الفقرة الخامسة والثلاثون :
کتاب تعلیقات د أبو العلا عفیفی على فصوص الحکم الشیخ الأکبر ابن العربی 1385 هـ :
25 - فص حکمة علویة فی کلمة موسویة
الفص الخامس و العشرون حکمة علویة فی کلمة موسویة
(1) حکمة علویة فی کلمة موسویة "حکمة قتل الأبناء".
(1) أراد أن یفسر السر فی قتل فرعون أبناء بنی إسرائیل عندما أخبره کهنة عصره أن هلاکه سیکون على ید مولود منهم، فجاء بهذه الفکرة الغربیة التی شرحها فی صدر هذا الفص و الظاهر- کما یبدو من شرح القاشانی- أنها فکرة أوحت بها نظریة أفلوطین فی الفیوضات،
وإن کانت بعدت کثیراً عن مصدرها، وامتزجت بعناصر إسلامیة لا صلة لها بمذهب أفلوطین.
ولکی نفهم ما یسمیه «الحکمة فی قتل أبناء بنی إسرائیل من أجل موسى» یحسن أن نلخص الأساس الفلسفی الذی تعتمد علیه هذه الفکرة، و هو ما أشرت إلیه من قبل.
قد ذکرنا مراراً أن المؤلف یرى أن الوجود حقیقة واحدة لا تعدد فیها و لا تکثر، و إنما تتعدد و تتکثر بحسب التعینات و التجلیات الظاهرة فی الوجود.
ونزید هنا أن بعض هذه التعینات کلیٌ وبعضها جزئی.
فالکلیة کالتعینات الجنسیة والنوعیة وکأمهات الأسماء الإلهیة، والجزئیة کالأفراد غیر المتناهیة المندرجة تحت التعینات الکلیة.
والأولى تقتضی فی عالم الأرواح حقائق روحانیة مجردة، أولها العقل الأول المسمى «أم الکتاب» و«القلم الأعلى» و«النور المحمدی»: وهذا ینفصل بحسب التعینات الروحانیة إلى العقول السماویة و الأرواح العلویة و الملائکة الکروبیِّین و أرواح الکمل من الأنبیاء و الأولیاء.
ثم تتنزل مراتب التعینات إلى تعین النفس الکلیة المسماة باللوح المحفوظ.
وتتنزل مراتب التعینات فی هذه النفس الکلیة أیضاً ثم یأتی بعد ذلک عالم المثال، ثم عالم العناصر الذی هو آخر مراتب التنزلات.
وکل متعین بالتعین الکلی من المجردات العقلیة و النفوس السماویة و أرواح الأنبیاء إلخ، یُفِیض على ما تحته من التعینات الجزئیة و یمده بالحیاة و یدبره و یتصرف فیه.
فأرواح الأنبیاء على هذا الرأی من التعینات الکلیة.
و أرواح أممهم بالنسبة إلیهم هی بمثابة الأعوان و الخدم.
وموسى أحد هذه الأرواح المتعینة بالتعین الکلی.
و أرواح الأبناء الذین قتلوا فی زمان ولادته هی الأرواح التی تحت حیطة روحه، و فی حکم خدمه و أعوانه.
فلما أراد اللَّه إظهار موسى على فرعون و قهره إیاه، قضى بأن یقتل فرعون أبناء بنی إسرائیل لتنضم أرواحهم إلى روح موسى فیتقوى بها و تجتمع فیه خواصها.
فلما تعلق الروح الموسوی ببدنه، تعاضدت تلک الأرواح فی إمداده بالحیاة والقوة، وکلِّ ما هو مهیأ من الکمالات لتلک الأرواح الطاهرة.
فما ولد موسى إلا وهو مجموع أرواح کثیرة توجهت إلیه وأقبلت نحوه بهواها ومحبتها و نوریتها خادمة له.
وقد کان أثرها فیه عظیماً، لأنها أرواح أطفال حدیثی التکوین قریبی العهد بربهم.
وظاهر من هذا أن المراد بالتعینات الکلیة إنما هو المجالی الکلیة للواحد الحق التی نسبتها إلى المجالی الجزئیة أشبه شیء بنسبة الکلی المنطقی إلى جزئیاته.
والأنبیاء والأولیاء أو بعبارة أدق أرواح الأنبیاء والأولیاء بعض هذه المجالی. ولهذا قال محمد صلى اللَّه علیه وسلم: کنت نبیاً وآدم بین الماء والطین: أی تجلى الحق فی صورتی الروحیة الکلیة قبل خلق آدم.
وقد ذکرنا أن من رأی ابن العربی أن الحق هو المتجلی فی صورة کل شیء بحسب استعداد تلک الصور، ولکنه متجلٍ فی أکمل صورة فی الإنسان الکامل الذی یتمثل فی طبقة الأنبیاء والأولیاء.
وإذا کانت الأنبیاء من المجالی الکلیة للحق، ومن أوائل الکلمات الإلهیة (العقول الإلهیة)، أدرکنا لِمَ ینسب ابن العربی حکمة کل فص من فصوص کتابه إلى کلمة من کلمات الرسل، کأنما یقصد بذلک أن روح کل فص والموحِی بالحکمة الواردة فیه نبی من الأنبیاء أو هو الحق متجلیاً فی صورة ذلک النبی.
ولم یکن قتل فرعون لأبناء بنی إسرائیل عن خطأ أو جهل، بل کان عن علم إلهی و تقدیر أزلی، وإن کان فرعون نفسه لم یشعر بذلک.
(2) «و أما حکمة إلقائه فی التابوت و رمیه فی الیَمِّ ... إلى قوله سکینة الرب».
(2) أشار إلى أن المراد بالتابوت الجسم الإنسانی الذی یطلقون علیه اسم الناسوت، و بالیَمِّ العلم الحاصل للنفس عن طریق القوى البدنیة، کقوة النظر الفکری و قوى الحواس و القوة المتخیلة و ما إلى ذلک من القوى التی هی آلات المعرفة فی الإنسان.
وظاهر أن «موسى» هنا لیس إلا مثالًا للإنسان الکامل الذی خلقه اللَّه على صورته، و أن کل ما یصدق علیه یصدق على غیره من الکاملین.
فقد ألقاه اللَّه فی الیمِّ، أی قذف بناسوته فی بحر المعرفة لتحصل له الکمالات الإلهیة التی یمتاز بها الإنسان عن غیره من صور الوجود الأخرى.
والتابوت الانسانی الذی هو الجسم أکمل الأجسام العنصریة على الإطلاق، ولذلک کان أهلًا لأن یکون محلَّ النفس الانسانیة التی تدبره، ومحلّ السکینة الإلهیة.
ویظهر أن المؤلف یشیر بما ذکره عن السکینة الإلهیة التی وضعها اللَّه فی التابوت الانسانی، إلى ما ورد فی القرآن فی صورة البقرة عن قصة طالوت.
والذی یعنینا هنا هو الآیة التی ورد فیها ذکر التابوت وسکینة الرب، وهی الآیة الوحیدة التی اقترن اسم السکینة فیها باسم التابوت.
قال تعالى: «وَقالَ لَهُمْ نَبِیُّهُمْ إِنَّ آیَةَ مُلْکِهِ أَنْ یَاتِیَکُمُ التَّابُوتُ فِیهِ سَکِینَةٌ مِنْ رَبِّکُمْ وَ بَقِیَّةٌ مِمَّا تَرَکَ آلُ مُوسى وَ آلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِکَةُ» (البقرة- 249).
ومعنى السکینة اللغوی الطمأنینة و الأمن، و بهذا وردت آیات کثیرة فی القرآن کقوله تعالى: «هُوَ الَّذِی أَنْزَلَ السَّکِینَةَ فِی قُلُوبِ الْمُؤْمِنِینَ لِیَزْدادُوا إِیماناً مَعَ إِیمانِهِمْ».
ولکن لیس هذا هو المعنى الذی یرمی إلیه ابن العربی. وأغلب الظن أنه یرمی إلى معنى آخر قریب من المعنى الذی تفیده کلمة «سکینة» العبریة فی استعمالها الدینی و الفلسفی عند الیهود.
نعم لا إجماع بین مفکری الیهود على رأی خاص فی معنى «سکینة» و لکنها تفید بوجه عام معنى الحضور الإلهی بین بنی إسرائیل.
