الفقرة السابعة والثلاثون :
شرح فصوص الحکم من کلام الشیخ الأکبر ابن العربی أ. محمود محمود الغراب 1405 هـ:
27 - فص حکمة فردیة فی کلمة محمدیة
* * * * *
………………………………...
1 - المناسبة
أنتقل هنا ما جاء فی کتاب الننبیهات المنسوب إلى الشیخ رضی الله عنه حیث یقول فی التنبیه السادس عشر :
إنما کانت حکمة فردیة لانفراده صلى الله علیه وسلم بمقام الجمعیة الإلهیة الدی ما فوقه إلا مرتبة الذات الأحدیة ، لأنه صلى مظهر الاسم الله الأعظم . الجامع للأسماء کلها .
ولأن أول ما فاض بالفیض الأقدس من الأعیان عینه الذاتیة . وأول ما وجد بالفیت الأقدس من الأکوان روحه الشریفة ، فحصل بالذات الأحدیة والمرتبة الإلهیة وعینه الثابتة الفردیة الأولى ، واعلم أن أول الأفراد الثلاثة ، وما زاد علیها فهو صادر منها . وهذه الثلاثة المشار إلیها فی الموجودات هی الذات الأحدیة . والمرتبة الإلهیة. والحقیقة المحمدیة ، المسماة بالعقل الأول : ولما کانت تعطی الفردیة الأولى بما هو مثلث النشء، قال صلى الله علیه وسلم : حبب إلی من دنیاکم ثلات .
بما فیه من التثلیث : وجعات المحبة التی هی أصل الوجود ظاهرة فیه .
فقدم ذکر النساء ثم الطیب ثم قال وجعلت قرة عینی فی الصلاة ، وإنما حبب النساء إلیه صلى لکمال شهود الحق فیهن ، إد لا یشاهد الحق تعالی مجردة عن المواد أبدا ، فإن الله تعالى بالذان غنی عن العالمین.
ولا نسبة بینه وبین شیء من هذا الوجه أصلا ، فلا یسکن شهوده تعالی مجردة عن المواد ، فإذا کان الأمر من هذا الوجه مستنعا ولم تکن المشاهدة إلا فی مادة ، فنهود الحق تعالى فی النساء أعظم الشهود وأکمله ، فی حال النکاح الموجب لفناء المحب فی المحبوب ، وأعظم الوصلة الجماع ، وهو نظیر التوجه الإلهی على من خلقه على صورته لیخلفه ، فسرى فیه مثال صورته ، وکذلک النکاح یتوجه لإیجاد ولد على صورته ، ینفخ بعض روحه فیه ، یعنی النطفة ، نیشاهد علتیته فی مرآة ابنه ، ویخلفه من بعده ، فصار النکاح المشهور نظیر النکاح الأصلی الأزلی .
فصارت صورة الإنسان خلقة موصوفة بالعبودیة ، وباطنه حق لأنه من روح الله الذی یدبر ظاهره .
ویدیه ، إذ هو الظاهر بصورة الروحانیة ، والله سبحانه وتعالى أعلم
ص 423
قال الشیخ رضی الله عنه : ( إنما کانت حکمته فردیة لأنه أکمل موجود فی هذا النوع الإنسانی، "2"
ولهذا بدئ به الأمر وختم: فکان نبیا وآدم بین الماء و الطین، ثم کان بنشأته العنصریة خاتم النبیین. "3"
وأول الأفراد الثلاثة، وما زاد على هذه الأولیة من )
………………………………...
2 - الفردیة
کان الإیجاد بالفردیة لا بالأحدیة خلافا لمن یقول إنه ما صدر إلا واحد فإنه عن واحد .
فهو قول صحیح لا أنه واقع ، نم جاء الکشف النبوی و الإخبار الإلهی بقوله عن ذات تسمى إلها : إذا أراد شیئا ، فهذان أمران ، قال له کن ، فهذا أمر ثانی ، والنلاثة أول الأفراد ، فظهر التکوین عن الفرد لا عن الواحد ، وهذه کلها راجعة إلى عین واحدة ، ومرتبة الإنسان الکامل من العالم مرتبة النفس الناطقة من الإنسان ، فهو الکامل الذی لا أکمل منه ، وهو محمد صلى الله علیه وسلم فهو الإنسان الکامل الذی ساد العالم فی الکمال . سید الناس یوم القیامة .
الفتوحات ج 3 / 186 ، 331 - ج 4 / 89
3 - «کنت نبیا و آدم بین الماء والطین » – الحدیث
اعلم أن للإنسان حالا قبل أخذ المیثاق علیه ، وهو الحال الذی کان فیها صلى حین عرف بنبوته قبل خلق آدم علیه السلام ، فکان له التعریف فی تلک الحالة ، وذلک أن هذه النشأة الإنسانیة کانت مبثوثة فی العناصر ، ومراتبها إلى حین موتها التی تکون علیها فی وجود أعیان أجسامها معلومة معینة فی الأمر المودع فی السموات ، لکل حالة من أحواله التی نتقاب فیها فی الدنیا صورة فی الفلک على تلک الحالة .
قد أخذ الله بأبصار الملائکة عن شهودها ، مکتنفة عند الله فی غیبه ، معینة له سبحانه لا یعلم السوات بها مع کونها فیها ، وفد جعل الله وجود عینها فی عالم الدنیا فی حرکات تلک الأفلاک ، فمن الناس من أعطی فی ذلک الموطن شهود نفسه ومرنبته . إما على غایاتها بکمالها ، وإما ینهد صورة ما من صوره .
وهو عین تلک المرتبة له فی الحیاة الدنیا ، فیعلمها فیحکم على نفسه بها ، وهنا شاهد رسول الله صلى الله علیه وسلم نبوته ، ولا ندری هل شهد صورة جمیع أحواله أم لا ؟ فالله أعلم ،
فکان قوله صلى الله علیه وسلم « کنت نبیا و آدم بین الماء والطین » إنما کان هذا القول بلسان تلک الصورة التی هی فیها
ص 424
قال الشیخ رضی الله عنه : ( الأفراد فإنها عنها.
فکان علیه السلام أدل دلیل على ربه، فإنه أوتی جوامع الکلم التی هی )
………………………………..
من جملة صور المراتب ، فترجم لنا فی هذه الدار عن تلک الصورة ، فهذا من أحوال الخلق .
ولما خلق الله الأرواح المحصورة المدبرة للأجسام بالزمان عند وجود حرکة الفلک لتعیین المدة المعلومة عند الله ، وکان عند أول خلق الزمان بحرکته ، خلق الروح المدبرة روح محمد صلى الله علیه وسلم ، ثم صدرت الأرواح عند الحرکات ، فکان لها وجود فی عالم الغیب دون عالم الشهادة ، وأعلمه الله بنبوته وبشره بها وآدم لم یکن إلا کما قال بین الماء والطین ، وانتهى الزمان بالاسم الباطن فی حق محمد صلى الله علیه وسلم إلى وجود جسمه و ارتباط الروح به اتقل حکم الزمان فی جریانه إلى الاسم الظاهر ، فظهر محمد صلى الله علیه وسلم بذاته جسما وروحا ، فکان الحکم له باطنا أولا فی جمیع ما ظهر من الشرائع على أیدی الأنبیاء والرسل سلام الله علیهم أجمعین ، فکان روح محمد صلى الله علیه وسلم هو الممد لجمیع الأنبیاء والرسل والأقطاب من حین النشء الإنسائی إلى یوم القیامة،
تم صار الحکم له ظاهرا فنسخ کل شرع أبرزه الاسم الباطن بحکم الاسم الظاهر ، البیان اختلاف حکم الاسمین ، وإن کان المشرع واحدة ، وهو صاحب الشرع ، فإنه قال « کنت نبیا » وما قال « کنت إنسانا ، ولا «کنت موجودة » ولیست النبوة إلا بالشرع المقرر علیه من عند الله ، فأخبر أنه صاحب النبوة قبل وجود الأنبیاء الذین هم نوابه فی هذه الدنیا ، وکان تأثیره صلى الله علیه وسلم بظهور جسمه أقوى فی بعثه منه إذ کان نبیا و آدم بین الماء والطین ، فإنه نسخ بصورة بعثته جمیع الشرائع کلها ، ولم یبق الشریعة حکم سوى ما أبقى هو منها ، من حیث هی شرع له ، لا من حیث ما هی شرع فقط ، فکانت استدارته انتهاء دورته بالاسم الباطن وابتداء دورة أخرى بالاسم الظاهر ، فقال إن الزمان استدار کهیئته یوم خلقه الله ، فی نسبة الحکم لنا ظاهرا ، کما کان فی الدورة الأولى منسوبة إلینا باطنة ، أی إلى محمد وفی الظاهر منسوبة إلى من نسبة إلیه من شرع إبراهیم وموسى وعیسى وجمیع الأنبیاء والرسل ، ولما کانت العرب تنسا الشهور ، فلهذا قال فی اللسان الظاهر « إن الزمان قد استدار
ص 425
* * * * *
. . . . . . . . . . . . . . . . . . .
کهیئته یوم خلقه الله ، کذلک استدار الزمان فأظهر محمدا صلى الله علیه وسلم جسما وروحا بالاسم الظاهر حسا ، فنسخ من شرعه المتقدم ما أراد الله أن ینسخ منه، وابقى ما أراد الله أن یقی منه ، وذلک من الأحکام الخاصة لا الأصول ،
فالأنبیاء علیهم السلام حجبة محمد صلى الله علیه وسلم من آدم علیه السلام إلى آخر نبی ورسول ،
وإنما قلنا إنهم حجبته لقوله صلى الله علیه وسلم « آدم فمن دونه تحت لوائی » فهم نوابه فی عالم الخلق - وهو روح مجرد عارف بذلک قبل نشأة جسمه ، قیل له « متى کنت نبیا »
فقال « کنت نبیا و آدم بین الماء والطین » أی لم یوجد آدم بعد ، إلى أن وصل زمان ظهور جسده المطهر مع ، فلم یبق حکم لنائب من نوابه ، وهم الرسل ، فقرر من شرعهم ما شاء بإذن سیده ومرسله ، ورفع من شرعهم ما أمر برفعه و نسخه ،
وربما قال من لا علم له بهذا الأمر « إن موسى علیه السلام کان مستقلا مثل محمد بشرعه » فقال رسول الله صلى الله علیه وسلم « لو کان موسی حیا ما وسعه إلا أن یتبعنی »، وصدق صلى الله علیه وسلم فإن أول إنسان أنشأه الله هو آدم من حیث النشأة الترابیة ومن حیث المقام ،
فآدم ومن دونه إنما هو وارث محمد صلى الله علیه وسلم لأنه کان نبیا وآدم بین الماء والطین ، لم یکن بعد موجودة ،
فالنبوة لمحمد صلى الله علیه وسلم ولا آدم - والصورة الآدمیة الطبیعیة الإنسانیة لآدم - ولا صورة لمحمد صلى الله علیه وسلم وعلى آدم وعلى جمیع النبیین ، فآدم أبو الأجسام الإنسانیة ،
ومحمد صلى الله علیه وسلم أبو الورثة من آدم إلى خاتم الأمر من الورثة ، ولهذا أوتی جوامع الکلم، ومنها علم الله آدم الأسماء کلها، فظهر حکم الکل فی الصورة الآدمیة والصورة المحمدیة ، فهی فی آدم أسماء وفی محمد صلى الله علیه وسلم کلم ،
فکان قوله صلى الله علیه وسلم « کنت تبیة و آدم بین الماء والطین » یرید على علم بذلک ،
فأخبره الله تعالی مرتبته وهو روح قبل إیجاده الأجسام الإنسانیة ، کما أخذ المیثاق من بنی آدم قبل إیجاد أجسامهم ، واستصحبه ذلک إلى أن وجد جسمه - فی بلد لم یکن فیه موحد الله - ولم یزل على توحید الله لم یشرک کما أشرک أهله وقومه إلى أن أرسله الله إلى الناس کافة ، فکان یذکر الله على کل أحیانه کما ذکرت عنه عائشة أم المؤمنین رضی الله عنها ، وقال صلى الله علیه وسلم
ص 426
قال الشیخ رضی الله عنه : ( مسمیات أسماء آدم، فأشبه الدلیل فی تثلیثه، "4" والدلیل دلیل لنفسه.
ولما کانت حقیقته تعطی الفردیة الأولى بما هو مثلث النشأة ،"5"
لذلک قال فی باب المحبة التی هی أصل الموجودات "6" «حبب إلی من دنیاکم ثلاث» بما فیه من التثلیث، ثم ذکر النساء والطیب وجعلت قرة عینه فی الصلاة.
فابتدأ بذکر النساء و أخر الصلاة، وذلک لأن المرأة جزء من الرجل فی أصل ظهور عینها.
ومعرفة الإنسان بنفسه مقدمة على معرفته بربه، فإن معرفته بربه نتیجة عن معرفته بنفسه. لذلک قال علیه السلام «من عرف نفسه عرف ربه».
فإن شئت قلت بمنع المعرفة فی هذا الخبر و العجز عن الوصول فإنه سائغ فیه، وإن شئت قلت بثبوت المعرفة.
فالأول أن تعرف أن نفسک لا تعرفها فلا تعرف ربک: والثانی أن تعرفها فتعرف )
………………………………………………….
عن نفسه ، وهو الصادق ، إنه تنام عینه ولا ینام قلبه ، فأخبر عن قلبه أنه لا ینام عند نوم عینه عن حسه ، فکذلک موته إنما مات حسا کما نام حسا ، وکما أنه لم بنم قلبه لم یمت قلبه ، فاستصحبته الحیاة من حین خلقه الله ، وحیاته إنما هی مشاهدة خالقه دائما لا تنقطع ، فکان محمد صلى الله علیه وسلم عین سابقة النبوة البشریة بقوله معرفة إیانا « کنت نبیا وآدم بین الماء والطین » وهو عین خاتم النبیین بقوله تعالی " ولکن رسول الله وخاتم النبیین " فبه بدء الأمر وختم ، فکان نبیا وآدم بین الماء والطین ، والطین ما خمرت طینته وما علم ، وأخرت طینته صلى الله علیه وسلم إلى أن جاءت دورة المیزان الذی عدل حین حکم ، فهو واضع الشرائع ورافعها روحا ونفسا وعقلا وحسا ، خط ذلک کله فی اللوح المحفوظ القلم .
الفتوحات ج 1 / 134 ، 143 ، 145 ، 109، 151 ، 243 ، 244 - ج 2 / 108 ، 168 ، 387 ، - ج 3 / 413 ، 456 ، 457 ، 495 ، 497 ، 513 ، 22 - ج 4 / 331
4 - یرید أن الدلیل یتکون من مقدمتین ورابطة فهذه ثلاثة
5 - یرید إنشاء اسمه صلى الله علیه وسلم من ثلاثة أحرف من غیر تکرار وهی المیم والحاء والدال.
راجع فص حکمة داودیة فص 17، رقم 3، ص 276.
"" 3 - حروف اسم داود علیه السلام ومحمد صلى الله علیه وسلم - فص 17، رقم 3، ص 276.
لما کان داود علیه السلام فی دلالة اسمه علیه أشبه بنی آدم با دم فی دلالة اسمه علیه ، صرح الله بخلافته فی القرآن فی الأرض کما صرح بخلافة آدم فی الأرض ، فإن حروف آدم غیر متصلة بعضها ببعض ، وحروف داود کذلک ، إلا أن آدم فرق بینه وبین داود بحرف المیم ، الذی یقبل الاتصال القبلی والبعدی ، فأتى الله به آخرا حتى لا یتصل به حرف سواه ، وجعل قلبه واحدا من الحروف الستة التی لا تقبل الاتصال البعدی ، فأخذ داود من آدم ثلثی مرتبته فی الأسماء ، وأخذ محمد صلى الله علیه وسلم ثلثیه أیضا وهو المیم والدال ، غیر أن محمدا متصل کله ، والحرف الذی لا یقبل الاتصال البعدی جعل آخرة ، حتى یتصل به ، ولا یتصل هو بشیء بعده .
فناسب محمد آدم علیهما الصلاة والسلام من وجهین :
الأول مناسبة النقیض بالاتصال بادم و آدم له الانفصال کداود ، والمیم من آدم کالدال من محمد فجاءتا آخرا لذلک ، أعنی فی آخر الاسم منهما .
والثانی مناسبة النظیر التی بین آدم ومحمد. فی کون الحق علم آدم الأسماء کلها ، وأعطى محمدا من جوامع الکلم ، وعمت رسالته کما عم التناسل من آدم فی ذریته.
فالناس بنو آدم ، والناس أمة محمد صلى الله علیه وسلم ، من تقدم منهم ومن تأخر.
فتوحات ج 4 / 100 ""
6 - المحبة التی هی أصل الموجودات
راجع فص 1 ، رقم 2، ص 25
""2 - محاضرة الأسماء و تحاورها - فص 1 ، رقم 2، ص 20
اجتماع الأسماء فی حضرة المسمى وظهور أحکامها
إن الأسماء اجتمعت بحضرة المسمى ، ونظرت فی حقائقها ومعانیها ، فطلبت ظهور أحکامها حتى تتمیز أعیانها بآثارها.
فإن الخالق الذی هو المقدر والعالم والمدبر والمفصل والبارئ والمصور والرزاق والمحینی والمیت والوارث والشکور .
وجمیع الأسماء الإلهیة نظروا فی ذواتهم ولم یروا مخلوقا ولا مدبرا ولا مفصلا ، ولا مصورا ولا مرزوقا.
فقالوا کیف العمل حتى تظهر هذه الأعیان التی تظهر أحکامنا فیها فیظهر سلطاننا ؟ فلجأت الأسماء الإلهیة التی تطلبها بعض حقائق العالم بعد ظهور عینه إلى الاسم البارئ فقالوا له : " عسى أن توجد هذه الأعیان لتظهر أحکامنا وینبت سلطاننا إذ الحضرة التی نحن فیها لا تقبل تأثیرنا " .
فقال الباریء : « ذلک راجع إلى الاسم القادر فإنی تحت حیطته ».
وکان أصل هذا أن الممکنات فی حلل نعدمها سألت الأسماء الإلهیة سؤال حال ذلة وافتقار .
وقالت لها : إن العدم قد أعمانا عن إدراک بعضنا بعضا وعن معرفة مایجب لکم من الحق علینا، فلو أنکم أظهرتم أعیاننا و کسوتمونا حلة الوجود أنعمتم علینا بذلک وقمنا بما ینبغی لکم من الجلال والتعظیم ، وأنتم أیضا کانت السلطنة تصح لکم فی ظهورنا بالفعل ، والیوم .أتم علینا.
سلاطین بالقوة والصلاحیة، فهذا الذی نطلبه منکم. هو فی حقکم أکثر منه فی حقنا.
فقالت الأسماء : إن هذا الذی ذکرته الممکنات صحیح فتحرکوا فی طلب ذلک ، فلما لجأوا إلى الاسم القادر .
قال القادر : أنا تحت حیطة المزید فالا أوجد عینا منکم إلا باختصاصه ، ولا یمکننی الممکن من نفسه إلا أن یأتیه أمر الأمر من ربه ، فإذا أمره بالتکوین وقال له کن مکننی من نفسه و تعلقت بإیجاده فکونته من حینه.
فلجأوا إلى الاسم المرید ، فقالوا له : إن الاسم القادر سألناه فی إیجاد أعیانبا فأوقف أمر ذلک علیک فما ترسم ؟
وقال المرید صدق القادر. ولکن ما عندی خبر ما حکم الأمم العالم فیکم ، هل سبق علمه بإیجادکم فنخصص أو لم یسبق؟
فأنا تحت حیطة الاسم العالم ، فسیروا إلیه واذکروا له قضیتکم.
فساروا إلى الاسم العالم وذکروا ما قاله الأسم المرید .
فقال العالم : صدق المرید وقد سبق علمی بإیجادکم ؛ ولکن الأدب أولى :" فإن لنا حضرة مهیمنة علینا وهی الاسم الله .
فلابد من حضورنا عنده ، فإنها حضرة الجمع ، فاجتمعت الاسماء کلها فی حضرة الله .
فقال : ما بالکم ؟
فذکروا له الخبر .
فقال : أنا اسم جامع لحقائقکم وإنی دلیل على مسمى وهو ذات مقدسة له نعوت الکمال والتنزیه، فقفوا حتى أدخل على مدلولی ، فدخل على مدلوله فقال له ما قالته الممکنات وما تحاورت فیه الأسماء.
فقال : اخرج وقل لکل واحد من الأسماء یتعلق بما تقتضیه حقیقته فی الممکنات فإنی الواحد لنفسی من حیث نفسی ، والممکنات إنما تطلب مرتبتی وتطلبها مرتبتی، والأسماء الإلهیة کلها للمرتبة لا لی إلا الواحد خاصة فهو اسم خصیص بی لا یشارکنی فی حقیقته من کل وجه أحد. لا من الأسماء ولا من المراتب ولا من الممکنات.
فخرج الاسم الله ومعه الاسم المتکلم یترجم عنه للممکنات والأسماء، فذکر لهم ما ذکره المسمى ، فتعلق العالم والمرید والقائل والقادر .
فظهر الممکن الأول من الممکنات بتخصیص المرید وحکم العالم ، فلما ظهرت الأعیان والآثار فی الأکوان ، وتسلط بعضها على بعض ، وقهر بعضها بعضا ، بحسب ما تستند إلیه من الأسماء ، فادی إلى منازعة وخصام.
فقالوا : إنا نخاف علینا، أن یفسد نظامنا وتلحق بالعدم الذی کنا فیه .
فنبهت الممکنات الأسماء بما ألقى إلیها الأسم العلم والمدبر.
وقالوا : أنتم أیها الأسماء لو کان حکمکم على میزان معلوم وحد مرسوم بإمام ترجعون إلیه یحفظ علینا وجودا وتحفظ علیکم تأثیراتکم فینا ، لکان أصلح لنا ولکم ، فالجأوا إلى الله عسى یقدم من یحد لکم حدا تقفون عنده وإلا، هلکنا وتعطلتم .
فقالوا : هذا عین المصلحة وعین الرأی ، ففعلوا ذلک .
فقالوا : إن الاسم المدبر هو ینهی أمرکم ، فأنهوا الى المدبر الأمر .
فقال : أنا لها ، فلخل وخرج بأمر الحق إلى الاسم الرب .
وقال له : افعل ما تقتضیه المصلحة فی بقاء أعیان هذه الممکنات .
فاتخذ: وزیرین یعیناته على ما أمر به ، الوزیر الواحد الاسم المدبر ،والوزیر الآخر المفصل.
قال تعالى : یدبر الأمر یفصل الآیات لعلکم بلقاء ربکم توقنون، الذی هو الإمام، فانظر ما أحکم کلام الله تعالى ، حیث جاء بلفظ مطابق للحال الذی ینبغی أن یکون الأمر علیه ، فحد الاسم الرب لهم الحدود ووضع لهم المراسم لإصلاح المملکة لیبلوکم أیهم أحسن عملا .
محاضرة الأسماء فی حضرة الذات ... دلیل على الماضی دلیل على الآتی
أقول بها والکون یعطی وجودها ... لوجدان آلام ووجدان لذات
فلولا وجود المحو ما صح عندنا ... ولا عند من یدری وجود لأثبات
ویقول فی موطن آخر :
اعلم أن السدنة من الأسماء الإلهیة لما کانت بأیدیهم مقالید السموات والأرض ، ولا سماء ولا أرض ، بقی کل سادن بمقلاده لا یجد ما یفتح .
