا یرضاه ابن العربی نفسه لأنه لا یرمی مطلقا إلى هذا التفسیر المادی للوجود،

ثانیا إن من الصعب أن نفهم أن صورة ید زید أو صورة رجله أو أی عضو من أعضائه إنما هی مجلى لزید بنفس المعنى الذی به یقال إن صورة کیت و کیت من صور الممکنات مجلى للحق، بدلیل أننا نستطیع أن نقول- فی عرف أصحاب وحدة الوجود- إن کذا من الموجودات هو الحق- أی أنه صورة للحق- ولا نستطیع أن نقول إن ید زید بمعنى أنها صورة له.

و التمثیل الثانی الذی أورده هو أن نسبة العین الوجودیة الواحدة إلى الصور المتکثرة کنسبة الکلی إلى جزئیاته أی کنسبة «الإنسان» مثلا إلى زید و عمرو و بکر و غیرهم ممن لا یحصى عددهم من بنی الإنسان.

وهذا وإن کان أدنى إلى ما یرمی إلیه المؤلف فی فهمه للنسبة بین الحق والخلق، وأبعد عن المادیة من التمثیل السابق، إلا أنه لا یمکن أن یعد تصویرا دقیقا لفکرة وحدة الوجود.

 

(9) «و قد علمت قطعا إن کنت مؤمنا أن الحق عینه ... إلى قوله فهکذا الأمر إن فهمت».

(9) من التشبیهات التی یلجأ إلیها ابن العربی فی إیضاح الصلة بین الحق و الخلق- الوحدة و الکثرة- تشبیه العین الوجودیة بالمرآة، و الکثرة الوجودیة التی هی أعیان الممکنات بالصور التی یراها الرائی فی المرآة.

وهو تشبیه طریف ولکنه کغیره من التشبیهات الأخرى التی ذکرها یجب ألا ینظر إلیه فی جمیع لوازمه ومقتضیاته، إذ لا یعدو أن یکون تمثیلا بأمور مادیة محسوسة لمسألة تعلو على التمثیل وعلى المادیة.

یقول إن عین المرآة واحدة و لکن الصور التی یراها الرائی فیها کثیرة و مختلفة.

وکل صورة ترى فی المرآة تتعین على نحو تقتضیه طبیعة المرآة من جهة و طبیعة الشیء المرئی من جهة أخرى. فترى الصورة کبیرة أو صغیرة، وبهذا الشکل أو ذلک بحسب مقادیر المرایا فی الصغر والکبر والطول والعرض والتجویف والتقعیر، وبحسب طبیعة الأعیان المنعکسة علیها.

وإذا تأملنا فی الصور المرئیة فی المرآة وجدنا أنها لا وجود لها فیها على وجه التحقیق، لأن الصور لا تنطبع على صفحة المرآة انطباع صورة الخاتم على الشمع مثلا.

کذلک الأمر فی الذات الإلهیة الواحدة و الکثرة الوجودیة الظاهرة بصورها فیها. فالذات الإلهیة بمثابة المرآة وأعیان الموجودات بمثابة الصور المرئیة.

وکل عین من أعیان الممکنات تبدو فی المرآة (الذات الإلهیة) فی صورتها الخاصة- أو یبدو الحق الظاهر بها فی صورتها الخاصة- فیعرفه من یعرفه و ینکره من ینکره.

أما الذین یعرفون فهم الذین یرون فی المرآة صورة اعتقادهم کما یرى الناظر إلى المرآة صورة نفسه فیها فیعرفها.

وأما الذین ینکرون فهم الذین یرون فی المرآة صورة اعتقاد غیرهم کما یرى الناظر إلى المرآة صورة غیره فیها فیجهلها.

وهکذا یفسر ابن العربی الأثر الوارد من أن الله سبحانه یتجلى یوم القیامة فی صورة فیعرف ثم یتحول فی صورة أخرى فینکر، ثم یتحول عنها فی صورة فیعرف، وهو هو المتجلی فی کل صورة.

وکما أن صور المرآة لا وجود لها فی الحقیقة، کذلک صور الممکنات فی مرآة الوجود الحق لا وجود لها فی الحقیقة، إذ لا وجود إلا للمرآة- فی حالة المثال- وللذات الإلهیة- فی حالة الممثل.

هذا و قد فسر القاشانی (ص 363 - 4) قول المؤلف «و لیس فی المرآة صورة منها جملة واحدة» بمعنى أنه لیس فی المراة صورة واحدة من تلک الصور هی مجموع تلک الصور جملة واحدة، لأن المرآة لا یوجد فیها إلا ما قابلها و هو الصور الکثیرة.