وقد تستعمل مرادفة لاسم اللَّه نفسه و قد فهمَتْ أیضاً بمعنى الواسطة بین اللَّه والخلق وبمعنى روح القدس وغیر ذلک. وإذا صح ما ذکره أبو البقاء فی «کلیاته» من أن کل سکینة فی القرآن فهی طمأنینة إلا التی فی قصة طالوت فإنها شیء کرأس الهرة له جناحان» (الکلیات ص 201)، کانت سکینة التابوت الانسانی شیئاً مختلفاً تماماً عن سکینة تابوت طالوت، لأنه لا یقصد بها إلا الناحیة الإلهیة فی الإنسان (أی اللاهوت)، وهو الحضور الإلهی الذی یفهمه الیهود من کلمة «سکینة»، أو هو اللَّه نفسه.
(3) «کذلک تدبیر الحقِّ العالَمَ، ما دبره إلا به أو بصورته ... کتوقف الولد على إیجاد الوالد».
(3) بعد أن شرح کیف یتوقف تدبیر النفس الانسانیة للبدن على البدن ذاته و ما فیه من قوى و استعدادات، قال کذلک یدبر الحق العالم. فالحق فی نظره لا یدبر العالم کتدبیر فاعل محض لقابل محض،
بل تدبیر العالم بالعالم: أی یظهر تدبیره فی العالم فیما یجری فی العالم نفسه من تدبیر بعضه بعضاً، و توقف بعضه على بعض کتوقف وجود الولد على وجود الوالد، وتوقف المسببات على أسبابها، و المشروطات على شروطها، و المعلولات على عللها.
کل أولئک أنواع من التدبیر جاریة بالفعل فی العالم، و هی بعینها ما یسمیه بالتدبیر الإلهی. فالکاف فی قوله: «کتوقف الولد على إیجاد الوالد» لیست للتشبیه، لأنه لا یرید تشبیه تدبیر الحق للعالم بتوقف الولد على إیجاد والده له، ولکنها للتمثیل فکل ما ذکره من توقف بعض أنواع الوجود على بعض وتأثر بعضه ببعض، إنما هو أمثلة للتدبیر الإلهی فی العالم، وهو لا یجری إلا فی العالم وبواسطة العالم نفسه.
ولهذا قال بعد أن ذکر الأمثلة السابقة: «و کل ذلک من العالم، و هو تدبیر الحق فیه».
وخلاصة القول أن اللَّه لا یدبر العالم و هو بعید عنه مخالف له، مستقل فی وجوده عن وجوده، بل یدبره على أنه صورة و هو عین تلک الصورة. وکل ما یجری فی العالم بواسطة العالم هو تدبیره.
وأما المراد «بصورته» أی صورة العالم فهو الأسماء الإلهیة المتجلیة فی جمیع مراتب الوجود، لأنها صُورة الوجود الظاهرة و الذات الإلهیة باطنه.
ومعنى تدبیر الحق العالم بواسطة الأسماء الإلهیة تجلیه بها فی أعیان الموجودات، وظهوره فیها بحسب مقتضیات استعدادها، إذ العالم من حیث هو ظاهر الحق مجموع هذه الأسماء الإلهیة.
وفی هذا المعنى یقول ابن العربی : " فما وصفناه أی تَسَمَّى به إلا وجدنا معنى ذلک الاسم وروحه فی العالم".
ولکن أی تدبیر هذا الذی تقتضیه طبیعة الوجود وهی ثابتة مستقرة أزلًا لا تخضع إلا لجبریتها الصارمة؟.
(4) «الأسباب و الشروط و العلل»:
(4) یجمع هذه الألفاظ الثلاثة معنى واحد، و هو أنها مقدمات یتبعها توال.
ولکن لکل منها معنى خاص. فالسبب بالمعنى اللغوی اسم لما یتوصل به إلى المقصود، وهو فی الشریعة عبارة عما یکون طریقاً للوصول إلى الحکم من غیر أن یؤثر فیه.
ومعناه الفلسفی ما یوجد المسبَّب بوجوده فقط إذا کان تاماً، وما یتوقف وجود المسبَّب علیه، ولکن لا یوجد المسبَّب بوجوده فقط إذا کان ناقصاً.
والشرط تعلیق شیء بشیء بحیث إذا وجد الأول وجد الثانی.
وقیل هو ما یتوقف علیه وجود الشیء و یکون خارجاً عن ماهیته غیر مؤثر فی وجوده.
وأحیاناً یفرقون بین السبب و الشرط على أساس أن السبب هو ما إذا وُجِدَ وجد مسبَّبه وإذا لم یوجد لم یوجد مسبَّبه، فی حین أن الشرط هو ما إذا لم یوجد المشروط، ولکنه إذا وجد فقد یوجد وقد لا یوجد المشروط. و قد تستعمل کلمتا السبب والعلة على سبیل الترادف فی الفلسفة، و لکن الفقهاء یمیزون بینهما من وجهین: الأول أن المسبَّبَ یوجد عند وجود سببه لا به، فی حین أن المعلول شیء لازم عن العلة ذاتها. الثانی أن معلول العلة یحصل عنها مباشرة وبغیر واسطة، فی حین أن المسبَّب لا یحصل عن سببه مباشرة.
(5) «فکما أنه لیس شیء من العالم إلا و هو یسبح بحمده، کذلک لیس شیء من العالم إلا و هو مسخَّر لهذا الإنسان».
(5) کل شیء فی الوجود یسبّح الحق لأنه یعلن صفة من صفاته، أو یظهر اسماً من أسمائه. و فی ذلک إفصاح عن الکمالات الإلهیة، و هذا أعلى مراتب التسبیح و التقدیس. و لیس هذا التسبیح نطقاً باللسان، و لکنه تسبیح أحوال الکائنات التی تعبِّر عن مکنونات أسرارها، کما أنه لیس المسبِّح بالحمد سوى المسبَّح بحمده:
أی أن «الکل» ألسنة ثناء على «الکل». و فی هذا المعنى قال ابن العربی فی الفص الخامس:
فیحمدنی و أحمده و یعبدنی و أعبده
ولکن أکمل الکائنات تسبیحاً للحق هو أکثرها إظهاراً لکمالاته و هو الإنسان: ذلک الکون الجامع فی نفسه حقائق الوجود من أعلاه إلى أسفله، و ذلک المختصر الشریف الذی تنعکس على مرآته صورة الحضرة الإلهیة بتمامها. و لیس تسخیر ما فی السموات و الأرض للإنسان فی قوله تعالى: «وَسَخَّرَ لَکُمْ ما فِی السَّماواتِ وَ ما فِی الْأَرْضِ جَمِیعاً مِنْهُ» سوى إظهار جمیع حقائق الوجود فی الإنسان.
وهی مسخَّرة له: لا بمعنى خضوعها له، بل بوجودها فیه بمعناها و حقیقتها. و هذا سر قوله تعالى «وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ کُلَّها»، أی أودع فیه سر جمیع الأسماء الإلهیة التی هی مظاهر الوجود.
و العالم عالمان:
عالم أکبر، و هذا یسبح الحق بمفرداته بالمعنى الذی شرحناه،
و عالم أصغر و هو الإنسان.
و هذا یسبِّح الحق بجملته بنفس المعنى، و یسبحه على وجه لا یتهیأ لمخلوق آخر حتى للملائکة. و لذلک قال المؤلف فی الفص الأول مشیراً إلى الملائکة: «فما سبحته بها (أی ببعض الأسماء الإلهیة) و لا قدسته تقدیس آدم».
(6) «فإن الأمر فی نفسه لا غایة له یوقف عندها».
(6) بعد أن ذکر أن إلقاء موسى فی التابوت و إلقاء التابوت فی الیمِّ یدلان فی ظاهرهما على الهلاک، و هما فی الباطن عین الحیاة الحقیقیة التی هی حیاة العلم، و بعد أن قارن بین الأموات بالجهل و الأحیاء بالعلم المشار إلیهما
فی قوله تعالى: «أَوَ مَنْ کانَ مَیْتاً فَأَحْیَیْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً» إلخ،
انتهى إلى القول بأنه لما کان الأمر فی نفسه، أی أمر الوجود لا غایة له یوقف عندها، کان مآل الجمیع إلى الضلال و الحیرة.
و لکن الحیرة حیرتان:
حیرة الجهل و حیرة العلم.
و هی بالمعنى الأول حیرة الجهل مرادفة للضلال،
و بالمعنى الثانی حیرة العلم مرادفة للهدى.