فقالوا : یا للعجب خزان بمفاتیح مخازن لا تعرف مخزنا موجودا ، فما نصنع بهذه المقالید ، فأجمعوا أمرهم وقالوا «لابد لنا من أئمتنا السبعة الذین أعطونا هذه المقالید ولم یعرفونا المخازن التی تکون علیها ، فقاموا على أبواب الأمة ، على باب الإمام المخصص والإمام المنعم والإمام المقسط ، فأخبرهم الأمر ، فقالوا: صدقتم ، الخبر عندنا ، و سنعینها لکم إن شاء الله تعالى ، ولکن تعالوا نصل إلى من بقی من الأئمة ونجتمع على باب حضرة الإمام الإلهی إمام الأئمة ، فاجتمع الکل وهم بالإضافة إلى الإمام.
المعروف « بالله » سدنة ، فوقف الجمیع ببابه فبرز لهم.
وقال : ما الذی جاء بکم ؟
فذکروا له الأمر وأنهم طالبون وجود السموات والأرض حتى یضعوا کل مقلاد على بابه ، فقال : أین الإمام المخصص ؟
فبادر إلیه المرید ، فقال له : ألیس الخبر عندک وعند العلیم ؟
فقال له نعم ، قال : فإن کان فأرح هؤلاء مما هم فیه من تعلق الخاطر وشغل البال ، فقال العلیم والمرید : أیها الإمام الأکمل .
قل الإمام القادر یساعدنا والقائل ، فإنه لا تقوم به بأنفسنا إلا أربعتنا ، فنادى الله تعالى القادر والقائل ، وقال لهما : أعینا أخویکما فیما هما بسبیله.
فقالا « نعم » فدخلا حضرة الجواد .
فقالا للجواد : عزمنا على إیجاد الأکوان وعالم الحدثان ، وإخراجهم من العدم إلى الوجود، وهذا من حضرتک حضرة الجود.
فادفع لنا من الجود ما تبرزهم به ، فدفع لهم الجود المطلق ، فخرجوا به من عنده ، وتعلقوا بالعالم فأبرزوه على غایة الإحکام والإتقان ، فلم یبق فی الإمکان أبدع منه ، فإنه ص در عن الجود المطلق .
ولو بقی أبدع منه لکان الجواد قد بخل بما لم یعط وأبقاه عنده من الکمال ، ولم یصح علیه إطلاق اسم الجواد وفیه شیء من البخل .
فلیس اسم الجواد علیه فیما أعطى بأولى من اسم البخیل علیه فیما أمسک ، وبطلت الحقائق ، وقد ثبت أن اسم البخیل علیه محال ، فکونه أبقى عنده ما هو أکمل منه محال ، وما ظهر الإمام المقسط إلا بعد نزول الشرائع.
راجع فتوحات ج 1 / 323 – ج 2 / 556 , کتاب إنشاء الجداول والدوائر. ""
ص 427
قال الشیخ رضی الله عنه : ( ربک. "7"
فکان محمد صلى الله علیه وسلم أوضح دلیل على ربه، فإن کل جزء من العالم دلیل )
…………………………………….
7 - «من عرف نفسه عرف ربه » - الحدیث
جاء صلى الله علیه وسلم فی هذا الحدیث بمن، وهی نکرة فعم کل عارف، وعلق المعرفة بالرب، فالعلم به تعالی موقوف على العلم بنا ، أی أن المعرفة بالله ما لها طریق إلا المعرفة بالنفس ، فجعلک دلیلا ، أی جعل معرفتک بک دلیلا على معرفتک به ، أو جعلک دلیلا علیه فعلمته ، فإما بطریقة ما وصفک بما وصف به نفسه من ذات وصفات ، وجعله إیاک خلیفة نائبا عنه فی أرضه ، وإما بما أنت علیه من الافتقار إلیه فی وجودک ، وإما الأمران معا ، لابد من ذلک ،
فإنک لو علمت نفسک علمت ربک ، کما أن ربک علمک وعلم العالم بعلمه بنفسه ، وأنت صورته فلابد أن تشارکه فی العلم ، فتعلمه من علمک بنفسک ، إذ کان الأمر فی علم الحق بالعالم علمه بنفسه ، وجعلنا دلیلا علیه فقدم معرفة الإنسان نفسه لأنه عین الدلیل ، ولابد أن یکون العلم بالدلیل مقدما على العلم بالمدلول ، فجعل صلى الله علیه وسلم نفس العارف إذا عرفها العارف دلیلا على معرفة الله ،
فعلمنا به فرع عن علمنا بنا ، إذ نحن عین الدلیل ، فمن عرف نفسه خلقا موجودا عرف الحق خالقا موجدا ، فإن الحق تعالی انتسب إلینا إیجادا واتسبنا إلیه وجودا ، ومن عرف أنه لم تزل عینه فی مکانها عرف ربه بأنه الموجود فی الوجود ، ومن عرف التغییرات الظاهرة فی الوجود أنها أحکام استعداد الممکنات عرف ربه بأنه عین مظهرها ، ومن عرف نفسه بأنه لا یماثله الحق عرف ربه فإنه لا یماثله الخلق ، فیعرف نفسه معرفة ذوق ، فلا یجد فی نفسه للألوهة مدخلا ، فیعلم بالضرورة أن الله لو أشبهه أو کان مثلا له لعرفه فی نفسه ، وعلم بافتقاره أنی ثم من یفتقر إلیه ولا یمکن أن یشبهه ، فعرف ربه أنه لیس مثله
وقد تکون المعرفة بالله الحاصلة بعد المعرفة بالنفس علما بالعجز عن البلوغ إلى ذلک فیحصل العلم بأنه ثم من لا یعلم ، فعند العارفین ، الشرع أغلق فی هذا القول باب العلم بالله لعلمه بأنه لا یصل أحد إلى معرفة نفسه ، فإن النفس لا تعقل مجردة عن علاقتها بهیکل تدبره ، منورا کان أو مظلمة ، فلا تعقل إلا کونها مدبرة ، ماهیتها
ص 428
قال الشیخ رضی الله عنه : ( على أصله الذی هو ربه فافهم. "8"
فإنما حبب إلیه النساء فحن إلیهن لأنه من باب حنین الکل إلى جزئه،"9"
فأبان بذلک عن الأمر فی نفسه من جانب الحق )
……………………………………..
لا تعقل ولا تشهد مجردة عن هذه العلاقة ، ولذلک الله لا یعقل إلا إلها ، غیر إله لا یعقل ، فلا یتمکن فی العلم به تجریده عن العالم المربوب ، وإذا لم یعقل مجردة عن العالم لا تعقل ذاته، ولا شهدت من حیث هی ، فأشبه الغلم به العلم بالنفس، والجامع عدم التجرید وتخلیص حقیقة ذاته من العلاقة التی بین الله وبین العالم والعلاقة التی بین نفسک وبین بدنها ، وکل من قال بتجرید النفس عن تدبیر هیکل ما فما عنده خبر بماهیة النفس ، فما أظن والله أعلم أنه أمرنا بمعرفته وأحالنا على نفوسنافی تحصیلها ، إلا لعلمه أنا لا ندرک ولا نعلم حقیقة نفوسنا ونعجز عن معرفتنا بنا فنعلم أنا به أعجز فیکون ذلک معرفة به لا معرفة ، فمن عجز عن معرفة نفسه عجز عن معرفة ربه ، وقد تکون المعرفة بالشیء العجز عن المعرفة به ، فیعرف العارف أن هذا المطلوب لا یعرف .
الفتوحات ج 1 / 63 ، 95 ، 112 ، 331 ، 328 ، 347 ، 353 ، 399 ، 472 ، 383 ، 591 ، 661 ، 695 .
ج 2 / 176 ، 153 ، 225 ، 243 ، 256 ، 298 ، 429 ، 470 ، 472 ، 479 ، 500 ، .
ج 3 / / 44 ، 101 ، 109 ، 289 ، 301 ، 315 ، 363 ، 391 ، 401 ، 401 ، 404 ، 412 ، 503 ، 536 ، 544 ، 553 ، 556 ، 557 .
ج 4 / 91 ، 147 ، 423 ، 432 ، 416 ، 455
8 - وله فی کل شیء آیة تدل على أنه واحد
راجع کتابنا شرح کلمات الصوفیة ص 141
"" وله فی کل شیء آیة تدل على أنه واحد - کتابنا شرح کلمات الصوفیة ص 141
فإن الحق هو المشهود بکل عین فی نفس الأمر، ولا یعلم ذلک إلا آحاد من أهل اللّه،
وهو مثل قول الصدیق: ما رأیت شیئا إلا رأیت اللّه قبله فعرفته؛
فإذا ظهر ذلک الشیء لعینه المقید، وقد رأى اللّه قبله، میزه فی ذلک الشیء، وعلم أن ذلک الشیء ملبس من ملابس الحق، ظهر فیه للزینة، فتلک زینة اللّه التی تزین بها لعباده، هذا مقام الصدیق، فلا یتمیز أهل اللّه من غیرهم إلا بالعلم بذلک، لأن الأمر فی نفسه على ذلک، وعند العامة لا یکون ذلک إلا لأهل العنایة المتحققین بالحق، وغیرهم هو عندهم خلق بلا حق.
(فتوحات ج 1/ 607 - ج 3/ 147).
قال اللّه تعالى لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ فإن قدّم صاحب الشهود نظره للّه على نظره لنفسه، فهو مقام الصدیق «ما رأیت شیئا إلا رأیت اللّه قبله»
وإن قدّم نظره فی نفسه على نظره فی ربه، کما قال صلى اللّه علیه وسلم «من عرف نفسه عرف ربه» وهو مقام من قال: ما رأیت شیئا إلا رأیت اللّه بعده؛ أی ما رأیت شیئا إلا وکان لی دلیلا على اللّه.
(فتوحات ج 1/ 483)
ونحن نعلم قطعا أن ذوق الرسل فوق ذوق الأتباع بما لا یتقارب، فلا تظن أن سؤال موسى رؤیة ربه، أنه فاقد للرؤیة التی کانت حالة أبی بکر الصدیق رضی اللّه عنه فی قوله:
ما رأیت شیئا إلا رأیت اللّه قبله؛ هذه الرؤیة ما هی الرؤیة التی طلبها موسى من ربه، فإنها رؤیة حاصلة له لعلو مرتبته، فإن ذوق الصادق ما هو ذوق الصدیق، فالرؤیة ثابتة بلا شک ذوقا ونقلا لا عقلا، فإن رؤیة اللّه تعالى من محارات العقول، ومما یوقف عندها، ولا یقطع عندها بحکم من أحکامها الثلاثة . الأحکام الثلاثة الوجوب والإمکان والمحال.
إذ لیس للأنبیاء ولا للأولیاء من أهل اللّه علم باللّه یکون عن فکر، قد طهرهم اللّه عن ذلک، بل لهم فتوح المکاشفة بالحق، فمن الناس من یفتح له بالإیمان العام، وهو مطالعة الحقیقة کأبی بکر، ومنهم من یفتح له بالإنباء العام الذی لا شرع فیه، وهذان الفتحان باقیان فی هذه الأمة إلى یوم القیامة.
(فتوحات ج 3/ 116، 153) ""
9 - حنین الرجل إلى المراة
المرأة والرجل وإن اجتمعا فی الإنسانیة ولکن یتمیزا بأمر عارض عرض لهما وهو الذکوریة للرجل والأنوثة للمرأة ، وخلقت منفصلة عنه لیحن إلیها حنین من ظهرت سیادته بها ، فهو یحبها محبة من أعطاه درجة السیادة ، وهی تحن إلیه حنین الجزء إلى الکل ، وهو حنین الوطن لأنه وطنها ، مع ما یضاف إلى ذلک من کون کل واحد موضعا لشهوته والتذاذه .
الفتوحات ج 1 / 679
ص 429
قال الشیخ رضی الله عنه : (فی قوله فی هذه النشأة الإنسانیة العنصریة «و نفخت فیه من روحی».
ثم وصف نفسه بشدة الشوق إلى لقائه فقال للمشتاقین «یا داود إنی أشد شوقا إلیهم» یعنی المشتاقین إلیه.
وهو لقاء خاص: فإنه قال فی حدیث الدجال إن أحدکم لن یرى ربه حتى یموت، فلا بد من الشوق لمن هذه صفته.
فشوق الحق لهؤلاء المقربین مع کونه یراهم فیحب أن یروه و یأبى المقام ذلک. فأشبه قوله «حتى نعلم» مع کونه عالما.
فهو یشتاق لهذه الصفة الخاصة التی لا وجود لها إلا عند الموت، فیبل بها شوقهم إلیه کما قال تعالى فی حدیث التردد و هو من هذا الباب «ما ترددت فی شیء أنا فاعله ترددی فی قبض عبدی المؤمن یکره الموت و أکره مساءته و لا بد له من لقائی».
فبشره وما قال له لا بد له من الموت لئلا یغمه بذکر الموت.
و لما کان لا یلقى الحق إلا بعد الموت کما قال علیه السلام «إن أحدکم لا یرى ربه حتى یموت» لذلک قال تعالى «ولا بد له من لقائی».
فاشتیاق الحق لوجود هذه النسبة:
یحن الحبیب إلى رؤیتی ... و إنی إلیه أشد حنینا
و تهفو النفوس و یأبى القضا ... فأشکو الأنین و یشکو الأنینا "10" )
……………………………………………..
10 - نسبة الشوق إلى الحق تعالی
هذا خبر لا علم لی بصحته ، فإنه لا علم لی به لا من الکشف ولا من روایة صحیحة ، إلا أنه مذکور مشهور ، فإن صح الخبر فإنه شوق کما یلیق بجلاله ، وهو أن ینیلهم الراحة بلقاء من اشتاقوا إلیه ، والوقت المقدر الذی لم یتبدل لم یصل ، فلابد من تأخر ما وقع الشوق الإلهی إلیه .
والحنین للاشتیاق ، والأنین للهیمان ، ولقاء الأحبة وفراقها مرتبط بسبق العلم وحلول الوقت وکرور الدور .
أبدا تحن إلیکم الأرواح …. ووصالکم ریحانها والراح
وقلوب أهل ودادکم تشتاقکم …… وإلی زمان لقاکمو ترتاح
وارحمنا للعاشقین تحملوا …… ثقل المحبة والهوى فضاح
بالسر إن باحوا تباح دماؤهم ….. وکذا دماء البائحین تباح
الفتوحات ج 2 / 173 ، 364 - الأعلاق - المسامرات .
ص 430
ص 430
قال الشیخ رضی الله عنه : (فلما أبان أنه نفخ فیه من روحه، فما اشتاق إلا لنفسه.
ألا تراه خلقه على صورته لأنه من روحه؟
ولما کانت نشأته من هذه الأرکان الأربعة المسماة فی جسده أخلاطا، حدث عن نفخه اشتعال بما فی جسده من الرطوبة، فکان روح الإنسان نارا لأجل نشأته.
ولهذا ما کلم الله موسى إلا فی صورة النار وجعل حاجته فیها.
فلو کانت نشأته طبیعیة لکان روحه نورا.
وکنى عنه بالنفخ یشیر إلى أنه من نفس الرحمن، فإنه بهذا النفس الذی هو النفخة ظهر عینه، وباستعداد المنفوخ فیه کان الاشتعال نارا لا نورا. "11"
فبطن نفس الرحمن فیما کان به الإنسان إنسانا. ثم اشتق )
……………………………………...
11 - الأرواح المدبرة *
یراجع الباب الأول والثانی من کتاب التدبیرات الإلهیة
التحقیق عندنا أن الأرواح المدبرة للصور کانت موجودة فی حضرة الإجمال غیر مفصلة لأعیانها ، مفصلة عند الله فی علمه ، فکانت فی حضرة الإجمال کالحروف الموجودة بالقوة فی المداد ، فلم تتمیز لأنفسها وإن کانت متمیزة عند الله ، مفصلة فی حال إجمالها ، فلما سوى الله صور العالم ، أی عالم شاء ، کان الروح الکلی کالقلم والیمین الکاتبة ، والأرواح کالمداد فی القنم ، والصور منازل الحروف فی اللوح .
فنفخ الروح فی صور العالم فظهرت الأرواح متمیزة بصورها ، فقیل هذا زید وهذا عمرو ، وهذا فرس وهذا فیل وهذه حیة ، وکل ذی روح ، وما ثم إلا ذو روح ، لکنه مدرک وغیر مدرک ، فمن الناس من قال إن الأرواح فی اصل وجودها متولدة من مزاج الصورة ، ومن الناس من منع من ذلک ، والطریقة الوسطى ما ذهبنا إلیه . الفتوحات ج 3 / 12
ویظهر فی هذه الفقرة الالتباس الذی وقع لکاتبها بین النفس والروح ، فری ذلک من کلام الشیخ رضی الله عنه حیث یقول فی الأرواح فی . الفتوحات ج 2 / 67.
اعلم أن أول ما خلق الله العقل وهو الذی ظهرت منه هذه العقول بوساطة هذه النفوس الطبیعیة ، وسماه الله فی کتابه العزیز الروح وأضافه إلیه فقال فی حق النفوس الطبیعیة وحق هذا الروح وحق هذه الأرواح الجزئیة التی لکل نفس طبیعیة « فإذا سویته و نفخت فیه من روحی » وهو هذا العقل الأکبر .
ص 431
قال الشیخ رضی الله عنه : (منه شخصا على صورته سماه امرأة، فظهرت بصورته فحن إلیها حنین الشیء إلى نفسه، و حنت إلیه حنین الشیء إلى )
………………………………………….
أما عن النفس بسکون الفاء فیقول فی. الفتوحات ج 2 / 568.
أول البرازخ فی الأعیان وجود النفس الکلیة ، فإنها وجدت عن العقل والموجد الله فلها وجه إلى سببها ، ولها وجه إلى الله فهی أول البرازخ ،
فإذا علمت هذا ، فالنفس التی هی لطیفة العبد المدبرة هذا الجسم لم یظهر لها عین إلا عند تسویة هذا الجسد وتعدیله ، فحینئذ نفخ فیه الحق من روحه ، فظهرت النفس بین النفخ الإلهی والجسد المسوی ، ولهذا کان المزاج یؤثر فیها ، وتفاضلت النفوس ، فإنه من حیث النفخ الإلهی لا تفاضل ، وإنما التفاضل فی القوابل ، فلها وجه إلى الطبیعة ووجه إلى الروح الإلهی .
ویقول فی الفتوحات ج 3/ 125: النفوس عن الطبیعة کانت ، فهی أمها وأبوها الروح
ویقول فی الفتوحات ج 2 / 503 : سمیت حقیقة الإنسان لطیفة لأنها ظهرت بالنفخ عند تسویة البدن للتدبیر من الروح المضاف إلى الله فی قوله « فإذا سویته ونفخت فیه من روحی » وهو النفس الإلهی ، فهو سر إلهی لطیف ینسب إلى الله على الإجمال من غیر تکییف .
أما ما جاء فی هذه الفترة من قوله " فلو کانت نشأته طبیعیة "، فلا یصح نسبة هذا إلى الشیخ إذ هو القائل فی الفتوحات ج 1 / 723 « عن الطبیعة ظهر کل جسم وجسد وجسمانی فی عالم الأجسام العلوی والسفلی »۰
وکیف أن ینسب إلى الشیخ قوله « فکان روح الإنسان نارا » وهو القائل فی الفتوحات ج 2 / 354 : الإنسان مجموع الطبع والنور ، فالطبع یطلبه والنور یطلبه ، وکلف النور أن یغتبن ویترک کثیرا مما ینبغی له وتطلبه حقیقته ، لما یطابه الطبع من المصالح ، وأمر النور الذی هو الروح أن یوفیه حقه ، وهو قوله صلى لمن قال له من أبر ؟
قال « أمک » ثلاث مرات ، ثم قال له فی الرابعة « ثم أباک » فرجح بر الأم على بر الأب ، والطبیعة الأم ۰۰۰
فهذا کله من حقوق الأم التی هی طبیعة الإنسان ، وأبوه هو الروح الإلهی وهو النور ، فإذا ترک أمورا کثیرا من محابه من حیث نوریته ، فإنه یتصف بأنه مضرور وهو مأمور بالصبر .
راجع فص 15 هامش 19 - الطبیعة
ص 432
قال الشیخ رضی الله عنه : (نفسه، و حنت إلیه حنین الشیء إلى وطنه. "12"
فحببت إلیه النساء، فإن الله أحب من خلقه على صورته و أسجد له ملائکته النوریین على عظم قدرهم و منزلتهم و علو نشأتهم الطبیعیة. فمن هناک وقعت المناسبة.
والصورة أعظم مناسبة وأجلها و أکملها: فإنها زوج أی شفعت وجود الحق ،"13" . کما کانت المرأة شفعت بوجودها الرجل فصیرته زوجا.
فظهرت الثلاثة حق ورجل و امرأة، "14"
فحن الرجل إلى ربه الذی هو أصله حنین المرأة إلیه. فحبب إلیه ربه النساء کما أحب الله من هو على صورته.
فما وقع الحب إلا لمن تکون عنه، و قد کان حبه لمن تکون منه و هو الحق.
فلهذا قال «حبب» و لم یقل أحببت من نفسه لتعلق حبه بربه الذی هو على صورته حتى فی محبته لامرأته، فإنه أحبها بحب الله إیاه تخلقا إلهیا.
ولما أحب الرجل المرأة طلب الوصلة أی غایة الوصلة التی تکون فی المحبة، فلم یکن فی صورة )
…………………………………………….
ومعلوم لدى الشیخ رضی الله عنه وغیره من العلماء أن النور والنار ینسب إلى الأجسام لا إلى الأرواح ولا النفوس ، فیقال أجسام ناریة وأجسام نوریة ذات أرواح ، وأما التعلیل بقوله " ولهذا ما کلم الله موسى إلا فی صورة النار وجعل حاجته فیها" ، فلا یصح نسبته أیضا إلى الشیخ .
راجع فی ذلک فص 25 هامش 45
کل ما قدمنا یقطع بعدم صحة ما جاء فی هذه الفقرة إلى الشیخ رضی الله عنده.
12 - «وجعل بینکم مودة ورحمة » الآیة
الرحمة المجعولة هی ما یجده کل واحد من الزوجین من الحنان إلى صاحبه ؛ فیحن إلیه ویسکن ، فمن حیث المرأة حنین الجزء إلى کله والفرع إلى أصله ، والغریب إلى وطنه ، وحنین الرجل إلى زوجته حنین الکل إلى جزئه لأنه به یصح علیه اسم الکل ، وبزواله لا یثبت له هذا الاسم ، وحنین الأصل إلى الفرع ، لأنه یمده ، فبالمودة والرحمة طلب الکل جزأه والجزء کله . الفتوحات ج 3 / 18.
13 - الظاهر فی المظاهر موضوع المرایا فص 2، رقم 6، ص 45
وشفعت وجود الحق القدیم بالوجود الحادث.
14 - نفس المعنى هامش 22 ، ص 442
ص 433
قال الشیخ رضی الله عنه : (النشأة العنصریة أعظم وصلة من النکاح، "15"
و لهذا تعم الشهوة أجزاءه کلها، و لذلک أمر بالاغتسال منه، فعمت الطهارة کما عم الفناء فیها عند حصول الشهوة.)
