عرفان شیعی

عرفان اسلامی در بستر تشیع

عرفان شیعی

عرفان اسلامی در بستر تشیع

الفقرة الثامنة عشر :

                            

کتاب تعلیقات د أبو العلا عفیفی على فصوص الحکم الشیخ الأکبر ابن العربی 1385 هـ :

24 - فص حکمة إمامیة فی کلمة هارونیة

الفص الرابع و العشرون حکمة إمامیة فی کلمة هارونیة

(1) حکمة إمامیة فی کلمة هارونیة «الحکمة الإمامیة».

(1) یدور هذا الفص حول مسألة العبادة و الألوهیة. فیشرح فیه ابن العربی نظریته فی الدین بمعناه الصوفی الواسع، و هو دین وحدة الوجود، و یخلص منه إلى أن الحب هو أساس عبادة کل معبود، و أن المعبود على الحقیقة هو المحبوب على الحقیقة و هو اللَّه.

فکل معبود إنما هو مجلى من مجالی الحق أو صورة من صوره مهما اختلفت علیه الأسماء و الصفات. قال تعالى: «وَ قَضى رَبُّکَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِیَّاهُ» أی قدر أزلًا- کما یقول ابن العربی- ألا یعبد فی الوجود إلا اللَّه، لأنه لیس فی الوجود إلا هو.

و یدور الحوار فی الفص بین موسى لسان وحدة الوجود، الواقف على حقیقة الأمر على ما هو علیه، و هارون أخیه الذی هو أقل حظاً منه فی هذه المعرفة.

فینکر هارون على أصحاب العجل عبادتهم إیاه و یضیق ذرعاً بهم، فیدله موسى على سر عبادة العجل و على معنى العبادة مطلقاً و هو المعنى الذی أشرت إلیه.

أما تسمیته الحکمة بالإمامیة فلأن الإمامة نوع من الخلافة،

و هارون إمام بمعنیین:

الأول أنه کان خلیفة موسى على بنی إسرائیل بدلیل قوله: «اخْلُفْنِی فِی قَوْمِی»،

و الثانی أنه ککل نبی من الأنبیاء خلیفة اللَّه فی أرضه.

و الأولى هی الخلافة المقیدة أو الخلافة بالواسطة،

و الثانیة الخلافة المطلقة عن اللَّه أو الخلافة من غیر واسطة.

و یدل الفرق بین موسى و هارون من حیث درجتهما فی الخلافة على الفرق بینهما من حیث درجتهما فی تمام المعرفة، و قد سبق أن ذکرنا أن ابن العربی یرى أن الخلافة الکاملة لا تکون إلا للکاملین من العارفین.

 

(2) «و لذا لمّا قال له هارون ما قال ... إلى قوله لمّا علم أنه بعض المجالی الإلهیة».

(2) لم ینکر موسى إذن على عبدة العجل عبادتهم إلّا من حیث إنهم حصروا المعبود المطلق فی تلک الصورة الخاصة التی هی صورة العجل، مع أن المعبود المطلق یأبى الحصر لأنه عین کل ما یعبد. و قد نبّه موسى أخاه هارون إلى هذا السر لما غضب علیه فی محضر من القوم و أخذ بلحیته و رأسه.

ثم أراد أن یشیر إلى سر آخر غاب عن هارون و عن بنی اسرائیل لما سأل السامری عن صنعه عجلًا من الذهب لیعبده القوم بدلًا من العجل الحیوانی.

و ذلک السر هو فی الحقیقة سِرُّ عبادة کل معبود. و قد عنى به موسى الحب و المیل «الذی هو المقصود الأعظم المعظم فی القلوب» إذ لم یزد السامری على أنه صنع للقوم عجلًا من الذهب و هو أحب الأشیاء إلى قلوبهم فاستهواهم بذلک و حرک قلوبهم نحو عبادته.

و لکن عبادة العجل سواء أ کان ذهباً أم لحماً و دماً کفر و جهل، و إن کان المعنى الذی تنطوی علیه عبادته هو المعنى الحقیقی فی کل عبادة.

أما کونه جهلًا فلأن المعبود بحق لیس محصوراً فی صورة العجل و لا فی أیة صورة کانت، بل هو ما فی الصور کلها من الحق.

