الفقرة الخامسة عشر :
کتاب المفاتیح الوجودیة والقرآنیة لفصوص الحکم عبد الباقی مفتاح 1417هـ :
23 - فص حکمة إحسانیة فی کلمة لقمانیة
المرتبة 23 : لفص حکمة إحسانیة فی کلمة لقمانیة . من الاسم الرزاق ومرتبة النبات وحرف الثآء ومنزلة سعد بلع .
ظهور الاسم المذل یستلزم بقاء المذللین . وبقاؤهم یستلزم تغذیتهم بالرزق .
أی أن المذل یستلزم ظهور الاسم الرزاق . فلهذا کانت له المرتبة 23 وعن توجهه وجد عالم النبات وله من الحروف الثاء وله من المنازل سعد بلع کما فصله الشیخ فی الفصل 33 من الباب 198 .
ومن الاتفاق أن کلمة ( سعد بلع ) مناسبة للرزاق . فالرزق من مظاهر السعادة ، والسعادة رزق . ولفظة : بلع تعنی التقم رزقا أو غذاء ، یقال ابتلع أی التقم لقمة . . . ولفظة ) لقم
( مناسبة لاسم قطب هذه المرتبة أی لقمان الحکیم فأصل اسمه ) لقمان ( من ) لقم ( وعلى لسانه ورد ذکر مظهر من أصغر مظاهر الرزق النباتی کما یظهر من قوله لابنه :یا بُنَیَّ إِنَّها إِنْ تَکُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَکُنْ فِی صَخْرَةٍ أَوْ فِی السَّماواتِ أَوْ فِی الْأَرْضِ یَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِیفٌ خَبِیرٌ( لقمان ، 16 ) –
وهی الآیة التی ذکرها الشیخ فی فص الکلمة اللقمانیة الذی فتحه بالرزق والغذاء
فقال : (إذا شاء الإله یرید رزقا * له فالکون أجمعه غذاء)
(وإن شاء الإله یرید رزقا * لنا فهو الغذاء کما یشاء)
وهذا المعنى فسّره الشیخ فی الفصل 33 المذکور حیث یقول :
فأول رزق ظهر عن الرزاق ما تغذت به الأسماء من ظهور آثارها فی العالم وکان فیه بقاؤها ونعیمها وفرحها وسرورها .
وأول مرزوق فی الوجود الأسماء فتأثیر الأسماء فی الأکوان رزقها . الذی به غذاؤها وبقاء الأسماء علیها .
وهذا معنى قولهم إن للربوبیة سرا لو ظهر لبطلت الربوبیة ، فإن الإضافة بقاء عینها فی المتضایفین وبقاء المضافین من کونهما مضافین
إنما هو بوجود الإضافة فالإضافة رزق المتضایفین وبه غذاؤهما وبقاؤهما متضایفین فهذا من الرزق المعنوی الذی یهبه الاسم الرزاق وهو من جملة المرزوقین
فهو أول من تغذى بما رزق فأول ما رزق نفسه ثم رزق الأسماء المتعلقة بالرزق الذی یصلح لکل اسم منها وهو أثره فی العالم المعقول والمحسوس
ثم نزل فی النفس الإلهی بعد الأسماء فوجد الأرواح الملکیة فرزقها التسبیح
ثم نزل إلى العقل الأول فغذاه بالعلم الإلهی والعلم المتعلق بالعالم الذی دونه وهکذا لم یزل ینزل من عین ما یطلب ما به بقاؤه وحیاته إلى عین حتى عم العالم کله بالرزق فکان رزاقا .
فلما وصل إلى النبات ورأى ما یحتاج إلیه من الرزق المعین
فأعطاه ما به غذاؤه فرأى جل غذائه فی الماء فأعطاه الماء ، له ولکل حی فی العالم ، وجعله رزقا له ثم جعله رزقا لغیره من الحیوان فهو والحیوان رزق ومرزوق (
وإنما قرن الشیخ الرزاق بالنبات خصوصا لأن اللّه تعالى قرن الرزق بالثمرات فی العدید من الآیات کقوله تعالى : وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَکُمْ( البقرة ، 22 ) .
کُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِی رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ( البقرة ، 25 ) .
رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ( البقرة ، 126 ) .
وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ یَشْکُرُونَ( إبراهیم ، 37 ) .
أَوَلَمْ نُمَکِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً یُجْبى إِلَیْهِ ثَمَراتُ کُلِّ شَیْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا( القصص ، 57 ) .
ولعلاقة هذا الفص بالنبات وردت فیه کلمات شجر - طعام - غذاء - ذوق . . .