……………………………………………...
15 ، 17 - حب النساء
ما عدل النبی صلى الله علیه وسلم إلى قوله « حبب » ولم یذکر من حبه إلا لمعنى ، فإنه لم یقل أحببت ، فذلک محبب إلیه لا أنه أحبه من نفسه ، فکلامنا من کونه حبب إلیه ، وذلک أنه صلى الله علیه وسلم کان نبیا و آدم بین الماء والطین ، فکان منقطعة إلى ربه لا ینظر معه إلى کون من الأکوان لشغله بالله عنه ، فإن النبی مشغول بالتلقی من الله ومراعاة الأدب فلا یتفرغ إلى شیء دونه ، فحبب إلیه النساء فکان أکثر الأنبیاء نکاحا ، وما ورد قط عن نبی من الأنبیاء أنه حبب إلیه النساء إلا محمد صلى الله علیه وسلم ، وإن کانوا قد رزقوا منهن کتیرا کسلیمان علیه السلام وغیره ، فأحبهن عنایة من الله بهن ، فکان النبی صلى الله علیه وسلم یحبهن بکون الله حببهن إلیه ،
فکان من سنته صلى الله علیه وسلم النکاح لا التبتل ، وجعل النکاح عبادة ، للسر الإلهی الذی أودع فیه ، ولیس إلا فی النساء ، وذلک ظهور الأعیان عن الإنتاج ، فإن أعظم نعمة تکون النکاح لما فیه من إیجاد أعیان الأمثال ، فإن ذلک إیجاد النعم الموجدة للسکر ، ولذلک حبب الله إلیه صلى الله علیه وسلم النساء وقواه على النکاح وأثنى على التبعل وذم التبتل ، ولما کان النساء محل التکوین و کان الإنسان بالصورة ( أی الصورة التی خلق علیها ) یقتضی أن یکون فعالا ،
ولابد له من محل یفعل فیه ، ویرید لکماله أن لا یصدر عنه إلا الکمال ، کما کان فی الأصل الذی أعطى کل شیء خلقه ، وهو کمال ذلک الشیء ، ولا أکمل من وجود الإنسان ولا یکون ذلک إلا فی النساء اللاتی جعلهن الله محلا ،
والمرأة جزء من الرجل بالانفعال الذی انفعلت عنه ، فحبب إلى الکامل النساء ، ولما کانت المرأة کما ذکرت عین ضلع الرجل ، فما کان محل تکوین ما کون فیها إلا نفسه ، فما ظهر عنه مثله إلا فی عینه ونفسه ، فحبب إلیه صلى الله علیه وسلم النساء لأنهن محل الانفعال لتکوین أتم الصور وهی الصورة الإنسانیة التی لا صورة أکمل منها ، فما کل محل انفعال له هذا الکمال الخاص ، فلذلک کان حب النساء مما امتن الله به على رسوله ج ، حیث حببهن
ص 434
قال الشیخ رضی الله عنه : (فإن الحق غیور على عبده أن یعتقد أنه یلتذ بغیره، فطهره بالغسل لیرجع بالنظر إلیه )
………………………………………………………………..
إلیه مع قلة أولاده صلى الله علیه وسلم ، فإنهن محل الانفعال والتکوین لظهور أعیان الأمثال فی کل نوع ، ولا شک أن الله ما أحب أعیان العالم فی حال عدم العالم إلا لکون تلک الأعیان محل الانفعال ، فلما توجه علیها من کونه مریدا قال لها «کن» فکانت فظهر ملکه بها فی الوجود ، وأعطت تلک الأعیان له حقه فی ألوهنه فکان إلها فعبدته بعالی . وإذا أحب المرأة لما ذکرناه فقد رده حبها إلى الله تعالی .
وحب النساء فی هذا الحدیث من الحب المطلق للنساء لا المقید بشخص : وسبب الحب المطلق للنساء أن المرأة فی الأصل خلقت من الرجل من ضلعه القصیری، فینزلها من نفسه منزلة الصورة التی خلق الله الإنسان الکامل علیها ، وهی صورة الحق ، فجعلها الحق مجلى له ، وإذا کان الشیء مجلی للناظر فلا برى الناظر فی تلک الصورة إلا نفسه ، فإذا رأى فی هذه المرأة نفسه افتند حبه فیها ومیله إلیها ، لأنها صورته ، وقد تبین لک أن صورته صورة الحق التی أوجده علیها ،
فما رأى إلا الحق ، ولکن بشهوة حب والتذاذ وصلة یفنى فیها فناء حق بحب صدق ، وقابلها بذاته مقابلة المثلیة ، ولذلک فنی فیها ، فما من جزء فیه إلا وهو فیها ، والمحبة قد سرت فی جمیع أجزائه فتعلق کله بها ،
فلذلک فنی فی مثله الفناء الکلی بخلاف حبه غیره ، وأما تعلقه صلى الله علیه وسلم امرأة خاصة فی ذلک دون غیرها ، وهو الحب المقید ، وإن کانت هذه الحقائق التی ذکرناها ساریة فی کل امرأة فذلک لمناسبة روحانیة بینه و بینها فی أصل النشأة والمزاج الطبیعی والنظر الروحی .
فکان صلى الله علیه وسلم یحب عائشة رضی الله عنها أکتر من حبه جمیع نسائه ، وهذه هی المناسبات الثوانی التی تعین الأشخاص ، والسبب الأول هو الحب المطلق .
فحب النساء فریضة اقتداء برسول الله مع ، فحنین الکامل إلیهن حنین الکل إلى جزئه کاستیحاش المنازل إلى ساکنیها التی بهم حیاتها ، ولأن المکان الذی فی الرجل الذی استخرجت منه المرأة عمره الله بالمیل إلیها ، فحنینه إلى المرأة حنین الکبیر وحنوه على الصغیر ، فحبهن من شفقة الإنسان على نفسه ، ولأنهن محل
ص 435
قال الشیخ رضی الله عنه : (فیمن فنی فیه، إذ لا یکون إلا ذلک. "16"
فإذا شاهد الرجل الحق فی المرأة کان شهودا فی منفعل، و إذا شاهده فی نفسه- من حیث ظهور المرأة عنه- شاهده فی فاعل، و إذا شاهده فی نفسه من غیر استحضار صورة ما تکون عنه کان شهوده فی منفعل عن الحق بلا واسطة.
فشهوده للحق فی المرأة أتم وأکمل، لأنه یشاهد الحق من حیث هو فاعل منفعل، و من نفسه من حیث هو منفعل خاصة.
فلهذا أحب صلى الله علیه و سلم النساء لکمال شهود الحق فیهن، إذ لا یشاهد الحق مجردا عن المواد أبدا، فإن الله بالذات غنی عن العالمین.
وإذا کان الأمر من هذا الوجه ممتنعا، ولم تکن الشهادة إلا )
………………………………………………...
التکوین الصورة الکمال .
أترى حبب الله إلى رسوله صلى الله علیه وسلم ما یبعده عن ربه ، لا والله ، بل حبب إلیه ما یقربه من ربه . ولقد فهمت عائشة
أم المؤمنین ما أخذ النساء من قلب رسول الله صلى الله علیه وسلم حین خیرهن ، فاختارته ، ولقد أبقى الله ملک الیمین على رسول الله صلى الله علیه وسلم رحمة به بعد أن قال له «لا یحل لک النساء من بعد » لما جعل فی قلبه من حب النساء ، وهذه من أشق آیة نزلت على رسول الله صلى الله علیه وسلم ، فمن عرف فدر النساء وسرهن لم یزهد فی حبهن ، بل من کمال العارف حبهن ، فإنه میراث نبوی وحب إلهی ، فإنه قال صلى الله علیه وسلم « حبب إلی » فلم ینسب حبه فیهن إلا إلى الله تعالى ، ومن أحب النساء حب النبی صلى الله علیه وسلم لهن فقد أحب الله ، فإن الله حبب النساء لنبیه صلى الله علیه وسلم ، فما أحبهن طبعا ولکنه أحبهن بنحبیب الله إلیه ، فهو عن تحبب لا عن حب طبیعی ، وما یعلم قدر النساء إلا من علم وفهم عن الله ما قاله فی حق زوجتی رسول الله و عندما تعاونتا علیه وخرجتا علیه .
الفتوحات ج 1 / 145 ، 444 - ج 2 / 49 ، 167 ، 190 ، 330
الفتوحات ج 3 / 501 ، 503 ، 504 ، 55 - ج 4 / 84 ، 243 ، 269 ، 454
16 - الاغتسال من الجنابة
الفناء یؤدی إلى عموم الطهارة ، فالغسل طهر یعم ، الغیبتک الکلیة عن علم نکاح الصورتین المثلیة العقلیة والمثلیة الشرعیة ، « لیس کمثله شیء » مثلیة عقلیة ، « خلق الله آدم على صورته » مثلیة شرعیة .
راجع کتاب النزلات الموصلیة
ص 436
قال الشیخ رضی الله عنه : (فی مادة، فشهود الحق فی النساء أعظم الشهود و أکمله.
وأعظم الوصلة النکاح و هو نظیر التوجه الإلهی على من خلقه على صورته لیخلفه فیرى فیه نفسه "17"
فسواه وعدله و نفخ فیه من روحه الذی هو نفسه، فظاهره خلق وباطنه حق.
ولهذا وصفه بالتدبیر لهذا الهیکل، فإنه تعالى به «یدبر الأمر من السماء» وهو العلو، «إلى الأرض»، و هو أسفل سافلین، لأنها أسفل الأرکان کلها.
وسماهن بالنساء وهو جمع لا واحد له من لفظه، ولذلک قال علیه السلام «حبب إلی من دنیاکم ثلاث: النساء» ولم یقل المرأة، فراعى تأخرهن فی فی الوجود عنه ، فإن النسأة هی التأخیر قال تعالى «إنما النسیء زیادة فی الکفر».
والبیع بنسیئة یقول بتأخیر، ولذلک ذکر النساء.
فما أحبهن إلا بالمرتبة و أنهن محل الانفعال فهن له کالطبیعة للحق التی فتح فیها صور العالم بالتوجه الإرادی و الأمر الإلهی الذی هو نکاح فی عالم الصور العنصریة، و همة فی عالم الأرواح النوریة، و ترتیب مقدمات فی المعانی للإنتاج.
و کل ذلک نکاح الفردیة الأولى فی کل وجه من هذه الوجوه.
فمن أحب النساء على هذا الحد فهو حب إلهی، و من أحبهن على جهة الشهوة الطبیعیة خاصة نقصه علم هذه الشهوة، فکان صورة بلا روح عنده، وإن کانت تلک الصورة فی نفس الأمر ذات روح و لکنها غیر مشهودة لمن جاء لامرأته أو لأنثى حیث کانت- لمجرد الالتذاذ،)
……………………………………...
17 - راجع هامش 15
18 - النکاح
النکاح أصل فی الأشیاء ، فله الإحاطة والفضل والتقدم ، ولهذا سرى النکاح فی المعانی والمحسوسات ، فالمحیل أب ، والمستحیل أم .
والاستحالة نکاح : والذی استحال إلیها این ، فکل أب علوی فإنه مؤثر ، وکل أم سفلیة فإنها مؤثر فیها ، وکل نسبة بینهما معینة نکاح وتوجه ، وکل نتیجة ابن ، فأول الآباء العلویة معلوم. وأول الأمهات السفلیة شیئیة المعدوم المسکن، وأول نکاح القصد بالأمر ، وأول ابن موجود عین تلک القیئیة التی ذکرنا ، فهذا أب سار الأبوة ، وتلک أم ساریة الأمومة : ودلک نکاح سار فی کل شیء ، والنتیجة دائمة لا تنقطع فی حق کل ظاهر العین ، فهدا یسمى عندنا النکاح الساری فی جمیع الذراری . یقول الله تعالى فی الدلیل على ما قلناه « إنما قولنا لشیء إذا أدرناه أن تقول له کن فیکون » ولنا فیه کتاب شریف،
ص 437
قال الشیخ رضی الله عنه : (ولکن لا یدری لمن.
فجهل من نفسه ما یجهل الغیر منه ما لم یسمه هو بلسانه حتى یعلم کما قال بعضهم:
صح عند الناس أنی عاشق ... غیر أن لم یعرفوا عشقی
لمن کذلک هذا أحب الالتذاذ فأحب المحل الذی یکون فیه وهو المرأة، ولکن غاب عنه روح المسألة. فلو علمها لعلم بمن التذ ومن التذ وکان کاملا.
و کما نزلت المرأة عن درجة الرجل بقوله «وللرجال علیهن درجة» "19"
نزل المخلوق )
………………………………………….
منیع الحمی ، البصیر فیه أعمى ، فکیف من حل به العمی ، فالحق أوجد العالم عن ذات موصوفة بالقدرة والإرادة . فتعلقت الإرادة بإیجاد موجود ما وهو التوجه . متل اجتماع الزوجین ، فنفذ الاقدار ، فأوجد ما أراد ، فعین الممکن یسی أهلا . والتوجه الإرادی الحبی نکاحا ، والإنتاج إیجادة فی عین ذلک الممکن وجودا ، والنکاح الغیبی هو نکاح المعانی والأرواح فأشبهت المقدمات النکاح من الزوجین بالوقاع لیکون منه الإنتاج .
الفتوحات ج 1 / 39 - ج 2 / 167 ، 412 ، 413 ، 656 - ج 3 / 365 ، 516 .
19 - وللرجال علیهن درجة - « الآیة »
لم یکن للرجال على النساء درجة من حیث الإنسانیة ، ففضل الذکور على الإناث مفاضله عرضیة لا ذاتیة. وإنما الدرجة هی أن حواء منفعلة عن آدم مستخرجة متکونة من الضلع القصیر ، والمنفعل لا یقوى قوة الفاعل ، ففصرت بذلک أن تلحق بدرجة من انفعلت عنه ، فلا تعلم من مرتبة الرجل إلا حد ما خلقت منه ، وهو الضلع، فقصر إدراکها عن حقیقة الرجل، فبهذا القدر یمتاز الرجال على النساء وقد تبلغ المرأة من الکمال درجة الرجل غیر أن الغالب فضل عقل الرجل على عقل المراة ، لأنه عقل عن الله قبل عقل المرأة لأنه تقدمها فی الوجود ، والأمر الإلهی لا ینکرر .
فالمشهد الذی حصل للمتقدم لا سبیل أن یحصل للمتأخر ، فآدم أصل الحواء . \
فصح للأب الأول الدرجة علیها ، لکونه أصلا لها ، فالدرجة درجة الانفعال، فإنها لما انفعلت عنه کان له علیها درجة السبق ، فالمرأة محل الانفعال والرجل لیس کذلک ، ومحل الانفعال لا یکون له رتبة أن یفعل فلها النقص .
الفتوحات ج 1 / 136 ، 679 - ج 2 / 471 - ج 3 / 353
ص 438
قال الشیخ رضی الله عنه : (على الصورة عن درجة من أنشأه على صورته مع کونه على صورته.
فبتلک الدرجة التی تمیز بها عنه، بها کان غنیا عن العالمین وفاعلا أولا، فإن الصورة فاعل ثان.
فما له الأولیة التی للحق. فتمیزت الأعیان بالمراتب: فأعطى کل ذی حق حقه کل عارف. "20"
فلهذا کان حب النساء لمحمد صلى الله علیه و سلم عن تحبب إلهی وأن الله «أعطى کل)
…………………………………...
20 - إثبات وجه جامع بین الواجب واتمکن محال *
إضافة إلى ما سبق من الفعل والانفعال الصورة قد تکون فی اللسان الأمر والشأن .
فقوله إن الله حلق آدم علی صورته أی على أمره وشأنه .
فیدلک ذلک على أنه ما أراد بالصورة النشأة وإنما أراد الأمر والحکم ، فأظهر الحق فی الوجود صورتین متماتلتین . کصورة النار فی المرآة ، ما هی عینه ولا هی غیره . فظهر المقدار والشکل الذی لا یقبله الواجب الوجود لنفسه وهو الناظر فی المرآة . فهو من حیب حقائفه هو هو . ومن دیب مقداره وشکله ما هو هو . وإنما هو من أثر حضرة الإمکان فیه الذی هو المراد . فالإنسان یوازن بصورته حضرة موجده . ذاتا وصفة وفعلا .
ولا یلزم من الورن الاشتراک فی حقیقة الموزونین ، فإن الذی یوزن به الذهب المسکوک هو منجه حدید ، فلیس یشبهه فی ذاته ولا صفنه ولا عدده ، فلیعلم الإنسان أن لا یوزد بالصورة الإنسانیة إلا ما تطلبه الصورة بجمیع ما تحوی علیه بالأسماء الإلهیة الی توجهت على إیجاده ، وأظهرت آتارها فیه ، وکما لم نکن مسنجة الحدید نوازد الذهب فی حد ولا حقیقة ولا صورة عین ، کذلک العبد وإن خلفه الله على صورته ، فلا یجتمع معه فی حد ولا حقیقة ، إذ لا حد لذاته .
والإنسان محدود بحد ذاتی الا رسمی ولا لفظی، وکل مخلوق على هذا الحد، والإنسان أکمل المخلوقات واجمعها من حیث نشأته ومرتبته ، فیجب أن یزول عنه ما ینوهمه فی الصورة من أنه ذات وأنت ذات ، وأنک موصوف بالحی العالم وسائر الصفات ، وهو کذلک ، فلیس المراد بالصورة هذا ، فإن الله الخالق وأنت العبد المخلوق ، وکیف للصنعة أن نکون تعلم صانعها ، وإنما تطلب الصنعة من الصانع صورة علمه بها لا صورة ذاته ، وأنت
ص 439
قال الشیخ رضی الله عنه : ( شیء خلقه» و هو عین حقه.
فما أعطاه إلا باستحقاق استحقه بمسماه: أی بذات ذلک المستحق.
وإنما قدم النساء لأنهن محل الانفعال، کما تقدمت الطبیعة على من وجد منها بالصورة.
ولیست الطبیعة على الحقیقة إلا النفس الرحمانی، فإنه فیه انفتحت صور العالم أعلاه و أسفله لسریان النفخة فی الجوهر الهیولانی فی عالم )
………………………………………………...
صنعة خالقک ، فصورت مطابقة لصورة علمه بک ، وهکذا کل مخلوق . ولو لم یکن الأمر کذلک وکان یجمعکما حد وحقیقة ، کما یجمع زیدا وعمرا لکنت أنت إلها . ویکون هو مألوها ، حتى یجمعکما حد واحد ، والأمر على خلاف ذلک .
ولا تصح العبودیة المحضة التی لا یشوبها ربوبیة أصلا إلا للإنسان الکامل وحده ، ولا تصح ربوبیة أصلا لا تشوبها عبودیة بوجه من الوجوه إلا الله تعالى ، فالإنسان على صورة الحق من التنزیه والتقدیس عن السوب فی حقیقته .
فهو المألوه المطلق ، والحق هو الإله المطلق ، وأعنی بهذا الإنسان الکامل ، وما ینفصل الإنسان الکامل عن غیر الکامل إلا برقیقة واحدة ، وهی أن لا یشوب عبودیته ربوبیة أصلا.
أما عن أولیة الحق فیقول الشیخ رضی الله عنه فی قوله تعالى « هو الأول والآخر والظاهر والباطن » - الآیة - اعلم أن الأزل عبارة عن نفی الأولیة لمن یوصف به ؛ وهو وصف الله تعالى من کونه إلها .
وإذا انتفت الأولیة عنه من کونه إلها ، فهو المسی بکل اسم سسی به نفسه أزلا ، ولم یزل مسسی بهذه الأسماء ، وانتفت عنه أولیة التقیید ، فسمع المسموع وأبصر البصر إلى غیر ذلک وأعیان المسموعات منا والمبصرات معدومة غیر موجوده، وهو یراها أزلا کما یعلمها أزلا، ویمیزها ویفصلها از لا ولا عین لها فی الوجود النفسی العینی . بل هی أعیان ثابتة فی رتبة الإمکان ، فالإمکانیة لها أزلا کما هی لها حالا وأبدا ، لم تکن قط واجبة لنفسها ثم عادت مسکنة ، ولا محالا ثم عادت ممکنة ، بل کان الوجوب الذاتی لله تعالى ازلا ، کذلک وجوب الإمکان للعالم أزلاء ، فالله فی مرتبته بأسمائه الحسنى یسی منعوتأ وموصوفا بها ، فعین نسبة الأول له نسبة الآخر والظاهر والباطن ، لا یقال هو أول بنسبة کذا و آخر بنسبة کذا ، فإن الممکن مرتبط بواجب الوجود فی وجوده وعدمه ارتباط
ص 440
قال الشیخ رضی الله عنه : ( الأجرام خاصة. "21"
وأما سریانها لوجود الأرواح النوریة و الأعراض فذلک سریان آخر.
ثم إنه علیه السلام غلب فی هذا الخبر التأنیث على التذکیر لأنه قصد التهمم بالنساء فقال «ثلاث» ولم یقل «ثلاثة» بالهاء الذی هو لعدد الذکران، إذ وفیها ذکر الطیب وهو مذکر، وعادة العرب أن تغلب التذکیر على التأنیث فتقول «الفواطم )
………………………………………...
افتقار إلیه فی وجوده ، فإن أوجده لم یزل فی مکانه ، وإن عدم لم یزل عن إمکانه ، فکما لم یدخل على الممکن فی وجود عینه بعد أن کان معدوما صفة تزیله عن إمکانه ، کذلک لم یدخل على الخالق الواجب الوجود فی إیجاده العالم وصف یزیله عن وجوب وجوده لنفسه ، فلا یعقل الحق إلا هکذا ولا یعقل الممکن إلا هکذا ، فأولیة العالم وآخرته أمر إضافی ، فالأول من العالم بالنسبة إلى ما یخلق بعده ، والآخر من العالم بالنسبة إلى ما یخلق قبله ، ولیس کذلک معقولیة الاسم الله الأول والآخر والظاهر والباطن ، فإن العالم یتعدد والحق واحد لا یتعدد ، ولا یصح أن یکون أولا لنا ، بل کان ینطلق علینا اسم الثانی لأولیته ولسنا بثان له تعالى عن ذلک ، فلیس هو بأول لنا ، فلهذا کان عین أولیته عین آخریته ، فإن الله تعالى هو الأول الذی لا أولیة لشیء قبله ، ولا أولیة التی یکون قائمة به أو غیر قائم به معه ، فهو الواحد سبحانه فی أولیته فلا شیء واجب الوجود لنفسه إلا هو .
الفتوحات ج 1 / 189 .