وفسرتها أنا بمعنى أنه لا یوجد فی المرأة صورة واحدة على الإطلاق.

ویلاحظ أن الذات الإلهیة المشبهة بالمرآة الظاهر فیها الصور، إنما هی الذات الإلهیة المتجلیة بالأسماء، أی الذات کما ندرکها فی صور الموجودات أو فی صور الأسماء الإلهیة الظاهرة فی هذه الموجودات، إذ کل اسم من الأسماء الإلهیة إنما هو بالنسبة إلى صور الموجودات التی یتجلى فیها کمرآة بالنسبة للصور الظاهرة فیها.

ولذلک أشار فی کلامه إلى المرایا بالجمع، یرید الأسماء الإلهیة، لا إلى مرآة واحدة.

أما الذات الإلهیة من حیث هی، أو من حیث تجلیها الذاتی، فإنها لا تعرف ولا تنکر ولا یقال فیها انها تظهر فیها صور الوجود: فهی فی ذاتها منزهة عن کل صورة و کل تعین.

وهذا فی نظر المؤلف معنى وصف القرآن لله بأنه غنی عن العالمین، وأنه الغنی وأنتم الفقراء، وأنه الغنی الحمید و ما ماثل ذلک من الآیات.


(10) «فلا تجزع و لا تخف فإن الله یحب الشجاعة ... إلى قوله: لم تزل الصورة موجودة فی الحد».

(10) عرض هنا لمسألة فساد صور أعیان الممکنات و بقائها بحدودها و حقائقها. إذ کانت أعیان الموجودات صورا و مجالی للذات الإلهیة الواحدة، و الذات الإلهیة هی الوجود الأزلی الأبدی الدائم، لزم أن الموت و الفناء و الفساد لا تعرض إلا للصور التی تتحول و تتغیر فی جوهر الوجود العام.

أما الجوهر المقوم لهذه الصور فباق على الدوام ممتنع على الفساد، فی أمان تام من کل أنواع التغیر.

وإذا کانت أعیان الممکنات لیست إلا صورا معقولة متعینة فی هذا الجوهر، کان لها- من هذه الناحیة- مثل ما له من العزة و المنعة و الأمان.

وهذا معنى قوله: «فهذا هو الأمان على الذوات و العزة و المنعة».

لکل موجود ممکن وجود فی عالم الحس و وجود فی العالم المعقول ووجود فی حضرة الخیال (الخیال المنفصل الذی هو عالم المثال).

فإذا فسدت صورته الحسیة بقی فی حده وحقیقته: أی بقی فی العالم المعقول من حیث هو تعین معقول فی الذات الإلهیة، وحفظ وجوده کذلک فی عالم المثال.

وهذا معنى قوله: «فإن الحد یضبطها و الخیال لا یزایلها».

وإذا کان الأمر على ما وصف، وجب علینا ألا نجزع من الموت ولا نخاف، فإن الموت لن یصیب منا إلا صورنا المحسوسة: أجسامنا.

فإن فنیت هذه الأجسام بقینا بحقائقنا فی صورنا المعقولة و المثالیة.

بل یجب أن نتشجع و لو على قتل حیة- کما یقول الحدیث الشریف- و لیست الحیة سوى نفوسنا أی صورنا الخاضعة للسکون والفساد.

هنالک بقاء إذن بعد الموت: بل بقاء لصور أعیان الموجودات فی حدودها و حقائقها: و لکنه بقاء المتعین فی اللامتعین و المقید فی المطلق.

ولکن على أی نحو یکون هذا البقاء؟

أهو بقاء یحتفظ فیه الفرد بفردیته؟

هل تبقى الممکنات بعد فناء صورها المحسوسة أمورا معقولة صرفة: عقولا أو أرواحا؟ هذه أسئلة لم یجب عنها ابن العربی إجابة صریحة، ولکن لنا أن نستنتج من أقواله أنه أمیل إلى الاعتقاد بأن الوجودات الجزئیة الخاصة عند ما ترجع إلى الوجود العام بعد فناء صورها المحسوسة لا تفقد فردیتها وشخصیتها.

 

(11) «و الدلیل على ذلک: و ما رمیت إذ رمیت و لکن الله رمى».

(11) أی و الدلیل على ظهور الحق فی صور أعیان الممکنات و أنه هو- لا هذه الصور- الفاعل لکل شیء و المؤثر فی کل شیء قوله تعالى فی حق نبیه محمد (صلى الله علیه و سلم): «و ما رمیت إذ رمیت و لکن الله رمى» (قرآن س 8 آیة 17)،

فإنه قد نفى الرمی عن الصورة المحمدیة أولا، ثم أثبته لها وسطا فی قوله:

«إذ رمیت» ثم عاد فنفاه عنها و أثبته لله فی قوله: «و لکن الله رمى». فالرامی على الحقیقة هو الحق و لکن فی صورة محمدیة.