و قد جرت عادة المؤلف باستعمال لفظی الحیرة و الضلال على سبیل الترادف، و لکنه یفرق بینهما فی هذه الفقرة لأنه یعرِّف الهدى المقابل للضلال بأنه الاهتداء إلى الحیرة.
و إنما جعل الاهتداء إلى الحیرة عین الهدایة، لأن الحیرة التی هی نتیجة العلم إنما تحصل من شهود وجوه التجلیات الإلهیة المتکثرة المحیرة للعقول و الأوهام، و ذلک عین الهدایة.
(7) «کذلک وجود الحق کانت الکثرة له و تعداد الأسماء ... إلى قوله مع الأحدیة المعقولة».
(7) أی کما تعددت أزواج النبات الخارج من الأرض بعد اهتزازها و نموها و إنباتها کما قال تعالى «وَ تَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَیْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَ رَبَتْ وَ أَنْبَتَتْ مِنْ کُلِّ زَوْجٍ بَهِیجٍ» ،
کذلک تعددت مظاهر الکثرة فی الواحد الحق بتعدد الأسماء التی تقتضیها أعیان الممکنات الظاهرة بها، و هی فی الحقیقة عین واحدة لا کثرة فیها.
فالأرض و ما یخرج منها من ألوان النبات رمز للعالم، و الماء الذی یدفع بها إلى الاهتزاز و النمو و الإنبات رمز لمبدإ الحیاة فی الوجود.
فالأرض واحدة بالحقیقة، کثیرة بالمظاهر الخارجة عنها کذلک الحق، واحد بالحقیقة، کثیر بالمظاهر.
وهذا معنى قوله «فثبت به و بخالقه أحدیة الکثرة»: أی ثبت بالعالم و الحق الذی هو خالق العالم أن الکثرة الوجودیة الظاهرة واحدة بالحقیقة.
و هو لا یرید بالخالق هنا إلا الذات الإلهیة من حیث هی، لا الذات الإلهیة المتصفة بالخلق، إذ لا خلق و لا مخلوق و لا خالق على الحقیقة فی مذهبه. وقد قرأتُ النصَّ هکذا: «فثبت به و بخالقه أحدیة الکثرة».
وهو ما ورد فی المخطوطات التی رجعت إلیها فیما عدا کلمة «بخالقه» التی وردت فی إحدى المخطوطات «تخالفت» و فی الأخرى «یحالفه» من غیر نقط.
و لکن القاشانی (ص 403) یقرأ الفقرة هکذا «فثُنِّیت به، و یخالفه أحدیة الکثرة».
أی فثنیت الأسماء الإلهیة بالعالم، و هذه الاثنینیة مخالفة لأحدیة الکثرة التی هی له لذاته. فکأن هناک مشابهة بین اثنینیة الحق و الخلق و زوجیة النباتات المشار إلیها من قبل. أما بالی (شرح الفصوص ص 391) فیقرؤها «فثُنِّیت به و بخالقه أحدیة الکثرة».
و یقرؤها القیصری (ص 274) «فثبت به و بخالقه أحدیة الکثرة»: و یشرح ذلک بقوله «أی فثبت بالعالم و الحق الذی هو خالقه: أی بهذا الموضوع: أحدیة الکثرة کما مر فی الفص الإسماعیلی أن مسمى اللَّه أحدیّ بالذات کلٌ بالأسماء و الصفات و صحف بعض الشارحین قوله بخالقه فقرأ یخالفه من الخلاف و هو خطأ».
(8) «فقبضه طاهراً مطهراً لیس فیه شیء من الخبث لأنه فی قبضه عند إیمانه».
(8) من أهم المسائل التی أنکرها المسلمون على ابن العربی أشد الإنکار و کفروه بها :
قوله بصدق إیمان فرعون و نجاته من عذاب الآخرة، لأنه بذلک قد تحدی کل ما ورد فی القرآن من الآیات الخاصة بکفر فرعون و ادعائه الألوهیة،
و ما أُعِدَّ له و لآله من صنوف العذاب فی الآخرة. و لکننا قد رأینا أن لابن العربی أسلوبه الخاص فی التأویل و الإشارة، و أنه بالرغم من استشهاده بنصوص القرآن الواردة فی حق الأنبیاء أو غیرهم، و استقصائه لهذه الآیات، یؤول معانیها بما یشاء، و یرمز بألفاظها إلى ما یرید.
و قد رأینا أنه رمز بتابوت موسى إلى الجسم الانسانی، و بالیمِّ الذی ألقِیَ فیه موسى إلى بحر المعرفة، و بموسى نفسه إلى الإنسان الکامل أو أحد التعینات الکلیة الإلهیة.
و هو هنا یرمز بفرعون إلى النفس الانسانیة الشهوانیة ممثلة فی أقوى صورها.
فإن فرعون کان مثالًا للعصیان و الکفر و الطغیان و الادعاء و الکبریاء، و لکنه مع ذلک یمثل فی نظر ابن العربی، و فی نظر الحلّاج من قبله، دور الفتوة و البطولة: لأنه لم یفعل ما فعل فی نظرهما إلا تلبیة للأمر الإلهی التکوینی الذی یخضع له کل ما فی الوجود، و إن خالف بمعصیته الأمر التکلیفی.
فهی طاعة فی صورة معصیة، و نجاة فی صورة هلاک.
ولا یعنینا تفصیل ما أورده ابن العربی عن إیمان فرعون أثناء غرقه من أن اللَّه قبضه ساعة توبته و إسلامه، وقوله إن الإسلام یَجُبُّ ما قبله کما ورد فی الحدیث، والتوبة تَجُبّ ما قبلها، ولا دفاعه عن إیمان فرعون بأنه بالفعل نطق بإیمانه فی قوله: «آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِی آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِیلَ وَ أَنَا مِنَ الْمُسْلِمِینَ».
ولم یرد نص فی القرآن بعدم قبول إیمانه هذا. لا یعنینا کل ذلک، فإن مثل هذه التفاصیل یوردها لتدعیم الفکرة الأساسیة فی مذهبه، وهی أنه لا ثواب ولا عقاب على ما یصدر من العباد من أعمال أو یعتقدونه من عقائد.
وإنما النعیم المقیم إنما هو فی معرفة العبد حقیقة نفسه و منزلتها من الوجود العام، و شقاء العباد إنما هو فی غفلتهم عن هذه الحقیقة.
ولکن لا خلود فی النار- نار الحجاب هذه لأن هذه الحقیقة لا بد أن تتجلى للعبد بعد خلاصه من قیود صورته البدنیة ورجوعه إلى الحق.
وقد شرحنا ذلک بالتفصیل فی مواضع کثیرة من هذه التعلیقات (راجع مثلًا التعلیق الحادی عشر من الفص الإسماعیلی).
وإذا کان الأمر على هذا النحو فنفس کل إنسان فرعونُه، لأنها مصدر معاصیه و آثامه، و لکن معاصی الإنسان فی الحقیقة طاعات بالمعنى الذی أسلفناه ولهذا وسعتها الرحمة الإلهیة التی وسعت کل شیء.
(9) «کذلک علم الشرائع کما قال تعالى: لِکُلٍّ جَعَلْنا مِنْکُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً: أی طریقاً: و منهاجاً أی من تلک الطریقة جاء».
(9) أی کما حرم اللَّه على موسى أن یرضع من ثدی غیر ثدی أمه- و کان امتناعه عن الرضاع عن علم ذوقی و إلهام من اللَّه- کذلک وهبه اللَّه علماً ذوقیاً بحقیقة الشرائع و أوقفه على سرها. و لکنه یکنی بأم موسى عن الأصل الذی انحدر منه، و هو الحق الذی ظهر موسى بصورته. و لهذا قال فیما بعد «فأمه على الحقیقة من أرضعته لا من ولدته».
و قال قبل ذلک: «فکان هذا القول إشارة إلى الأصل الذی منه جاء، فهو غذاؤه کما أن فرع الشجرة لا یتغذى إلا من أصله».
فأم موسى اذن هی الأصل الذی غذاه بالوجود، و هذا الأصل هو الحق.
