عرفان شیعی

عرفان اسلامی در بستر تشیع

عرفان شیعی

عرفان اسلامی در بستر تشیع

الفقرة السادسة والثلاثون :


کتاب تعلیقات د أبو العلا عفیفی على فصوص الحکم الشیخ الأکبر ابن العربی 1385 هـ :

27 - فص حکمة فردیة فی کلمة محمدیة

الفص السابع والعشرون حکمة فردیة فی کلمة محمدی


(1) حکمة فردیة فی کلمة محمدیة «الکلمة المحمدیة».

(1) شاع من أوائل عهد الإسلام القول بأزلیة محمد علیه السلام، أو بعبارة أدق بأزلیة «النور المحمدی».

و هو قول ظهر بین الشیعة أولًا و لم یلبث أهل السنة أن أخذوا به، و استند الکل فی دعواهم إلى أحادیث یظهر أن أکثرها موضوع. من ذلک أن النبی (صلى اللَّه علیه و سلم) قال: «أنا أول الناس فی الخلق» و منها: «أول ما خلق اللَّه نوری»،

و منها: «کنت نبیاً و آدم بین الماء و الطین» و غیر ذلک من الأحادیث التی استنتجوا منها أنه کان لمحمد علیه السلام وجود قبل وجود الخلق، و قبل وجوده الزمانی فی صورة النبی المرسل، و أن هذا الوجود قدیم غیر حادث، و عبروا عنه بالنور المحمدی.

و قد أفاضت الشیعة فی وصف هذا النور المحمدی، فقالوا إنه ینتقل فی الزمان من جیل إلى جیل، و أنه هو الذی ظهر بصورة آدم و نوح و إبراهیم و موسى و غیرهم من الأنبیاء ثم ظهر أخیراً بصورة خاتم النبیین محمد علیه السلام.

و بهذا أرجعوا جمیع الأنبیاء من آدم إلى محمد، و کذلک ورثة محمد إلى أصل واحد.

و هو قول نجد له صدى فی الغنوصیة المسیحیة.

یقول الأب کلیمنت الاسکندری: «لیس فی الوجود إلا نبی واحد و هو الإنسان الذی خلقه اللَّه على صورته، و الذی یحل فیه روح القدس، و الذی یظهر منذ الأزل فی کل زمان بصورة جدیدة».

نجد لکل هذا الکلام نظیراً فی کتب ابن العربی فیما یسمیه الکلمة المحمدیة أو الحقیقة المحمدیة أو النور المحمدی.

فهو لا یقصد بالکلمة المحمدیة فی هذا الفص محمداً الرسول، و إنما یقصد الحقیقة المحمدیة التی یعتبرها أکمل مجلىً خَلْقِیّ ظهر فیه الحق، بل یعتبره الإنسان الکامل و الخلیفة الکامل بأخص معانیه.

و إذا کان کل واحد من الموجودات مجلى خاصاً لبعض الأسماء الإلهیة التی هی أرباب له، فإن محمداً قد انفرد بأنه مجلى للاسم الجامع لجمیع تلک الأسماء، و هو الاسم الأعظم الذی هو «اللَّه».


و لهذا کانت له مرتبة الجمعیة المطلقة، و مرتبة التعین الأول الذی تعینت به الذات الأحدیة، إذ لیس فوقه إلا هذه الذات المنزّهة فی نفسها عن کل تعین و کل صفة و اسم و رسم.

و لهذه الحقیقة المحمدیة التی هی أول التعینات- و إن شئت فقل أول المخلوقات- وظائف أخرى ینسبها إلیها ابن العربی.

فهی من ناحیة صلتها بالعالم مبدأ خلق العالم، إذ هی النور الذی خلقه اللَّه قبل کل شیء و خلق منه کل شیء.

أو هی العقل الإلهی الذی تجلى الحق فیه لنفسه فی حالة الأحدیة المطلقة، فکان هذا التجلی بمثابة أول مرحلة من مراحل التنزّل الإلهی فی صور الوجود.

فلما انکشفت له حقیقة ذاته و کمالاتها، و ما فیها من أعیان الممکنات التی لا تحصى، أحب إظهار کمالاته فی صور تکون له بمثابة المرایا التی یرى فیها نفسه، فکانت أعیان الممکنات الخارجیة تلک المرایا.


و من ناحیة صلة الحقیقة المحمدیة بالإنسان، یعتبرها ابن العربی صورة کاملة للإنسان الکامل الذی یجمع فی نفسه جمیع حقائق الوجود، و لذلک یسمیها آدم الحقیقی، و الحقیقة الانسانیة.

و یعدها من الناحیة الصوفیة مصدر العلم الباطن، و منبعه، و قطب الأقطاب. قارن کذلک الفص الشیثی للمؤلف، و طاسین السراج من کتاب الطواسین للحسین بن منصور الحلاج.

فی هذا الوصف الاجمالی لما یسمیه ابن العربی «الکلمة المحمدیة»، أو الحقیقة المحمدیة، عناصر مختلفة مستمدة من الفلسفة الأفلاطونیة الحدیثة، و الفلسفة المسیحیة و الیهودیة، مضافاً إلى ذلک بعض أفکار من مذهب الاسماعیلیة الباطنیة و القرامطة.

مزج جمیع تلک العناصر على طریقته الخاصة، فضیع بذلک معالم الأصول التی أخذ عنها، و خرج على العالم بنظریة فی طبیعة الحقیقة المحمدیة، لا تقل فی خطرها و أهمیتها فی تاریخ الأدیان عن النظریات التی وضعها المسیحیون فی طبیعة المسیح، أو النظریات الیهودیة أو الرواقیة، أو الیونانیة التی تأثرت بها النظریة المسیحیة.



هذا هو ما یقصده ابن العربی بالکلمة المحمدیة، و هی شیء یختلف تمام الاختلاف عن شخصیة النبی محمد صلى اللَّه علیه و سلم، بل لیس بینهما من الصلة إلا ما بین الحقیقة المحمدیة و أی نبی من الأنبیاء أو رسول من الرسل أو ولی من الأولیاء.

فالکلمة المحمدیة إذن شیء میتافیزیقی محض خارج عن حدود الزمان و المکان.

أو قل إن شئت هی الحق ذاته ظاهراً لنفسه فی أول تعین من تعیناته فی صورة العقل الحاوی لکل شیء، المتجلی فی کل کائن عاقل.

و لیس هذا الاختصاص لغیر الکلمة المحمدیة، و من هنا کانت فردیة الحکمة المحمدیة کما یشیر إلى ذلک عنوان الفص.

و قد وردت تسمیة هذه الحکمة بالحکمة الکلیة أیضاً فی بعض النسخ، و لیس لها معنى إلا ما ذکرنا.


(2) «و لهذا بدى ء به الأمر و ختم».

(2) یدل کلام المؤلف الآتی بعد ذلک مباشرة على أن المراد بکلمة «الأمر» هنا أمر الرسالة، لأنه یقول: فکان نبیاً و آدم بین الماء و الطین، ثم کان بنشأته العنصریة خاتم النبیین.

ولکن الأوْلى أن نفهم من قوله «کنت نبیاً وآدم بین الماء والطین» الإشارة إلى أسبقیة وجود آدم، لا من حیث نبوته، بل من حیث مطلق ووجوده.

أی أن المراد الإشارة إلى أن الروح المحمدی أول موجود. وبذلک یکون معنى قوله بدىء به الأمر و ختم، بدى ء به أمر الوجود وختم به أمر الرسالة.

هذا، و قد شاع بین جمهور الصوفیة الاستدلال بالحدیث: «کنت نبیاً و آدم بین الماء والطین» على أزلیة محمد (الحقیقة المحمدیة)، و لکن الغزالی یخالفهم فی ذلک قائلًا إن المراد من الحدیث النص على أن النبی علیه السلام قد قدر له أزلًا أن یکون نبیاً قبل أن یخلق اللَّه آدم أو أی مخلوق آخر. و تفسیر الغزالی لا یبین جهة الاختصاص فی حالة النبی علیه السلام، لأن کل نبی آخر قد قدر له أزلًا أن یکون نبیاً قبل خلق آدم.


 

(3) «وأول الأفراد الثَلاثةُ ...... إلى قوله و الدلیل دلیل لنفسه».

(3) أول الأعداد الفردیة هو الثلاثة لا الواحد، لأن الواحد عندهم لیس بعدد و إنما هو أصل الأعداد.

وما زاد على الثلاثة من الأعداد الفردیة فهو متفرع عنها، کالخمسة المتفرعة عن الثلاثة بإضافة جزئین منها إلا نفسها، و التسعة المتفرعة عن الثلاثة بضربها فی نفسها وهکذا.