ولم یثبت الرمی للصورة من حیث هی صورة، بل من حیث هی مجلى للحق یظهر الحق الأثر على یدیها.

وکذلک الحال فی کل عین من أعیان الممکنات: فإن لکل منها وجها إلى الحق یعطیها صفة الفعل والتأثیر والبقاء و وجها إلى الخلق یعطیها صفة الانفعال والتغیر والفناء.

هذا، ویلاحظ أن الصوفیة من أصحاب وحدة الوجود قد استغلوا هذه الآیة وما ماثلها إلى أبعد حد واتخذوها أساسا لمذهبهم. ولیس من شک فی أن فی القرآن آیات لو أخذت على ظاهرها لجاءت نصا صریحا فی وحدة الوجود، ولکن مقصود هذه الآیات شیء وما یرمی إلیه أصحاب وحدة الوجود شیء آخر.


(12) «فإما عالم و إما مسلم مؤمن».

(12) بعد أن أورد قوله تعالى: «ما رمیت إذ رمیت و لکن الله رمى» شاهدا على مذهبه فی وحدة الوجود، قال إنه ینبغی لکل مسلم أن یصدق بهذه الآیة لورودها فی القرآن الذی یجب أن یصدق به. بل یجب أن یصدق بها سواء أدرک مغزاها أم لم یدرک.

أما الذی یدرک مغزاها الحقیقی فهو الصوفی صاحب الذوق الذی یعلم کشفا و ذوقا وحدة الوجود، و هذا هو الذی أشار إلیه «بالعالم».

وهذه أول مرة یستعمل فیها کلمة «العالم» بدلا من «العارف».

وأما الذی لا یدرک المغزى الحقیقی للآیة، بل یصدق ویؤمن بها کما وردت، فهو المسلم المؤمن الذی یأخذ بالآیات کما جاءت ولا یحاول تأویلها وصرفها عن ظاهرها: فهو یسلم بأن الله یرمی ولو لم یدرک على أی نحو یرمی، ویسلم بأن الله ینزل إلى السماء ویجیء ویتکلم، وأن له وجها ویدا ونحو ذلک من غیر أن یدرک حقیقة معانی هذه العبارات.

وهذا هو موقف المشبهة و الحشویة من المسلمین.

بقیت طائفة ثالثة لا هی بالصوفیة أصحاب الأذواق و لا بالمؤمنین الآخذین بظاهر الآیات، و هؤلاء هم المتکلمون أصحاب النظر الذین یؤولون هذا النوع من متشابه الآیات و یحتکمون إلى العقل وحده ولکن العقل وحده فی نظر المؤلف قاصر عن أن یدرک حقیقة الوجود على ما هی علیه، و کثیرا ما یحیل أمورا یکشف عنها الذوق ویخبر بها ظاهر الشرع کما سیذکره المؤلف فیما بعد.

ومن هنا کان أخذ العلم بالحقائق عن الذوق، والتسلیم بما ورد فی الشرع على ظاهره أسلم و أبعد عن الشک و الحیرة من الاحتکام إلى العقل.

 

(13) «و مما یدلک على ضعف النظر العقلی من حیث فکره کون العقل یحکم على العلة أنها لا تکون معلولة لمن هی علة له».

(13) هذه إحدى المسائل التی یحکم العقل باستحالتها لمناقضتها لما یعتبره الفکر أولیا بینا بذاته، مع أن التجلی و الکشف الصوفی یقضیان بصحتها: و العلة لا تکون معلولة معلولها فی نظر العقل لأنه یحکم بأن الشیء الذی یتوقف علیه وجود شیء آخر کی یتحقق به، لا یمکن أن یتحقق وجوده هو بتوقفه على وجود ذلک الشیء الآخر المتأخر عنه، و إلا لزم الدور.

هذا قصارى ما یصل إلیه العقل ولا یستطیع أن یتعداه لأنه ینظر إلى العلة والمعلول من حیث إنهما شیئان مختلفان متمایزان وجودا وتقدیرا.