و العبادة الصحیحة لا یستحقها سوى الحق الذی هو عین الکل و له هویة جمیع الصور. و مما یدل على جهلهم قولهم من قبل لموسى «یا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً کَما لَهُمْ آلِهَةٌ: قالَ إِنَّکُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ» لأن العبادة مطلقاً لا تکون إلا للرب المطلق کما قال تعالى «ذلِکُمُ اللَّهُ رَبُّکُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ کُلِّ شَیْءٍ فَاعْبُدُوهُ».

والإله المجعول لیس له الخلق فلا یستحق العبادة. و أما کونه کفراً فلأن فیه توهم اشراک ما سوى الحق فی الألوهیة حیث لا یوجد السوی.

و لکی یوضح موسى لقومه فناء الصور فی الذات الإلهیة الواحدة أحرق العجل و ألقى برماده فی الیم، و لیس العجل الا رمزاً للصور الوجودیة المحدودة، کما أن الیم لیس الا رمزاً لبحر الوجود الزاخر الذی تنمحی فیه حدود جمیع الصور.

و لو لم یتعجَّل موسى بإحراق العجل و حَلِّ صورته لکان مآل تلک الصورة إلى الفناء من ذاتها إذ لا بقاء للصور.

 

(3) «فإن المثلین ضدان فیسخره الأرفع فی المنزلة بالمال أو بالجاه بإنسانیته».

(3) انتقل من الکلام عن تسخیر موسى للعجل بإحراقه إیاه، إلى الکلام عن التسخیر بوجه عام. و خلاصة نظریته أن الأعلى فی مراتب الوجود یسخر الأدنى.

فإذا وصلنا إلى الإنسان وجدنا أنه یسخر بعضه بعضاً کما قال تعالى: «وَ رَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِیَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِیًّا».

و لکن على أی نحو یسخر الإنسان الإنسان؟ فی الإنسان طبیعتان: الطبیعة الانسانیة و هی جهة الربوبیة فیه و لها صفة الکمال، و الطبیعة الحیوانیة و هی جهة البشریة فیه و لها صفة النقص. و لما کان التسخیر دائماً للکامل، و التسخر دائماً للناقص، لزم أنه لا یسخر انسان انساناً من حیث انسانیته بل من حیث صفة من صفات نقصه الداخلة تحت اسم الطبیعة الحیوانیة، ککونه فی درجة أنزل من درجته فی المال أو الجاه أو العقل أو ما شاکل ذلک.

و أما قوله: «فإن المثلین ضدان».

فمعناه أن انساناً و انساناً مثلان، و المثلان ضدان: لأن ما یقع فیه الاشتراک بین المثلین هو محل النزاع بینهما، و کلما کان ذلک أکثر کان النزاع فیه أشد، فلا یخضع أحدهما للآخر و لا یسخر له.

و لذلک کانت العداوة أشد ما تکون بین الأقویاء و أصحاب المهن الواحدة و الطبیعة الواحدة. و إذا کان الأمر على هذا النحو، فالمسخر (اسم فاعل) دائماً هو الانسانیة، و المسخَّر (اسم مفعول) دائماً هو الحیوانیة: أی صفة من صفاتها.

 

(4) «فالعالم کله مُسَخِّر بالحال من لا یمکن أن یطلق علیه اسم مُسَخَّرٍ».

(4) ذکر أن التسخیر قسمان: تسخیر بالدرجة و هو تسخیر مراد للمسخر کتسخیر السید لعبده، و تسخیر الملک لرعایاه. و تسخیر بالحال کتسخیر الرعایا للملک، و کتسخیر الطفل لأبویه، و تسخیر الأدنى للأعلى أیّاً کانا.

و هذا النوع غیر مراد بالمسخَّرِ، و لکن طبیعة الأشیاء تقضی أن یسخر الأعلى کل ما فی وسعه فی خدمة الأدنى و لمصلحته. ثم انتهى إلى نوع من التسخیر ربما کان أصدق وصف نصفه به هو «التسخیر المیتافیزیقی»، و إن کان یدخله فی النوع الثانی الذی هو التسخیر بالحال: «أعنی بذلک التسخیر المیتافیزیقی تسخیر العالم للحق سبحانه و تعالى.

و لم یجر العرف بتسمیة اللَّه مسخَّراً کما یقول المؤلف، و لکن طبیعة الوجود و طبیعة مذهبه یجعلان هذا التسخیر أمراً لا مفر منه.