وعلى أساس هذه الفکرة العددیة بنى ابن العربی فکرة میتافیزیقیة موازیة لها، لا فیما یذکره عن «محمد» باعتباره مظهراً للاسم الإلهی «الفرد»، بل فی کل ما یقوله عن عملیة الخلق التی یرجعها إلى الفردیة الثلاثة.

فأول صورة تعینت فیها الذات الإلهیة کانت ثلاثیة، لأن التعین کان فی صورة العلم حیث العلم و العالِم و المعلوم حقیقة واحدة. و قد کان هذا التعین الأول تعیناً حُبیًّا أیضاً، حیث الحب و المحب و المحبوب حقیقة واحدة، و إلى هذا أشار ابن العربی فی قوله:


تثلث محبوبی و قد کان واحداً .....  کما صیروا الأقنام بالذات أقنما. راجع ترجمان الأشواق ط. بیروت 1312 هـ ص 42. قارن الفتوحات ج 3 ص 171.

وأول حضرة إلهیة ظهر عنها العالم ثلاثیة أیضاً، لأنها حضرة الذات الإلهیة المتصفة بجمیع الأسماء و الصفات، وهی التی تسمى فی اصطلاح القوم «حقیقة الحقائق» و «البرزخ الجامع» وغیر ذلک من الأسماء. وعملیة الخلق أیضاً ثلاثیة، لأنها تقتضی

وجود الذات الإلهیة و الإرادة و قول کن. قال تعالى: «إِنَّما قَوْلُنا لِشَیْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ کُنْ فَیَکُونُ».  راجع الفص 12، التعلیق الثالث.

و هذا یقتضی وجود فردیة ثلاثیة فی الشیء المخلوق لکی یتم خلقه، لأنه یقتضی شیئیة الشیء المخلوق و سماعه أمر التکوین و امتثاله ذلک الأمر.

هکذا ینظر ابن العربی إلى التثلیث، و یعتبره المحور الذی تدور حوله رحى الوجود، و الأساس الذی ینبنی علیه الخلق و الإنتاج أیاً کان نوعه، أی سواء أ کان فی العالم المادی أم فی العالم الروحی أم فی عالم المعانی.


ولذلک ذکر الدلیل المنطقی- وهو القیاس- و قال إنه ینتج لأنه ثلاثی الترکیب، فإنه لا بد فیه من ثلاثة حدود هی الحد الأکبر والحد الأصغر والحد الأوسط، وثلاث قضایا هی المقدمة الکبرى والمقدمة الصغرى والنتیجة.

ولما کان الدلیل ثلاثی الترکیب، وکانت دلالته على مدلوله ذاتیة مباشِرَةً من غیر حاجة إلى شیء آخر خارج عنه، وهو المراد بقوله: «و الدلیل دلیل لنفسه»، شَبَّه الحقیقة المحمدیة المثلثة الأرکان، من حیث دلالتها على ربها، بالدلیل المنطقی المثلث الأرکان، من حیث دلالته على مدلوله.

والحقیقة المحمدیة أول دلیل على ربها، لأنها المظهر المعقول الجامع لجمیع حقائق الأسماء الإلهیة، الظاهرة فی الجنس البشری، بل فی العالم أجمع.

وإذا کان کل موجود دلیلًا على ربه من حیث هو مظهر خارجی تتجلى فیه کمالات ربه، فمحمد أول دلیل على ربه، لأنه الصورة الجامعة التی تتجلى فیها کل هذه الکمالات.


قال تعالى: «وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ کُلَّها» (البقرة آیة 30): ومعنى علمه الأسماء کلها فی عرف ابن العربی أظهر فیه معانی الأسماء الإلهیة کلها.

أما محمد (الحقیقة المحمدیة) فقد أعطی حقائق تلک الأسماء، و هی التی یشیر إلیها ابن العربی بجوامع الکلم.


فإذا کان آدم هو الإنسان الظاهر المتعین بالوجود الخارجی فی صور أفراده، فمحمد هو الإنسان الباطن المتعین فی العالم المعقول.

و قد اختلف شراح الفصوص فی تفسیر قوله: «و الدلیل دلیل لنفسه». ف

یقول القیصری (ص 293) «اللام فی الدلیل للعهد، أی هذا الدلیل الذی هو الروح المحمدی هو دلیل على نفسه فی الحقیقة، لیس بینه و بین ربه امتیاز إلا بالاعتبار و التعین.

فلا غیر لیکون الدلیل دلیلًا له»: أی أن الحقیقة المحمدیة لیست دلیلًا على ربها، بل هی دلیل على نفسها، لأنها هی و الحق حقیقة واحدة لا فرق بینهما إلا بالاعتبار.

و یذهب «بالی» إلى أن اللام فی کلمة «الدلیل» للاستغراق لا للعهد، أی فکل فرد من أفراد الدلیل أو نوع من أنواعه دلیل على الرب من حیث هو دلیل على النفس.

و بهذا نفهم معنى الحدیث «من عرف نفسه فقد عرف ربه» (بالی ص 420 - 421).

أما «جامی» فیفسرها بقوله «و الدلیل- أی دلیل کان- فإنما هو دلیل لنفسه، أی دلالته على مدلوله ذاتیة لا یُحتاج فیها إلى ما سواه، و کذلک دلالته صلى اللَّه علیه و سلم ذاتیة لا احتیاج له فیها إلى غیره بخلاف سائر الموجودات».

و هذا هو التفسیر الذی أخذت به. (راجع شرح جامی على الفصوص ج 2 ص 336).


(4) «و معرفة الإنسان بنفسه مقدَّمة على معرفته بربه ... إلى قوله فافهم».

(4) مقدَّمة معناها متقدمة سابقة على معرفته بربه. و قد ذاع بین الصوفیة الاستشهاد بما ادعوا أنه حدیث نبوی، و هو قوله علیه السلام «من عرف نفسه فقد عرف ربه»، و أکثروا القول فیه و التعلیق علیه.

أما ابن العربی فیفهم هذا الحدیث فهماً خاصاً یتمشى مع مذهبه فی وحدة الوجود. فلیست معرفة الإنسان بنفسه وسیلة لمعرفته بربه من حیث إنه یدرک قدرة اللَّه و عظمته عن طریق إدراکه لنفسه، و ما أودع اللَّه فیها من أسرار الخلق و عجائبه.

بل إنه یعرف ربه بمعرفته نفسه، و یجهل من ربه بمقدار ما یجهل من نفسه، لأن نفسه هی المظهر الخارجی لربه، أو هی المرآة التی یتجلى فیها ربه فیراه و یدرکه.

و المراد بالرب هنا الحق المتجلی بالأسماء الإلهیة فی صور أعیان الممکنات لا الحق من حیث هو فی ذاته بعیداً عن کل تعین، و کل نسبة، أو إضافة إلى العالم، فإنه من هذه الناحیة غنی عن العالمین، منزه عن کل معرفة و إدراک.

أما الحق الذی یعرف و یدرک فهو الحق الظاهر، و لیس الحق الظاهر سوى العالم: و نفس الإنسان جزء من العالم بل أکمل جزء فیه. فمن عرف نفسه عرف ربه على هذا المذهب معناه عرف الحق الظاهر فی نفسه.

و لکن هل یعرف الإنسان نفسه على وجه الحقیقة؟

إذا کان الجواب بالإیجاب، قلنا بإمکان معرفة الإنسان ربه، و إذا کان بالسلب، لاستحالة معرفة حقیقة النفس و کنهها، قلنا بامتناع معرفة اللَّه.

والسبب فی أن کل موجود یعرف ربه بمقدار ما یعرف من نفسه، أن لکل جزء من أجزاء العالم «أصلًا» من الذات الإلهیة: هذا الأصل هو ربه، وهو الاسم الإلهی الخاص الذی یظهر فیه أثره، فهو یعرف ربه أی یعرف ذلک فی الأصل نفسه.

وهو یعبد ربه، أی یعبد ذلک الاسم الإلهی الخاص المتجلی فی نفسه. وهو دلیل واضح على ربه، لأنه مجلاه و مظهره.



(5) «فإنما حُبِّبَ إلیه النساء فحن إلیهن لأنه من باب حنین الکل إلى جزئه. فأبان بذلک عن الأمر فی نفسه من جانب الحق».

(5) قال علیه السلام: «حُبِّبَ إلیَّ من دنیاکم ثلاث: النساء و الطیب، و جعلت قرة عینی فی الصلاة».

یستغرق شرح هذا الحدیث الجزء الأکبر من الفص، و یتخذ ابن العربی من مسائله الثلاث:

أعنی حب النبی النساء، و الطیب، و الصلاة، أساساً لکثیر من أمهات المسائل الفلسفیة و الصوفیة التی یعرض لها. و أولى هذه المسائل مسألة الحب الإلهی.

لا عجب فی نظر ابن العربی أن أحب النبی النساء، لأن المرأة جزء من الرجل، و الأصل یحن إلى فرعه، و الکل یحن إلى جزئه.