ومن التناسب بین هذا الفص وفصله 33 من الباب 198 قوله فی هذا الفص :
( والعین واحدة من کل شیء وفیه . . . الخ . . . )
وقوله فی ذلک الفصل : ( وقد أعلمتک فی غیر ما موضع من هو عین العالم الظاهر وأنه غیر متغیر الجوهر . . . )
مثال ذلک : الماء جوهر واحد تتغذى به کل النباتات رغم تنوع صورها وأذواقها وثمراتها .
قال تعالى :یُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِی الْأُکُلِ إِنَّ فِی ذلِکَ لَآیاتٍ لِقَوْمٍ یَعْقِلُونَ( الرعد ، 4 ) .
وأما نسبة الکلمة اللقمانیة للحکمة الإحسانیة . فلأن لقمان أوتی الحکمة من اللّه تعالى والحکمة من أجل الأرزاق :وَلَقَدْ آتَیْنا لُقْمانَ الْحِکْمَةَ أَنِ اشْکُرْ لِلَّهِ( لقمان ، 12 ) .
والحکمة والإحسان متلازمان لأن الإحسان هو فعل ما ینبغی بإتقان ووضعه فی مقامه الألیق وهذه هی الحکمة .
وقد ظهر لقمان فی القرآن مربیا لابنه حسا ومعنى وظهرت کلمة الإحسان فی القرآن مقترنة بالأبوة کقوله تعالى :وَبِالْوالِدَیْنِ إِحْساناً وتحقق لقمان بالإحسان المذکور فی الآیة 22 من سورته :وَمَنْ یُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَکَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى.
من ناحیة أخرى ؛ فبالحکمة تحفظ المراتب وبالرزق والغذاء تحفظ الحیاة والحفظ مقترن عددیا بالعدد 5 الذی یقول عنه الشیخ إنه یحفظ نفسه وغیره ( ف ب 198 ص 446 )
وبالعدد مائة عدد الأسماء الحسنى التی بها حفظ الوجود - أی 99 مع الاسم الوتر الأعظم.
وبسریان الخمسة فی المائة ینتج العدد " 500 " الذی هو عدد حرف هذه المرتبة أی حرف الثاء وهو الحرف الذی یرمز عادة لصفة " الثقیل " أی الجسم الذی لا قیام له إلا برزق الغذاء .
ویرمز أیضا للثمرات والثواب .
ولهذا فان بین هذا الباب 23 من الفصوص والباب الخامس الإبراهیمی علاقة متینة لأن لفص إبراهیم المرتبة الخامسة مرتبة الجسم الکلی . ولا بقاء للجسم إلا بالغذاء .
ولهذا کانت الحقیقة الإبراهیمیة مع میکائیل مختصة بالرزق والغذاء من بین حملة العرش الثمانیة " انظر الباب 13 من الفتوحات " .
ولهذا ختم الشیخ الفص الإبراهیمی بقوله :
" وبالأرزاق یکون تغذی المرزوقین فإذا تخلل الرزق ذات المرزوق بحیث لا یبقى فیه شیء إلا تخلله " .
فان الغذاء یسری فی جمیع أجزاء المتغذی کلها فهذا التکامل بین الفصین هو تکامل بین مرتبة الجسم الخامسة مع مرتبة الغذاء الثالثة والعشرین ومجموع المرتبتین هو العدد التام الجامع :
5 + 23 = 28.
وکتمهید للدخول إلى الفص 24 التالی المخصوص بالحیوان الهارونی
ذکر الشیخ فی أواخر هذه الکلمة اللقمانیة البعوضة والذرة التی هی من أصغر المتغذیات .
23 : سورة فص لقمان علیه السلام
سورة هذا الفص هی التی ذکرها الشیخ فی آخره ، أی " الزلزلة " من آیتها :فَمَنْ یَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَیْراً یَرَهُ ( 7 ) وَمَنْ یَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا یَرَهُ ( الزلزلة ، 7 - 8 )
المناسبة لقول لقمان : یا بُنَیَّ إِنَّها إِنْ تَکُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَکُنْ فِی صَخْرَةٍ أَوْ فِی السَّماواتِ أَوْ فِی الْأَرْضِ یَأْتِ بِهَا اللَّهُ( لقمان ، 16 ) .
قال الشیخ عن حبة الخردل : " ولیس إلا الذرة المذکورة فی آیة الزلزلة . فهی أصغر متغذ ، والحبة من الخردل أصغر غذاء . . . "
والخیر المذکور فی " الزلزلة " مناسب للقمان الذی قال اللّه عنه فی سورته :وَلَقَدْ آتَیْنا لُقْمانَ الْحِکْمَةَ( لقمان ، 12 )وَمَنْ یُؤْتَ الْحِکْمَةَ فَقَدْ أُوتِیَ خَیْراً کَثِیراً( البقرة ، 269 )
ومن هذا الخیر الکثیر مقام الإحسان المنسوب إلیه هذا الفص لأن المحسن یحاسب نفسه على الذرة . ولمقام الإحسان صلة إشاریة بآخر کلمة فی السورة أی " یره " فهو کما ورد فی الحدیث " أن تعبد اللّه کأنک تراه فإن لم تکن تراه فإنه یراک "
ولهذا نجد الشیخ فی الوصل السادس عشر من الباب 369 وهو الوصل المتعلق بسورة " الزلزلة " - یخصص فی آخره فقرة طویلة نفیسة حول طلب موسى رؤیة ربه وتدکدک الجبل وما یتعلق بهذه المسألة العالیة ، ولها صلة بآیة : لا تُدْرِکُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ یُدْرِکُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِیفُ الْخَبِیرُ( الأنعام ، 103 ) .