و کذلک کنَّى بلبن أم موسى عن صورة العلم الإلهی، و هذا مطرد فی جمیع کتاباته، استناداً إلى أثر یروونه من أن النبی صلى اللَّه علیه و سلم رأى فی منامه یوماً أنه یشرب لبناً فأوَّلَ اللبن بالعلم. فکأن الذی حرم على موسى لم یکن فی الحقیقة لبن المراضع، بل الشرائع و الاعتقادات الدینیة التی اعتنقها من سبقه أو عاصره، و هی الشرائع التی یکفِّر بعضها بعضاً و یلعن بعضها بعضاً، و التی تحل حراماً أو تحرم حلالًا، لأن اللَّه قد کشف له عن الشریعة الحقة- و هی شریعة وحدة الوجود فی نظر ابن العربی- التی لا تعرف حلالًا، و لا حراماً، و انما تعرف أن کل فعل و کل اعتقاد مرضی فی نظر الحق (راجع الفص الاسماعیلی التعلیق الرابع).
و هو یصل إلى هذه النتیجة عن طریقین:
الأول بالتجائه إلى فکرته فیما یسمیه «الخلق الجدید»
والثانی بتأویله آیة «لِکُلٍّ جَعَلْنا مِنْکُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً».
فهو یرى أن الحق الظاهر فی کل لحظة فی صورة جدیدة من صور الوجود، یظهر کذلک فی کل آن فی صورة جدیدة من صور المعتقدات.
فالخلق دائم التجدد فی مسرح الوجود، و الحق دائم التجدد فی مسرح المعتقدات. و اذن لیس بین المعتقدات الدینیة المختلفة خلاف إلا فی الصورة.
أما فی نفس الأمر فکلها مظاهر متجددة لحقیقة واحدة و شریعة واحدة. و ما کان حلالًا فی شرع ما لا یکون حراماً فی شرع آخر إلا فی الصورة.
و فی الحقیقة لیس هذا عین ذاک، لأن الأمر فی خلق جدید، و لا تکرار فی الوجود. و یظهر أن کلامه فی الحلال و الحرام هنا منصب على الاعتقادات دون المعاملات.
وأما الآیة، فلما لم یستقم له ظاهرها، عمد إلى طریقة فی تفسیرها لا تبررها أسالیب اللغة و لا یرتضیها الذوق.
فقال: «لِکُلٍّ جَعَلْنا مِنْکُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً» معناه لکل جعلنا منکم شریعة واحدة مهما اختلفت أسالیبها و صورها، «وَ مِنْهاجاً» أی و من هذه الشریعة جاء شرعکم.
فقسم کلمة منهاجاً- أی طریقاً- إلى کلمتین: منها أی من هذه الشریعة جا: أی جاء.
و قد یفهم تفسیره للآیة بمعنى آخر على أنه تفسیر للوجود لا للشرائع. أی بمعنى أن المراد بالشریعة الطریق، و هو الطریق الأمم الذی ذکره فی افتتاح الکتاب (الفصوص) - طریق الوجود العام و هو الحق.
و منها جاء أی جاء کل منکم، کما یأتی فرع الشجرة من أصلها، و هو التشبیه الذی ذکره.
فیکون معنى الآیة: لکل منکم جعل اللَّه له طریقاً واحداً یسیر فیه طریق الوجود الواحد الحق، و من هذا الطریق جاء. و هذا المعنى قد یبرره مذهب المؤلف، و لکنه لا یتفق و روح النص الوارد فیه فی هذا الفص.
(10) «و نجَّاه اللَّه من غم التابوت فخرق ظلمة الطبیعة بما أعطاه اللَّه من العلم الإلهی ... إلى قوله و باطنه نجاة».
(10) أی خلص اللَّه موسى من کدورات البدن و ظلماته، فخرق بذلک ظلمة طبیعته بنور العلم الإلهی الذی أعطاه اللَّه إیَّاه.
وذلک العلم لدنیٌ کعلم الخِضْر الذی اقترنت قصته فی القرآن بقصة موسى، و قال اللَّه فی حقه «فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَیْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً» (الکهف آیة 65).
وهنا وجه شبه بین سیرة موسى و سیرة الخضر بحسب ما یفهم ابن العربی، و ان لم یشعر أحدهما بذلک.
فقد قتل موسى الغلام القبطی لأمر لم یدرک حکمته فجاء الخضر فقتل هو الآخر غلاماً و قال «ما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِی»، یشیر بذلک إلى أن قتله الغلام و قتل موسى غلامه لم یکونا إلا عن أمر إلهی باطنی و إن لم یشعرا به.
ثم ان الخضر خرق سفینة القوم المساکین الذین کانوا یعملون فی البحر و هذا عمل ظاهره هلاک وباطنه نجاة، و هو یقابل فی قصة موسى إلقاءه فی التابوت ثم إلقاء التابوت فی الیمِّ، فإنه عمل ظاهره هلاک و باطنه نجاة و رحمة کما قدمنا.
(11) «و انما فعلت به أمه ذلک خوفاً من ید الغاصب فرعون أن یذبحه صبراً».
(11) قرأتُها صبراً بالصاد المهملة و الباء، من قولهم قُتِل صبراً، أی حبس و رمی و عُذِّب حتى مات.
وهذا یتفق مع روح النص و سائر القصة، وبه أخذ عبد الرحمن جامی الذی یعتبر قراءة ضَیْراً تحریفاً.
أما القاشانی والقیصری فیقرءانها ضیراً من ضاره الأمر یضیره و یضوره ضوراً و ضیراً أی ضره: أی خوفاً أن یذبحه فرعون ذبحاً مشتملًا على الضرر و هذا کلام لا معنى له.
(12) «فإن الحرکة أبداً انما هی حبیة، و یحجب الناظر فیها بأسباب أخر».
(12) انتقل من الکلام فی فرار موسى بعد قتله الغلام و وصفه ذلک الفرار بأنه حرکة دفعه إلیها حبه النجاة من القتل، إلى الکلام عن الحرکة عموماً.
ورأیه أن الحرکة فی جمیع مظاهرها مبعثها الحب، و إن خفی هذا المعنى عن الباحثین فی ماهیتها لاشتغالهم بالنظر فی أسباب أخرى غیر الحب یتوهمون أنها أصل الحرکة. الحرکة فی نظره رمز للحیاة و الوجود، و السکون رمز للموت و العدم.
وکل حرکة، و کل مظهر من مظاهر الوجود، یبعث علیه الحب الساری فی جمیع الأشیاء، الظاهر فی جمیع الصور. بل الحب هو سر الخلق و علته.
و أعنی بالخلق هنا ما یعنیه ابن العربی نفسه من أنه ظهور الحق فی صور أعیان الممکنات و تجلیه فیها.
قال تعالى فی حدیث قدسی یرویه الصوفیة «کنت کنزاً مخفیاً فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق فبه عرفونی».
فحب ظهور الحق فی صور الوجود، و حبه فی أن یعرف نفسه بنفسه فی مرایا الممکنات، کما یشاهد الإنسان صورته فی المرآة فیدرک منها معنى غیر الذی یدرکه من نفسه من غیر وجود هذه الصورة: ذلک الحب هو علة خلق العالم، و هو الأساس الحقیقی الذی یقوم علیه الوجود، فإنه یتخلل کل ذرة من ذرات العالم، و یدفع بکل شیء إلى الظهور بالصورة التی هو علیها.
ذلک الحب الذی هو مبدأ الوجود و أصل کل موجود، هو بعینه فی نظر الصوفیة السبیل الوحید لمعرفة اللَّه و التحقق بالوحدة الذاتیة معه. و هو فی نظر ابن العربی أصل جمیع الاعتقادات و العبادات کما أسلفنا.
(راجع التعلیقین الخامس و السادس من الفص السابق). و قد کان الحب عند الصوفیة دائماً روح الحیاة الدینیة و مصدر جذبتهم إلى الحق و شهودهم إیاه و أساس نظریتهم فی الأخلاق و المعرفة.
(13) «و علْمه تعالى بنفسه من حیث هو غنی عن العالمین هو له ... إلى قوله للکمال فافهم».
(13) للحق نوعان من العلم: علم بذاته من حیث هو فی ذاته، وهذا العلم قدیم قدم الذات. وهو للحق دون غیره من حیث هو جوهر أزلی مجرد عن جمیع الإضافات و النسب إلى الوجود الظاهری.
وهذا معنى قوله تعالى «فَإِنَّ اللَّهَ غَنِیٌّ عَنِ الْعالَمِینَ.
وعلم له بذاته و لکن فی صور أعیان الممکنات، و هو العلم الحادث المشار إلیه فی قوله تعالى «حَتَّى نَعْلَمَ».