ولیس حب النبی النساء إلا مثالًا جزئیاً یوضح مبدأً عاماً یسیر علیه الوجود بأسره، وهو الحب الإلهی الذی هو حنین الحق إلى الخلق.

ولکن الفرع یحن إلى أَصله أیضاً، و الجزء إلى کله: ومن هنا جاء حنین الخلق إلى الحق، وإن کان فی الحقیقة حنیناً للحق إلى نفسه فی صورة الخلق المتعین.

وسنشرح ذلک فی شیء من التفصیل فیما بعد.

لمسألة الحب الإلهی ناحیتان: ناحیة شوق الحق إلى الخلق، و ناحیة شوق الخلق إلى الحق.

أما شوق الحق إلى الخلق، فهو شوق الکل إلى أجزائه (و الکل و الأجزاء مستعملان هنا على سبیل المجاز).


وقد ظهر فی صورتین: الأولى فی حنین الذات الإلهیة إلى الظهور على مسرح الوجود الخارجیّ، ذلک الحنین الذی کان علة الخلق، وإلیه الإشارة فی الحدیث القدسی بقوله تعالى: «کنت کنزاً مخفیاً فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق فبه عرفونی».

و الصورة الثانیة هی حنین الحق المتجلی فی صور الوجود إلى الرجوع إلى نفسه: أی حنین الکل المتعین بصورة الجزء إلى الرجوع إلى الکل العام. و هذا بعینه حنین الخلق إلى الحق، لأن المشتاق عین المشتاق إلیه فی الحقیقة، و إن کان غیره بالتعین.

قال تعالى یخاطب داود علیه السلام: «یا داود إنی أشد شوقاً إلیهم»، أی إلى المشتاقین إلیه. فالخلق یشتاق إلى الحق و یلاقیه بأن یعود الجزء إلى کله.


و لکنه «لقاء خاص» کما یقول ابن العربی، لأنه لیس من قبیل لقاء الشیئین المختلفین، بل من قبیل الشیء الواحد یلاقی نفسه. و إذا کان شوق الحق إلى الخلق علة ظهور الوجود فی صوره الخارجیة، فإن شوق الخلق إلى الحق علة عودة تلک الصور إلى الوجود الواحد العام.

أما أن شوق الحق إلى الخلق أشد من شوقهم إلیه، فذلک لأن الخلق یشتاق إلى الحق من حیثیة واحدة: أی من حیث هم صور تحن إلى الرجوع إلى الذات الإلهیة المقومة لها.

أما الحق فیشتاق إلى الخلق من حیثیتین مختلفتین، لأنه من حیث إنه متعین بصورة العبد المشتاق، یشتاق إلى نفسه، ومن حیث إنه الأصل، یشتاق إلى نفسه فی مرتبة التقیید التی هی مرتبة العبد.


فالحب موجود على الدوام متبادَل بین الحق و الخلق. و الشوق و الحنین و اللقاء موجودة على الدوام أیضاً، لأن الحق دائم الظهور فی صور الخلق، یدفعه إلى ذلک الحبُّ الکامن فیه نحو ذلک الظهور.

والخلق دائم الفناء یدفعه إلى ذلک الحبُّ الکامن فیه نحو التحلل من الصور والرجوع إلى الأصل. هذه هی دائرة الوجود، أولها حب و فراق، وآخرها حب وتلاق، ومحور الدائرة «الحق» ومحیطها ما لا یحصى عدده من مجالی الوجود: کلٌّ یخرج من المرکز، وکل یرجع إلیه.

ولکن للقاء الحق معنى یفهمه کل منا بحسب منزلته و استعداده الروحی.


فهو بالنسبة إلى أهل الشهود من المؤمنین لقاء یتحقق فی هذه الدنیا، لأنهم قوم ماتوا عن إنّیّاتهم وتعیناتهم فی هذه الدار، وتجردوا عن طبائعهم وخلعُوا هیئاتهم النفسانیة والطبیعیة فأحیاهم اللَّه بحیاته، و شاهدوا جمال وجهه الباقی فی کل شیء.

وهؤلاء لا یشتاقون إلى اللقاء، لأنهم متحققون به فی عین القرب من اللَّه، و الشوق لا یکون إلا للمحروم البعید، حیث الفراق و دوام الحجاب.

ولکنهم یشتاقون إلى دوام اللقاء: أی یشتاقون إلى مشاهدة نور الجمال الحق یطلع فی کل لحظة فی صورة جدیدة من صور الوجود، وهو شوق لا ینتهی، وظمأ لا ینقع.

وإلى هذا المعنى أشار أبو یزید البسطامی فی البیت الآتی المنسوب إلیه:

شربت الحب کأساً بعد کأس  ..... فما نفد الشراب و ما رویت

أما المحجوبون فهم أبداً مشتاقون إلى لقاء الحق، و هم لا یصلون إلى بغیتهم إلا بعد ارتفاع حجابهم البدنی، و زوال الغواشی الطبیعیة عنهم.

وهذا لا یکون إلا بالموت الحقیقی: إذ بالموت تنحل الصورة البدنیة و یعود الفرع إلى أصله.


و لکن الموت موتان:

موت طبیعی وهو لجمیع الخلق بلا استثناء، و فیه یلقى العبد ربه برجوع عینه إلى الذات الإلهیة الواحدة، کما یعود النهر إلى البحر الذی خرج منه.

و موت أهل الکشف والوجد وهو الفناء الصوفی، وفیه یلقى العبد ربه بتحققه أنه عینه، ومشاهدته إیاه فی جمیع مجالی الوجود.

ویسمى هذا الموتُ الموتَ الإرادی، وهو مقام الفناء عند الصوفیة، أی فناء الصوفی عن نفسه وکل ما یتصل بها مما یقوم حجاباً بینه وبین ربه.

(6) «فلما أبان أنه نفخ فیه من روحه ... إلى قوله فیما کان به الإنسان إنساناً»

(6) یشرح فی هذه الفقرة الطبیعة المزدوجة للإنسان مستنداً إلى قوله تعالى فی خلق آدم: «فَإِذا سَوَّیْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِیهِ مِنْ رُوحِی فَقَعُوا لَهُ ساجِدِینَ» * (سورة الحجر آیة 29، سورة ص آیة 72).

فلآدم (الجنس البشری) جسم طبیعی عنصری مؤلَّف من الأرکان الأربعة، أو من الأخلاط على حد قوله، لأن الأرکان لا تصیر أعضاءً فی البدن إلا بعد أن تتحوَّل أخلاطاً. و فی الإنسان أیضاً روح یدبر جسمه، و هو النفس الإلهی الذی نفخه اللَّه فی صورة آدم.

فالنَّفس هنا (المعبر عنه بالنفخ) کنایة عن الروح الإلهی المنفوخ به فی آدم.

و لکن النَّفَس الإلهی أو الروح الإلهی نورانی، فلما نفخ به فی آدم، تحوَّل إلى نار بسبب ما فی الجسم الانسانی العنصری من الرطوبة.

و لهذا ظهر الروح الإلهی فی الإنسان فی صورة النار لا فی صورة النور، و عنه ظهر فیه الروح الحیوانی الذی من خصائصه الحیاة و النمو و الحرکة و الحس إلخ. و لکن الروح الإلهی له مظهر آخر فی الإنسان و هو النطق، لأن الإنسان لیس کائناً حیاً حساساً فحسب، بل هو کائن ناطق أیضاً.


و خلاصة القول :

أن حقیقة الإنسان من حیث هو إنسان حقیقة نوریة إلهیة، و لکن طبیعته ناریة من حیث هو جسم قَبِلَ الروح الإلهی المنفوخ فیه.

و الطبیعة الأولى خفیة باطنة، و هذا معنى قوله: «فبطن نَفَسُ الحق فیما کان الإنسان به إنساناً» و أما معنى قوله: «فلو کانت نشأته طبیعیة لکان روحه نوراً»، فالمراد بالنشأة الطبیعیة النشأةُ غیر العنصریة کنشأة الأفلاک و الملائکة. فلو کان جسم آدم من هذا النوع لکان روحه نوراً لا ناراً .



(7) «و الصورة أعظم مناسبة، و أجلها، و أکملها، فإنها زوج أی شفعت وجود الحق».

(7) ذکر فی الفص الأول الحکمة فی خلق آدم، فقال إن الحق سبحانه لما شاء أن یرى عینه فی کون جامع یحصر فی نفسه جمیع معانی الوجود، و یکون مجلىً شاملًا لکل الأسماء الإلهیة، خلق آدم فکان تلک المرآةَ التی نظر الحق فیها إلى صورته، و العقلَ الذی أدرک به کمال وجوده.