راجع فص 19، هامش 6، ص 256
"" 6 - قوله تعالى « هو الأول والأخر والظاهر والباطن وهو بکل شیء علیم » - فص 19، هامش 6، ص 256
اعلم أن الذات الأزلیة لا توصف بالأولیة ، وإنما یوصف بها الله تعالى ، فقوله : و هو "الأول " الضمیر یعود على الله من « الله » فی الآیة السابقة ، والأول خبر الضمیر الذی هو المبتدأ ، وهو فی موضع الصفة لله ، ومسمى الله إنما هو من حیث المرتبة ، فهو الأول له منزلة الأولیة الإلهیة ، ومن هذه الأولیة صدر ابتداء الکون ، ومنه تستمد کلها ، وهو الحاکم فیها ، وهی الجاریة على حکمه وتفی السبب عنه ، فإن أولیة الحق تمد أولیة العبد، فإن الابتداء الأکوان شواهد فیها أنها لم تکن لأنفسها ثم کانت ، فمعقولیة الأولیة للواجب المطلق نسیة وضعیة لا یعقل لها العقل سوی استناد الممکن إلیه ، فیکون أولا بهذا الاعتبار ،
ولو قدر أن لا وجود لممکن قوة وفعلا لاتفت النسبة الأولیة إذ لا تجد متعلقا ، فلما کان أول مخلوق ظهر هو العقل أو القلم الإلهی کان الله الأول بالمرتبة فهو الأول بأولیة الأجناس وأولیة الأشخاص و « الآخر » فهو الآخر آخریة الأجناس لا آخریة الأشخاص ، فإلیه یعود الأمر کله ، وقال « وإلیه ترجعون »
وقال « ألا إلى الله تصیر الأمور » فهو الآخر کما هو الأول وکل مقام إلهی یتأخر عن مقام کونی فهو من الاسم الآخر مثل قوله تعالى : « فاذکرونی أذکرکم »
وقوله : « من ذکرنی فی نفسه ذکرته فی نفسی ومن ذکرنی فی ملأ ذکرته فی ملأ خیر منهم » وقوله : « من تقرب إلی شبرا تقربت إلیه ذراعا »
وقوله صلى الله علیه وسلم : « فاتبعونی یحببکم الله » فالأمر یتردد بین الاسمین الإلهیین الأول والآخر ، وعین العبد مظهر لحکم هذین الاسمین فهو تعالى « الأول » بالوجود « والآخر» فی الشهود .
فالأول الحق بالوجود …. والآخر الحق بالشهود
إلیه عادت أمور کونی …. فإنما الرب بالعبید
فکل ما أنت فیه …. حق ولم تزل فی مزید
وهو الإله الظاهر والباطن ، فإنه لما کان العالم له الظهور والبطون ، کان هو سبحانه الظاهر لنسبة ما ظهر منه ، والباطن لنسبة ما بطن منه ، وهو تعالى « الظاهر » لنفسه لا لخلقه فلا یدر که سواه أصلا ، وأما ما ظهر فإنما هو ظهور أحکام أسمائه الحسنی ، وظهور أحکام أعیاننا فی وجود الحق ، وهو من وراء ما ظهر ، فلا أعیاننا تدرک رؤیة ، ولا عین الحق تدرک رؤیة ، ولا أعیان أسمائه تدرک رؤبة : ونحن لا نشک أنا قد أدرکنا أمرا ما رؤیة ، وهو الذی تشهده الأبصار منا، فما ذلک إلا الأحکام التی لأعیاننا ظهرت لنا فی وجود الحق ، فکان مظهرا لها ، فظهرت أعیاننا ظهور الصور فی المرائی ، ما هی عین الرائی ، ولا هی عین المجلى ، « والباطن » البطون الذی یختص بنا کما یختص به الظهور ، وإن کان له البطون فلیس هو باطن لنفسه ولا عن نفسه ، کما أنه لیس ظاهرا لنا ،
فالبطون الذی وصف نفسه به إنما هو فی حقنا ، فلا یزال باطنا عن إدراکنا إیاه حسا ومعنى ، فإنه لیس کمثله شیء ، ولا تدرک إلا الأمثال ، ولما کان التجلی عبارة عن ظهوره لمن تجلى له فی ذلک المجلى وهو الاسم الظاهر ، فالظاهر للصور والباطن للعین ، فالعین غیب أبدا ، والصورة شهادة أبدا ، وکل زیادة فی العلم أی علم کان لا تکون إلا عن التجلی الإلهی ، فالتجلی الصوری یدرک بعالم الحس فی برزخ التمثل الظاهر النفس ، وإذا وفع التجلی بالاسم الظاهر الباطن النفس وقع الإدراک بالبصیرة فی عالم الحقائق والمعانی المجردة عن المواد ، وهو المعبر عنها بالنصوص ،
فالحق هو الظاهر الذی نشهده العیون والباطن الذی تشهده العقول ، فهو مشهود للبصائر والأبصار ، غیر أنه لا یلزم من الشهود العلم بأنه هو ذلک المطلوب إلا بإعلام الله ،
فتجلی الحق لکل من تجلى له من أی عالم کان من عالم الغیب والشهادة إنما هو من الاسم الظاهر ،
وأما الاسم الباطن فمن حقیقة هذه النسبة أن لا یقع فیها تجل أبدا ، لا فی الدنیا ولا فی الآخرة ، فأحوال العالم مع الله على ثلاث مراتب ، مرتبة یظهر فیها تعالى بالاسم الظاهر فلا یبطن عن العالم شیء من الأمر ، وذلک فی موطن مخصوص ، وهو فی العموم موطن القیامة ، ومرتبة یظهر فیها الحق فی العالم فی الباطن فتشهده القلوب دون الأبصار ،
ولهذا یرجع الأمر إلیه ، ویجد کل موجود فی فطرته الاستناد إلیه والإقرار به من غیر علم به ولا نظر فی دلیل ، فهذا من حکم نجلیه سبحانه فی الباطن ومرتبة ثالثة له فیها تجل فی الظاهر والباطن ، فیدرک منه فی الظاهر قدر ما تجلى به ویدرک منه فی الباطن قدر ما تجلى به ، فله تعالى التجلی الدائم العام فی العالم على الدوام وتختلف مراتب العالم فیه لاختلاف مراتب العالم فی نفسها فهو یتجلى بحسب استعدادهم ، فهو عند العارفین الیوم فی الدنیا على حکم تجلیه فی القیامة ، فیشهده العارفون فی صور الممکنات المحدثات الوجود .
وینکره المحجوبون من علماء الرسوم ، ولهذا یسمى بالظاهر فی حق هؤلاء العارفین والباطن فی حق هؤلاء المحجوبین ، ولیس إلا هو سبحانه : فأهل الله الذین هم أهله لم یزالوا ولا یزالود دنیا وآخرة فی مشاهدة عینیة دائمة وإن اختلفت الصور فلا یقدح ذلک عندهم .
راجع فتوحات ج 1 / 46 ، 166 ، 175 - ج 2 / 31 ، 56 ، 95 - ج 3 / 161 ، 178 ، 484 ، 541 - ج 4 / 299 ، 301 - دیوان. أهـ ""
من هذا یتضح عدم صحة ما جاء فی هذه الفقرة « نزل المخلوق على الصورة عن درجة من أنشأه على صورته ، وقوله " فإن الصورة فاعل ثان ، فما له الأولیة التی للحق "، فإنه القائل « إثبات وجه جامع بین الواجب والممکن محال » -
راجع کتابنا الرد على ابن تیمیة من ص 43 إلى ص 48 .
فمن یقول ما أثبتناه هناک لا یمکن أن یقول أن المخلوق أنزل مرتبة من الخالق .
""رد ما قاله ابن تیمیة من أن الشیخ الأکبر یجعل وجود المحدث عین وجود القدیم: کتاب الرد على ابن تیمیة
أما المثال الذی أورده ابن تیمیة فی القدیم والمحدث، مستدلا به على أن الشیخ الأکبر یذم الإمام الجنید، فإن هذا الکلام غیر موجود لا فی الفتوحات المکیة ولا فی فصوص الحکم، ولا شک أن الإمام ابن تیمیة دخل بین إمامین فی علم الکشف والأذواق، وأقحم نفسه فی علم لا یعرفه ولیس له فیه قدم،
وإن کان الإمام من شیوخ الاسلام وإماما فی الفقه، فلا أظن أن الإمام یعتقد فی نفسه أنه إمام فی کل فن وفی کل علم، ولو حاول هو ذلک بکلامه عن التصوف، والدلیل على ذلک أن ابن تیمیة یرد قول الشیخ الأکبر محی الدین ابن العربی فیما نسبة إلى الإمام الجنید،
ویشرح فهمه من ذلک، وهو أن الشیخ الأکبر یقول: إن وجود المحدث هو عین وجود القدیم؛ ویقول: إن الشیخ الأکبر ینکر التمییز بین القدیم والمحدث وبین الخالق والمخلوق؛ وإلیه ما یقوله الشیخ الأکبر فی ذلک إن کان لم یعثر علیه، وهو فی الفتوحات المکیة.
الجزء الأول الصفحة 41: لا یصح أن یجتمع الخلق والحق فی وجه أبدا من حیث الذات، لکن من حیث أن هذه الذات منعوتة الألوهة، فهذا حکم آخر تستقل العقول بإدراکه.
وفی الصفحة نفسها یقول: إثبات وجه جامع بین الواجب والممکن محال، فإن وجوه الممکن تابعة له، وهو فی نفسه یجوز علیه العدم، فتوابعه أحرى وأحق بهذا الحکم، ویثبت للممکن ما ثبت للواجب بالذات من ذلک الوجه الجامع، وما ثم شیء ثبت للممکن من حیث ما هو ثابت للواجب بالذات، فوجود وجه جامع بین الممکن والواجب بالذات محال.
وفی الصفحة 46: أعلم الممکنات لا یعلم موجده إلا من حیث هو، فنفسه علم ومن هو موجود عنه، غیر ذلک لا یصح، لأن العلم بالشیء یؤذن بالإحاطة به والفراغ منه، وهذا فی ذلک الجناب محال، فالعلم به محال، ولا یصح أن یعلم منه لأنه لا یتبعض، فلم یبق العلم إلا بما یکون منه، وما یکون منه هو أنت، فأنت المعلوم - لو علمته لم یکون هو، ولو جهلک لم تکن أنت، فبعلمه أوجدک، وبعجزک عبدته، فهو هو لهو لا لک، وأنت أنت لأنت وله، فأنت مرتبط به، ما هو مرتبط بک.
وفی الصفحة 366: فکما لا یکون الرب عبدا، کذلک لا یکون العبد ربا، لأنه لنفسه هو عبد، کما أن الرب لذاته هو رب، فلا یتصف العبد بشیء من صفات الحق بالمعنى الذی اتصف بها الحق، ولا الحق یتصف بما هو حقیقة للعبد. . (إلى أن یقول). . وینبغی للعبد أن لا تظهر علیه إلا العبادة المحضة. . (إلى أن یقول). . . واللّه ما عرف اللّه إلا اللّه، فلا تتعب نفسک یا صاحب النظر، ودر مع الحق کیفما دار، وخذ منه ما یعرفک به من نفسه، ولا تقس فتفتلس، لا بل تبتئس.
الجزء الثانی الصفحة 166: الإجماع هو ما أجمع علیه الرب والمربوب، فی أن اللّه خالق والعبد مخلوق.
الجزء الثالث الصفحة 224: فمن کان من أهل هذه الأرض الواسعة، حیل بینه وبین الصورة التی خلق علیها، فکان عبدا محضا، شاهدا بشاهد الحق فی عین ذاته، فالشهود له دائم، والحکم له لازم، وهؤلاء هم المسودون « أی لهم السیادة »،
الوجه « الوجه: وجه الشیء ذاته، أی لهم السیادة الذاتیة، بمجرد نظر الناس إلیهم فی الدنیا، وفی الآخرة یعرفون أن هؤلاء هم السادة.»
فی الدنیا والآخرة، إذا علمت ذلک، فالرب رب والعبد عبد، فلا تغالط ولا تخالط.
الجزء الثالث الصفحة 231: فما الأمر إلا عبد ورب، فما هو إلا أنت وهو، فالطائع مهتد، والعاصی حائر بین ما أرید منه وما أمر به.
الجزء الثالث الصفحة 371: کل ضدین وإن تقابلا أو مختلفین من العالم، فلا بد من جامع یجتمعان فیه، إلا العبد والرب، فإن کل واحد لا یجتمع مع الآخر فی أمر ما من الأمور جملة واحدة، فالعبد من لا یکون فیه من الربوبیة وجه، والرب من لا یکون فیه من العبودیة وجه، فلا یجتمع الرب والعبد أبدا، وغایة صاحب الوهم أن یجمع بین الرب والعبد فی الوجود، وذلک لیس بجامع، فإنی لا أعنی بالجامع إطلاق الألفاظ، وإنما أعنی بالجامع نسبة المعنى إلى کل واحد على حد نسبته إلى الآخر، وهذا غیر موجود فی الوجود المنسوب إلى الرب والوجود المنسوب إلى العبد، فإن وجود الرب عینه، ووجود العبد حکم یحکم به على العبد، ومن حیث عینه قد یکون موجودا وغیر موجود، والحد فی الحالین على السواء فی عینه، فإذا لیس وجوده عینه، ووجود الرب عینه، فینبغی للعبد أن لا یقوم فی مقام یشم منه فیه روائح ربوبیة، فإن ذلک زور وعین جهل.
وهذا الکلام الصریح من الشیخ الأکبر رضی اللّه عنه فی هذه الأسطر البیّنة، یرد ما جاء فی قول الإمام ابن تیمیة من أن الشیخ الأکبر أنکر التمییز بین القدیم والمحدث، وبین الخالق والمخلوق، ویرد فهم ابن تیمیة بأن الشیخ الأکبر یعنی أن وجود المحدث هو عین وجود القدیم.
وفی الجزء نفسه الصفحة 374: وقد رمیت بک على الطریق لتعلم ما الأمر علیه، فتعلم من أنت ومن الحق، فیتمیز الرب من العبد.
وفی الصفحة 378 یقول: فلا یجتمع الخلق والحق أبدا فی وجه من الوجوه، فالعبد عبد لنفسه، والرب رب لنفسه، فالعبودیة لا تصح إلا لمن یعرفها، فیعلم أنه لیس فیها من الربوبیة شیء، والربوبیة لا تصح إلا لمن یعرفها، فیعرف أنه لیس فیها من العبودیة شیء، وإنا نعلم قطعا أن الأسماء الإلهیة التی بأیدینا، تطلق على اللّه وتطلق علینا، ونعلم قطعا بعلمنا برتبتنا وبعلمنا برتبة الحق، أن نسبة تلک الأسماء - التی وقع فی الظاهر الاشتراک فی اللفظ بها - إلى اللّه غیر نسبتها إلینا، فما انفصل عنا إلا بربوبیته، وما انفصلنا عنه إلا بعبودیتنا، فمن لزم رتبته منا فما جنى على نفسه، بل أعطى الأمر حقه.
وفی الجزء الثالث الصفحة 408: اعلم أن الحکمة فی الأشیاء کلها والأمور أجمعها، إنما هو للمراتب لا للأعیان، وأعظم المراتب الألوهیة، وأنزل المراتب العبودیة، فما ثمّ إلا مرتبتان، فما ثمّ إلا رب وعبد، لکن للألوهة أحکام، کل حکم منها یقتضی رتبة،
فإما یقوم ذلک الحکم بالإله، فیکون هو الذی حکم على نفسه، وهو حکم المرتبة فی المعنى، ولا یحکم بذلک الحکم إلا صاحب المرتبة، لأن المرتبة لیست وجود عین، وإنما هی أمر معقول، ونسبة معلومة محکوم بها، ولها الأحکام، وهذا من أعجب الأمور، تأثیر المعدوم، وإما أن یقوم ذلک الحکم بغیره فی الموجود،
إما أمرا وجودیا وإما نسبة، فلا تؤثر إلا المراتب، وکذلک للعبودة أحکام، کل حکم منها رتبة، فإما یقوم ذلک الحکم بنفس العبد، فما حکم علیه سوى نفسه، فکأنه نائب عن المرتبة التی أوجبت له هذا الحکم، أو یحکم على مثله أو على غیره،
وما ثمّ إلا مثل أو غیر فی حق العبد، وأما فی الإله فما ثمّ إلا غیر لا مثل، فإنه لا مثل له،
فأما الأحکام التی تعود علیه من أحکام الرتبة: وجوب وجوده لذاته، والحکم بغنائه عن العالم، وإیجابه على نفسه بنصر المؤمنین بالرحمة، ونعوت الجلال کلها التی تقتضی التنزیه، ونفی المماثلة،
وأما الأحکام التی تقتضی بذاتها طلب الغیر: فمثل نعوت الخلق کلها، وهی نعوت الکرم والإفضال والجود والإیجاد، فلا بد فیمن؟ وعلى من؟ فلا بد من الغیر، ولیس إلا العبد،
وما منها أثر یطلب العبد، إلا ولا بد أن یکون له أصل فی الإله، أوجبته المرتبة، لابد من ذلک، ویختص تعالى بأحکام من هذه المرتبة لا تطلب الخلق کما قررنا، ومرتبة العبد تطلب من کونه عبدا أحکاما، لا تقوم إلا بالعبد من کونه عبدا خاصا، فهی عامة فی کل عبد لذاته، ثم لها أحکام تطلب تلک الأحکام وجود الأمثال، ووجود الحق.
الجزء الثالث الصفحة 356: فثبت أنه ما ثمّ إلا حق لحق وحق لخلق، فحق الحق ربوبیته، وحق الخلق عبودیته، فنحن عبید وإن ظهرنا بنعوته، وهو ربنا وإن ظهر بنعوتنا، فإن النعوت عند المحققین لا أثر لها فی العین المنعوتة، ولهذا تزول بمقابلها إذا جاء ولا تذهب عینا.
الجزء الثالث الصفحة 397: إن کل ما سوى الحق عرض زائل وغرض ماثل، وإنه وإن اتصف بالوجود - وهو بهذه المثابة فی نفسه - فی حکم المعدوم، فلا بد من حافظ یحفظ علیه الوجود، ولیس إلا اللّه تعالى، ولو کان العالم أعنی وجوده لذات الحق لا للنسب، لکان العالم مساوقا للحق فی الوجود، ولیس کذلک، فالنسب حکم للّه أزلا، وهی تطلب تأخر وجود العالم عن وجود الحق، فیصح حدوث العالم، ولیس ذلک إلا لنسبة المشیئة وسبق العلم بوجوده، فکان وجود العالم مرجحا على عدمه، والوجود المرجح لا یساوق الوجود الذاتی الذی لا یتصف بالترجیح.
ویقول فی الجزء الثالث الصفحة 443: راجع قول الإمام ابن تیمیة عن الحق والخلق ص 96.
الجزء الثالث الصفحة 506: تقدم حدیث العماء وأن فیه انفتحت صور العالم، والذی یقوم علیه الدلیل، أن کل شیء سوى اللّه حادث ولم یکن ثم کان، فینفی الدلیل کون ما سوى اللّه، فی کینونة الحق الواجب الوجود لذاته.
الجزء الثالث الصفحة 566: إن الأمر واحد فی نفسه، فقد یتخیل العبد أن عینه الثابتة فی العدم، ربما حصل لها الوجود، لما رآه من حکم عینها فی وجود الحق، حتى انطلق علیه اسم هذا العین، وما علم أن الوجود وجود الحق، والحکم حکم الممکن، مع ثبوته فی عدمه، فلما تخیل بعض الممکنات هذا التخیل، من اتصافه بالوجود، حکم بأنه قد شارک الحق فی الوجود، وهو قد جهل فی إمکانه نفسه، وأن جمیع الممکنات مثله فی هذا الحکم، فما ثمّ إلا أحدیة مجردة، علمها من علمها، وجهلها من جهلها، فالأسماء والأحکام للممکنات، والوجود للحق تعالى.
الجزء الرابع الصفحة 226: اعلم أن الوجود قد انقسم فی ذاته، إلى ما له أول وهو الحادث، وإلى ما لا أول له وهو القدیم، فالقدیم منه هو الذی له التقدم، ومن له التقدم له الرفعة، والحدوث له التأخر، ومن تأخر فله الانخفاض عن الرفعة، التی یستحقها القدیم لتقدمه «ألا یکفی هذا النص الإمام ابن تیمیة فی تعریف الحادث والقدیم».
الجزء الرابع الصفحة 314: فإنه (یعنی الحق) لا یحمد ولا یمجد إلا بأسمائه، ولا تعقل مدلولات أسمائه إلا بنا، فلو زلنا نحن ذهنا ووجودا، لما کان ثمّ ثناء ولا مثن ولا مثنى علیه، فبی وبه کان الأمر وکمل، ومع هذا فهو غنی عن العالمین، إذا لم یطلب کمال الأمر، فهو الکامل لنفسه وعینه وکونه، لأنه واجب الوجود لنفسه، لا تعلق له بالعالم لذاته،
وإنما کان التعلق من حیث أعیان الممکنات، لأنها تطلب نسبا تظهر بها عینها، وما ثمّ موجود تستند إلیه هذه النسب إلا واحد، وهو اللّه الواجب الوجود لنفسه تعالى، فافتقرت إلیه إضافات النسب، وافتقرت الممکنات إلى النسب، فافتقرت إلیه، فهی أشد فقرا من النسب، فصح غناه عن العالم لذاته وعینه،
ولذلک نقول فی التقسیم العقلی: إن الوجود طلب الکمال، والمعرفة طلبت الکمال، ولم تجد من بیده مطلوبها إلا الحق سبحانه، فافتقرت إلیه فی ذلک، فأوجد الحادث الذی هو عین الممکن، فکمل الوجود، أی کمل أقسام الوجود فی العقل، وکذلک تعرّف إلى العالم فعرفوه بمعرفة حادثة، فکملت المعرفة به فی التقسیم العقلی.
الجزء الرابع الصفحة 438: الوجود منقسم بینک وبینه، لأنه مقسوم بین رب وعبد، فالقدیم الرب والحادث العبد، والوجود أمر جامع لنا.
وجاء فی کتاب التراجم للشیخ الأکبر رضی اللّه عنه فی ترجمة الکثیب.
ما ثمّ إلا حق وخلق، کل ما أقبلت على شیء أعرضت عن أمر آخر.
وجاء فی کتاب المسائل للشیخ رضی اللّه عنه: لا یصح أن یجتمع الحق والخلق فی وجه أبدا من حیث الذات.
وفیه یقول - وکیف للممکن أن یصل إلى معرفة الواجب بالذات، وما من وجه للممکن إلا ویجوز علیه العدم والدثور، فلو جمع بین الحق الواجب لذاته وبین العالم وجه، لجاز على الحق ما جاز على العالم من ذلک الوجه من الدثور، وهذا محال، فإثبات وجه جامع بین الحق والعالم محال.
وفیه أیضا یقول: ومن هنا زلت أقدام طائفة عن مجرى التحقیق،
فقالت: ما ثمّ إلا ما ترى، فجعلت العالم هو اللّه، واللّه نفس العالم لیس أمرا آخر، وسببه هذا المشهد لکونهم ما تحققوا به تحقق أهله، فلو تحققوا به ما قالوا بذلک، وأثبتوا کل حق فی موطنه، علما وکشفا، فاترک تأویل الأخبار الواردة بالتشبیه لمن وصف بها نفسه، إذا لم تکن من أهل هذا الکشف والتحقیق، ولا تحمله علیک أصلا، فإنک تبطل أصلک، حیث تعتقد نفی التشبیه وما زلت منه، ولکن ترکت التشبیه بالمخلوق المرکب وأثبته بالمخلوق المعقول، وأنّى للممکن أن یجتمع مع الواجب بالذات فی حکم أبدا.