و الحق مسخَّر للخلق بمعنى أنه یتجلى على الخلق بشئونهم و یعطیهم من صفات الوجود ما تقضی به استعداداتهم من حیث هم مظاهر و مجال له.

قال تعالى: «کُلَّ یَوْمٍ هُوَ فِی شَانٍ» فأتى بضمیر الغائب «هو» للدلالة على أن هویته کل یوم فی شأن من شئون الخلق ظاهرة فیه بمظهر خاص من مظاهر الأسماء و الصفات.

و الحقیقة أن الحق لا یسخره غیره لأن کل ما یطلق علیه اسم الغیر إنما هو فی الحقیقة عین الحق، و إن کان من حیث التعین یسمى بالغیر و السوی. فالحق هو المسخر لنفسه بحسب شئونه و تجلیاته.

 

(5) «و لهذا ما بقی نوع من الأنواع إلا و عبد إما عبادة تأله و إما عبادة تسخیر».

(5) عبادة تأله کعبادة الأصنام و الشمس و القمر و الکواکب و الحیوان، و عبادة تسخیر کعبادة الأموال و الجاه و المناصب.

و یرى ابن العربی أن الوجود کله سلسلة من الکائنات یسخر بعضها بعضاً، و سلسلة من الصفات و الخواص یخضع بعضها لبعض.

و أنه لا یعبد شیء من الأشیاء فی العالم إلا بعد أن یتلبس بالرفعة فی نظر العابد، و یظهر فی قلبه بدرجة التعظیم و التقدیس. و لهذا ما بقی نوع من أنواع الکائنات فی نظره إلا و عبد بإحدى العبادتین: عبادة التأله و عبادة التسخیر.

و المعبود فی الکل هو الواحد الحق، و لکنه یعبد على درجات متفاوتة فی مجالیه المختلفة. و لذلک قال عن نفسه: «رَفِیعُ الدَّرَجاتِ» و لم یقل رفیع الدرجة، لأنه هو المعبود فی صورة کل ما یعبد و من یعبد،

بدرجات یتفاوت فیها العابدون. و أعظم مجلىً یعبد فیه الحق و أعلاه هو «الهوى» لأنه أساس کل عبادة، و المعبود الحقیقی فی کل صور ما یعبد. فلا یعبد شیء الا بالهوى، و لا یعبد هو إلا بذاته.

و من هنا وجب أن نمیز بین الحق فی مرتبة الألوهیة الذی لا یعبد إلا بذاته، و الحق فی مراتب الصور الکونیة الذی لا یعبد إلا بواسطة سلطان الهوى على قلب العابد، و لذا قال:

و حق الهوى ان الهوى سبب الهوى و لو لا الهوى فی القلب ما عبد الهوى

 

یقسم بقدسیة الهوى (الحق) أن الهوى الساری فی جمیع مراتب الوجود، المعبود فی جمیع صوره، هو علة الحب فی جزئیاته و أشکاله، و أنه لو لا وجوده  تجلیه فی صور المعبودات وفی قلوب العابدین ما عبد معبود ولا وجد عابد.

ویذکر الشیخ فی فتوحاته أنه شاهد الهوى فی بعض مکاشفاته ظاهراً بالألوهیة قاعداً على عرشه، وجمیع عبدته حافون من حوله: ویقول «وما شاهدت معبوداً فی الصور الکونیة أعظم منه».

 

فالهوى إذن اسم آخر من أسماء اللَّه، بل هو أعظم أسمائه. 

قال تعالى:«أَ فَرَأَیْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَ أَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ»؟

یقول ابن العربی أما أن اللَّه أضله على علم فمعناه أنه خیر العابد لهواه لظهوره وتجلیه فی صور الهوى ومراتبه، وذلک الإضلال مبنی على علم من اللَّه (و المراد من الآیة فی الأصل على علم من العابد لهواه!) بأسرار تجلیاته فی تلک الصور.

فقد حیر اللَّه العارفین بکثرة تجلیاته، و المحجوبین بالوقوف عند ما عبدوا مع علمهم أن ما عبدوه لیس إلهاً على الحقیقة، و إن کانوا یجدون فی بواطنهم میلًا إلیه و تعظیماً له.