فآدم (الجنس البشری) هو الخلیفة الحق عن اللَّه، و هو الصورة الإلهیة المشار إلیها فی الحدیث «2» القائل:

«خلق اللَّه آدم على صورته»: أعنی على صورة اللَّه. و لصورة أی شیء معنى غیر المعنى الذی للشیء نفسه.

فإنها فوق کونها تشبه الشیء و تظهر کل ما فیه من کمال أو نقص تؤکد وجوده، إذ تضیف إلى وجوده الأصلی وجوداً ثانیاً.

ثم هی من ناحیة أخرى تکون لصاحبها بمثابة المرآة التی یرى فیها نفسه، و رؤیة الشیء نَفْسَه فی نفسه لیست کرؤیته نفسه فی شیء یکون له بمثابة المرآة.

و کل شیء واحدٌ فی ذاته، زوج فی صورته، لأن الصورة تشفع وجوده کما أسلفنا. و کذلک شفعت الصورة الإلهیة المسماة «آدم» وجود الحق، و شفعت المرأة التی هی صورة الرجل وجود الرجل و صیرته زوجاً بعد أن کان فرداً.

 


(8) «و لما أحب الرجل المرأة طلب الوصلة ... إلى قوله إذ لا یکون إلا ذلک».

(8) شرح فی الفقرة السابقة أن الرجل یحب المرأة لأنها جزء منه کما أحب اللَّه الإنسان لأنه صورته، و أن الرجل فی حبه المرأة إنما یحب فی الحقیقة ربه لتعلق حبه بربه لا بأی شیء آخر أیاً کان ذلک الشیء.

و تکلَّم فی هذه الفقرة عن الوصلة التی فی المحبة و ما یصاحبها من عموم الشهوة و فناء الرجل فی المرأة و وجوب الاغتسال بعد ذلک.

و قد استعمل فی الفقرتین لغة الرمز و الإشارة فتعقدت بذلک عباراته و صعب اقتناص معانیه. و من الغریب أن أحداً من شراح الفصوص لم یشر إلى هذه الرمزیة و لم یحاول صرف الفص عن ظاهره، مع أنه یکاد یکون من المستحیل فهم النص على ظاهره إلا إذا اتهمنا ابن العربی بمادیة شنیعة لا تتفق مع روح مذهبه.

و الذی أعتقده أنه یستعمل کلمة «المرأة» هنا رمزاً للدلالة على أی موضوع محبوب، و «الشهوة» رمزاً على الرغبة الملحة فی الحصول على المطلوب، و «وصلة النکاح» رمزاً على الاتحاد الصوفی، و «الاغتسال» رمزاً على الطهارة الروحیة.


و إذا کان الحق هو عین کل محب و محبوب، و کانت غایة کل محب الاتصال بمحبوبه و الفناءَ فیه و التلذذ بقربه، لزم أن یکون الحق هو المحبوب على الإطلاق، و المتلذذ به على الإطلاق، و لزم ألّا یفنى محب إلا فیه، و ألّا تطلب «وصلة النکاح» إلا به.


أما أولئک المحجوبون الذین یقولون بوجود الغیر و السوی، فینظرون إلى المرأة و إلى کل ما هو موضع للذة و الشهوة، على أنها مصادر مستقلة للذاتهم.

و لهذا أُمر الإنسان بالاغتسال بعد الجماع، أی أُمر بتطهیر نفسه من کل شوائب الغیریة بعد الجماع البدنی، لتکون نفسه أکثر قبولًا و أعظم استعداداً للجماع الروحی، و التحقق بوحدة المحب و المحبوب، و الفناء فی المحبوب الواحد مهما تعددت صوره و مجالیه:


ذلک الفناء الذی أشار إلیه بعضهم بقوله:

صح عند الناس أنی عاشق غیر أن لم یعرفوا عشقی لمن و مفتاح الرمزیة فی هذه الفقرة قول ابن العربی «فإن الحق غیور على عبده أن یعتقد أنه یلتذ بغیره»: أی أن الحق یأبى أن یُحَبَّ شیء إلا إذا کان هو عینَ ذلک المحبوب، کما یأبى أن یعبد شیء إلا إذا کان هو عین ذلک المعبود: أی أنه استأثر بالحب و العبادة لنفسه.


و کیف لا یستأثر بهما و ما سواه شیء، و ما غیره محبوب و لا معبود على الحقیقة؟ أما قوله: «إذ لا یکون إلا ذلک»، فقد یکون معناه إذ لا یکون إلا الحق مصدراً للذة و منبعاً للحب، أو إذ لا یکون للإنسان إلا أن یرجع إلى الحق فی کل شیء یحبه و یفنى فیه فیشاهد الحق فی کل محبوب و کل متلذَّذٍ به.



(9) «فإذا شاهد الرجل الحق فی المرأة ... إلى قوله: من حیث هو منفعل خاصة».

(9) الرجل فاعل و المرأة منفعلة، إما لأن المرأة مخلوقة من الرجل، و الفرع محل الانفعال و الأصل محل الفعل، أو لأن الأمر کذلک فی حالة المواقعة.

و الرجل و المرأة صورتان للحق، فلا بد أن یوصف الحق بأنه فاعل و منفعل أیضاً.

فإذا شاهد الرجل الحقَّ فی المرأة من حیث ظهور المرأة عنه، شاهده فی صورة منفعل، و إذا شاهده فی نفسه من حیث ظهور المرأة عنه، شاهده فی فاعل.

و إذا شاهده فی نفسه من غیر نظر إلى ظهور المرأة عنه، أی شاهده فی نفسه من حیث ظهوره هو عن الحق، شاهد الحق فی صورة منفعل من غیر واسطة.

و بذلک یکون المنفعل على نوعین: نوع یظهر عن الحق بلا واسطة، أو یظهر اللَّه فیه مباشرة و ذلک کالرجل. و نوع یظهر عن اللَّه بواسطة، أو یظهر اللَّه فیه بواسطة منفعل آخر، و ذلک کالمرأة التی ظهرت عن الحق بواسطة الرجل.

هذه هی الأنواع الثلاثة التی ذکرها لمشاهدة الرجل للحق، و لکنه یقول بعد ذلک إن شهود الرجل للحق فی المرأة أتم و أکمل، لأنه یشاهد الحق من حیث هو فاعل منفعل.

فلا بد أن تکون هذه المشاهدة فی حال المواقعة کما یفهمها چامی، لأن المرأة یمکن اعتبارها فی هذه الحال فاعلة منفعلة من حیث إنها تؤثر فی الرجل و تتأثر به، و إلا ناقض ما ذکره سابقاً من أن المرأة من حیث ظهورها عن الرجل إنما هی صورة للحق من حیث هو منفعل فقط.


وعلى هذا فنحن نشاهد الحق فی صورة الفاعل تارة، وصورة المنفعل تارة، کما نشاهده فی صورة الفاعل و المنفعل معاً فی المجلى الواحد.

والحقیقة أنه لا مجال للتحدث عن الفعل والانفعال إلا فی عالم الکثرة و التعدد، و هو عالم المحجوبین الذین لا یدرکون الوحدة الوجودیة بین العلل و المعلولات، فیقولون هذا منفعل وذلک فاعل، ولا یدرکون ذوقاً أن الفاعل والمنفعل عین واحدة فرَّقت بینهما المراتب.


ولکن إذا کان لا بد لنا أن نتکلَّم بلسان الکثرة الذی هو لسان العقل- لا الذوق- و إذا کان لا بد أن نتحدث عن مشاهدة الحق فی الصور، و هو «لا یشاهَدُ مجرداً عن المادة أبداً»، إذ تستحیل مشاهدة ذاته. فیصح أن نقول إن الحق یشاهَدُ فی الوجود بصورة الفاعل وبصورة المنفعل، کما یشاهَدُ بصورة الفاعل المنفعل وهو أکمل مشهد له.


 


(10) «وأعظم الوصلة النکاح وهو نظیر التوجّه الإلهی على من خلقه على صورته لیخلفه».

(10) أعظم اتصال جسمانی بین الرجل والمرأة هو النکاح، وفیه یتوجه الرجل لإیجاد ولد یکون على صورته و یخلفه من بعده. ولذلک شبّه به توجه اللَّه إلى خلق آدم ونفخه فیه من روحه لیکون على صورته ویخلفه و یرى فیه نفسه.

و لکن هذا التشبیه یصدق أیضاً على توجُّه الحق أزلًا إلى الظهور بمظهر الخلق فی صورة العالم الخارجی. فالإنسان حق و خلق، و العالم حق و خلق و الحق فی کل منهما هو الروح المدبر لصورته، و الخلق هو تلک الصورة التی یدبرها الروح.

و إلى ذلک الإشارة بقوله تعالى «یُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ»: أی من أعلى مراتب الوجود إلى أسفلها، لأن الأرض أسفل عالم العناصر.