أما الذوق الذی یشهد الوحدة الوجودیة بین العلل والمعلولات فإنه لا یرى حرجا من القول بأن العلة معلولة للمعلول،

کما أن المعلول معلول للعلة: وذلک أن العلل والمعلولات جمیعها صور متکثرة فی عین واحدة لها صلاحیة قبول العلیة والمعلولیة باعتبارین مختلفین: فلها حال کونها علة، صلاحیة کونها معلولة وحال کونها معلولا صلاحیة کونها علة، فهی فی عینها جامعة للعلیة و المعلولیة وأحکامهما.

ولیس الفرق بین الحالتین إلا فی الذهن و فی النسب المفروضة فی الحقیقة الواحدة.

ولکن على أی نحو یؤثر المعلول فی علته بحیث تصبح العلة معلولة له؟

لا یؤمن ابن العربی بأن العلیة و المعلولیة معناهما مجرد الفعل والانفعال على التوالی، لأن المعلول یفعل فی العلة کما تفعل العلة فی المعلول، وینفعل عنها کما تنفعل هی عنه.

وذلک أنه لو لا معلولیة المعلول لم یمکن أن تتحقق علیة العلة أی أن علیة العلة موقوفة على معلولیة المعلول.

وإذن تکون معلولیة المعلول علة لعلیة العلة لأن العلیة والمعلولیة متضایفان یتوقف کل منهما على الآخر وجودا وذهنا: أی أن علیة العلة لا تکون ولا تعقل إلا بمعلولیة المعلول، کما أن معلولیة المعلول لا تکون ولا تعقل إلا بعلیة العلة.

ولما کانت العلل و المعلولات جمیعها صورا و مجالی للوجود الواحد الحق، وکان لکل منها صفتا العلیة و المعلولیة معا، صعب التمییز بین ما یصح أن نسمیه منها عللا وما یصح أن نسمیه معلولات.

والحقیقة أنها کلها علل من وجه و معلولات من وجه آخر، وأنها علل من حیث ظهور الحق فیها، ومعلولات من حیث صورها.

وبهذه الطریقة ینفی ابن العربی کثرة العلل ویقرر وحدتها، لأن الاعتراف بکثرة العلل شرک صریح وتناقض ظاهر مع القول بوحدة الوجود.

وبها أیضا یرجع جانب المعلولیة فی الوجود إلى صور الموجودات: أی إلى العالم.

أی أن نظرته إلى العلة والمعلول هی نظرته إلى الوحدة والکثرة أو إلى الحق والخلق.

 

(14) «فما من عارف بالله من حیث التجلی الإلهی إلا و هو على النشأة الآخرة. فقد حشر فی دنیاه و نشر فی قبره».

(14) النشأة الأخرویة هی الحال التی علیها الإنسان الصافی النفس و القلب، المتجرد من الشهوات و علائق البدن، الکاشف لحقائق الأمور على ما هی علیه.

والنشأة الدنیاویة هی الحال التی علیها عامة الناس من تعلق بالبدن وشهواته، وجهل بحقائق الأمور وحجاب کثیف بین العبد وربه.

فالناس صنفان:

صنف على النشأة الأولى و هم «العارفون» بالله من حیث تجلیه لهم لا من حیث نظرهم العقلی، و هؤلاء هم الذین یردون العقل إلى حکم الذوق.

وصنف على النشأة الثانیة و هم الذین یعرفون الحق بالنظر الفکری و یردونه إلى حکم النظر. و قد سمى أصحاب النشأة الأخرویة بهذا الاسم لأن لهم صفات أهل الآخرة من حشر و بعث إلخ.

أما بعثهم من القبور فمعناه خروجهم من أحکام البدن المستولی علیهم.

وأما حشرهم فمعناه جمعهم أو تحققهم من جمعهم فی العین الوجودیة الواحدة التی هی الحق.

فالعارفون یظهرون للناس فی صورتهم الدنیاویة، ولکن الله قد حول بواطنهم إلى النشأة الآخرة، ولو أنهم لا یعرفهم فی هذه النشأة إلا أصحاب الکشف والبصیرة.

 

(15) «فمن أراد العثور على هذه الحکمة الإلیاسیة الإدریسیة ... إلى آخر الفص».

(15) یقول کان لإدریس نشأتان: نشأة سماویة لما رفعه الله إلى السماء و أقام روحانیته المجردة فی فلک الشمس (راجع الفص الرابع)، و نشأة عنصریة أرضیة عند ما نزل إلى الأرض و أرسل إلى بعلبک باسم النبی إلیاس.

ولکنا ذکرنا (تعلیق 1 فص 22) أن إدریس لیس إلا رمزا للعقل الإنسانی فی حال تجرده عن علائق البدن و توجهه نحو المعرفة الکاملة بالله.