ویقول فی کتاب التراجم، ترجمة الإجابة:
معرفة الحق فی وهبه، ولک التلقی، فبینک وبین الوهب مناسبة الکون، فمن الحق تعرف الحق لا من الخلق، وبالحق تعرف الحق لا بک، فالزم الحق للحق تجد الحق، فلا تطلب الحق من الطرق، فما ثمّ طریق إلیه، لارتفاع الارتباط بین الحدوث والقدم.
ویقول فی باب ترجمة الوجود من کتاب التراجم:
شأن القدم والحدوث ضدان، فإن سعدت فاشکر اللّه، وإن شقیت فلم نفسک أدبا.
وقد أوردت هذه النصوص، تأکیدا على أن فهم الإمام ابن تیمیة من کلام الشیخ الأکبر محی الدین ابن العربی، أن وجود المحدث هو عین وجود القدیم، لیس مقصودا لکلام الشیخ الأکبر، ولولا مخافة التطویل لأوردت من النصوص ما یحدد معنى وحدة الوجود، التی یخبط فیها الکثیر خبط عشواء، ولا یفهمون لها معنى، ولا ماذا قصد القائلون بها، ولعل هذه النصوص تعطی بعض الضوء على معنى وحدة الوجود ، التی هی أم المشاکل عند کثیر ممن یتهمون الشیخ الأکبر وأمثاله بالحلول والاتحاد، فلا هم فهموا القول ولا هم سلموه لقائله . أهـ. ""
21 - هو المراد بالنکاح هامش 18، ص 437
الطبیعة نفس الرحمن - فص 15، رقم 19، ص 237
ص 441
قال الشیخ رضی الله عنه : ( وزید خرجوا» ولا تقول خرجن. فغلبوا التذکیر وإن کان واحدا- على التأنیث وإن کن جماعة.
وهو العربی، فراعى صلى الله علیه و سلم المعنى الذی قصد به فی التحبب إلیه ما لم یکن یؤثر حبه.
فعلمه الله ما لم یکن یعلم و کان فضل الله علیه عظیما.
فغلب التأنیث على التذکیر بقوله ثلاث بغیر هاء. فما أعلمه صلى الله علیه و سلم بالحقائق، وما أشد رعایته للحقوق! ثم إنه جعل الخاتمة نظیرة الأولى فی التأنیث وأدرج بینهما المذکر.
فبدأ بالنساء و ختم بالصلاة و کلتاهما تأنیث، و الطیب بینهما کهو فی وجوده، فإن الرجل مدرج بین ذات ظهر عنها و بین امرأة ظهرت عنه، فهو بین مؤنثین: تأنیث ذات و تأنیث حقیقی. "22"
کذلک النساء تأنیث حقیقی و الصلاة تأنیث غیر حقیقی، والطیب مذکر بینهما کآدم بین الذات الموجود عنها و بین حواء الموجودة عنه و إن شئت قلت الصفة فمؤنثة أیضا، و إن شئت قلت القدرة فمؤنثة أیضا. "23"
فکن على أی مذهب شئت، فإنک لا تجد إلا التأنیث یتقدم حتى عند أصحاب العلة الذین جعلوا الحق علة فی وجود العالم. والعلة مؤنثة.
وأما حکمة الطیب و جعله بعد النساء، فلما فی النساء من روائح التکوین، فإنه أطیب الطیب عناق الحبیب.
کذا قالوا فی المثل السائر. و لما خلق عبدا بالاصالة لم یرفع رأسه قط إلى السیادة، بل لم یزل ساجدا واقفا مع کونه منفعلا حتى کون الله عنه ما کون. فأعطاه رتبة الفاعلیة فی عالم الأنفاس التی هی الأعراف الطیبة.
فحبب إلیه الطیب: فلذلک جعله بعد النساء. فراعى الدرجات التی للحق فی قوله «رفیع الدرجات ذو العرش» لاستوائه علیه باسمه الرحمن.
فلا یبقى فیمن حوى علیه العرش من لا تصیبه الرحمة الإلهیة: و هو قوله تعالى «ورحمتی وسعت کل شیء»: والعرش وسع کل شیء، والمستوی الرحمن. فبحقیقته یکون سریان الرحمة فی العالم کما بیناه فی غیر موضع من هذا )
…………………………………………..
22 - هو ما ذکره فی هامش 14 ص 433
23 - التذکیر والتأنیث فی الإلهیات
الإیجاد الإلهی بالقول وهو مذکر ، والإرادة وهی مؤنثة ، فأوجد العالم عن قول وإرادة ، فظهر عن اسم مذکر و مؤنث ، فقال « إنما قولنا لشیء » وشیء أنکر النکرات ، والقول مذکر "إذا أردناه" ، والإرادة مؤنثة ، «أن نقول له کن فیکون» فظهر التکوین فی الإرادة عن القول ، والعین واحدة بلا شک.
الفتوحات ج 2 / 289
ص 442
قال الشیخ رضی الله عنه : ( فهو طیب، ومن حیث ما یحمد و یذم فهو طیب وخبیث. "27"
فقال فی خبث الثوم هی شجرة أکره ریحها ولم یقل أکرهها.
فالعین لا تکره، و إنما یکره ما یظهر )
……………………………………………………...
27 - افعال الله کلها حسنة
إن الأفعال کلها لله سواء تعلق بذلک الفعل ذم أو حمد ، فلا حکم لذلک التعلق بالتأثیر فیما یعطیه العلم الصحیح ، فکل ما ینسب إلى المخلوق من الأفعال فهو فیه نائب عن الله ، فإن وقع محمودا نسب إلى الله لأجل المدح.
فإن الله یحب أن یمدح ، کذا ورد فی الصحیح عن رسول الله صلى الله علیه وسلم ، وإن تعلق به ذم أو لحق به عیب لم ننسبه إلى الله ، فإن من الأفعال ما علق الله الذم بفاعله والغضب علیه واللعنة وأمثال ذلک ، ومن الأفعال ما علق الله المدح والحمد بفاعله ، ووصف نفسه بأنه یحب المتصفین بها، کما أنه لا یحب الموصوفین بالأفعال التی علق الذم بفاعلها ، مع قوله « والله خلقکم وما تعملون » "والأمر کله لله" ، وقال « الا له الخلق والأمر » فالأدب من العلماء بالله أن تکون مع الله فی جمیع القرآن ، وما صح عندک أنه قول الله فی خبر وارد صحیح ، فما نسب إلى نفسه بالإجمال نسبناه مجملا لا نفصله ، وما نسبه مفصلا نسبناه مفصلا وعیناه بتفصیل ما فصل فیه ، لا تزید علیه ، وما أطلق لنا التصرف فیه تصرفنا فیه لنکون عبیدا واقفین عند حدود سیدنا و مراسمه ، وأعمال السعادة علاماتها أن یستعمل الإنسان فی الحضور مع الله فی جمیع حرکاته وسکنانه ، وأن تکون مشاهدة نسبة الأفعال إلى الله تعالى من حیث الإیجاد والارتباط المحمود ،
لارتباط المذموم منها ، فإن نسبه إلى الله فقد أساء الأدب وجهل علم التکلیف من تعلق ومن المکلف الذی قیل له افعل ، إذ لو لم یکن للمکلف نسبة إلى الفعل بوجه ما ، لما قیل له افعل ، وکانت الشریعة کلها عبثا ، وهی حق فی نفسها ، فالاقتدار الإلهی إذا تجلى فی العبید وظهرت الأفعال عن الخلق ، فهو وإن کان بالاقتدار الإلهی ولکن یختلف الحکم لأنه بواسطة هذا المجلى الذی کان مثل المرآة لتجلیه ، وإذا کان الأمر بین الشمس والبدر من الخفاء أن لا یعلمه کل أحد، فما ظنک بالأمر الإلهی فی هذه المسألة مع الخلق أخفى وأخفی ، فمن وقف على هذا العلم فهو من أعلى
ص 444
قال الشیخ رضی الله عنه : ( منها. والکراهة لذلک إما عرفا بملاءمة طبع أو غرض، أو شرع، أو نقص عن کمال مطلوب و ما ثم غیر ما ذکرناه. "28"
ولما انقسم الأمر إلى خبیث و طیب کما قررناه، حبب إلیه الطیب دون الخبیث "29"
ووصف الملائکة بأنها تتأذى بالروائح الخبیثة لما فی هذه النشأة العنصریة من التعفن ، فإنه مخلوق من صلصال )
………………………………………………...
علامات السعادة ، وفقد مثل هذا من علامات الشقاء ، وأرید بهذا سعادة الأرواح وشقاوتها المعنویة ، وأما السعادة الحسیة والشقاوة فعلاماتها الأعمال المشروعة بشروطها وهو الإخلاص.
فالأعمال خلق الله مع کونها منسوبة إلینا ، فلم ینسبها إلیه من جمیع الوجوه ، قال تعالى « والله خلقکم وما تعملون » فخلق الله الأفعال کلها ، ثم قسمها إلى محمود ومذموم ، فانظر حیث یقیمک،
"" فإن أقامک فی مذموم فاعلم أنک فی الوقت ممقوت، فاستدرک بالإزالة والتفرغ والإنابة، وإذا أقامک فی محمود فاعلم أنک فی الوقت محبوب.
فإن فعلت ما لا یرضی الحق منک فارجع على نفسک بالمذمة والتقصیر، فأنت مأجور فی هذه الشرکة، بل هو حقیقة التوحید، فإن توحیدا بغیر أدب لیس بتوحید، فإن لم تر العیب من نفسک، ولا رجعت علیها بالذم، ولا ندمت على فعلک، لم یصح لک توبة، وإذا لم تتب لم تکن محبوبا ولا تنفعک تلک الحقیقة فی الدنیا ولا فی الآخرة.""
الفتوحات ج 1 / 348 - مواقع النجوم - رحمة من الرحمن فی تفسیر وإشارات
28 - طهارة الأعیان
الأحکام لا تعلق بأعیان الأشیاء ، وإنما تعلق بأعمال المکلفین .
ولا أحکم بنجاسة المحرمات إلا أن ینص الشارع على نجاستها على الإطلاق ، ولیس النص بالاجتناب نصا فی کل حال ، فإن اجتنبناه فما أجتنبناه لنجاسته ، فإن کونه نجاسة حکم شرعی ، وقد یکون غیر مستقذر عقلا ولا مستخبث ، فالنجاسات عوارض نسب ، والنسب أمور عدمیة ، فلا أصل للنجاسة فی الأعیان إذ الأعیان طاهرة بالأصل.
إیجاز البیان - الفتوحات ج 1 / 381 ، 282
29 - الطیب
لا یستعمل الطیب إلا لرائحته فهو من مدارک الأنفاس الرحمانیة ، فیدفع التکریات ویرفع الهموم ویزیل الضیق والحرج ، ویؤدی إلى السعة والسراح والجولان فی المعارف الإلهیة ، لأن الله طیب لا یقبل إلا طیبا ، فالطیب محبوب لذاته، فأشبه الکمال ، وشرع الطیب للإحرام والإحلال فجعل الطیب فی الحالین تنببها على طیب الأفعال .
الفتوحات ج 1 / 721 ، 743
ص 445
قال الشیخ رضی الله عنه : ( من حمإ مسنون أی متغیر الریح. فتکرهه الملائکة بالذات، "30"
کما أن مزاج الجعل یتضرر برائحة الورد و هی من الروائح الطیبة.
فلیس الورد عند الجعل بریح طیبة."31"
و من کان على مثل هذا المزاج معنى و صورة أضر به الحق إذا سمعه و سر بالباطل: و هو قوله «و الذین آمنوا بالباطل و کفروا بالله»، و وصفهم بالخسران فقال «أولئک هم الخاسرون ... الذین خسروا أنفسهم» *. فإن من لم یدرک الطیب من الخبیث فلا إدراک له.
فما حبب إلى رسول الله صلى الله علیه و سلم إلا الطیب من کل شیء و ما ثم إلا هو.
وهل یتصور أن یکون فی العالم مزاج لا یجد إلا الطیب من کل شیء، لا یعرف الخبیث، أم لا؟ قلنا هذا لا یکون:
فإنا ما وجدناه فی الأصل الذی ظهر العالم منه و هو الحق ، فوجدناه یکره و یحب، و لیس الخبیث إلا ما یکره و لا الطیب إلا ما یحب.
والعالم على صورة الحق، والإنسان على الصورتین فلا یکون ثم مزاج لا یدرک إلا الأمر الواحد من کل شیء، بل ثم مزاج یدرک الطیب من الخبیث، مع علمه بأنه خبیث بالذوق طیب بغیر الذوق، فیشغله إدراک الطیب منه عن الإحساس بخبثه. هذا قد یکون. "32"
وأما رفع الخبث من العالم- أی من الکون- فإنه لا یصح. )
………………………………………..
30 - تأذی الملائکة بالروائح الخبیثة
اعلم أن الخلوف "خلوف فم الصائم " لیس للإنسان وإنما هو أمر تقتضیه الطبیعة للتعفین الذی یکون فیما یبقى فی المعدة من فضول الطعام ، والملائکة ورجال الله لا یتأذون فی مجالسة الصائم من خلوف فمه ، فإن الملائکة تتأذى مما یتأذى منه بنو آدم ، ورد ذلک فی روائح الثوم وأمثاله ، لا فی خلوف فم الصائم.
الفتوحات ج 1 / 654
أما قوله "فتکرهه الملائکة بالذات" ، فالضمیر فی تکرهه یعود على الخبیث فإنه یستحیل أن یکون القصد منه العود على الإنسان.
31 - راجع طیب کل شیء بعده. هامش 32 التالى
32 - طیب کل شیء *
جاء فی الحدیث أن خلوف فم الصائم أطیب عند الله یوم القیامة من ریح المسک، ولا أدری هل أعطى الله أحدا إدراک تساوی الروائح بحیث أن لا یکون عنده خبث رائحة أم لا، هذا ما ذقناه من أنفسنا ولا ثقل إلینا أن أحدا أدرک ذلک بل المنقول
ص 446
قال الشیخ رضی الله عنه : ( ورحمة الله فی الخبیث و الطیب. والخبیث عند نفسه طیب والطیب عنده خبیث.
فما ثم شیء طیب إلا و هو من وجه فی حق مزاج ما خبیث:
وکذلک بالعکس. وأما الثالث الذی به کملت الفردیة فالصلاة.
فقال «وجعلت قرة عینی فی الصلاة» لأنها مشاهدة: وذلک لأنها مناجاة بین الله و بین عبده کما قال: «فاذکرونی أذکرکم». "33"
وهی عبادة مقسومة بین الله و بین عبده بنصفین: فنصفها لله )
……………………………………………..
عن الکمل من الناس وعن الملائکة التأذی بهذه الروائح الخبیثة ، وما انفرد بإدراک دلک طیبا إلا الحق ، هذا هو المنقول ، ولا أدری أیضا شأن الحیوان من غیر الإنسان فی ذلک ما هو ، لأنی ما أقامنی الحق فی صورة حیوان غیر إنسان .
کما أقامنی فی أوقات فی صورة الملائکة .
الفتوحات ج 1 / 603 .
هذا یخالف تماما ما جاء هنا وفی الهامش 31
33 - وجعلت قرة عینی فی الصلاة « الحدیث »
حبب إلیه صلى الله علیه وسلم الصلاة لما فیها من الجمع بین الشهود والکلام ، لأنه مناج مع اختلاف الحالات المحصورة من قیام و رکوع وسجود وجلوس بقوله « وجعلت قرة عینی فی الصلاة ، وما تعرض لسمعه ولا للکلام ، لأن ذلک معروف فی العموم أن الصلاة مناجاة بقوله یقول العبد « کذا » فیقول الله « کذا » وأنها مقسمة بین الله وعبده المصلی نصفین ، کما ورد فی الحدیث ، وما کانت الصلاة کبیرة إلا على غیر المساهد ، وعلى من لم یسمع قول الحق مجیبا لما یقوله العبد فی صلاته ، فهو صلى الله علیه وسلم مصل عن شهود من وقف یناجیه بین یدیه من حضرة التمثیل وموطنه ، لأن فیه خطابا وردا وقبولا ، ولا یکون ذلک إلا فی شهود التمثیل ، فإنه موطن یجمع بین الشهود والکلام ، فإن الله فی قبلة المصلی ، وقد قال « اعبد الله کأنک تراه ، ومن أعظم المقامات مقام النیابة عن الحق تعالى ، ولما کان المصلی نائبا عن الحق فی قوله « سمع الله لمن حمده » الذی لا یکون إلا فی الصلاة ، کانت مرتبة الصلاة عظیمة ، فحبیت إلیه صلى الله علیه وسلم ، وما حبب إلیه صلى الله علیه وسلم هذه الثلاثة " النساء والطیب والصلاة "، إلا للمناسبة بینه وبینها ، فإن المناسبات تقتضی میل المناسب إلى المناسب .
المراجع - هی نفسها فی هامش 15
الفتوحات ج 1 / 145 ، 444 - ج 2 / 49 ، 167 ، 190 ، 330
الفتوحات ج 3 / 501 ، 503 ، 504 ، 55 - ج 4 / 84 ، 243 ، 269 ، 454
الجزء الرابع
ص 447
قال الشیخ رضی الله عنه : ( ونصفها للعبد کما ورد فی الخبر الصحیح عن الله تعالى أنه قال «قسمت الصلاة بینی و بین عبدی نصفین: فنصفها لی و نصفها لعبدی و لعبدی ما سأل.
یقول العبد بسم الله الرحمن الرحیم: یقول الله ذکرنی عبدی.
یقول العبد الحمد لله رب العالمین: یقول الله حمدنی عبدی.
یقول العبد الرحمن الرحیم: یقول الله أثنى علی عبدی.
یقول العبد مالک یوم الدین: یقول الله مجدنی عبدی: فوض إلی عبدی.
فهذا النصف کله له تعالى خالص.
ثم یقول العبد إیاک نعبد و إیاک نستعین : یقول الله هذه بینی و بین عبدی و لعبدی ما سأل. فأوقع الاشتراک فی هذه الآیة.
یقول العبد اهدنا الصراط المستقیم صراط الذین أنعمت علیهم غیر المغضوب علیهم و لا الضالین: یقول الله فهؤلاء لعبدی و لعبدی ما سأل.
فخلص هؤلاء لعبده کما خلص الأول له تعالى.
فعلم من هذا وجوب قراءة الحمد لله رب العالمین. فمن لم یقرأها فما صلى الصلاة المقسومة بین الله و بین عبده.
ولما کانت مناجاة فهی ذکر، ومن ذکر الحق فقد جالس الحق وجالسه الحق، فإنه صح فی الخبر الإلهی أنه تعالى قال أنا جلیس من ذکرنی.
ومن جالس من ذکره وهو ذو بصر رأى جلیسه. فهذه مشاهدة ورؤیة.
فإن لم یکن ذا بصر لم یره. فمن هنا یعلم المصلی رتبته هل یرى الحق هذه الرؤیة فی هذه الصلاة أم لا.
فإن لم یره فلیعبده بالإیمان کأنه یراه فیخیله فی قبلته عند مناجاته، و یلقی السمع لما یرد به علیه الحق . فإن کان إماما لعالمه الخاص به )
…………………………………….
34 - قراءة الفاتحة فی الصلاة
الصلاة جامعة بین الله والعبد فی قراءة فاتحة الکتاب ، ومن هنا یؤخذ الدلیل اتها على المصلی فی الصلاة ، فمن لم یقرأها فی الصلاة فما صلی الصلاة التی ، بینه وبین عبده ، فإنه ما قال قسمت الفاتحة ، وإنما قال قسمت الصلاة اللام اللتین للعهد والتعریف ، فلما فسر الصلاة المعهودة بالتقسیم جعل قسمة قراءة الفاتحة ، وهذا أقوى دلیل یوجاء فی فرض قراءة الحمد فی ة ، والذی أذهب إلیه وجوب قراءة فاتحة الکتاب فی الصلاة وإن ترکها لم تجزه ه ، فقراءة أم القرآن فی الصلاة واجبة إن حفظها ، وما عداها من القرآن ما فیه .
الفتوحات ج 1 / 413 - ج 3 / 173
راجع وجعلت قرة عینی فی الصلاة هامش 33
ص 448
قال الشیخ رضی الله عنه : ( ونصفها للعبد کما ورد فی الخبر الصحیح عن الله تعالى أنه قال «قسمت الصلاة بینی و بین عبدی نصفین: فنصفها لی و نصفها لعبدی و لعبدی ما سأل.
یقول العبد بسم الله الرحمن الرحیم: یقول الله ذکرنی عبدی.
یقول العبد الحمد لله رب العالمین: یقول الله حمدنی عبدی.
یقول العبد الرحمن الرحیم: یقول الله أثنى علی عبدی.
یقول العبد مالک یوم الدین: یقول الله مجدنی عبدی: فوض إلی عبدی.
فهذا النصف کله له تعالى خالص.
ثم یقول العبد إیاک نعبد و إیاک نستعین : یقول الله هذه بینی و بین عبدی و لعبدی ما سأل. فأوقع الاشتراک فی هذه الآیة.
یقول العبد اهدنا الصراط المستقیم صراط الذین أنعمت علیهم غیر المغضوب علیهم و لا الضالین: یقول الله فهؤلاء لعبدی و لعبدی ما سأل.
فخلص هؤلاء لعبده کما خلص الأول له تعالى.
فعلم من هذا وجوب قراءة الحمد لله رب العالمین. فمن لم یقرأها فما صلى الصلاة المقسومة بین الله و بین عبده.
ولما کانت مناجاة فهی ذکر، ومن ذکر الحق فقد جالس الحق وجالسه الحق، فإنه صح فی الخبر الإلهی أنه تعالى قال أنا جلیس من ذکرنی.
ومن جالس من ذکره وهو ذو بصر رأى جلیسه. فهذه مشاهدة ورؤیة.
فإن لم یکن ذا بصر لم یره. فمن هنا یعلم المصلی رتبته هل یرى الحق هذه الرؤیة فی هذه الصلاة أم لا.
فإن لم یره فلیعبده بالإیمان کأنه یراه فیخیله فی قبلته عند مناجاته، و یلقی السمع لما یرد به علیه الحق . فإن کان إماما لعالمه الخاص به )
………………………………….
34 - قراءة الفاتحة فی الصلاة
الصلاة جامعة بین اللّه والعبد فی قراءة فاتحة الکتاب، ومن هنا یؤخذ الدلیل بفرضیتها على المصلی فی الصلاة، فمن لم یقرأها فی الصلاة فما صلى الصلاة التی قسمها اللّه بینه وبین عبده، فإنه ما قال قسمت الفاتحة وإنما قال قسمت الصلاة بالألف واللام اللتین للعهد والتعریف، فلما فسر الصلاة المعهودة بالتقسیم جعل محل القسمة قراءة الفاتحة، وهذا أقوى دلیل یوجد فی فرض قراءة الحمد فی الصلاة، والذی أذهب إلیه وجوب قراءة فاتحة الکتاب فی الصلاة وإن ترکها لم تجزه صلاته، فقراءة أم القرآن فی الصلاة واجبة إن حفظها، وما عداها "من القرآن" ما فیه توقیت.
عن أبی هریرة عن النبی صلّى اللّه علیه وسلم قال «من صلى صلاة لم یقرأ فیها بأم القرآن فهی خداج ثلاث غیر تمام».