ففی کل مرتبة من مراتب الوجود یدبر الحقُّ الخلقَ: أو الباطنُ الظاهِرَ، و إن کانت الحقیقة أنه هو الحق الخلق و الظاهر الباطن، لأن التنزلات فی مراتب الوجود لیست إلا تعینات و شئوناً للذات الإلهیة الواحدة.

و لما فسر النکاح على هذا النحو، أی على أنه ازدواج شیئین لإنتاج ثالث، أو توجُّه نحو الإنتاج أیّاً کان نوع ذلک التوجه، ظهرت صلة النکاح بالتثلیث الذی ذکره من قبل، و تبین أن النکاح لیس إلا التثلیث معبراً عنه بعبارة أخرى، و أنه، کالتثلیث، أساس کل خلق و کل إیجاد، و أنه هو المسمى نکاحاً فی عالم الصور العنصریة، و همةً فی عالم الأرواح، و ترتیب مقدمات فی عالم المعانی.

فالنکاح فی عالم العناصر هو الاتصال بین ذکر وأنثى لإنتاج النسل، وقد یصدق على اتحاد عنصرین أیّاً کانا لإنتاج عنصر ثالث.

والنکاح فی عالم الأرواح هو التوجه الإلهی نحو الطبیعة وفتح صور العالم فیها: والنکاح فی عالم المعانی هو الإنتاج العقلی، أو تولید النتیجة من المقدمات فی القیاس المنطقی.


کل ذلک فی الفردیة الأولى: أی فی أول الأعداد الفردیة الذی هو الثلاثة، فإن التثلیث مبدأ الخلق ومبدأ الفیض الوجودی، کما هو مبدأ الإنتاج فی کل عالم من العوالم.

ولکن التثلیث فی ذاته عاجز عن الفعل، و هو لا یفعل إلا إذا وجدت حرکة بین عنصرین من عناصره لإنتاج العنصر الثالث، وهذه الحرکة هی التی سماها نکاحاً.


 

(11) «و کما نزلت المرأة عن درجة الرجل ... نزل المخلوق على الصورة عن درجة من أنشأة على صورته».

(11) استمر فی تشبیه الصلة بین الحق و الخلق بالصلة بین الرجل و المرأة، لأن کلًّا منهما مظهر للصلة بین الأصل و فرعه. و المرأة أقل درجة من الرجل. قال تعالى: «وَ لِلرِّجالِ عَلَیْهِنَّ دَرَجَةٌ» (سورة البقرة آیة 228).

و کذلک الخلق الظاهر بصورة الحق أقل درجة من الحق فی ذاته. و الظاهر أنه لا یرید «بالمخلوق على الصورة» الانسانَ الذی قال إن اللَّه خلقه على صورته، بل العالم الأکبر.

فبالرغم من أن العالم صورة کاملة یتجلى فیها الحق بجمیع کمالاته الأسمائیة و الصفاتیة، لا یزال فی المرتبة، لا فی الحقیقة، دون الحق متمیزاً عنه.

فإن الحق من حیث ذاته واجب الوجود لذاته غنی عن العالمین، أی غنی عن کل صلة و کل إضافة إلى الوجود الخارجی، فی حین أن العالم الذی هو ظل الحق مفتقر إلیه فی وجوده، و فی کل ما هو ظاهر فیه من صفات.


و الغنی له الأولویة على الفقیر، کما أن له صفة الفاعلیة، و للمفتقر المفعولیة. و قد سبق أن قال: إن المؤثر بکل وجه و على کل حال و فی کل حضرة هو اللَّه، و إن المؤثَّر فیه بکل وجه، و على کل حال، و فی کل حضرة هو العالم. راجع الفص الثانی و العشرین، التعلیق الخامس.


و إذا کان لنا أن ننسب إلى العالم صفة الفاعلیة استناداً إلى ما ندرکه فیه من العلل و المعلولات، فلا بد من وصف فاعلیته بأنها فاعلیة ثانویة، تمییزاً لها عن الفاعلیة الأولیة التی للحق وحده.


(12) «فأعطى کلَّ ذی حق حقه کلٌ عارف».

(12) قد تفهم هذه الجملة بمعنى أن العارف باللَّه، الواقف على أسرار حقیقة الوجود، یعطی کلًّا من الحق و الخلق حقه، و یمیز بینهما على نحو ما بیناه فی التعلیق السابق: أی یمیز بین ما له وجوب الوجود و الغنى المطلق عن العالمین، و ما له إمکان الوجود و الافتقار المطلق.

و قد تفهم بمعنى أن العارف یعطی کل موجود من الموجودات نصیبه من الحق کما یعطیه نصیبه من الخلق، أی یدرک فی کل موجود أنه حق و خلق معاً: حق من حیث عینه و أصله، و خلق من حیث صورته.


(13) «و لیست الطبیعة على الحقیقة إلا النَّفَس الرحمانی ... إلى قوله: سریان آخر».

(13) سبق أن ذکرنا فی الفص العیسوی أن الطبیعة نسبتها إلى النَّفَس الرحمانی، نسبة الصور النوعیة إلى الشیء الظاهرة فیه.

و قوله «على الحقیقة» إشارة إلى أن العقل و إن کان یمیز بین الشیء و صورته النوعیة، إلا أنها فی الحقیقة عین ذلک الشیء.

و النَّفَس الرحمانی (أو الطبیعیة) على هذا التفسیر، هو الجوهر الذی تفتحت فیه صور الوجود المادی و الروحی: سماه النَّفَس الرحمانی، من قوله تعالى: «وَ نَفَخْتُ فِیهِ مِنْ رُوحِی» .

والنفخ خروج النَّفَس من النافخ، فکأنه أخذ ما ذکر فی القرآن عن خلق آدم، رمزاً على خلق العالم بأسره.

وسماه «طبیعة» إشارة إلى أنه هو الموجود بالفعل فی العالم المادی و الروحی.

وقد تفتحت فی الطبیعة صور العالم بواسطة النفخ الإلهی الذی سرى فی الوجود، فظهرت الأجسام الطبیعیة فی العالم المادی، عند ما سرى النفخ فی الجوهر الهیولانی القابل للصور الجسمانیة.

وکذلک ظهرت الأرواح النوریة التی هی المجردات، بسریان النفخة فی الجواهر الروحانیة کلها، وظهرت الأعراض- التی یظهر أنه یقصد بها الصفات بسریان النفخة الإلهیة فی الطبیعة العرضیة التی هی مظهر التجلی الإلهی.


وهو یفرق بین نوعین من السریان:

سریان النفخة الإلهیة فی عالم الأجسام، و سریانها فی عالم الأرواح و الأعراض، لأن الأول یعمل فی جوهر هیولانی مادی، و الثانی فی جوهر غیر مادی.



(14) «ثم إنه علیه السلام غلَّب فی هذا الخبر التأنیث على التذکیر ... إلى قوله: و العلة مؤنثة».

(14) فی هذه الفقرة الطویلة یحاول ابن العربی أن یثبت أهمیة التأنیث و منزلته فی الوجود بطرق مختلفة، بعضها لفظی و بعضها غیر لفظی.

ولیس دفاعه عن التأنیث فی الحقیقة دفاعاً عن النبی الذی روی عنه حبه للنساء، و لا تبریراً لقوله «ثلاث» بدلًا من «ثلاثة» فی الحدیث «حبب إلیَّ من دنیاکم ثلاث»،

و إنما هو دفاع عن أفکاره التی أخذ فی شرحها منذ ابتداء الفص: أعنی المرأة من حیث هی صورة للرجل مشابهة للإنسان الذی هو صورة الحق، و المرأة من حیث هی أکمل مجلى للحق، و المرأة من حیث هی رمز لکل محبوب إلخ إلخ.

أما ما یذکره فی هذه الفقرة فلیس إلا مماحکات لفظیة لا طائل تحتها فی ذاتها، و إن کانت لها دلالتها على المعانی التی أسلفنا ذکرها.

و هاک خلاصة ما قال: قال النبی علیه الصلاة و السلام «حبِّب إلیَّ من دنیاکم ثلاث: النساء و الطیب و جعلت قرة عینی فی الصلاة».

لم یقل ثلاثة مع أنه ذکر الطیب و هو مذکر، و من عادة العرب تغلیب المذکر على المؤنث مهما یکن عدد الذکور.

فکان المنتظر أن یقول «ثلاثة» و یغلب المذکر على المؤنث، فیأتی بتمییز للعدد على عکس المعدود.

و لکنه لم یفعل، بل غلب التأنیث على التذکیر لحکمة أرادها.


و یرى ابن العربی أن النبی علیه الصلاة و السلام أشار بذلک إلى أهمیة التأنیث، و أنه أصل کل شیء، و العلة فی وجود کل شیء.