وقد تکلم عن الاسمین " اللطیف الخبیر " فی تعقیبه على قول لقمان :
إِنَّ اللَّهَ لَطِیفٌ خَبِیرٌوقال إن قول :کانَ لَطِیفاً خَبِیراً أتم فی الحکمة وأبلغ .
یشیر إلى تمیز الحکمة المحمدیة عن الحکمة اللقمانیة لأن الحکمة المحمدیة وردت بقوله تعالى : " کان لطیفا خبیرا " فی الآیة 34 من سورة " الأحزاب " : وَاذْکُرْنَ ما یُتْلى فِی بُیُوتِکُنَّ مِنْ آیاتِ اللَّهِ وَالْحِکْمَةِ إِنَّ اللَّهَ کانَ لَطِیفاً خَبِیراً .
وأخیرا فان " الزلزلة " مجاورة لسورة " البینة " التی لها فص إبراهیم الذی سن القرى وله مرتبة الجسم الکل ، وله فی الثمانیة العرشیة مع میکائیل الأرزاق من الاسم " الرزاق " الحاکم على هذا الفص اللقمانی .
وذکرنا هذه العلاقة بین الفصین
عند الکلام عن سورة فص إبراهیم . . . من ناحیة أخرى " فان للرؤیة التی ذکرناها فی هذا الفص علاقة . . . " مباشرة بالمشاهدة فی منزل " البینة " من فاتحتها " لم یکن "
کما فصله الشیخ فی منزلها فی الفتوحات
وفی کتابه " الفناء فی المشاهدة " وفی الباب 22 سمى " البینة " : منزل المشاهدة .
علاقة هذا الفص بلاحقه
ختم الشیخ هذا الفص بالکلام عن الشرک تمهیدا للدخول فی منزل فص هارون التالی الذی سورته : " الکافرون " وکلها تعبیر عن التبری من الشرک . . .
وختم الکلام باسم " الرحمن " من الآیة :قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ( الإسراء ، 110 ) کمقدمة أمام بدایة الفص الموالی وهی :
" اعلم أن وجود هارون علیه السلام کان من حضرة الرحموت . . . " إلى آخره .
وختم فص هارون بالکلام عن اللطیف الخبیر المذکورین فی هذا الفص ،
وانتهى بقوله : " فلا بد أن یعبده من رآه بهو اهـ
إن فهمت " إشارة إلى الرؤیة التی ذکرناها فی هذا الفص .
وإلى هذه المشاهدة یشیر الشیخ فی الأبیات التی افتتح بها الباب 285 المتعلق بمنزل " الزلزلة " وهی :
تناجینی العناصر مفصحات ... بما فیها من العلم الغریب
فأعلم عند ذاک شفوف جسمی ... على نفسی وعقلی من قریب
فیا قومی علوم الکشف تعلو ... بما تعطی على علم القلوب
فان العقل لیس له مجال ... بمیدان المشاهد والغیوب
فکم للفکر من خطأ وعجز ... وکم للعین من نظر مصیب
ولولا العین لم یظهر لعقل ... دلیل واضح عند اللبیب
یشیر بالعین لکلمة " یراه " فی السورة .
وانظر کیف ذکر شفوف الجسم ، مما یؤکد علاقة هذا الفص مع فص إبراهیم الذی له مرتبة الجسم الکل .
والجسم هو أثقل الأشیاء لغلبة عنصره الأرضی الترابی
وإلیه أشار الشیخ فی الفقرة من الباب " 559 فتوحات " المتعلقة بسورة " الزلزلة " حیث جعل عنوانها : " الدلیل فی حرکة الثقیل " إشارة للآیات : إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها ( 1 ) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها ( الزلزلة ،1 - 2 ).
ومن لطیف الاتفاق أن الحرف اللفظی وکذلک الحرف الرقمی لهذه المنزلة الثالثة والعشرین التی لها هذا الفص هو حرف " الثاء " مفتاح کلمة " ثقیل " ، وللثقیل الحرکة المنکوسة المخصوصة بالأجسام حول الأرض والنبات المتوجه على إیجاده " الرزاق " فی هذه المرتبة الثالثة والعشرین من مراتب الوجود.