الفتوحات ج 1 / 413 - ج 3 / 173
راجع وجعلت قرة عینی فی الصلاة هامش 33
ص 449
قال الشیخ رضی الله عنه : ( ما دامت- سوى الصلاة. وذکر الله فیها أکبر ما فیها لما تشتمل علیه من أقوال )
…………………………………………………..
و « أثنى علی عبدی » إلا أهل الحضور معه عند التلاوة ، بأنه مناج نفسه بفعله ، والمناجی بإحاطته وذاته ، وأهل التدبر والتذکر لما أودع فی کتابه العزیز من الأسرار والعلوم ، یفهم کل عبد على قدر مقامه وذوقه وکشفه ، بل أقول إن کل من قعد على منهج الاستقامة ، وکان حیلته الطاعة ، وکان اللسان صامتا عند تلاوة القرآن فإنه حامد لله بحاله ، شاکرا له بأفعاله ،
ویقول الله فیه « حمدنی عبدی » فإذا کان اللسان یقول « الحمد لله ، والقلب فی الدکان أو فی الدار أو فی عرض من الأعراض ، متى عرف من هذه صفته أن یحمد الله ، وکیف ذلک والقلب غافل بما هو علیه عما جری به لسانه ، فإذا وفقک الله وترید أن یسمع الحق جل اسسه منک تلاوتک ، ویرسمک فی دیوان التالین ، ویقول لک على الکلمات و حمادنی عبدی » فاعلم منازل التلاوة ومواطنها ، وکم التالین منک ، وذلک أن تعلم إن على اللسان تلاوة ، وعلى الجسم بجمیع أعضائه تلاوة ، وعلى النفس تلاوة ، وعلى القلب تلاوة ، وعلى الروح تلاوة ، وعلى السر تلاوة ، وعلى سر السر تلاوة ، فتلاوة اللسان ترتیل الکلمات على الحد الذی رتب المکلف له ، وتلاوة الجسم المعاملات على تفصیلها فی الأعضاء التی على سطحه ، وتلاوة النفس التخلق بالأسماء والصفات ، وتلاوة القلب الإخلاص والفکر والتدبر ، وتلاوة الروح التوحید ، وتلاوة السر الاتحاد، راجع مفهوم الاتحاد عند الشیخ فی کتابنا شرح کلمات الصوفیة ص 99 - 107
وتلاوة سر السر الأدب ، وهو التنزیه الوارد علیه فی الإلقاء منه جل وعلا ، فمن قام بین یدی سیده بهذه الأوصاف کلها فلم یر جزءا منه إلا مستغرقا فیه على ما یرضاه منه ، کان عبدا کلیا ،
وقال له الحق تعالی إذ ذاک « حمدنی عبدی » أو ما یقول على حسب ما ینطق به العبد قولا أو حالا ، فإن کان فیه بعض هذه الأوصاف وتعلقت غفاة ببعض التالین فلیس بعبد کلیه ، ولا یکون فیه للحق تعالى من عبودیة الاختصاص إلا على قدر ما اتصفت به ذاته ، فثم عبد یکون الله فیه السدس ولهواه ما بقى ، ولله
ص 450
* * * * *
………………………………………………..
فیه الخمس ولهواه ما بقی، والربع والثلث والنصف ، على قدر ما یحضر منه مع الحق تعالی :
یقول العبد « إیاک نعبد وإیاک نستعین » فوحد بحرف الخطاب فجعله مواجها لا على جهة التحدید ولکن امتثالا لقول الشارع .
قال صلى الله علیه وسلم للسائل عن الإحسان « آن تعبد الله کأنک تراه » فلابد أن تواجهه بحرف الخطاب وهو الکاف ، وإنما وحده ولم یجمعه لأن المعبود واحد ، وجمع نفسه بنون الجمیع فی العبادة والعون المطلوب ، لأن العابدین من العبد کثیرون ، وکل واحد من العابدین یطلب العون ، والمقصود بالعبادات واحد ، فعلى العین عبادة وعلى السمع عبادة ، وعلى البصر واللسان والید والبطن والفرج والرجل والقلب ، فلهذا قال « نعبد » و « نستعین » بالنون ، فإذا نظر العالم إلى تفاصیل عالمه وأن الصلاة قد عم حکمها جمیع حالاته ظاهرا وباطنا ،
لم ینفرد بذلک جزء عن آخر ، فجمیع عالمه قد اجتمع على عبادة ربه وطلب العون منه على عبادته ، فجاء بنون الجماعة فی « نعبد » و « نستعین » فنرجم اللسان عن الجماعة کما یتکلم الواحد من الوفد بحضورهم بین یدی الملک . فعلم العبد من الحق لما أنزل علیه هذه الآیة بإفراده نفسه أن لا یعبد إلا إیاه ، ولما قید العبد بالنون ، أنه یرید منه أن یعبده بکله ظاهرا وباطنا من فوی وجوارح ، ویستعین على ذلک الحد ، ومتى لم یکن المصلی بهذه المثابة من جمع عالمه على عبادة ربه لم یصدق فی قوله « إیاک نعبد وإیاک نستعین » وهو مشغول فی الالتفات ببصره والإصغاء إلى حدیث الآخرین ، کان کاذبا فی قراءته ، فإن الله ینظر إلیه فیراه منلفا فی صلاته أو مشغولا بخاطره وقلبه فی دکانه وتجارته ، وهو مع هذا یقول « نعبد » فیقول الله له « کذبت » أین صدقک فی قولک نعبد ؟
فیحضر العارف هذا کله فی خاطره ویستحی أن یقول إیاک نعبد لئلا یقول له کذبت ، فلابد أن یجتمع من هذه تلاوته على عبادة ربه حتى یقول له : صدقت فی عبادنی وطلب معوتنی .
ص 451
قال الشیخ رضی الله عنه : ( وأفعال "39"
وقد ذکرنا صفة الرجل الکامل فی الصلاة فی الفتوحات المکیة کیف یکون لأن الله تعالى یقول «إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنکر»، لأنه شرع للمصلی ألا یتصرف فی غیر هذه العبادة ما دام فیها و یقال له مصل.
«و لذکر الله أکبر» یعنی فیها: أی الذکر الذی یکون من الله لعبده حین یجیبه فی سؤاله.
والثناء علیه أکبر من ذکر العبد ربه فیها، لأن الکبریاء لله تعالى."40"
ولذلک قال: «والله )
………………………………………...
ولاختلاف أحوال الذاکرین أعنی البواعث لذکرهم ، فذاکر نبعثه الرغبة ، وذاکر تبعنه الرهبة ، وذاکر یبعثه التعظیم والإجلال ، أجاب الحق على أدنى مراتب العالم ، وهو الذی یتلو بلسانه ولا یفهم بقلبه لأنه لم یتدبر ما قاله - إذا کان التالی عالمة باللسان - ولا ما ذکره . فإن تدبر تلاوته أو ذکره کانت إجابة الحق له بحسب ما حصل فی نفسه من العلم بما تلاه ، فتدبر ما نصصناه لک.
الفتوحات ج 1 / 416 ، 423 - مواقع النجوم .
39 - تکبیرة الإحرام فی الصلاة
سمیت التکبیرة الأولى تکبیرة الإحرام ، أی یحرم على العبد فی ص لاته أن یتصرف بعضو من أعضائه فیما لیس من الصلاة ، وکل ما أبیح له من الفعل فیها فهو من الصلاة ، ولکن لا من صلاة کل مصل إلا لمصل عرض له فی صلاته من ذلک شیء تفعله مثل قتل العقرب والحیة فی الصلاة ، وهی الأمور المنصوص علیها ، وکل فعل یجوز أن یفعل فی الصلاة فهو صلاة لأن الشارع عینها فلا تبطل الصلاة بفعل شیء منها ، وجعل الله أفضل أفعال الصلاة السجود وأفضل أقوالها ذکر الله بالقرآن.
الفتوحات ج 1 / 410 ، 443 - ج 3 / 503 .
40 - « إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنکر ولذکر الله اکبر» - الآیة
« إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنکر » یعنی بصورتها ، فإن التکبیرة الأولى تحریمها والسلام منها تحلیلها ، فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنکر ، هکذا أخبر تعالی انباء عن حقیقة لأجل ما فیها من الإحرام ، فهی تنهى عن الفحشاء والمنکر بسبب تکبیرة الإحرام ، فإنه حرم على المصلی التصرف فی غیر الصلاة ما دام فی الصلاة ، فذلک الإحرام نهاه عن الفحشاء والمنکر ، فإن الإحرام المنع من التصرف
ص 452
قال الشیخ رضی الله عنه : ( یعلم ما تصنعون» وقال «أو ألقى السمع وهو شهید».
فإلقاؤه السمع هو لما یکون من ذکر الله إیاه فیها."41"
ومن ذلک أن الوجود لما کان عن حرکة معقولة نقلت العالم من العدم إلى الوجود عمت الصلاة جمیع الحرکات وهی ثلاث: حرکة مستقیمة وهی حال قیام المصلی، وحرکة أفقیة وهی حال رکوع المصلی، وحرکة منکوسة وهی حال سجوده.
فحرکة الإنسان مستقیمة، وحرکة الحیوان أفقیة، وحرکة النبات منکوسة،"42"
ولیس للجماد حرکة من ذاته: فإذا تحرک حجر فإنما )
……………………………………………..
فی شیء مما یغایر کونه مصلیا ، فانتهى المصلی . فصح له أجر من عمل بأمر الله وطاعه وأجر من انهی عن محارم الله فی نفس الصلاة، وإن کان لم بنو دلک. فانظر ما أرى الصلاة کیف أعطت هذه المسألة العجیبة .
"ولذکر الله أکبر"، یعنی القول فیها أشرف أفعال المکلف . فإنها نشتمل على أفعال وأقوال أی « ولذکر الله » فیها « أکبر » أعمالها وأکبر أحوالها .
أی ذکر الله أکبر ما فیها ، فهو أکبر من جملة أفعالها فإنها تشتمل على أقوال وأفعال . فذکر الله فی الصلاة أکبر أحوال الصلاة ، قال تعالى « اذکرونی أذکرکم » فذکر الله فی الصلاه أکبر من جمیع أفعالها وأقوالها ، فإنک إن ذکرن الله فیها کان جلیسک فی باک العبادة ، فإنه أخبر أنه جلیس من ذکره « فیذکر الله الذاکر له أیضا ».
41 - « او القى السمع وهو شهید» - الآیة
« أو ألقى السمع » لخطاب الحق لما قیل له وعرف به . فالدی ینبغی للعبد أن یصغی إلى الحق ویخلی سمعه لکلامه ، حتى یکون الحق هو الذی یسلوه بلسانه ویسمعه ویتولى شرح کلامه ویترجم للعبد عن معناه ، فیأخذ العلم منه لا من فکره واعتباره . وإنما ألقى السمع لما یقوله الحق له « یا عبدی أردت بهده الآیة کذا وکذا وبهذه الآیة الأخرى کذا وکذا ».
الفتوحات ج 1 / 239 - ج 3 / 471 ، 484
42 - الحرکات الثلاث
اعتبر العلماء الجهات بوجود الإنسان ، وجعلوا الاستقامة فی نشأته وحرکته إلى جهة رأسه فسموا حرکته مستقیمة ، وکل حرکة تقابل حرکة الإنسان على سستها تسمى منکوسة فالنبات الذی لا حس له وله النمو حرکته کلها منکوسة ، وإذا کانت
ص 453
قال الشیخ رضی الله عنه : ( یتحرک بغیره.
وأما قوله «و جعلت قرة عینی فی الصلاة ولم ینسب الجعل إلى نفسه فإن تجلی الحق للمصلی إنما هو راجع إلیه تعالى لا إلى المصلی: فإنه لو لم یذکر هذه الصفة عن نفسه لأمره بالصلاة على غیر تجل منه له.
فلما کان منه ذلک بطریق الامتنان، کانت المشاهدة بطریق الامتنان. فقال وجعلت قرة عینی فی الصلاة.
ولیس إلا مشاهدة المحبوب التی تقر بها عین المحب، من الاستقرار: فتستقر العین عند رؤیته فلا تنظر معه إلى شیء غیره فی شیء و فی غیر شیء."43"
ولذلک نهی عن الالتفات فی الصلاة، وأن الالتفات شیء یختلسه الشیطان من صلاة العبد فیحرمه مشاهدة محبوبه.
بل لو کان محبوب هذا الملتفت، ما التفت فی صلاته إلى غیر قبلته بوجهه.
والإنسان یعلم حاله فی نفسه هل هو بهذه المثابة فی هذه العبادة الخاصة أم لا، فإن «الإنسان على نفسه بصیرة و لو ألقى معاذیره».
فهو یعرف کذبه من صدقه فی نفسه، لأن الشیء لا یجهل حاله فإن حاله له ذوقی.
ثم إن مسمى الصلاة له قسمة أخرى، فإنه تعالى أمرنا أن نصلی له وأخبرنا أنه یصلی علینا. فالصلاة منا ومنه.
فإذا کان هو المصلی فإنما یصلی باسمه الآخر، فیتأخر عن وجود العبد: "44" )
……………………………………….
الحرکة بین الحرکة المنکوسة والمستقیمة یقابل المتحرک برأسه الأفق کانت حرکته أفقیة کالحیوان ۰الفتوحات ج 2 / 464.
فالصلاة تعم جمیع المقامات الخصوصیة بروحانیة أهل السموات ، وحبیت بجمیع الحرکات . المستقیمة فی الإنسانیات عند القرآن ، والأفقیات فی الحیوانات عند الرکوع للأذکار العظیمات، والمنکوسة فی النباتات عند السجود لابتغاء القربات.
راجع کتاب التنزلان الموصلیة.
43 - راجع حبب إلی من دنیاکم ثلاث ص 434 - حب النساء
44 - الصلاة
اعلم أیدک الله بروح القدس ، أن مسی الصلاة یضاف إلى ثلاثة وإلى رابع" هو الحق تعالی" ثلاثة بمعنیین ، بمعنی شامل ، وبمعنی غیر شامل ، فتضاف الصلاة إلى الحق بالمعنى الشامل ، والمعنى الشامل هو الرحمة ، قال تعالى « هو الذی یصلی علیکم » فوصف نفسه بأنه یصلی أی یرحمکم بأن یخرجکم من الظلمات إلى النور ، یقول من الضلالة
ص 454
قال الشیخ رضی الله عنه : ( وهو عین الحق الذی یخلقه العبد فی قلبه بنظره الفکری أو بتقلیده و هو الإله المعتقد. "45"
ویتنوع بحسب ما قام بذلک المحل من الاستعداد کما قال الجنید )
………………………………………………..
إلى الهدى ، ومن الشقاوة إلى السعادة ، وتضاف الصلاة إلى الملائکة بسعنی الرحمة والاستغفار والدعاء ، وتضاف الصلاة إلى البشر بمعنى الرحمة والدعاء والأفعال المخصوصة المعلومة شرعا. وتضاف الصلاة إلى کل ما سوى الله من جمیع المخلوقات ملک وإنسان وحیوان ونبات ومعدن بحسب ما فرضت علیه وعینت له ، قال تعالى « ألم تر أن الله یسبح له من فی السوان ومن فی الأرض والطیر صافات ، کل قد علم صلاته وسبیحه » فأضاف الصلاة إلى الکل . والصلاة لغة مشتقة من المصلی فی الخیل وهو الذی یلی السابق فی الحلبة .
لذا کان السابق فی القواعد ( حدیث بنی الإسلام على خمس ) الشهادة والمصلی هی الصلاه . وأخبرنا أنه یصلی علینا . والمفهوم من هذا أمران .
الأمر الواحد أنه یصلی علینا فینبغی لنا أن نذکره بالمدح والثناء و نصلی له بکرة وأصیلا ، والأمر الآخر أنکم إذا صایم وذکرتم الله فإنه یصلی علیکم ، فإنه لما أمرنا بالذکر والصلاة فال « هو الذی بصلی علیکم » فصلاتنا وذکرنا له سبحانه بین صلاتین من الله تعالی . صلی علینا فصایا فصلى علینا ، فمن صلاته الأولى صلینا له ، ومن صلاته التانیة علینا کانت السعادة لنا بأن جنینا ثمرة صلاتنا له وذکرنا ، لذلک جاءت إقامة الصلاة المفروضة بالفعل الماضی «فد قامت الصلاة » أراد قیام الصلاة من الله على العبد. لیقوم العبد إلى الصلاة فیقیم بقیامه نشأتها.
الفتوحات ج 1 / 386 ، 387 ، 539 .
أما من ناحیة الاسم الإلهی الأول والاسم الآخر فلیراجع التنزلات الموصلیة فی معرفة أسرار الفرق بین الفاتحة والسورة.
45 - إله المعتقد
فی هذا المقام یقول العارف « أما أنا فعرفته وما بقی إلا أن یعرفنی » عسر هذا الکلام على أکثر أهل الأفهام من السادات الأعلام ، وما علم المنکر أن لکل معتقد ربا فی قلبه أوجده فاعتقده ، وهم أصحاب العلامة یوم القیامة ، فما اعتقدوا إلا
ص 455
قال الشیخ رضی الله عنه : ( حین سئل عن المعرفة بالله و العارف فقال لون الماء لون إنائه. وهو جواب ساد خبر عن الأمر بما هو علیه. "46" فهذا هو الله الذی یصلی علینا.
وإذا صلینا نحن کان لنا الاسم الآخر فکنا فیه کما ذکرنا فی حال من له هذا الاسم، فنکون عنده بحسب حالنا، فلا ینظر إلینا إلا بصورة ما جئناه بها فإن المصلی هو المتأخر عن السابق فی الحلبة.
وقوله «کل قد علم صلاته وتسبیحه» أی رتبته فی التأخر فی عبادته ربه، و تسبیحه الذی یعطیه من التنزیه استعداده، فما من شیء إلا وهو یسبح بحمد ربه )
…………………………...
ما نحتوا، ولذلک لما تجلى لهم فی غیر تلک الصوره بهتوا ، فهم عرفوا ما اعتقدوا ، والدی اعتقدوه ما عرفهم لأنهم أوجدوه ، والأمر الجامع أن المصنوع لا یعرف الصانع ، الدار لا تعرف من بناها ولا من عدلها فسواها .
الفتوحات ج 4 / 391
46 - « نون الماء لون إنائه »
اعلم أنه لما لم یتقید أمر الإله ولا انضبط ، وجهل الأمر ، وتبین أنه لم یکن معلوما فی وفت الاعتقاد بأنه کان معلوما لنا ، ولم بحصل فی العلم به أمر ثبونی بل سلب محقق ونسبة معقولة ، أعطتها الآثار الموجودة فی الأعیان ، فلا کیف ولا این ولا منی ولا وضع ولا إضافة ولا عرض ولا جوهر ولا کم وهو المقدار ، وما بقی من العشرة إلا انفعال محقق وفاعل معین ، أو فعل ظاهر من فاعل مجهول یرى أثره ولا یعرف خبره ولا یعلم عینه ولا یجهل کونه ، فإنه ما تم من یقع علیه عین ، ولا یضبطه خیال ، ولا من یحدده زمان .
ولا من تعدده صفات وأحکام . ولا من تکیفه أحوال ، ولا من یمیزه أوضاع .
ولا من تظهره إضافة ، فهو لا یقبل الصفات ، والعلم یرفع الخیال .
فالذی یحفظه الإنسان إنما هو اعتقاده فی قلبه ، فذلک الذی وسعه عن ربه .
فاعلم أنک ما زلت عنک ، ولا عرفت سوى ذاتک ، فالحادث لا یتعلق إلا بالمناسب .
وهو ما عندک منه ، وما عندک حادت ، فما برحت من جنسک ، وما عبدت على الحقیقة سوى ما نصبته فی نفسک ، ولهذا اختلفت المقالات فی الله ، وتغیرت الأحوال ، فقالت طائفة فی العلم به « لون الماء لون إنائه » .
الفتوحات ج 2 / 211
ص 456
قال الشیخ رضی الله عنه : ( الحلیم الغفور. "47"
ولذلک لا یفقه تسبیح العالم على التفصیل واحدا واحدا. "48"
وثم مرتبة یعود الضمیر على العبد المسبح فیها فی قوله «وإن من شیء إلا یسبح بحمده» أی بحمد ذلک الشیء.
فالضمیر الذی فی قوله «بحمده» یعود على الشیء أی بالثناء الذی یکون علیه کما قلنا فی المعتقد إنه إنما یثنی على الإله الذی فی معتقده وربط به نفسه.
وما کان من عمله فهو راجع إلیه، فما أثنى إلا على نفسه، فإنه من مدح الصنعة فإنما مدح الصانع بلا شک، فإن حسنها و عدم حسنها )
……………………………………………..
47 - «کل قد علم صلاته وتسبیحه » - الآیة
الضمیر یعود على الله من قوله صلاته ، أی صلاة الله علیه بنفس وجوده ورحمته به فی ذلک وأضاف الله الصلاة فی هذه الآیة إلى الکل « وتسبیحه و الضمیر یعود فی تسبیحه على کل ، أی ما یسبح ربه به ، قال تعالی د تسبح له السموات السبع والأرض ومن فیهن » « وإن من شیء إلا یسبح بحمده » فان الله ما خلق الأشیاء من أجل الأشیاء ، وإنما خلقها لیسبحه کل جنس من الممکنات بما یلیق به من صلاة وتسبیح ، لتسری عظمته فی جمیع الأکوان وأجناس الممکنات وأنواعها وأشخاصها ، فالکل له تعالى ملک ، وباعادة الضمیر فی صلاته على الله ، وصف الحق نفسه بالصلاة وما وصف نفسه بالتسبیح ، فعم بهذه الآیة العالم الأعلى والأسفل وما بینهما برحمته ، فإن صلاة الله هی رحمته ، والتسبیح تنزیه .
الفتوحات ج 1 / 540 ، 386 - ج 2 / 200 - ج 3 / 555.
48 - « ولکن لا تفقهون تسبیحهم إنه کان حلیما غفورا » - الآیة
فقوله تعالى " یسبح بحمده " تسبیح نطق یلیق بذلک الشیء ، لا تسبیح حال، ولهذا قال « ولکن لا تفقهون تسبیحهم » لاختلاف ما یسبحون به إلا لمن سمعه ، فهذا التسبیح لا یفقه بالنظر العقلی من جهة الفکر والنظر ، إلا أن یمن الله على بعض عباده بعلم ذلک "إنه کان حلیما" ، فلم یعجل علیکم بالعقوبة وأمهلکم حیث لم یؤاخذکم سریعة بما رددتم من ذلک وقلتم إنه تسبیح حال ، فلم یؤاخذ مع القدرة « غفورا » حیث ستر عنکم تسبیح هؤلاء فلم تفقهوه ، فکان غفورا أی ساترة نطقهم عن أن تتعاق به الأسماع إلا لمن خرق الله له العادة ، فإذا أراد العبد نجاة نفسه
ص 457
قال الشیخ رضی الله عنه : ( راجع إلى صانعها.
وإله المعتقد مصنوع للناظر فیه، فهو صنعه: فثناؤه على ما اعتقده ثناؤه على نفسه.
ولهذا یذم معتقد غیره، ولو أنصف لم یکن له ذلک.
إلا أن صاحب هذا المعبود الخاص جاهل بلا شک فی ذلک لاعتراضه على غیره فیما اعتقده فی الله، إذ لو عرف ما قال الجنید لون الماء لون إنائه لسلم لکل ذی اعتقاد ما اعتقده، وعرف الله فی کل صورة وکل معتقد.