ألا ترى أنه مهما کانت وجهة نظرک فی خلق العالم، فإنک منتهٍ لا محالة إلى لفظ مؤنث یفسر لک أصله و سبب وجوده؟

فإن قلت إن أصل الوجود «الذات الإلهیة»، أو أن الظاهر فی الوجود «الصفات الإلهیة»، أو أن الذی أظهر الوجود «القدرة الإلهیة»، أو وصفت اللَّه بأنه «علة الوجود» و«حقیقته» و ما إلى ذلک، فإنک تستعمل فی کل حالة کلمة مؤنثة.


ویشیر ابن العربی بمجموعة الألفاظ المؤنثة التی أوردها إلى رأی الأشاعرة القائلین بأن سبب وجود الخلق «القدرة الإلهیة» ناظرین إلى القدرة، و سائر الصفات على أنها أمور مغایرة للذات الإلهیة، و إلى مذهب الحکماء الذین اتبعهم المعتزلة فی قولهم ان الذات عین الصفة، وإلى مذهب من یرى أن الذات الإلهیة من حیث هی:

أی من غیر اعتبار لأیة صفة: هی علة وجود العالم.

و مهما یکن المذهب الذی تأخذ به فی أصل الوجود و خلقه، فإن الکلمات التی تعبر بها عن ذلک مؤنثة.


تابع  کتاب تعلیقات د أبو العلا عفیفی على فصوص الحکم الشیخ الأکبر ابن العربی 1385 هـ :


(15) «ولما خُلق عبداً بالأصالة لم یرفع رأسه قط إلى السیادة .... فأعطاه رتبة الفاعلیة فی عالم الأنفاس».

(15) أی و لما خلق محمد علیه السلام (أو بالأحرى الروح المحمدی) وقف من الحق موقف العبودیة المحضة، أی موقف الانفعال المحض لأنه الصورة الأولى للحق، و الصورة محل الانفعال کما أسلفنا.

و لکنه أُعْطِیَ القوة على الفعل لما أوجد اللَّه من روحه جمیع الأرواح و مظاهرها، کما جاء فی الحدیث الذی یروونه من «أن اللَّه لما خلق العقل قال: أقبل فأقبل، ثم قال: أدبر فأدبر، فقال و عزتی و جلالی، بک آخذ و بک أعطی و بک أمنع و بک أعاقب إلخ».


هکذا یقول القیصری (شرح الفصوص ص 305). و معناه أن ابن العربی یقصد بالروح المحمدی العقل الذی اعتبره أفلوطین أول الفیوضات التی ظهرت عن «الواحد»، أو شیئاً قریباً من ذلک. و نحن نعلم أن کلًّا من الفیوضات الأفلوطینیة له ناحیتان: ناحیة الانفعال (و هی التی عبر عنها ابن العربی بالعبودیة) من حیث صلته بما فوقه الذی فاض عنه، و ناحیة الفعل من حیث صلته بما تحته مما فاض عنه.


إلا أن ابن العربی لا یدین بمذهب الفیوضات کما یدین أفلوطین، فإن العقل الأول و النفس الکلیة و ما إلى ذلک من الفیوضات لیست وجودات مستقلة کل منها عن الآخر و عن الواحد الحق، لا یلحق آخرها بأولها و لا یتصل به.

و لکنه بالرغم من استعمال اصطلاحات أفلوطین، یفهم هذه الفیوضات، على أنها مجالی مختلفة للحقیقة الوجودیة الواحدة، منظوراً إلیها من جهات تختلف کل منها عن الأخرى. فالعقل الأول أو الروح المحمدی هو الحق ذاته متجلیاً فی صورة خاصة، و کذلک النفس الکلیة. بل کذلک کل مظهر من مظاهر الوجود.


وکل واحد من هذه المجالی أو المظاهر له صفة العبودیة: أی صفة الخلق والانفعال، وله أیضاً صفة الربوبیة، أی صفة الحق والفعل.

أما قوله فأعطاه رتبة الفاعلیة فی عالم الأنفاس، فإما أن یکون المقصود به أنه خلق من روحه جمیع الأرواح الأخرى فعبر عن الأرواح بالأنفاس، أو یکون معناه أن بواسطته خلق جمیع الکلمات الوجودیة. وعبَّر عن «الکلمات» بالأنفاس لأن الکلمات مظاهر الأنفاس.



وقد غلب على ابن العربی استعمال کلمة «الکلمات» مرادفة لکلمة «الموجودات» استناداً إلى قوله تعالى: «قُلْ لَوْ کانَ الْبَحْرُ مِداداً لِکَلِماتِ رَبِّی لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ کَلِماتُ رَبِّی وَ لَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً» (الکهف آیة 109)، کما غلب علیه تسمیة الوجود فی صورته الأولى قبل أن تنفتح فیه أعیان الممکنات، بالنَّفَس الرحمانی.

و کثیراً ما سمى العالم بالعرش و عبَّر عن ظهور الحق فی صورة العالم باستواء الرحمن على العرش.


وهو لا یقصد بالرحمن إلا معطی الوجود، و لا بالرحمة إلا الوجود الذی فاض من واهب الوجود على جمیع الخلق. راجع ما ذکرناه فی الرحمة و فی قوله تعالى «وَرَحْمَتِی وَسِعَتْ کُلَّ شَیْءٍ» فی الفص السادس عشر، التعلیق الثالث، والفص الحادی والعشرین، التعلیقین الثانی والثالث.


 


(16) «و قد جعل الطیِّب تعالى فی هذا الالتحام النکاحی فی براءة عائشة فقال الخبیثات للخبیثین ... و الطیِّبات للطیِّبین».

(16) ذکر «الطیِّب» و هو ثانی الأشیاء الثلاثة التی حبِّبت إلى النبی، و فسره بأنه عَرْف الوجود، رائحة التکوین.

ولکنه کعادته فی الانتقال من مسألة إلى أخرى لمناسبة لفْظیة بین المسئلتین، ترک «الطیِّب» و أخذ یتکلم عن الطیِّب الذی هو ضد الخبیث.

بل استعمل الکلمتین على سبیل الترادف. قال إن اللَّه ذکر الطیِّب (و لا یقصد به إلا مادة ط ی ب) فی قصة عائشة و براءتها، عند ما أشار إلى الالتحام النکاحی بین الرجل و المرأة.

وإن اللَّه هیّأه بحیث یکون بین الطَّیِّبات و الطیِّبین و الخبیثات و الخبیثین. فقوله «جعل الطیب» أی استعمله أو ذکره، و قوله «فی الالتحام النکاحی» صفة للطیب، و قوله فی براءة عائشة مفعول ثان لجعل.

ولما کان النبی صلى اللَّه علیه و سلم أطیب الطیِّبین، لزم طیب من اختص به فی الالتحام النکاحی، و انتفاء الخبث عنها بشهادة اللَّه ببراءتها.

والظاهر أنه یعتقد صلة بین الطیِّب (الذی هو ضد الخبیث) و الطیِّب الذی هو الرائحة، على أساس أن الطَّیِّب صفة للذات، و الذات الطیِّبة لا یصدر عنها إلا الطَّیِّب من الأقوال.

والأقوال أنفاس و الأنفاس روائح أو الروائح أنفاس.


وهذه صلة بعیدة جداً، و لکنها تمثِّل التواء ابن العربی أحیاناً فی معالجة المسائل.

والحقیقة أنه أراد أن ینتقل من الکلام عن الطیِّب إلى الکلام عن الطَّیِّب

من الأشیاء و الأفعال، أی الکلام فی مسألة الحسن و القبح، و الخیر و الشر، فربط المسئلتین بهذا الرباط اللفظی السقیم.



(17) «فما حُبِّب إلى رسول اللَّه إلا الطَّیِّب من کل شیء، و ما ثم إلا هو».

(17) صرح هنا بأنه یستعمل کلمة الطیِّب مرادفة لکلمة الطَّیب لأنه بصدد الکلام عن مسألة الخیر و الشر، و ما یحمد و ما یذم من الأشیاء و الأفعال.

فالذی حُبِّب إلى رسول اللَّه لم یکن طیِّب الروائح، بل طیِّب الأخلاق والأفعال والأشیاء.

أما قوله: «و ما ثم إلا هو» فإشارة إلى مذهبه فی طبیعة الوجود وأنه خیرٌ على الإطلاق.

وخلاصة هذا المذهب أن الوجود من حیث هو، خیر لا شر فیه، وحسنٌ لا قبح فیه.

وأننا لا نصف الأشیاء والأفعال بالشر والقبح و الذم وما إلى ذلک من الأوصاف، إلا لأمر عرضی.

وقد حصر هذه الأمور العرضیة فی خمسة هی: أن یکون الوصف بالشر أو القبح أو الذم من قبیل العرف والاصطلاح، أو یکون لمخالفة الموصوف بهذه الصفات للطبع، أو لعدم موافقته للغرض، أو الشرع، أو لقصوره عن درجة کمال مطلوب.