 

و الهوى معبود مطلق لا یعرف حدود الشرائع و لا یمیز بین حلال و حرام:

فقد یرافق العابد لهواه ما یأمر به الشرع کمن یحب امرأته و کل ما هو حلال من من الرزق، و قد لا یوافق ما یأمر به الشرع کمن یتعلق هواه بما یملکه غیره و کل ما هو حرام من الرزق.

 

(6) «و العارف المکمّل مَنْ رأى کل معبود مجلىً للحق یعبد فیه».

(6) هذه نتیجة لازمة عن کل ما تقدم، بل هی نتیجة لازمة عن مذهب وحدة الوجود و رکن هام من أرکانه.

إذا کان کل ما فی الوجود مجلى للحق و صورة من صوره، و کان لکل موجود وجهان: وجه من الحق و وجه من الخلق، و إذا کان فوق کل هذا کل موجود یعبد عبادة تأله أو عبادة تسخیر، لزم أن کل معبود مجلى للحق یعبد فیه، و حلّ قولنا: «لا معبود بحق إلا اللَّه» فی میدان الدین، محل «لا موجود بحق إلا اللَّه» فی میدان المیتافیزیقا.

 

و هذا المعنى هو جوهر الفلسفة الدینیة فی مذهب ابن العربی. و قد وجدنا له صداه فی کثیر من فقرات هذا الکتاب و فی غیره من کتبه حیث یعتبر قلب العارف هیکلًا لجمیع الاعتقادات فی اللَّه، و مرآة تنعکس علیها صور الوجود الحق.

یقول:

لقد صار قلبی قابلًا کل صورة  ..... فمرعى لغزلان و دیر لرهبان

و بیت لأوثان و کعبة طائف  ..... و ألواح توراة و مصحف قرآن

أدین بدین الحب أنّى توجهت ....  رکائبه فالحب دینی و إیمانی

و یقول:

عقد الخلائق فی الإله عقائداً ..... و أنا شهدت جمیع ما عقدوه

فالعارف فی نظره هو الذی نظر إلى الوحدة فی الکثرة، و وضع الألوهیة فی موضعها: أی فی الواحد المعبود فی صور جمیع الآلهة المعبودین. و الجاهل هو الذی وضع الألوهیة فی صورة معبوده الخاص، حجراً کان أو شجراً أو حیواناً أو إنساناً.

و هو محجوب عن حقیقة الوحدة، بل حقیقة التوحید کما یسمیه أصحاب وحدة الوجود. و لهذا قال: «أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَیْ ءٌ عُجابٌ»؟

فلم ینکر وحدة الآلهة بل تعجب منها، لأنه وقف مع کثرة الصور و نسب الألوهیة إلیها.


(7) «فهم عبَّاد الوقت».

(7) الضمیر هنا عائد على العارفین، و هم عبَّاد الوقت بمعنى أنهم یعبدون مجالی الحق فی کل وقت یظهر فیه ببعض صفاته.

و الحق دائم التجلی و دائم التحول فی الصور، فهم یعرفونه فی هذه الصور و یعبدونه فیها، و هم یعلمون أنهم لا یعبدون من تلک الصور أعیانها، و إنما یعبدون الحق فیها. و هذه حال یسترها العارفون عن غیرهم لأنهم أتباع الرسول، و الرسول یحرم علیهم عبادة الصور لقصور أفهام العامة عن إدراک حقائقها، و یدعوهم إلى عبادة إله واحد یُعْرَف إجمالًا و لا یشهد.

فیبدو العارف فی صورة المنکر لعبادة المجالی الوجودیة، لأنه تابع فی الظاهر للرسول والرسول ینکرها، و لأنه یخشى على العامة أن یعبدوا الصور لذاتها فیحصروا الحق فیها، وهو منزه عن الحصر و التقیید.

هذا، وقد یکون المراد بالوقت الدهر، وهو أعظم مجالی الحق واسم من أسمائه على حد قول الصوفیة الذین یروون عن النبی صلى اللَّه علیه وسلم أنه قال: «لا تَسُبُّوا الدهر فإن اللَّه هو الدهر».

فالعارفون عبَّاد الوقت بهذا المعنى أیضاً أی عبّاد الدهر الذی یتجدد فی کل آن حاملًا صوراً جدیدة من صور الوجود.