فهو ظان لیس بعالم، ولذلک قال «انا عند ظن عبدی بی» لا أظهر له إلا فی صورة معتقده: فإن شاء أطلق و إن شاء قید.
فإله المعتقدات تأخذه الحدود وهو الإله الذی وسعه قلب عبده،"49" فإن الإله )
…………………………………...
وتحصیل أسباب سعادته فلا یحمد الله إلا بحمده کان ما کان على علم الله فی ذلک من غیر تعیین ، وهذه الآیة إخبار من الحق عن الأشیاء أنها تنزه بحمده أی بالثناء علیه، والتنزیه البعد، وما ذکر الله أنه أمرهم بتسبیحه بل أخبر أنهم یسبحون بحمده. الفتوحات ج 1 / 247 ، 398 - ج 2 / 510 - ج 3 / 375 ، 393
49 - رؤیة الحق فی کل اعتقاد
ورد فی الحدیث أن الله یتجلى یوم القیامة لهذه الأمة وفیها منافقوها ، فیقول : أنا ربکم فیستعیذون منه ، لا یجدون له تعظیمة وینکرونه لجهلهم به ، فإذا تجلى لهم فی العلامة التی یعرفونه بها أنه ربهم حینئذ یجدون عظمته ، وحدیث التجلی فی الصور أخرجه مسلم فی صحیحه ، فالحق سبحانه یتحول فی الصور وهو سبحانه لا غیره ، فأنکر فی صورة وأقر به فی صورة ، والعین واحدة والصور مختلفة ، ولو لم یکن من شرف العلم إلا فی تجلی الحق فی صورة تنکر ثم تحوله فی صورة تعرف [ وهو هو فی الأولى والثانیة ، وان موطن تلک المشاهدة لا یتمکن فی نفس الأمر إلا أن تکون مقیدة ، لأن الذی یشهد وهو عین العبد مقید بامکانه ، فلا یمکن له شهود الإطلاق. ولا بد من الشهود ، فظهر له المشهود مقیدا بالصورة : مقیدا بالتحول فی الصور ] فأعطى التحول الإنسان علما لم یکن عنده ، فعلم عند ذلک أن الأمر لا یتناهى ، وما لا یتناهى لا یدخل تحت القید ، ویرید بذلک ارتفاع الشک فی أنه المرئی تعالی لا غیره .
ص 458
* * * * *
……………………………………………...
والعالم والعارف أن الحق وإن احتجب ، فهو فی تجل لا یعرفه کل عارف إلا من أحاط علما بما أحاط به الکامل من المعارف ، ألا ترى الحق یتجلى فی القیامة فی غیر الصورة التی یعرفونها والعلامة، فینکرون ربوبیته ومنها یتعوذون وبها یتعوذون، ولکن لا یشعرون ، ولکنهم یقولون لذلک المتجلی نعوذ بالله منک ، وها نحن لربنا متنظرون ، فیخرج الحق علیهم فی الصورة التی لدیهم فیقرون له بالربوبیة وعلى أنفسهم بالعبودیة ، فهم لعلامتهم عابدون وللصورة التی تقررت عندهم مشاهدون ، فمن قال إنه عبد الله کیف یصح عندما یتجلى له أن ینکره ، فمن قیده بصورة دون سورة فتخیله عبد ، وهو الحقیقة الممکنة فی قلبه المستورة ، فهو یتخیل أنه یعبده وهو یجحده ، والعارفون لیس فی الإمکان خفاؤه عن أبصارهم ، لأنهم غابوا عن الخلق وعن أسرارهم ، فلا یظهر لهم عندهم إلا الحق ، ولا یعقلون من الموجودات سوى أسمائه .
فالرؤیة یوم الزیارة تابعة للاعتقادات فی الدنیا ، فمن اعتقد فی ربه ما أعطاه النظر وما أعطاه الکشف وما أعطاه تقلید رسوله ، فإنه یرى ربه فی صورة وجه کل اعتقاد ربط علیه ، إلا أنه فی تقلید نبیه یراه بصورة نبیه من حیث ما أعلمه ذلک الرسول فما أوحى به إلیه فی معرفته بربه ، فلمثل هذا ثلاث تجلیات بثلاثة أعین فی الآن الواحد ، وکذلک حکم صاحب النظر وحده أو صاحب الکشف وحده أو صاحب التقلید وحده ، والعارف الکامل یعرفه فی کل صورة یتجلى بها ، وفی کل صورة ینزل فیها ، وغیر العارف لا یعرفه إلا فی صورة معتقده وینکره إذا تجلى له فی غیرها.
عقد الخلائق فی الإله عقائدا ….. وأنا شهدت جمیع ما اعتقدوه
لا بدا صورة لهم متحولا ….. قالوا بما شهدوا وما جحدوه
ذاک الذی أجنی علیهم خلفهم ….. بجمیع ما قالوه واعتقدوه
إن أفردوه عن الشریک فقد نحوا ….. فی ملکه ربا کما شهدوه
ص 459
قال الشیخ رضی الله عنه : ( المطلق لا یسعه شیء لأنه عین الأشیاء وعین نفسه: "50"
والشیء لا یقال فیه یسع نفسه ولا لا یسعها فافهم والله یقول الحق وهو یهدی السبیل.
تم بحمد الله و عونه وحسن توفیقه، والحمد لله وحده و صلى الله على سیدنا محمد و آله و صحبه وسلم تسلیما کثیرا.
وکان الفراغ منه فی عاشر شهر جمادی الآخرة سنة تسع و ثلاثین و ثمانمائة أحسن الله عاقبتها بمحمد و آله آمین. )
…………………………………………….
قد أعذر الشرع الموحد وحده …. والمشرکون شقوا وإن عبدوه
وکذالک أهل الشک أخسر منهم …. والجاحدون وجود من وجدوه
والقائلون بنفیه أیضا شقوا ….. مثل الثلاثة حین لم یجدوه
أجنی علیهم من تأله حین ما ….. أهل السعادة بالهدى عبدوه
لو وافق الأقوام إذ أغواهم ….. وتنزهوا عن غیه طردوه
الفتوحات ج 2 / 85 - ج 3 / 132
الجزء الخامس
لا یتجلى الحق لعبد إلا فی صورة نفسه - فص 12 ، هامش 9، ص 192
""9 – أ - التجلی الإلهی :
لما کان العلم الأول فی المعرفة هو العلم بالحقائق وهو العلم بالأسماء الإلهیة کان العلم الثانی من علوم المعرفة هو علم التجلی ، وهو أن التجلی الإلهی دائم لا حجاب علیه ، ولکن لا یعرف أنه هو ، فإن الحضرة الإلهیة متجلیة على الدوام لا یتصور فی حقها حجاب عناء .
واعلم أن الحق له نسبتان فی الوجود :
نسبة الوجود النفسی الواجب له .
ونسبة الوجود الصوری ، وهو الذی یتجلى فیه لخلقه .
إذ من المحال أن یتجلى فی الوجود النفسی الواجب له ، فالتجلی الذاتی منوع بلا خلاف بین أهل الحقائق فی غیر مظهر ، لأنه لا عین لنا ندر که بها، إذ نحن فی حال عدمنا ووجودنا مرجحون ، لم یزل عنا حکم الإمکان ، فلا تراه إلا بنا من حیث ما تعطیه حقائقنا ، لأن التجلی على ما هو المتجلی علیه فی نفسه محال حصوله لأحد ، فلا یقع التجلی إلا من دون ذلک مما یلیق بمن یتجلى له .
فعلمنا قطعا أن الذات لا تتجلى أبدا من حیث هی ، وإنما تتجلى من حیث صفة ما معتلیة ، والتجلی الإلهی لا یکون إلا للإله والرب، لا یکون الله أبدا فإن الله هو الغنی .
کما لا یتجلى فی الاسم الأحد ولا فی الاسم الله ولا یصح النجلی فیه ، فإنه لا یعرف معناه ، ولا یسکن وقتا ما فی معناه .
و بهذا السر تمیز الإله من المألوه ، والرب من المربوب ، وما عدا هذین الأسمین من الأسماء المعلومات لنا فإن التجلی یقع فیها ، کما أن حضرة الجلال لها السبحات المحرقة، ولهذا لا یتجلى فی جلاله أبدا ، ولکن یتجلى فی جلال جماله لعباده ، فبه یقع التجلی .
إذا علمت هذا فلابد أن یکون تجلی الحق فی الوجود الصوری ، وهو التجلی فی المظاهر ، وهو التجلی فی صور المعتقدات کائنة بلا خلاف ، والتجلی فی المعقولات کائن بلا خلاف ، وهما تجلی الاعتبارات ، لأن هذه المظاهر سواء کانت صورالمعقولات أو صور المعتقدات فإنها جسور یعبر علیها بالعلم.
أی یعلم أن وراء هذه الصور أمر لا یصح أن یشهد ولا أن یعلم ، ولیس وراء ذلک العلوم الذی لا یشهد ولا یعلم حقیقة ما یعلم أصلا، وأما التجلی فی الأفعال أعنی نسبة ظهور الکائنات والمظاهر عن الذات التی تتکون عنها الکائنات وتظهر عنها المظاهر ، فالحق سبحانه قرر فی اعتقادات قوم وقوع ذلک ، وقرر فی اعتقادات قوم منع وقوع ذلک .
فالتجلی الصوری هو الذی یقبل التحول والتبدل ، فتارة یوصف به الممکن الذی یختلع به ، وتارة یظهر به الحق فی تجلیه ، فإن للألوهیة أحکاما وإن کانت حکما ، وفی صورة هذه الأحکام یقع التجلی فی الدار الآخرة حیث کان ، فإنه قد اختلف فی رؤیة النبی مع ربه کما ذکر ، وقد جاء حدیث النور الأعظم من رفرف الدر والیاقوت وغیر ذلک .
واعلم أن الله تجلیین ، تجلیا عاما إحاطیا ، وتجلیا خاصا شخصیا، فالتجلی العام تجل رحمانی ، وهو قوله تعالى « الرحمن على العرش استوى » والتجلی الخاص هو ما لکل شخص شخص من العلم بالله .
فتوحات ج 1 / 41 ، 91 - ج 2 / 303 ، 542 ، 606 - ج 3 / 101 ، 178 ، 180 ، 516.
ذخائر الأعلاق - التنزلات الموصلیة .
9 - ب - حظ العارف من العلوم فی التجلی:
لما کانت العلوم تعلو وتتضع بحسب المعلوم لذلک تعلقت الهمم بالعلوم الشریفة العالیة التی إذا اتصف بها الإنسان زکت نفسه وعظمت مرتبته .
فأعلاها مرتبة العلم بالله ، وأعلى الطرق إلى العلم بالله علم التجلیات ودونها علم النظر ، ولیس دون النظر علم إلهی وإنما هی عقائد فی عموم الخلق لا علوم، التجلی أشرف الطرق إلى تحصیل العلوم ، فأول مقام للعارف هو أن یتجلى له الحق فی غیر مادة ، لأن العارف أو العالم
فی حضرة الفکر والعقل ، فیعلم من الله على قدر ما کان ذلک التجلی ولا یقدر أحد على تعیین ما تجلى له من الحق ، إلا أنه تجلى فی غیر مادة لا غیر .
وسبب ذلک أن الله یتجلى لکل عبد من العالم فی حقیقة ما هی عین ما تجلى بها لعبد آخر ، ولا هی عین ما یتجلى له بها فی مجلى آخر .
فلذلک لا یتعین ما تجلى فیه ولا ینقال ، فإذا رجع العبد من هذا المقام إلى عالم نفسه عالم المواد صحبه تجلی الحق ، فما من حضرة یدخلها من الحشرات لها حکم إلا ویرى الحق قد تحول بحکم تلک الحضرة ، والعبد قد ضبط منه أولا ما ضبط ، فیعلم أنه قد تحول فی أمر آخر ، فلا یجهله بعد ذلک أبدا ولا ینحجب عنه .
فإن الله ما تجلى لأحد فاتحجب عنه بعد ذلک ، فإنه غیر ممکن أصلا ، فإذا نزل العبد إلى عالم خیاله وقد عرف الأمور على ما هی علیه مشاهدة وقد کان قبل ذلک عرفها علما و إیمانا ، رأى الحق فی حضرة الخیال صورة جسدیة ، فلم ینکره وأنکره العابر والأجانب .
ثم نزل من عالم الخیال إلى عالم الحس والمحسوس فنزل الحق معه لنزوله فإنه لا یفارقه ، فیشاهده صورة کل ما شاهده من العالم ، لا یخص به صورة دون صورة من الأجسام والأعراض ، ویراه عین نفسه ، ویعلم أنه ما هو عین نفسه ولا عین العالم.
ولا یحار فی ذلک لما حصل له من التحقیق بصحبة الحق فی نزوله معه من المقام الذی یستحقه ، وهذا مشهد عزیز .
ما رأیت من یقول به من غیر شهود إلا فی عالم الأجسام و الأجساد ، وسبب ذلک عدم الصحبة مع الحق لما نزل من المقام الذی یستحقه ، وما رأیت واحدا من أهل هذا المقام ذوقا .
إلا أنه أخبرتنی أهلی مریم بنت عبدون أنها أبصرت واحدا وصفت لی حاله ، فعلمت أنه من أهل هذا الشهود إلا أنها ذکرت عنه أحوالا تدل على عدم قوته فیه وضعفه مع تحققه بهذا الحال .
ورد فی الخبر الصحیح فی تجابه سبحانه فی موطن التلبیس ، وهو تجلیه فی غیر صور الاعتقادات من حضرة الاعتقادات ، فلا یبقى أحد یقبله ولا یقر به ، بل یقولون
إذا قال لهم « أنا ربکم » « نعوذ بالله منک » فالعارف فی ذلک المقام یعرفه ، غیر أنه قد علم منه بما أعلمه أنه لا یرید أن یعرفه فی تلک الحضرة من کان هنا مقید المعرفة بصورة خاصة یعبده فیها .
فمن أدب العارف أن یوافقهم فی الإنکار ولکن لا یتلفظ بما تلفظوا به من الاستعاذة منه ، فإنه یعرفه ، فإذا قال لهم الحق فی تلک الحضرة عند تلک النظرة « هل کان بینکم وبینه علامة تعرفونه بها» فیقولون « نعم » فیتحول لهم سبحانه فی تلک العلامة ، مع اختلاف العلامات .
فإذا رأوها وهی الصورة التی کانوا یعبدونه فیها ، حینئذ اعترفوا به ، ووافقهم العارف بذلک فی اعترافهم ، أدبا منه مع الله وحقیقة ، وأقر له بما أقرت الجماعة .
راجع کتابنا الخیال ص 15 ، 24، وکتابنا ترجمة حیاة الشیخ ص 171.
فتوحات ج 1/ 166 - ج 2 / 609 - ج 3 / 234 ، 235.
9 - ج - التجلی الإلهی للحس والبواطن من الاسم الإلهی الظاهر
إن الله جعل لکل شیء ونفس الإنسان من جملة الأشیاء ظاهرا وباطنا.
فهی تدرک بالظاهر أمورا تسمى عینا، وتدرک بالباطن أمورا تسمى علما، والحق سبحانه هو الظاهر والباطن، فبه یقع الإدراک.
فإنه لیس فی قدرة کل ما سوى الله أن یدرک شیئا بنفسه ، وإنما أدر که بما جعل الله فیه (راجع « کنت سمعه و بصره » الفص 10 ص 146 ) .
و تجلی الحق لکل من تجلى له من أی عالم کان من عالم الغیب والشهادة إنما هو من الاسم الظاهر ، وأما الاسم الباطن فمن حقیقة هذه النسبة أنه لا یقع فیها تجل أبدا لا فی الدنیا ولا فی الآخرة .
إذ کان التجلی عبارة عن ظهوره لمن تجلى له فی ذلک المجلی ، وهو الاسم الظاهر ، فإن معقولیة النسب لا تتبدل وإن لم یکن لها وجود عینی لکن لها الوجود العقلی ، فهی معقولة ، فإذا تجلى الحق إما منة أو إجابة لسؤال فیه ، فتجلى لظاهر النفس ، وقع الإدراک بالحس فی الصورة فی برزخ التمثل ، فوقعت الزیادة عند المتجلى له فی علوم
الأحکام إن کان من علماء السریعة، ومن علوم موازین المعانی إن کان منطقیا، ومن علم میزان الکلام إن کان نحویا.
وکذلک صاحب کل علم من علوم الأکوان وغیر الأکوان تقع له الزیادة فی نفسه من علمه الذی هو بصدده، فأهل هذه الطریقة یعلمون أن هذه الزیادة إنما کانت من ذلک التجلی الإلهی لهؤلاء الأصناف.
فإنهم لا یقدرون على إنکار ما کشف لهم، وغیر العارفین یحسون بالزبادة وینسبون ذلک إلى أفکارهم، وغیر هذین یجدون من الزیادة ولا یعلمون أنهم استزادوا شیئا فهم فی المثل کمثل الحمار یحمل أسفارا.
وإذا وقع التجلی أیضا بالاسم الظاهر الباطن النفس وقع الإدراک بالبصیرة فی عالم الحقائق والمعانی المجردة عن المواد، وهی المعبر عنها بالنصوص.
إذ النص ما لا إشکال فیه ولا احتمال بوجه من الوجوه، ولیس ذلک إلا فی المعانی، فیکون صاحب المعانی مستریحا من تعب الفکر، فتقع الزیادة عند التجلی فی العلوم الإلهیة وعلوم الأسرار وعلوم الباطن وما یتعلق بالآخرة، وهذا مخصوص بأهل طریقنا.
فتوحات ج 1 / 166 .
9 - د - التجلی لکل مخلوق من الوجه الخاص
اعلم أنه ما من موجود فی العالم إلا وله وجه خاص إلى موجده إذا کان من عالم الخلق، وإن کان من عالم الأمر فما له سوى ذلک الوجه الخاص.
وأن الله یتجلى لکل موجود من ذلک الوجه الخاص فیعطیه من العلم به ما لا یعلمه منه إلا ذلک الموجود.
وسواء علم ذلک الموجود أو لم یعلمه، أعنی أن له وجها خاصا، وأن له من الله علما من حیث ذلک الوجه، لا علم للعقل به، فإنه سر الله الذی بینه وبین کل مخلوق لا تعرف نسبته.
ولا یدخل تحت عبارة، ولا یقدر مخلوق على إنکار وجوده، فهو المعلوم المجهول وما فضل أهل الله إلا بعلمهم بذاک الوجه، ثم یتفاضل أهل الله فی ذلک.
فمنهم من یعلم العلم الذی یحصل له من التجلی، ومنهم من لا یعلمه، أعنی على التعیین .
وما أعنی بالعلم إلا متعلق العلم هل هو کون أو هو الله من حیث أمر ما.
فتوحات ج 2 / 304 - ج 4 / 222 .
9 - هـ - أنواع التجلی الإلهی
اعلم أن التجلی الإلهی لکل مخلوق من الوجه الخاص هو التجلی فی الأشیاء المبقی أعیانها .
وأما التجلی للاشیاء فهو تجل یفنی أحوالا ویعطی أحوالا فی المتجلی له .
ومن هذا التجلی توجد الأعراض والأحوال فی کل ما سوى الله ، ثم له تجل فی مجموع الأسماء فیعطی فی هذا التجلی فی العالم المقادیر والأوزان والأمکنة والأزمان والشرائع وما یلیق بعالم الأجسام وعالم الأرواح والحروف اللفظیة والرقمیة وعالم الخیال .
ثم له تجل آخر من أسماء الإضافة خاصة ، کالخالق وما أشبهه من الأسماء ، فیظهر فی العالم التوالد والتناسل والانفعالات والاستحالات والأنساب ، وهذه کلها حجب على أعیان الذوات الحاملات لهذه الحجب عن إدراک ذلک التجلی الذی لهذه الحجب الموجد أعیانها فی أعیان الذوات . و بهذا القدر تنسب الأفعال للأسباب .
ولولاها لکان الکشف فلا یجهل ، فـ بالتجلی تغیر الحال على الأعیان الثابتة من الثبوت إلى الوجود ، وبه ظهر الانتقال من حال إلى حال فی الموجودات، وهو خشوع تحت سلطان التجلی .
فله النقیضان یمحو ویثبت ، ویوجد ویعدم ، فالله متجلی على الدوام لأن التغییرات مشهودة على الدوام فی الظواهر والبواطن ، والغیب والشهادة والمحسوس والمعقول ، فشأنه التجلی وشأن الموجودان التغییر بالانتقال من حال إلى حال ، فمنا من یعرفه ، ومنا من لا یعرفه .
فمن عرفه عبده فی کل حال ومن لم یعرفه أنکره فی کل حال.
فتوحات ج 2 / 303 ، 304 .
9 - و - الموانع من إدراک التجلی
القلوب أبدا لا تزال مفطورة على الجلاء مصقولة صافیة ، فکل قلب تجلت فیه الحضرة الإلهیة من حیث هی یاقوت أحمر ، الذی هو التجلی الذاتی ( هذا اصطلاح لیس المقصود منه تجلی الذات على ما هی علیه ) .
فذلک قلب المشاهد المکمل العالم الذی لا أحد فوقه فی تجلی من التجلیات ، ودونه تجلی الصفات ، ودونهما تجلی الأفعال ، ولکن من کونها من الحضرة الإلهیة .
ومن لم تتجلى له من کونها من الحضرة الإلهیة فذلک هو القلب الغافل عن الله تعالى المطرود من قرب الله تعالى .
فانظر وفقک الله فی القلب على حد ما ذکرناه ، وإن اشتغل القلب بعلم الأسباب عن العلم بالله ، کان تعلقه بغیر الله صدأ على وجه القلب لأنه المانع من تجلی الحق إلى هذا القلب .
فما یجده عالم الطبیعة من الحجب المانعة عن إدراک الأنوار من العلوم والتجلیات بکدورات الشهوات والشبهات الشرعیة وعدم الورع فی اللسان والنظر والسماع والمطعم والمشرب والملبس والمرکب والمنکح ، و کدورات الشهوات بالانکباب علیها والاستفراغ فیها وإن کانت حلالا .
وإنما لم یمنع نیل الشهوات فی الآخرة وهی أعظم من شهوات الدنیا من التجلی ، لأن التجلی هناک على الأبصار ، ولیست الأبصار محل الشهوات .
والتجلی هنا فی الدنیا إنما هو على البصائر والبواطن دون الظاهر ، والبواطن محل الشهوات .
ولا یجتمع التجلی والشهوة فی محل واحد ، فلهذا جنح العارفون والزهاد فی الدنیا إلى التقلیل من نیل شهواتها والشغل بکسب حطامها .
ومن أحدث فی نفسه ربوبیة فقد انتقص من عبودیته بقدر ما أحدث ، وإذا انتقص من عبودیته بقدر ذلک ینتقص من تجلی الحق له ، وإذا انتقص من تجلی الحق له اتنقص علمه بربه ، وإذا انتقص علمه بربه جهل منه سبحانه وتعالى بقدر ما نقصه فتوحات ج 1 / 91 ، 154 ، 343.
9 - ز - الإستعداد للتجلی
اعلم أن نور التجلی المنفهق یسری فی زوایا الجسم فیبهت العقل وبهره ، فلا یظهر للمتجلی له تصریف ولا حرکة لا ظاهرة ولا باطنة.