فالأشیاء فی ذاتها لا توصف بهذه الأوصاف، و إنما تلحق بها لأمور عارضة، خارجة عن ذاتها. کالثوم الذی ذکره: فإنه فی ذاته لا یوصف بأنه مکروه أو مذموم، و إنما یکرهه و یذمه من یتأذى برائحته.


فحبِّب إلى الرسول الطیِّب: أی الطَّیِّب من کل شیء، و لکن ما ثم فی الوجود الا الطَّیِّب، أی ما ثم فی الوجود الا الخیر: لأن الوجود نَفَس الرحمن الذی هو الخیر فی ذاته، و لأن الخیر مرادف للوجود، و الشر مرادف للعدم، فیلزم أن کل ما هو متحقق بالوجود خیرٌ.



(18) «و هل یتصوَّر أن یوجد فی العالم مزاج لا یجد إلا الطیب ... فإنَّا ما وجدناه فی الأصل الذی ظهر العالم منه و هو الحق».

(18) ذکرنا فی التعلیق السابق رأیه فی أن الوجود بأسره خیرٌ فی ذاته: فإن حکم على شیء فیه بأنه شر، فذاک من قبیل العرض الصرف.

و ذکرنا أن المستویات التی یحکم على الأشیاء بأنها شر بالقیاس إلیها، هی العرف و الطبع و الغرض و الشرع و درجة من الکمال مطلوبة.

و کل هذه أمور متغلغلة فی العالم، فی نظامه الطبیعی و الاجتماعی. فلا عجب إذن ألا یوجد موجود لا یعرف إلا الخیر، و لا یجد إلا الطَّیِّب فی کل شیء لأنه لا محالة واجد شیئاً لا یلائم طبعه أو غرضه، أو لا یتفق مع عرفه أو شرعه.

بل إن الأصل الذی ظهر عنه العالم- و هو الحق- یعرف الخیر کما یعرف الشر، و یدرک الطَّیِّب کما یدرک الخبیث.

فلیست طبیعته قاصرة على إدراک الخیر وحده، و لا على اعتبار الوجود بأسره خیراً لا شر فیه.

یدل على ذلک أنه وصف نفسه بأنه یحب و یکره و یعذِّب و یثیب: أی یفرق بین الطَّیب و الخبیث، إذ لیس الطَّیِّب إلا ما یحب و لیس الخبیث إلا ما یکره.

وقد یبدو لأول وهلة أن هناک تعارضاً بین هذا القول و بین ما ذکرناه فی التعلیق السابق، من أن الوجود فی ذاته خیرٌ محض فی نظر الحق.

والواقع أنه لا تعارض بینهما، لأن الحق الذی یحب ویکره، ویعذب و یثیب، هو الحق من حیث صلته بالعالم، لا الحق من حیث هو فی ذاته، فإنه من هذه الحیثیة الأخیرة خیرٌ محض، لا یرى فی الوجود إلا خیراً.

أما من الحیثیة الأولى فقد ظهر برحمته فی کل شیء، لا فرق فی ذلک بین الخبیث و الطَّیِّب، و هما معنیان یدرکهما العباد فی الوجود فیخاطبهم الحق بهما حسب إدراکهم.

و العالم على صورة الحق، فلا بد له من أن یحب و یکره کذلک:

أی یدرک الخیر و الشر. أما من یدعی من الناس أنه لا یدرک إلا الخیر، فذلک لأنه شغل بالخیر عما عداه، فظن أنه لا یوجد فی الوجود إلا هو.



(19) «و أما الثالث الذی به کملت الفردیة فالصلاة ... إلى قوله: فی الفتوحات المکیة».

(19) لعل من الغریب أن یتکلم فی الصلاة رجل یقول بوحدة الوجود، أو أن یتکلم فی أی نوع آخر من أنواع العبادة تتمثل فیه الصلة بین العبد و ربه.

ولکن ذلک لیس بغریب على ابن العربی الذی لم یفقد عاطفته الدینیة، على الرغم من قوله الصریح بوحدة الحق و الخلق، والرب والعبد، و إن کان یکیف العبادة تکییفاً آخر یخرج بها عن مألوف معناها، وینتهی بها إلى حال عمیق من أحوال الاتصال الصوفی باللَّه.

وفیما یذکره عن الصلاة فی هذا الفص مثال رائع لإظهار العاطفة الدینیة التی لم تتمکن وحدة الوجود من إطفاء جذوتها فی قلب ذلک الرجل، و لکیفیة فهمه العبادة فهماً صوفیاً.

أخص جزء من الصلاة فی نظره ذکر اللَّه، بل ذکر اللَّه على نحو خاص: أی المناجاة بین الحق و بین العبد الذی هو مجلاه و مظهره. قال تعالى: «إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْکَرِ وَ لَذِکْرُ اللَّهِ أَکْبَرُ» (العنکبوت آیة 45).


یقول ابن العربی: و لذکر اللَّه أکبر، أی أکبر ما فی الصلاة باعتباره جزءاً منها.

و لکن الذکر فی الصلاة لیس قاصراً على ذکر العبد لربه، بل یشمل ذکر اللَّه للعبد أیضاً، و ذلک بإجابته سؤال العبد.

و قد ذکر هذا المعنى فیما بعد بقوله: «وَ لَذِکْرُ اللَّهِ أَکْبَرُ یعنی فیها (أی فی الصلاة) أی الذکر الذی یکون من اللَّه لعبده حین یجیبه فی سؤاله».

یأخذ بعد ذلک فی شرح هذه المناجاة بین العبد و ربه و هی لا تعدو التأمل فی صفات الحق و الخلق، و إعطاء کل منهما حقه: فإن للرب صفات یختلف بها عن العبد، و للعبد صفات تمیز بینه و بین الرب.

و لذا قسم «فاتحة الکتاب» التی یعدها أعظم جزء من أجزاء الصلاة إلى ثلاثة أقسام: الأول خاص باللَّه، و الثالث خاص بالعبد، و الثانی مشترک بینهما.


و فسر هذه السورة على أنها مناجاة بین المحب و المحبوب، أولها مجالسة و حدیث مع الحق، و وسطها تخیل له فی قبلة المصلى، و آخرها شهود و رؤیة للحق فی عین قلب عبده، و سماعه صوت الحق یدوی فی کل مکان، و استیلاء المحبوب على قلب المحب بحیث لا یرى و لا یسمع غیره کما یقول بعضهم:

إذا ما تجلى لی فکلی نواظر    ..... و إن هو ناجانی فکلی مسامع



فالقسم الأول من «الفاتحة» مجموعة صفات خاصة، یتصف بها الحق وحده:

أی الحق من حیث هو معبود، لا من حیث هو فی ذاته. فهو اللَّه، الرحمن الرحیم، رب العالمین، مالک یوم الدین.

و العبد إذ یقرؤها یذکر اسم اللَّه و یحمده، و یثنی علیه و یمجده، و یفوض الأمر إلیه، و یعترف بافتقاره إلیه.

و القسم الثانی قوله: «إِیَّاکَ نَعْبُدُ. وَ إِیَّاکَ نَسْتَعِینُ».

یقول ابن العربی إن اللَّه یقول عند سماع هذه الآیة من العبد «هذه بینی و بین عبدی» أی مشترکة بینی و بین عبدی، إذ العبادة مشارکة و اتصال بین العابد و المعبود: لأنها لیست فعلًا من جانب واحد، بل هی حال، بالمعنى الصوفی، یتحقق فیها العابد بوحدته الذاتیة بمعبوده، فیکون فیها العابد معبوداً و المعبود عابداً.

و لعل هذه الحال هی التی أشار إلیها ابن العربی فی قوله:

فیحمدنی و أحمده و یعبدنی و أعبده . راجع الفص الخامس.


والقسم الثالث هو من قوله تعالى: «اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِیمَ» إلى آخر السورة.

وهو یعبر عن صفة العبودیة المحضة الخاصة بالعبد، أی افتقاره إلى الهدایة إلى الصراط المستقیم.

وإذا فسرنا الصراط المستقیم کما فسره فی فص هود و غیره بأنه صراط الوجود الذی یسیر علیه کل شیء، ظهر معنى العبودیة و الافتقار، لا فی الإنسان وحده، بل فی الخلق أجمع.

إذ الخلق من حیث إن له صفة الإمکان مفتقر إلى الحق الذی یمنحه الوجود، فکأنه یتوجه إلیه على الدوام، و یسأله بلسان حال افتقاره أن یمنحه الوجود و یهدیه إلى صراطه.


 فإذا انتهت هذه المناجاة و صدق فیها العبد و کان حاضر القلب مع ربه، رآه: أی تجلى له فی قلبه. فإن من لم یظفر برؤیته فی عین بصیرته یحاول أن یتمثله فی قبلته عند مناجاته.

قال علیه السلام: «اعبد اللَّه کأنک تراه».