ویستوی فیه أن نقول إنه علم الحق بذاته فی صور أعیان الممکنات، أو علم أعیان الممکنات به من حیث هو ظاهر فیها.
ولا یتم کمال العلم إلا بالاثنین معاً، کما لم یتم کمال الوجود بالوجود الأزلی وحده، و لا بالوجود الحادث الذی هو وجود العالم وحده، و إنما تم بالاثنین جمیعاً. فهنا موازاة تامة بین الوجود الأزلی و العلم الأزلی و الوجود الحادث و العلم الحادث: و هما فی کل من الحالتین وجهان لحقیقة واحدة.
ولیس حدوث العالم وجودَه من بعد عدم و لا خلقَه فی زمان معین، و إنما حدوثه- کما یقول ابن العربی- هو ظهور بعضه لبعض و ظهور الحق لنفسه فی صور العالم.
(14) «فکان الخوف مشهوداً له بما وقع من قتله القبطی، و تضمن الخوف حب النجاة من القتل».
(14) أی فکان خوف موسى مشهوداً له، بمعنى أنه أدرکه إدراکاً مباشراً لأنه قتل القبطی.
و لکن هذا الخوف لم یکن الباعث له على الفرار إلا فی الصورة أما فی الحقیقة فإن الباعث کان حب موسى النجاة من القتل. کذلک الحال فی کل ما یصدر عن الإنسان من الأفعال و کل ما یظهر فی الوجود من ظواهر لها سبب قریب مدرک مباشرة بالحس أو بالعقل، و سبب بعید غیر مدرک بالحس و لا بالعقل ادراکاً مباشراً.
و السبب البعید فی حدوث أی شیء هو الحب کما أسفلنا. و قد کان السببَ الحقیقی فی فرار موسى.
و لکنه لم یدرکه، لأن موسى و غیره من الناس انما یعنون بالأسباب القریبة لقربها و وضوحها و اتصالها المباشر بما یعود علیهم من نفع أو یلحقهم من ضرر.
ثم انه لما فرَّق بین السبب القریب و السبب البعید کما ذکرنا مَثَّل للنسبة بینهما بالنسبة بین الجسم و الروح.
فالجسم هو الجزء الظاهر المحسوس الذی تنسب إلیه أفعال الإنسان فی الصورة، و الروح هو الجزء الباطن غیر المحسوس المدبر للجسم الفاعل على الحقیقة لکل ما یصدر عن الإنسان من أفعال.
(15) «و لو کان موسى عالماً بذلک لما قال له الخِضْر «ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً».
(15) أی أنی على علم لم یحصل لک عن ذوق، کما أنت على علم لا أعلمه أنا».
یظهر من جمیع ما أورده ابن العربی من قصة موسى مع الخضْر، و الطریقة الخاصة التی خرَّج بها الآیات الواردة عنهما فی سورة الکهف، أنه یستعمل الاسمین رمزاً لصاحبی نوعین من العلم: العلم الظاهر الذی یأتی به الأنبیاء إلى أممهم و هو علم الشرائع.
و العلم الباطن الذی یعلمه الأولیاء و هو علم الحقیقة. یقول القاشانی (شرح الفصوص ص 412): «اعلم أن الخضر علیه السلام صورة اسم اللَّه الباطن، و مقامه مقام الروح، و له الولایة و الغیب و أسرار القدر، و علوم الهویة و الأنیة و العلوم اللدنیة ... و أما موسى علیه السلام فهو صورة اسم اللَّه الظاهر و له علوم الرسالة و النبوة و التشریع».
فالحوار الدائر بین موسى و الخضر لیس قصراً على موسى و الخضر، و لکنه موازنة بین مطلق رسول و مطلق ولی.
و قد اعتبر الصوفیة دائماً، کما تدل على ذلک عبارة القاشانی، تلک الشخصیة الأسطوریة الغریبة التی یسمونها «الخضر» من أقطابهم، و نظروا إلیه نظرة خاصة من ناحیة علمه اللدنی الباطن، لأنهم اعتبروه المقصود «بالعبد الصالح» الذی قال اللَّه فیه «وَ عَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً».
و قد سبق أن ذکرنا أن ابن العربی یعد کل نبی و کل رسول ولیاً، لأن الولایة عنصر مشترک بین الثلاثة جمیعاً: أی أن کل نبی و کل رسول له مرتبة الولایة أوَّلًا، ثم یضاف إلیها مرتبة النبوة إذا کان نبیاً و مرتبة الرسالة إذا کان رسولًا.
و لکن الفرق بین الولی و الرسول أو النبی أن الولی یعلم العلم الباطن و یدرک أنه یعلمه، فی حین أن النبی و الرسول یعلمانه و لکنهما لا یدرکان أنهما یعلمانه. و هناک فرق آخر، و هو أن الرسول یعلم علم الظاهر الخاص بشرعه الذی أُرسل به، و هذا لا یعلمه الولی.
ومن هنا کان من واجب الولی أن یتبع رسول وقته فیما یأتی به شرعه من الأحکام، وإن کان یفهمها على النحو الذی یقتضیه علمه الباطن.
أما أن الرسول یعلم العلم الباطن، فدلیله أنه معصوم من الخطأ، لأن اللَّه یوجِّه أفعاله حیث یشاء لحکمة عنده مهما کان مظهر هذه الأفعال.
ولهذا نبَّه الخضر موسى إلى باطن أفعاله بما قام به هو نفسه من الأفعال التی یدل ظاهرها على الهلاک دون باطنها.
ثم شرح له الحکمة فی کل منها لیظهر له مقامه فی الولایة، ولیبین له الفرق بین العلم الذوقی الباطن، وعلم الظاهر.
والسر فی أن الرسول یعمد دائماً إلى لسان الظاهر ولا یدرک غیره، أنه مکلَّف بتبلیغ رسالته إلى قوم فیهم الخاصة والعامة.
وکلاهما یفهم لسان الظاهر و إن انفرد الخاصة بأنهم یفهمون ما یفهمه العامة وزیادة.
فخوفاً من أن تتبلبل أفکار العامة و تزل أقدامهم إذا هم عدلوا عن الظاهر وخاضوا فی أسرار باطن الشرع، خوطبوا بهذه الطریقة الخاصة و لم یکلفوا فوق ما یطیقون.
أما الخاصة من أهل الأذواق فیغوصون، کما یقول، على درر الحکم و یعرفون مراد اللَّه الحقیقی من الأحکام.
هذه لا شک نغمة إسماعیلیة دخلت التصوف منذ بدأ الصوفیة یبحثون فی الشریعة و الحقیقة والطریقة، و هو موضوع یعقد له القشیری فصلًا خاصاً فی فی رسالته.
وعن هذا الطریق وصل الصوفیة إلى نتائج کان لها أکبر الأثر فی تشکیل مذهبهم و صبغه بصبغة روحیة خاصة میزتهم فی میدان العقائد عن فرق المتکلمین، و فی میدان المعاملات عن الفقهاء.
(16) «فَوَهَبَ لِی رَبِّی حُکْماً» یرید الخلافة، و «جَعَلَنِی مِنَ الْمُرْسَلِینَ» یرید الرسالة».
(16) یستعمل ابن العربی عادة کلمة «الخلیفة» للدلالة على الإنسان الکامل الذی یظهر فی أعلى درجاته فی صور الأنبیاء و الرسل و الأولیاء.
وکلٌ من هؤلاء خلیفة اللَّه بمعنى أنه الصورة الجامعة الممثلة للکمال الإلهی فی عالم الظاهر.
ولکنه یفرق بعد ذلک بین أنواع الخلافة وما یصحبها من وظائف أخرى أو صفات تکون للإنسان الکامل.
فمن الخلافة الخلافة العامة، و هی القدر المشترک بین الأنبیاء والرسل والأولیاء وکأنه یرید بذلک الولایةَ بالمعنى الذی شرحناه فی التعلیق السابق: فإن هؤلاء جمیعاً یتفقون فی أنهم یعلمون علم الباطن، سواء أدرکوا هذه الحقیقة أم لم یدرکوها، ویأخذونه عن الخلیفة الحقیقی الذی هو أصل علم الباطن و منبعه، وهو الروح المحمدی أو الحقیقة المحمدیة الظاهرة على الدوام فی صور الأنبیاء و الرسل و الأولیاء أما أنهم خلفاء اللَّه، فمعناه أنهم أکمل مجالی الحق بین الخلق.