والآن نضیف أن (إلیاس) وهو الاسم الثانی له، لیس إلا رمزا للعقل نفسه فی حال اتصاله بالبدن وخضوعه لشهواته و حاجاته.

ولذلک قال إن من أراد أن یعرف الحکمة الإلیاسیة الادریسیة یجب أن یتحقق فی نفسه بالحالتین جمیعا: أی یجب أن یتحقق أولا بحیوانیته المطلقة ثم یرقى تدریجیا فی سلم التجرید حتى یصبح عقلا صرفا فیحصل له التحقق بالنشأتین على الوجه الأکمل، و ینکشف له ما انکشف لإدریس و إلیاس.

وفی کلام ابن العربی فی هذه المسألة وصف دقیق للمعراج الروحی والترقی الصوفی لم یذکره فی أی فص آخر من فصوص هذا الکتاب.

ویظهر أنه یرى البلیة العظمى فی الطریق الصوفی- حیث یکون الحجاب بین السالک إلى الله وبین الحقائق الکشفیة أکثف ما یکون- إنما هی الحال التی یتعلق العقل فیها بالبدن وشواغله بحیث لا یتخلص السالک فی الطریق من عقله فیکون حیوانا صرفا، ولا یتجرد من بدنه فیکون عقلا صرفا.

أما إذا تحقق السالک بحیوانیته ثم ارتقى إلى مقام الکشف العقلی فإنه ینکشف له فی الحالین أمور لا مجال لانکشافها فی الحالات الأخرى- حالات اشتغال العقل بمطالب البدن.

ولذلک یرى ابن العربی أن المرید فی بدء حیاته الصوفیة یجب أن ینزل تدریجیا عن حکم عقله و لا یجعل له سلطانا علیه، ولا یعمل عقله فی التفکیر فی شیء من الأشیاء، بل یدعه غفلا من کل شیء عاطلا من کل عمل حتى یتحقق بحیوانیته.

وعندئذ یصاب بالخرس فلا یستطیع النطق بأمر من الأمور إذا أراد، ولا یقدر على تفسیر ما یرى و ما یشعر.

وفی الوقت نفسه یحصل له نوع خاص من الکشف هو بعینه ما یحصل لغیر العاقل من الدواب و الأنعام، کأن یطلع على أحوال الموتى بالتنعیم والتعذیب وغیر ذلک.

ثم ینبغی له أن ینتقل مرة أخرى إلى مقام العقل المجرد بالانقطاع عن الشهوات الجسمانیة واللذات الطبیعیة لتسقط عنه شهوته کما سقطت عن إلیاس، ولیصیر ما یدرکه عین الیقین، ویکون محققا وذائقا لما یعانیه ویشاهده.

وهنا یشاهد السالک أمورا هی أصول لما یظهر فی الصور الطبیعیة:

یرید بهذه الأمور شیئا أشبه بالمثل الأفلاطونیة فی العالم المعقول: وهی التی یعاین صورها المحسوسة فی العالم المحسوس و صورها البرزخیة فی الکشف الحیوانی فی عالم البرزخ أو المثال.

ولکن العالم المعقول فی مذهب ابن العربی لیس هو العالم المثالی الأفلاطونی وإنما هو عالم الذات الإلهیة فی مقام أحدیتها.

فکأنه یرید أن یقول إن صاحب العقل المجرد یشاهد فی حال تجرده تنزلات الذات الإلهیة من مقام الأحدیة إلى المراتب الکونیة، وظهورها فی جمیع صور الموجودات العلویة و السفلیة، شریفها وخسیسها، عظیمها وحقیرها.

فإن کوشف صاحب هذا المقام بالاضافة إلى ما ذکرنا بأن الطبیعة هی عین النفس الرحمانی ولیست شیئا مغایرا له فی الحقیقة، فقد وقف على سر عظیم وهو معنى قوله:

«فقد أوتی خیرا کثیرا» لأنه یعلم حینئذ أن الحقیقة التی هی وجود بحت صرف، وهی النفس الرحمانی، قد تفتحت فیها مراتب الوجود بصورها التی لا تتناهى وهی باقیة على حالها فی عالمها.

فهی أصل الکل ومنشؤه، وإلى هذا الأصل الأول مصیره ومرجعه.

عند ذلک یعرف السالک ذوقا معنى قوله تعالى: «فلم تقتلوهم ولکن الله قتلهم»، أی یعرف أن الذی قتلهم لیس الحدید من حیث هو حدید، ولا الضارب بالحدید من حیث هو کذلک، وإنما هو الموجود خلف صورة الحدید وصورة الضارب وهو الواحد الحق،

ولذلک قال: «فبالمجموع وقع القتل والرمی».