و من لم یظفر برؤیة الحق فی صلاته لم یبلغ الغایة منها، و لا کانت له قرة العین التی أشار إلیها النبی فی حدیثه: «و جعلت قرة عینی فی الصلاة».

و من لم یحضر فی الصلاة مع ربه، فلیس بمصلّ أصلًا.

فأکمل أنواع الصلاة ما کان فیها حضور للعبد مع ربه، و حصلت له فیها الرؤیة و السمع، فکان صاحبها ممن «أَلْقَى السَّمْعَ وَ هُوَ شَهِیدٌ».

وإذا وصل العبد إلى هذا المقام غاب عن نفسه، و عن کل ما سوى اللَّه، و ذلک هو الفناء الصوفی.

وإلى هذا المعنى أشار بقوله: «و ما ثم عبادة تمنع من التصرف فی غیرها سوى الصلاة».


وهو أیضاً المقام الذی لا تصدر فیه عن العبد فاحشة: أی ما یسمى فاحشة، لأن العبد فی مقام لا یخاطف فیه بالتکالیف التی تفرق بین الطاعة و المعصیة، إذ یتحقق العابد فی هذا المقام بأن الأفعال کلها للَّه و أنه لیس له من الأمر شیء، بل لیس له من الوجود حظ.

وهذا هو تأویل أصحاب وحدة الوجود لقوله تعالى: «إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْکَرِ» (العنکبوت آیة 45).



(20) «و لیس إلا مشاهدة المحبوب التی تقر بها عین المحب: من الاستقرار إلخ».

(20) قرت العین تَقَر بالفتح و الکسر قُرة و قروراً بردت و انقطع بکاؤها، أو رأت ما کانت متشوقة إلیه، وقر بالمکان یَقِرَ بالفتح و الکسر أیضاً قراراً و قروراً و تقرّة ثبت و سکن به کاستقر.

و قولهم کذا من الأشیاء قرة العین مراعى فیه المعنى الأول دون الثانی. و لکن ابن العربی فسر کلمة «قرة» الواردة فی الحدیث: «و جعلت قرة عینی فی الصلاة» بالمعنى الثانی أی من الاستقرار، فأصبح معنى الحدیث: و جعلت عینی مستقرة فی الصلاة لا تتحول عن المحبوب الذی أشاهده فیها و لا ترى غیره لانتفاء وجود ذلک الغیر.

و قوله: «فلا تنظر معه إلى شیء غیره فی شیء، و فی غیر شیء» معناه فلا ترى العین غیره فی أی وجود آخر، متعیناً کان ذلک الوجود (و هو ما یسمیه شیئاً) أو غیر متعین (غیر شیء).



(21) «ثم إن مسمى الصلاة له قسمة أخرى ... إلى قوله: هو المتأخر عن السابق فی الحلبة».

(21) یرید بذلک أن کلمة «الصلاة» تقال بالاشتراک على أکثر من معنى واحد ککلمة «العین» التی تطلق على العین المبصرة، و عین الماء و الذهب، و غیر ذلک.

و قد ذکر أحد معانی الصلاة فی الفقرات السابقة، و یرید الآن شرح معنى آخر (و هو الذی یسمیه قسمة أخرى) هو صلاة اللَّه على العبد.

فإن اللَّه تعالى أخبرنا أنه یصلی علینا فی قوله: «هُوَ الَّذِی یُصَلِّی عَلَیْکُمْ وَ مَلائِکَتُهُ لِیُخْرِجَکُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ» (الأحزاب آیة 43).

و هنا یتلاعب ابن العربی بالألفاظ مرة أخرى، فیستعمل کلمة «المصلی» بمعنى المتأخر عن السابق، کما تصف الجواد المتأخر فی السباق بأنه المصلی، و تصف الأول الفائز بأنه المجلی. فیقول إن اللَّه یصلی علیکم (على الخلق) أی یتجلى لکم باسمه الآخر، فیتأخر وجوده من حیث هو إله مخلوق فی اعتقاد العبد عن وجود العبد نفسه.

فالحق المصلی علینا هو الحق المتأخر فی الوجود، أی الإله المعتقد فیه الذی یتجلى فی قلوب العباد فیما لا یتناهى من الصور بحسب استعداداتهم.


فإذ صلَّینا نحن کان لنا الاسم «الآخر»، أی فإذا نظرنا إلى الحق اعتبرنا وجودنا متأخراً عن وجوده، و اتصفنا بالاسم الآخر الذی وصفناه به فی الاعتبار الأول.

و یلاحظ هنا أیضاً أنه یستعمل کلمة «المجلی» المقابلة للمصلی بمعنى المتجلی، أی الظاهر، فیزید الأمر تعقیداً. و لکن خلاصة کلامه أننا إذا نظرنا إلى أنفسنا أولًا، و إلى الحق ثانیاً، أتى الحق متأخراً فی الوجود عن وجودنا، لأنه یأتی لنا فی صور اعتقاداتنا، فننظر إلیه فی مرآة نفوسنا. و هذا معنى کونه مصلیاً، و معنى تجلیه لنا بالاسم الآخر.

و لکنا إذا نظرنا إلیه أولًا، و إلى أنفسنا ثانیاً، کانت نظرتنا إلیه من حیث هو ذات واحدة مطلقة، متجلیة فی کل صورة من صور الوجود- و هذا هو الإله الحقیقی.

و الأول الإله المخلوق فی الاعتقاد. فی هذه الحالة نکون نحن المصلین أی المتأخرین فی الوجود، و یحق لنا الاتصاف بالاسم الآخر.



(22) «و قوله: «کُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَ تَسْبِیحَهُ» أی رتبته فی التأخر».

(22) ذکرنا فی التعلیق السابق ما یقصده من تأخر العبد فی الصلاة.

و لما أراد أن یجد لأفکاره مستنداً من القرآن ذکر الآیة: «کُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَ تَسْبِیحَهُ» (سورة النور آیة 41). أما الصلاة فقد عرفنا رأیه فیها، و أما التسبیح فیقصد به تنزیه الحق عن صفات الخلق.

و لکن لما کان الحق المنزه هو الحق المخلوق فی الاعتقاد، و کان تنزیهه متوقفاً على درجة استعداد کل فرد، لأن کل فرد یسبح الحق و ینزهه بمقتضى الصورة الخاصة التی تجلى له فیها فی قلبه، اختلفت درجات التنزیه اختلافاً بیناً باختلاف أصحاب المعتقدات و اختلاف صور الاعتقاد. و لهذا یذم بعضهم بعضاً، و ینکر بعضهم إله بعض.

و لو عرفوا أن الحق المخلوق فی الاعتقاد یتلون بلون المعتقد کما یتلون الماء بلون إنائه، و هو ما أشار إلیه الجنید عند ما سئل عن المعرفة باللَّه.

لو عرفوا ذلک لأقروا جمیع صور الاعتقاد من حیث إنها صور للواحد الحق المتجلی فیها جمیعاً. قال ابن العربی یشیر إلى هذا المعنى:

عقد الخلائق فی الإله عقائداً   ..... و أنا شهدت جمیع ما اعتقدوه


و إذا کان الأمر کذلک:

أی إذا کان کل فرد ینزه إله معتقده و یسبحه، و إله الاعتقاد من صنع المعتقد کما ذکرنا، و إذا کان الثناء على الصنعة ثناء فی الحقیقة على الصانع: أقول إذا کان کل هذا، لزم أن یکون تسبیح العبد لربه تسبیحاً لنفسه.

و إلى هذا أشار فیما بعد بقوله: «و ثم مرتبة یعود الضمیر على العبد المسبح فیها فی قوله: «وَ إِنْ مِنْ شَیْءٍ إِلَّا یُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ» أی بحمد ذلک الشیء.

هذه جرأة غریبة فی فهم القرآن، و لکنها نتیجة منطقیة لمذهب رجل یقول بوحدة الوجود.

إن الحق الذی ینَزَّه و یشَبَّه، و یوصف بکیت و کیت من الصفات، و یُعلَم و یُجْهَل، و یعرف و ینکر، لیس هو الحق فی ذاته، و إنما هو حقیقة معقولة حققها کل منا فی نفسه، بحسب استعداده، و بحسب تکوینه العقلی و الروحی.


أما الحق فی ذاته فیتعالى عن کل تنزیه و تشبیه و وصف و معرفة.

و یختم ابن العربی هذا الفص، کما یختم کتابه کله، بهذه العبارة القصیرة التی تلخص هذه المسألة، بل تلخص مذهبه بأکمله وهی: «فإن إله المعتقدات تأخذه الحدود (أی یمکن حده و تعریفه وتصوره ومعرفته).

وهو الإله الذی فی قلب عبده، فإن الإله المطلق لا یسعه شیء لأنه عین الأشیاء وعین نفسه».