ومن الخلافة خلافة التشریع، وهی خلافة الأنبیاء الذین أرسلهم اللَّه إلى الناس. وهؤلاء یجمعون بین العلم الباطن الذی هو لهم من حیث کونهم خلفاء وأولیاء، وبین العلم الظاهر الذی هو علم الشرائع. ولذلک یسمیهم بالخلفاء الرسل.
ومن هذا الصنف الأخیر من أعطاهم اللَّه صفة الحکم والمُلک والدفاع عن رسالتهم بالسیف.
ومن هؤلاء موسى فی نظر المؤلف، وإن کان نبی مثل داود أو محمد أحق بهذه الأوصاف من موسى.
أما قوله فی النص «فالخلیفة صاحب السیف و العزل والولایة» فإنه لا یمثل على وجه التحقیق نظریته العامة فی الخلافة، کما شرحها فی الفص الأول على الأقل.
فإنه هنالک یعد الإنسان من حیث هو إنسان، و الإنسان الکامل بوجه خاص (ممثلًا فی صورة آدم) خلیفة اللَّه فی أرضه.
و یستعمل فی مواضع أخرى (الفص السابع عشر مثلًا) کلمة الخلافة مرادفة لکلمة الولایة بمعناها الواسع الذی شرحناه.
(17) «و أما حکمة سؤال فرعون عن الماهیة الإلهیة فلم یکن عن جهل و إنما کان عن اختبار».
(17) سأل فرعون موسى فی معرض المحاجة و الجدل فقال «وَ ما رَبُّ الْعالَمِینَ» (الشعراء آیة 23).
و السؤال «بما» سؤال عن الماهیة، فکأنه بذلک أراد أن یظهر موسى أمام قومه بمظهر العجز: لأن السؤال عن الماهیة الإلهیة لا جواب له کما سیتضح فیما بعد.
و لم تخف على فرعون الحقیقة: أی أنه لم یکن یجهل أن اللَّه لا یُسْأل عن ماهیته لأنه لا یمکن وضع تعریف له و لکنه أراد إحراج موسى و اختباره لمعرفة صدق دعواه.
لذلک سأل هذا السؤال، و هو سؤال إیهام، لیظهر للحاضرین من قومه ما انطوت علیه نفسه من إیراد مثل هذا السؤال، أعنی إظهار عجز موسى.
و السؤال الذی سأله فرعون محتمل إجابتین:
الأولى أن یقول موسى إن الماهیة الإلهیة لا تُعْرف،
والثانیة أن یقول کما قال «رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَیْنَهُمَا إِنْ کُنْتُمْ مُوقِنِینَ».
و فی کلتا الحالتین یستطیع فرعون أن یظهر لقومه أن موسى لم یجب، فیکون فی ذلک انتصاره علیه.
هذه هی خلاصة المسألة کما یبسطها المؤلف.
ومراده منها أن یظهر أن الحقیقة الإلهیة بسیطة لا تقبل التعریف، وأن کل ما یقبل التعریف مرکب من الجنس و الفصل کما نقول فی «الإنسان» إنه «الحیوان الناطق»، فندخله فی جنسه القریب الحیوان و نمیزه عن غیره من الأنواع الأخرى المشترکة معه فی ذلک الجنس بأن نضیف إلى الجنس الفصلَ النوعی الذی هو «الناطق».
والحقیقة الإلهیة لا جنس لها، إذ لا یشترک معها غیرها فی حقیقتها، وإذن فلا تعریف لها.
فلم یبق إلا أن یعرَّف الحق بمثل ما عرَّفه به موسى: أی بإظهار لوازمه البیِّنة وهی العالم.
ولذلک قال: «رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَیْنَهُمَا»، أی الظاهر أثره فی السموات- وهی کل ما علا- والأرض، وهی کل ما سفل، وما بینهما:
أی ما کان وسطاً بین العلو والسفل وهو عالم المثال.
وبذلک حصر جمیع الموجودات الروحیة و المادیة. وقال فیما بعد «رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَیْنَهُما» للدلالة على ما ظهر وما بطن من أنواع الوجود.
فلم تکن إجابة موسى إجابة عن ماهیة الذات الإلهیة، بل عن هذه الذات من حیث ما ظهرت به، أو ظهرت فیه، من صور العالم.
ولم یأت موسى ببیان لحقیقة الحق على نحو ما یتوقع أهل النظر والمنطق، وإنما أبان هذه الحقیقة على نحو ما یفهمه أهل الحق.
والسؤال عن الماهیة سؤال عن الحقیقة، و لیس من اللازم أن من لا تخضع ماهیته لتعریف أهل النظر یکون لا حقیقة له.
(18) «فقال رب المشرق و المغرب، فجاء بما یظهر و یستر، و هو الظاهر و الباطن. و ما بینهما: و هو قوله «بِکُلِّ شَیْءٍ عَلِیمٌ». «إِنْ کُنْتُمْ تَعْقِلُونَ».
(18) مزج آیتین مختلفتین و فسر إحداهما بالأخرى تفسیراً لا یبرره إلا حرصه على استخراج فکرة وحدة الوجود من القرآن مهما یکن الثمن.
والآیة الأولى هی الواردة فی رد موسى على سؤال فرعون عن الماهیة الإلهیة و نصها «رَبُّ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ ما بَیْنَهُما إِنْ کُنْتُمْ تَعْقِلُونَ»
والثانیة هی قوله تعالى «وَ الظَّاهِرُ وَ الْباطِنُ وَ هُوَ بِکُلِّ شَیْءٍ عَلِیمٌ».
والمراد بالمشرق فی نظر ابن العربی کل ما ظهر من الوجود، و بالمغرب کل ما خفی، و بما بینهما، ما هو بین الخفاء و الظهور.
فکما قال فی الآیة السابقة إن اللَّه هو «رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَ ما بَیْنَهُمَا» بمعنى أنه الظاهر فی صور جمیع مراتب الوجود عالیها و سافلها، قال هنا إنه «رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَیْنَهُما»: أی الظاهر فی صور الوجود ظاهرها وخفیها.
وقد قال فی الأولى «إِنْ کُنْتُمْ مُوقِنِینَ» أی أصحاب علم یقینی، وهو الذی یسمیه علم الکشف و الوجود. و قال فی الثانیة «إِنْ کُنْتُمْ تَعْقِلُونَ» أی أصحاب عقل وتقیید (لأنه یفهم العقل من عَقَلَ بمعنى قید).
فکأن الآیة الأولى تعطی إطلاق الحق، و هو ما یقول به أهل الکشف.
و الثانیة تعطی تقییده، و هو ما یقول به أهل العقل.
ولکنی لا أرى فرقاً بین الآیتین من حیث دلالتهما على الإطلاق و التقیید، فکلتاهما تصلح لما تصلح له الأخرى.
أما الفرق الحقیقی فبین أن یقال إن ذات الحق منزهة عن کل تعریف و کل تحدید، و فی هذا معنى الإطلاق، و أن یقال إنه رب السموات و الأرض، أو رب المشرق و المغرب بمعنى أنه الظاهر فی السموات و الأرض و فی المشرق و المغرب، و فی هذا معنى التحدید.
أما قوله «و هو قوله بِکُلِّ شَیْءٍ عَلِیمٌ»: فمعناه أن قوله «رَبُّ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ ما بَیْنَهُما» یشبه قوله «وَ هُوَ بِکُلِّ شَیْءٍ عَلِیمٌ»: لأن علمه محیط بکل شیء، و الشیء یشمل الظاهر و الباطن من الموجودات، و هو ما أشار إلیه بالمشرق و المغرب.
أما «أهل الکشف و الوجود» فهم العارفون أهل الذوق.
وقد سماهم أهل وجود إما بمعنى أنهم یعرفون الوجود الظاهر الذی هو العالم الخارجی إلى جانب ما یکشف لهم من أسرار الغیب.
فهم أهل کشف ووجود أی أهل معرفة ذوقیة بحقائق الأشیاء، وأهل علم بالعالم الظاهر.
وإما أن یکون معنى الوجود «وجود الحق أی معرفته.
فهم أهل کشف و وجود أی فیهم القوة على کشف الحقائق و معرفة اللَّه.
وللصوفیة «حال» یسمونها «الوجود»، وهی حال تعقب حال الوجد.
ففی الوجد یکون الصوفی فانیاً عن نفسه، وفی «الوجود» یکون فی حالة بقاء مع ربه، أی حالة شعور بالحق لا یفرق فیه بین ذاته المدرِکة والموضوع المدرَک.
وفی هذه الحال یقول الصوفی إنه وَجَدَ الحق ، وهی الحال التی یسمونها حال الصحو بعد المحو،
وفیها یقول ابن الفارض:
ففی الصحو بعد المحو لم أک غیرها .... و ذاتی بذاتی إذ تحلت تجلت
(19) «فلما جعل موسى المسئول عنه عَینَ العالم ... إلى قوله بما یقبله الموقن و العاقل خاصة».
(19) لعل هذا الجزء من الفص أصعب ما فیه، لا من حیث موضوعه، فإنه لم یخرج عن دائرة وحدة الوجود التی یشرحها على لسان موسى تارة و لسان فرعون تارة أخرى بل من حیث الطریقة الملتویة التی یلجأ إلیها فی تفسیر الآیات القرآنیة و التعلیق علیها لیخرج من کل ذلک بفکرته کاملة غیر منقوصة فی وحدة الوجود، مع المحافظة فی الشکل على مسرح القصة القرآنیة و ما دار فیها من حدیث بین موسى و فرعون.
فسَّر قول موسى لفرعون إن اللَّه هو «رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَیْنَهُمَا» تفسیراً یتفق مع فکرته فی وحدة الوجود کما أسلفنا، لأنه أولها بمعنى أن اللَّه هو الظاهر فی صورة ما فی السموات و الأرض و ما بینهما: أی بصورة العالم.
ومهد بذلک لتفسیر دعوى فرعون الألوهیة، و لکل ما جرى بینهما بعد ذلک من حدیث.
قال فرعون لموسى «لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَیْرِی لَأَجْعَلَنَّکَ مِنَ الْمَسْجُونِینَ»، فیسلم ابن العربی بادعاء فرعون الألوهیة.
وکیف لا یکون فرعون إلهاً وهو جزء من العالم الذی قال إنه صورة اللَّه؟ إن فرعون و غیره من المحدثات صور الحق فی الوجود الظاهری.
ولصورة فرعون مرتبة أعلى من مرتبة صورة موسى فی ذلک المقام الخاص الذی کانا یتحدثان فیه، لأنه أعطِیَ الحکم و المُلک و التصرف فیمن دونه من الناس الذین قلَّت مراتبهم عن مرتبته. فالعین واحدة فی الجمیع و لکنها متکثرة بالمراتب.
ومرتبة فرعون أعلى من غیرها، و لذلک قال «أَنَا رَبُّکُمُ الْأَعْلى».
قال فرعون لموسى «لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَیْرِی لَأَجْعَلَنَّکَ مِنَ الْمَسْجُونِینَ».
وظاهر هذه الآیة یعطی معنى الوعید، و لکن ابن العربی یقلب معنى الآیة رأساً على عقب فیقول إن «السین» فی مسجونین من حروف الزوائد،
ومعنى «لَأَجْعَلَنَّکَ مِنَ الْمَسْجُونِینَ» لأسترنک: لأن لسان الباطن فی نظره یقتضی أن یُقرأ القرآن هکذا.
فبعد حذف السین لا یبقى إلا مادة الجیم والنون التی معناها الستر والإخفاء وبهذا انقلب وعید فرعون لموسى وعداً، وتهدیده له بالسجن حمایة ووقایة، جزاءاً لموسى على ما مهد به لفرعون من ادعاء الألوهیة.
ویجدر بی أن أقتبس هنا کلام القاشانی فی شرح هذه الفقرة لأهمیته.
قال: «المراد بهذا اللسان لسان الإشارة، فإن فرعون کان غالیاً من غلاة الموحدة، عالیاً من المسرفین فی دعواه، من جملة من قال علیه السلام عنه «شر الناس من قامت القیامة علیه و هو حی»: أی وقف على سر التوحید و القیامة الکبرى قبل فناء إنِّیَّته و موته الحقیقی فی اللَّه.
وهو یدعی الإلهیة بتعینه، و یدعو الخلق إلى نفسه لتوحیده العلمی لا الشهودی الذوقی.
وهو یعلم لسان الإشارة. فلما علم أن موسى موحِّد ناطق بالحق افترص فرصة دعوى الألوهیة لأن غیر الحق ممتنع الوجود ... فرتبة الحق الظاهر فی صورة فرعون له التحکم فی ذلک المجلس [مجلس فرعون و موسى] على الرتبة الموسویة. فأیَّده جواب موسى بلسان التوحید وقواه على دعواه مع إظهار السلطنة و القدرة بحسب الرتبة فقال له ما قال» (شرح القاشانی على الفصوص ص 417).
قال اللَّه تعالى فی حق قوم فرعون «فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ، إِنَّهُمْ کانُوا قَوْماً فاسِقِینَ» (الزخرف آیة 54) یقول ابن العربی «فاسقین» أی خارجین عما تعطیه العقول الصحیحة من إنکار ما ادعاه فرعون باللسان الظاهر فی العقل.
ومعنى هذا أن فسق قوم فرعون إنما کان فی خروجهم عما یحکم به العقل الصحیح.
والعقل الصحیح ینکر مقالة فرعون فی ادعائه الألوهیة، إذ العقل یتبع لسان الظاهر ولا یعرف غیره. ودعوى فرعون الألوهیة غیر مقبولة فی نظر العقل وإن کانت مقبولة فی نظر الکشف والذوق الصوفی، فإن للعقل حداً یقف عنده یتجاوزه أصحاب الکشف والیقین.
وهذا التجاوز هو الخروج الذی فسر به الفسوق. فمن قوم فرعون من کان من الموقنین أهل الکشف و الذوق- و هم الفاسقون بالمعنى الذی شرحناه- و منهم العاقلون أهل العقل و النظر: ولهذا جاء موسى ... فی جوابه عن سؤال فرعون بما یقبله الموقن والعاقل.
(20) «فَأَلْقى عَصاهُ و هی صورة 63 - 64 ما عصى به فرعون موسى ... إلى قوله فظهر الحکم هنا عیناً متمیزة فی جوهر واحد».
(20) لیست عصا موسى إلا صورة و رمزاً لعصیان فرعون و امتناعه عن أن یجیب دعوة موسى. أما انقلابها «حیة» فهو أیضاً رمز لانقلاب عصیان فرعون طاعة فکأن نفس فرعون العاصیة الأمارة بالسوء قد انقلبت إلى نفس طیعة مطمئنة،
لأنها انقلبت حیة، و الحیة من الحیاة، و الحیاة هنا حیاة العلم و العرفان. و کما أن اللَّه تعالى یقول: «یُبَدِّلُ اللَّهُ سَیِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ»، أی یورد الحکم بالحسن و السوء على الفعل الواحد- لأن الفعل فی ذاته لا یوصف بالحسن و لا بالقبح- و إنما تختلف أحکامنا علیه- کذلک قلْبُ معصیة فرعون طاعة. أی أورد اسم المعصیة على فرعون من وجه، و اسم الطاعة علیه من وجه آخر. وهو هو لم یتغیر.
و کذلک قلب عصا موسى حیة فی اللسان الرمزی، أی سماها عصا فی صورة، و حیَّةً فی صورة أخرى. و جوهرها واحد لم یتغیر إلا فی الحکم.
وخلاصة القول أن فرعون لم یعص موسى إلا فی الصورة، بل لم یکن عصیانه إلا عین الطاعة: لأن العصیان و الطاعة مظهران لحقیقة واحدة، کما أن عصا موسى و حیته لم یکونا إلا مظهرین و صورتین لجوهر واحد.
فلم یختلف عصیان فرعون عن الطاعة الحقیقیة إلا بمقدار ما اختلفت عصا موسى عن الحیة التی تحولت تلک العصا إلیها.
والحقیقة أنه لیس هناک تحول و لا انقلاب و إنما هو تغیر فی الصور.
والظاهر أن القاشانی (ص 419) یفهم کلمة «الحکم» فی النص بمعنى الأمر والنهی.
فکأنه یرید أن یقول إن اللَّه أمر عصا موسى أن تکون عصاً فکانت، ثم أمرها أن تنقلب حیة فانقلبت حیة، و هی جوهر واحد فی کلتا الحالتین لم یتغیر.
أما الذی شاهده قوم فرعون فی الخارج فهو حکم اللَّه.
وبهذا فهم قول المؤلف «فظهر الحکم هنا عیناً متمیزة فی جوهر واحد».
ولکنی فهمت «الحکم» فی هذه الفقرة بمعنى الوصف الذی نورده على الأشیاء.
فنحن الذین سمینا عصاً موسى عصا فی صورتها الأولى، و سمیناها حیة فی صورتها الثانیة، و هی جوهر واحد لم یتغیر.
و کذلک نسمی الکثرة الوجودیة فی الکائنات کلًّا منها باسمه الخاص مع أنها فی الحقیقة جوهر واحد.
(21) «فإن الأسباب لا سبیل إلى تعطیلها لأن الأعیان الثابتة اقتضتها ... إلى قوله سوى أعیان الموجودات».
(21) تکلم عن الأسباب فی معرض کلامه عن أعمال فرعون من صلبه الناس و تقطیعه أیدیهم وأرجلهم.
ورأیه أن الذی فعل کل هذا إنما هو الحق الظاهر بصورة فرعون، لأن الحق هو الفاعل على الحقیقة فی صورة کل ما له فعل، إذ هو القائل عن نفسه: «وَما رَمَیْتَ إِذْ رَمَیْتَ وَ لکِنَّ اللَّهَ رَمى» (الأنفال آیة 17).
وهذا یثبت فی نظر أصحاب وحدة الوجود أمثال ابن العربی، أن الحق هو الفاعل لکل شیء فی صورة کل شیء.
فإذا نسبنا الأفعال إلى الصور الوجودیة التی هی أعیان الممکنات سمیناها أسباباً، وإذا نسبناها إلى الفاعل الحقیقی الذی هو الحق لم نتکلم عن الأسباب.
فالمراد بالأسباب هنا العلل الجزئیة التی تحدث أَثرها بین موجود و موجود فی داخل الوجود الکلی العام. أما ذلک «الکل» فلا سبب له، أی لا علة لوجوده.
و لا سبیل لتعطیل الأسباب لأنها من مقتضیات العلم الإلهی القدیم، أی من مقتضیات أعیان الأشیاء الثابتة فی العلم الإلهی الأزلی، لأن کل ما یظهر فی الوجود یتعین على النحو الذی کان علیه فی الثبوت تلک کلمات اللَّه التی لا تتبدل، و کلمات اللَّه هی أعیان الموجودات الثابتة.
و هنا یصرح ابن العربی بقدم العالم تصریحاً لا یقل عن تصریح فلاسفة المشاءین، و إن کان یختلف عنهم فی تفسیر العلاقة بین الحق و الخلق.
فأعیان الموجودات فی مذهبه قدیمة من حیث ثبوتها، و ینسب إلیها الحدوث من حیث وجودها.
و یمثل لذلک بمجی ء ضیف فی وقت معین، فإننا نقول «حدث عندنا الیوم ضیف»، و لا یلزم من حدوثه أنه لم یکن له وجود من قبل.
و کذلک یمثل بما ذکره اللَّه تعالى فی «إتیان کلامه» إلى الناس مع أن کلامه قدیم.
قال تعالى: «ما یَاتِیهِمْ مِنْ ذِکْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَ هُمْ یَلْعَبُونَ» (الأنبیاء آیة 2)، و قال: «وَ ما یَاتِیهِمْ مِنْ ذِکْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا کانُوا عَنْهُ مُعْرِضِینَ» (الشعراء آیة 4). هذه کلها أمثلة یسوقها لیفسر بها ما یقصده من معنى الحدوث.
فالعالم قدیم لأن له عیناً ثابتة فی الأزل، بل هو قدیم قدم الذات الإلهیة الظاهرة فی صوره، و حادث لتجدد هذه الصور و اختلافها علیه، بل هو کلَّ آن فی خلق جدید.
و یجب أن نلاحظ الفرق بین ما یقوله أهل السنة و الجماعة من وجود الأشیاء أزلا فی العلم الإلهی القدیم و ثبوتها فی أم الکتاب أو فی اللوح المحفوظ، و بین ما یقوله أصحاب وحدة الوجود من وجود الأشیاء فی أعیانها الثابتة التی هی فی الحقیقة عین الذات الإلهیة.
و قول هؤلاء الأخیرین یعتمد على نظریتهم فی أن المعدوم (الذی لیس له وجود خارجی) شیء ثابت فی العدم، و هو رأی یشارکهم فیه کثیر من المعتزلة و الرافضة.
(22) «ثم لتعلم أنه ما یقبض اللَّه أحداً إلا و هو مؤمن ...... و أعنی من المحتضرین».
(22) لما فرغ من الکلام عن فرعون و أثبت بطریقته الخاصة أنه مات مؤمناً، جره ذلک إلى الخوض فی الموت على الإیمان أو الکفر إطلاقاً. و قد فرق بین نوعین من الناس: من یموتون میتة احتضار، و من یموتون میتة فجأة أو غفلة.
و الأولون یموتون على الایمان، و منهم فرعون- لأن المحتضر یکشف له عن حقیقة الأمر و یعلم ما أعد له من مکان فی الجنة أو فی النار، و یعلم جمیع أحوال الآخرة (بالمعنى الخاص الذی یعطیه ابن العربی للجنة و النار و الدار الآخرة).
و لا بد من إیمانه لأنه لا یمکن أن یبقى على الکفر و الضلال بعد أن انکشف عنه الغطاء و احتد البصر.
قال تعالى: «فَکَشَفْنا عَنْکَ غِطاءَکَ فَبَصَرُکَ الْیَوْمَ حَدِیدٌ» (سورة ق آیة 22).
فلا یقبض المحتضر إلا على ما کان علیه من الایمان کما یقول الحدیث «و یحشر على ما علیه مات».
یقول المؤلف «کان» کلمة وجودیة تدل على ثبوت الخبر للاسم و وجوده لا فی زمان خاص، و لا تدل على الزمان إلا بقرائن الأحوال.
فإذا قال الشیخ کنت صبیاً، أو قال الفقیر کنت غنیاً، دلت على الزمان الماضی.
أما إذا قال اللَّه تعالى: «وَ کانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِیماً» ، فمعناه حصول نسبة الغفران و الرحمة إلى اللَّه.
فقوله یقبض على ما کان علیه معناه و یقبض على ما هو علیه: أی على الحال التی هو علیها قبل موته مباشرة.
و بذلک یفرق بین الکافر المحتضر و الکافر المقتول غفلة أو المیت فجاءة، و یعد فرعون من النوع الأول.
(23) «و أما حکمة التجلی و الکلام فی صورة النار فلأنها کانت بغیة موسى».
(23) طلب موسى النار فظهر له الحق فی صورتها التی أشار إلیها فی قوله لأهله:
«امْکُثُوا إِنِّی آنَسْتُ ناراً لَعَلِّی آتِیکُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً» (طه آیة 10).
وقد تجلى له الحق فی صورة النار لأنها عین مطلوبه أولًا، و لأن النار رمز القهر و المحبة ثانیاً.
أما أنها رمز القهر فلأنها تفنی کل ما اتصل بها و تحوله إلى طبیعتها.
وکذلک الحق یفنى فیه کل ما اتصل به، أی کل من تحقق من وحدته الذاتیة به. أما أنها رمز المحبة فلأنها مصدر النور المحبوب لذاته.
و لکن شهود موسى للحق فی صورة النار لم یکن شهوداً کاملًا، لأن الحق کلمة فی ذلک المقام بقوله: «إِنِّی أَنَا رَبُّکَ فَاخْلَعْ نَعْلَیْکَ إِنَّکَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً» (طه آیة 12)،
و مقام المکالمة یقتضی الاثنینیة، أما مقام الشهود الحقیقی فیقتضی فناء المشاهد فی المشاهَدِ، و هو المشار إلیه بقوله تعالى: «قالَ رَبِّ أَرِنِی أَنْظُرْ إِلَیْکَ، قالَ لَنْ تَرانِی ... فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَکًّا وَ خَرَّ مُوسى صَعِقاً». (الأعراف آیة 142).
و لیس موسى وحده هو الذی تجلى له الحق فی صورة مطلوبة، فإن الحق یتجلى لکل منا فی صورة ما یحب، و صورة الحب هی صورة الاعتقاد کما ذکرنا (التعلیقات 5، 6، 7 على الفص الهارونی، و التعلیق 12 على الفص الموسوی).
فهو یتجلى فی صور الاعتقاد و یعبد فیها، أو یحب فیها، لأن الحب هو أساس العبادة و المطلوب لذاته عند الجمیع.