فإذا أراد الله أن یبقی العبد أرسل على القلب سحابة کون ما تحول بین النور المنفهق من التجلی وبین القلب .
فیتشر النور إلیها منعکسا وتشرح الأرواح والجوارح ، وذلک هو التثبیت ، فیبقى العبد مشاهدا من وراء تلک السحابة ، لبقاء الرسم ، وبقی التجلی دائما لا یزول أبدا ، ولهذا یقول کثیر إن الحق ما تجلى لشیء قط ثم انحجب عنه بعد ذلک ، ولکن تختلف الصفات .
واعلم أیدنا الله وإیاک ، أن الأمر فی التجلی قد یکون بخلاف ترتیب الحکمة التی عهدت ، وذلک أنا قد بینا استعداد القوابل .
وأن هناک لیس منع بل فیض دائم وعطاء غیر محظور [ فلو لم یکن المتجلى له على استعداد ، أظهر له ذلک الاستعداد هذا المسمى تجلیا ، ما صح أن یکون هذا التجلی ، فکان ینبغی له أن لا یقوم به دک ولا صعق ، هذا قول المعترض علینا ] .
قلنا له یا هذا :
الذی قلناه من الاستعداد ، نحن على ذلک ، الحق متجلی دائما والقابل لإدراک هذا التجلی لا یکون إلا باستعداد خاص ، وقد صح له ذلک الاستعداد فوقع التجلی فی حقه ، فلا یخلو أن یکون له أیضا استعداد البقاء عند التجلی أو لا یکون له ذلک .
فإن کان له ذلک فلابد أن یبقى ، وإن لم یکن له فکان له استعداد قبول التجلی ولم یکن له استعداد البقاء .
ولا یصح أن یکون له فإنه لابد من اندکاک أو صعق أو فناء أو غیبة أو غنیة ، فإنه لا یبقى له مع النهود غیر ما شهد فلا تطمع فی غیر مطمع.
إذا تجلى لمن تجلى ... أصعقه ذلک التجلی
وإن تولى عمن تولى ... أهلکه ذلک التولی
وإن تدلى بمن تدلى ... نوره ذلک التدلی
قلت الذی قدسمعتموه ... بالله یا سیدی فقل لی
لما رأیت الذی تجلى ... اشهدنی فیه عین ظلی
من لی إذا لم أکن سواه ... ولیس عینی قل لی فمن لی
الله لا ظاهر سواه ... فی کل ضد وکل مثل
وکل جنس وکل نوع ... وکل وصل وکل فصل
وکل حس وکل عقل ... وکل جسم وکل شکل
فلیس التفاضل ولا الفضل فی التجلی ، وإنما التفاضل والفضل فیما یعطی الله لهذا المتجلى له من الاستعداد .
وعین حصول التجلی عین حصول العلم لا یعقل بینهما بون ، کوجه الدلیل فی الدلیل سواء ، بل هذا أتم وأسرع فی الحکم ، ولا یدل تعدد التجلیات ولا کثرتها على الأشرفیة، وإنما الأشرف من له المقام الأعم، وأما التجلی الذی یکون معه البقاء والعقل والالتذاذ والخطاب والقبول فذلک التجلی الصوری.
ولابد مع التجلی من تعریف إلهی، إما بصفاء الإلهام أو بما شاء الحق من أنواع التعریف، ومن لم یر غیر التجلی الصوری ربما حکم على التجلی بذلک مطلقا من غیر تقیید، والذی ذاق الأمرین فرق ولابد.
الفتوحات ج 1 / 295 - ج 2 / 541 - ج 4 / 191 ، 192 - کتاب التدبیرات الإلهیة .
9 - ح - التجلی الإلهی فی الصور فی حضرة الخیال المطلق
الحقائق لا تنقلب فاللطف محال أن یرجع کثافة، ولکن اللطیف یرجع کثیفا کالحار یرجع باردا أو البارد حارا.
من هذا الباب یظهر تجلی الحق فی الصور التی ینکر فیها أو یرى فی النوم، فیرى الحق فی صورة الخلق بسبب حضرة الخیال.
فإن الحضرات تحکم على النازل فیها وتکسوه من خلعها ما تشاء، أین هذا التجلی من « لیس کمثله شیء» ومن « سبحان ربک رب العزة عما یصفون » .
فالحکم للحضرة والموطن لأن الحکم للحقائق، والمعانی توجب أحکامها لمن قامت به ، فإن الله إذا تجلی فی صورة البشر کما ورد فإنه یظهر بصورتها حسا ومعنی ، وهو اتصافه بالأوصاف الطبیعیة من تغیر الأحوال فی الغضب والرضى والفرح والنزول والهرولة .
فإذا تجلى الحق للإنسان فی المنام فی صورته أو غیره فی أی صورة تجلی، فلینظر فیما یلزم تلک الصورة المتجلی فیها من الأحکام فیحکم على الحق بها فی ذاک الموطن ؛ فإن مراد الله فیها ذلک الحکم ولابد ، ولهذا نجلى فیها على الخصوص دون غیرها، ویتحول الحکم بتحول الصور .
فکما أن کل موجود هو إما محدث وهو الخلق وإما محدث اسم فاعل وهو الخالق فکذلک الصورة تقبل القدم والحدوث.
ولذلک یتجلى الحق لعباده على ما شاءه من صفاته، ولهذا ینکره قوم فی الدار الآخرة لأنه تعالی تجلى لهم فی غیر الصورة والصفة التی عرفوها منه.
ویتجلى للعارفین على قلوبهم وعلى ذواتهم فی الآخرة عموما ، وعلى التحقیق الذی لا خفاء به عندنا أن حقائق الذات هی المتجلیة للصنفین فی الدارین أن عقل أو فهم من الله تعالى ، المرئی فی الدنیا بالقلوب والأبصار ، مع أنه سبحانه النبیء عن عجز العباد عن درک کنهه .
فقال « لاتدرکه الأبصار وهو یدرک الأبصار وهو اللطیف الخبیر » لطیف بعباده بتجلیه لهم على قدر طاقتهم « خبیر » ضعفهم عن حمل تجلیه الأقدس على ما نعطیه الألوهیة ، إذ لا طاقة للتحدث على حمل القدیم.
الفتوحات ج 1 / 77 - ج 2 / 472 - ج 3 / 280 ، 286 - ج 4 / 289 .
واعلم أن الله تعالی ما تجلى لک إلا فی صورة علمه بک ولا کان عالما بک إلا منک. وأنت بذاتک أعطیته العلم بک، فإن الصورة تنقلب علیک إلى ما لا نهایة له، وتتقلب فیها أنت ، وتظهر بها إلى ما لا نهایة فیه .
ولکن حالا بعد حال ، انتقالا لا یزول؛ وقد علمک تعالى فی هذه الصور على عدم تناهیها ، فیتجلى لک فی صورة لم یبلغ وقت ظهورک بها .
لأنک مقید وهو غیر مقید ، بل قیده إطلاقه ، وإنما یفعل هذا مع عباده لیظهر لهم فی حال النکرة ، ولهذا ینکرون .
إلا العارفون بهذا المقام فإنهم لاینکرونه فی أی صورة ظهر فإنهم قد حفظوا الأصل وهو أنه ما یتجلى لمخلوق إلا فی صورة المخلوق ، إما التی هو علیها فی الحال فیعرفه أو ما یکون علیه بعد ذلک فینکره.
حتى یرى تلک الصورة قد دخل فیها فحینئذ یعرفه ، فإن الله علیه وعام ما یؤول إلیه ، والمخلوق لا یعلم من أحواله إلا ما هو علیه فی الوقت ، و من عباد الله من یعلم ذلک إذا رأى الحق فی صورة لا یعرفها .
علم بحکم الوطن وما عنده من القبول أنه ما تجلى له إلا فی صورة هی له وما وصل وقتها ، فعلمها قبل أن یدخل فیها ، فهذا من الزیادة فی العلم التی زادها الله ، فشکر الله الذی عرفه من موحان الإنکار .
الفتوحات ج 4 / 109 ، 110
وصاحب الرؤیا إذا رأى ربه تعالی کفاحا فی منامه فی أی صورة یراه یقول رأیت ربی فی صورة کذا وکذا و یصدق ، ویصدق مع قوله تعالی «لیس کمثله شیء » .
فنفى عنه المماثلة فی قبوله التجلی فی الصور کلها التی لا نهایة لها لنفسه .
فإن کل من سواه تعالی ممن له التجلی فی الصور لا یتجلى فی شیء منها لنفسه ، وإنما یتجلى فیها بمشیئة خالقه وتکوینه ، فیقول للصورة التی یدخل فیها من هذه صفته کن فتکون الصورة فیظهر بها من له هذا القبول إذا شاء الحق .
قال تعالى : " فی أی صورة ما شاء رکبک "، فجعل الترکیب الله لا له ، وفی نسبة الصورة لله تعالى یقال فی أی صورة شاء ظهر من غیر جعل جاعل ، فلا یلتبس علیک الأمر فی ذلک .
ولما لم یکن له تعالی ظهور إلى خلقه إلا فی صورة ، وصوره مختلفة فی کل تجل ، لا تتکرر صورة ، فإنه سبحانه لا یتجلى فی صورة مرتین ، ولا فی صورة واحدة لشخصین.
فإن الآیة من کتاب الله ترد واحدة العین على الأسماع ، فسامع یفهم منها أمرا وسامع آخر لا یفهم منها ذلک الأمر ویفهم منها أمرا آخر .
وآخر یفهم منها أمورا کثیرة ، ولهذا یستشهد کل واحد من الناظرین فیها بها لاختلاف استعداد الأفهام .
وهکذا فی التجلیات الإلهیة ، فالمتجلی من حیث هو فی نفسه واحد العین ، واختلفت التجلیات أعنی صورها بحسب استعدادات المتجلى لهم .
ولما کان الأمر کذلک لم ینضبط للعقل ولا للعین على ما هو الأمر علیه ، وهذا هو التوسع الإلهی الذی لا ینحصر ولا یدخل تحت الحد فیضبطه الفکر .
ولا یمکن للعقل تقییده بصورة ما من تلک الصور ، فإنه ینتقض له ذلک الأمر فی التجلی الآخر بالصورة الأخرى ، وهو الله فی ذلک کله .
لا یشک ولا یرتاب ، إلا إذا تجلى له فی غیر معتقده فإنه یتعوذ منه کما ورد فی صحیح الأخبار .
فیعلم أن ثم فی نفس الأمر عینا تقبل الظهور فی هذه الصور المختلفة لا یعرف لها ماهیة أصلا ولا کیفیة ، وإذا حکم ولابد بکیفیة فیقول : الکیفیة ظهورها فیما شاء من الصور فتکون الصور مشاءة .
فالعارفون أهل الله علموا أن الله لا یتجلى فی صورة واحدة لشخصین ولا فی صورة واحدة مرتین.
فلم ینضبط لهم الأمر، لما کان لکل شخص تجلی یخصه ، ورآه
الإنسان من نفسه ، فإنه إذا تجلى له فی صورة ثم تجلى له فی صورة غیرها ، فعلم من هذا التجلی ما لم یعلمه من هذا التجلی الآخر من الحق ، هکذا دائما فی کل تجلی.
علم أن الأمر فی نفسه کذلک فی حقه وحق غیره ، فلا یقدر أن یعین فی ذلک اصطلاحا تقع به الفائدة بین المتخاطبین ، فهم یعلمون ولا ینقال ما یعلمون .
ولا فی قوة أصحاب هذا المقام الأبهج الذی لا مقام فی الممکنات أعلى منه .
أن یضع علیه لفظا یدل على ما علمه منه ، إلا ما أوقعه تعالى وهو قوله تعالى: « لیس کمثله شیء » فنفى المماثلة .
فما صورة یتجلى فیها لأحد تماثل صورة أخرى .
فتوحات ج 1 / 287 - ج 3 / 384 - ج 4 / 19 - کتاب التنزلات الموصلیة .
9 - ط۔ - خلاصة بحث التجلی:
یقول الشیخ فی مشاهدة مشهد البیعة الإلهیة على لسان الحق :
إنی وإن احتجبت فهو تجل لا یعرفه کل عارف ، إلا من أحاط علما بما أحطت به من المعارف .
ألا ترانی أتجلى لهم فی القیامة فی غیر الصورة التی یعرفونها والعلامة فینکرون ربوبیتی ومنها یتعوذون و بها یتعوذون ، ولکن لا یشعرون .
ولکنهم یقولون لذلک المتجلی « نعوذ بالله منک وها نحن لربنا منتظرون » .
فحینئذ أخرج علیهم فی الصورة التی لدیهم ، فیقرون لی بالربوبیة ، وعلى أنفسهم بالعبودیة.
فهم لعلامتهم عابدون، وللصورة التی تقررت عندهم مشاهدون، فمن قال منهم انه عبدنی فقوله زور وقد باهتنی (یعنی بقوله نعوذ بالله منک).
وکیف یصح منه ذلک وعندها تجلیت له أنکرنی ، فمن قیدنی بصورة دون صورة، فتخیله عبد وهو الحقیقة الممکنة فی قلبه المستورة .
فهو یتخیل أنه یعبدنی وهو یجحدنی، والعارفون لیس فی الإمکان خفائی عن أبصارهم ، لأنهم غابوا عن الخلق وعن أسرارهم ، فلا یظهر لهم عندهم سوائی، ولا یعقلون من الموجودات سوى أسمائی ، فکل شیء ظهر لهم وتجلى .
قالوا أنت المسبح الأعلى .
فتوحات ج 1 / 49 ""
الجزء السادس
50 - وحدة الوجود
راجع الظاهر فی المظاهر - فص 5، هامش 10، ص 87
"" 6 - وحدة الوجود - الظاهر فی المظاهر - فص 5، هامش 6 - 10، ص 87
الموجودات على تفاصیلها فی ظهور الحق فی مظاهر أعیان الممکنات بحکم ما هی الممکنات علیه من الاستعدادات ، فاختلفت الصفات على الظاهر لأن الأعیان التی ظهر فیها مختلفة ، فتمیزت الموجودات وتعددت لتعدد الأعیان وتمیزها فی نفسه فما فی الوجود إلا الله وأحکام الأعیان ، وما فی العدم شیء إلا أعیان الممکنات مهیأة للاتصاف بالوجود .
فهی لا هی فی الوجود ، لأن الظاهر أحکامها فهی ، ولا عین لها فی الوجود فلا هی ، کما هو لا هو .
لأنه الظاهر فهو والتمیز بین الموجودات معقول ومحسوس لاختلاف أحکام الأعیان فلا هو ، فیا أنا ما هو أنا ولا هو ما هو هو .
مغازلة رقیقة وإشارة دقیقة ردها البرهان ونفاها ، و أوجدها العیان وأثبتها .
ما من شیء فی تفاصیل العالم إلا وفی الحضرة الإلهیة صورة تشاکل ما ظهر ، أی یتقید بها، ولولا هی ما ظهر .
فإذا تأملت فما ثم وجود إلا الله خاصة ، وکل موصوف بالوجود مما سوى الله فهو نسبة خاصة ، والإرادة الإلهیة إنما متعلقها إظهار التجلی فی المظاهر ، أی فی مظهر ما ، وهو نسبة .
فان الظاهر لم یزل موصوفا بالوجود ، والمظهر لم یزل موصوفا بالعدم ، فإذا ظهر أعطى المظهر حکما فی الظاهر بحسب حقائقه النفسیة .
فانطلق على الظاهر من تلک الحقائق التی هو علیها المظهر المعدوم حکم یسمى إنسانا أو فلکا أو ملکا أو ما کان من أشخاص المخلوقات .
کما رجع من ذلک الظهور للظاهر اسم یطلق علیه یقال به خالق وصانع ، وضار ونافع ، وقادر.
وما یعطیه ذلک التجلی من الأسماء ، وأعیان الممکنات على حالها من العدم کما أن الحق لم یزل له حکم الوجود .
فحدث لعین الممکن اسم المظهر ، و للمتجلی فیه اسم الظاهر .
فأعطى استعداد مظهر ما أن یکون الظاهر فیه مکلفا ، فیقال له افعل ولا تفعل ، ویکون مخاطبا بأنت وکاف الخطاب .
واعلم أن التجلی الذاتی ممنوع بلا خلاف بین أهل الحقائق فی غیر مظهر .
فوقتا یکون المظهر جسمیا و وقتا یکون جسمانیا ووقتا جسدیا ، ووقتا یکون المظهر روحیا ووقتا روحانیا.
فالتجلی فی المظاهر هو التجلی فی صور المعتقدات وهو کائن بلا خلاف.
والتجلی فی المعقولات کائن بلا خلاف . وهما تجلی الاعتبارات .
لأن هذه المظاهر سواء کانت صور المعقولات أو صور المعتقدات فإنها جسور یعبر علیها بالعلم .
أی یعلم أن وراء هذه الصور أمرا لا یصح أن یشهد ولا أن یعلم .
ولیس وراء ذلک المعلوم الذی لا یشهد ولا یعلم حقیقة ما یعلم أصلا .
وأما التجلی فی الأفعال ففیه خلاف بین أهل هذا الشأن لا یرتفع دنیا ولا آخرة .
فما فی المسائل الإلهیة ما تقع فیها الحیرة أکثر ولا أعظم من مسألة الأفعال ، ولاسیما فی تعلق الحمد والذم بأفعال المخلوقین.
فیخرجها ذلک التعلق أن تکون أفعال المخلوقین لغیر المخلوقین حین ظهورها عنهم ، وأفعال الله کلها حسنة فی مذهب المخالف الذی ینفی الفعل عن المخلوق ویثبت الذم للفعل بلا خلاف .
ولا شک عنده فی تعلق الذم، بذلک الفعل من الله، فمن الشدائد على أهل الله إذا أوقفهم فی حضرة الأفعال ، من نسبتها إلى الله ونسبتها إلى أنفسهم ، فیلوح لهم ما لا یمکن لهم معه أن ینسبوها إلى أنفسهم ، ویلوح لهم ما لا یتمکن معه أن ینسبوه إلى الله .
فهم هالکون بین حقیقة وأدب ، والتخلص من هذا البرزخ من أشد ما یقاسیه العارفون ، فإن الذی ینزل عن هذا المقام یشاهد أحد الطرفین فیکون مستریحا لعدم المعارض.
فمذهبنا العین الممکنة إنما هی ممکنة لأن تکون مظهرا ، لا لأن تقبل الاتصاف بالوجود فیکون الوجود عینها .
إذن فلیس الوجود فی الممکن عین الموجود ، بل هو حال لعین الممکن ، به یسمى الممکن موجودا مجازا لا حقیقة ، لأن الحقیقة تأبى أن یکون الممکن موجودا ، فلا یزال کل شیء هالک .
الفتوحات ج1 / 694 , ج2 / 40,42,99,160,435,606
"" أضاف الجامع :
یقول الدکتور أبو العلا عفیفی:
" وحدة الوجود التی یقول بها ابن العربی الطائی الحاتمی لیست وحدة وجود مادیة تنکر الألوهیة ولوازمها أو تنکر القیم الروحیة ،
بل العکس هو الصحیح : أی أنها وحدة وجود تنکر العالم الظاهر ، ولا تعترف بالوجود الحقیقی إلا لله - الحق . أما الخلق فظل للوجود الحق ولا وجود له فی ذاته ".
تقول د. سعاد الحکیم فی وحدة الوجود عند الشیخ الأکبر ابن العربی الطائی الحاتمی
" إن عبارة وحدة الوجود لا تدخل ضمن مصطلحات ابن العربی ، إذ أنها من ناحیة لم ترد عنده مطلقا ،
ومن ناحیة ثانیة هی تشکل تیارا فکریا له جذوره البعیدة فی تأریخ النظریات الفلسفیة ،
ولکننا لم نستطع أن نتغافل عن بحثها بحجة أنها تدخل ضمن نظریات شیخنا الأکبر بالنظر لأهمیتها عنده ، إذ فیها تتبلور مصطلحاته وتتکشف ، ویتجلى وجه ابن العربی الطائی الحاتمی الحقیقی ، فنلمس فیه الفکر والمنطق إلى جانب الشهود والتصوف ".
إن عبارة وحدة الوجود ابتدعها دارسو ابن العربی الطائی الحاتمی ،
أو بالأحرى صنفوه فی زمرة لقائلین بها . إذ أن الباحث لا یلتقط فکر مفکر إلا بتحلیله إلى عناصره البسیطة ، وإعادة ترکیبه ترکیبا یتلاءم وینضبط مع التیارات الفکریة المعروفة . وبالتالی استدل الملتمس وجه ابن العربی الطائی الحاتمی من جمل أمثال :
( الوجود کله واحد ) ، ( ما ثمة إلا الله ) ، ( ما فی الوجود إلا الله ) ، إلى القول بأنه من وحدة الوجود ، وحدة تفارق وحدة المادیین بتغلیب الجانب الإلهی فیها .
ولکن ما حقیقة موقف ابن العربی الطائی الحاتمی من الوحدة الوجودیة ؟
وما نسبة التفکیر النظری إلى الشهود الصوفی فیها ؟
( وحدة وجود ) أم ( وحدة شهود ) ؟
کثیرا ما یتوقف الباحث أمام نتائج ابن العربی الطائی الحاتمی متسائلا :
أوحدة وجود عنده أم وحدة شهود ؟
ثم لا یلبث ان یقرر انها وحدة وجود ، من حیث أنها لم تبرز فی صیحة وجد ، بل کانت نتیجة باردة لتفکیر نظری .
ویعود تردد الباحث بین الوحدتین إلى أنهما یتطابقان فی النتیجة ، فکلتاهما ترى :
إن الوجود الحقیقی واحد وهو الله .
ولکن صاحب وحدة الشهود یقولها فی غمرة الحال ، على حین یدافع عنها ابن العربی الطائی الحاتمی فی صحو العلماء وبرود النظریین .
والحقیقة أن وحدة ابن العربی الطائی الحاتمی تختلف عن وحدة شهود غیره بسبب جوهری ، وهو أن الشیخ الاکبر لم یقطفها ثمرة فیض فناء فی الحق ، فناء افناه عن رؤیة کل ما سوى الحق .
ولم یقل بعدم کل ما سواه ، إن ابن العربی یرى الکثرة ، وشهوده یعطیه الکثرة ، وبصره یقع على الکثرة . إذن الکثرة عنده موجودة .
وهنا نستطیع ان نقول : أن ( وحدته ) على النقیض من وحدة الشهود ، تعطی : کثرة شهودیة . فالنظر یقع على کثرة عنده . وهذا ما لا یمکن أن ینطبق على وحدة الشهود .
ولکن ابن العربی الطائی الحاتمی لا یقف مع الکثرة الشهودیة أو بتعبیر أدق المشهودة ، بل یجعلها ( کثرة معقولة ) لا وجود حقیقی لها .
وهی - إذا امکن التعبیر بلغتنا - خداع بصر . وبلغة ابن العربی الطائی الحاتمی : خیال . ""
راجع وحدة الوجود فص 2، هامش 6، ص 45
"" 6 - وحدة الوجود - المرایا - فص 2، هامش 6، ص 45
اعلم أن المعلومات ثلاثة لا رابع لها :
وهی الوجود المطلق الذی لا یتقید وهو وجود الله تعالى الواجب الوجود لنفسه ، والمعلوم الآخر العام المطلق الذی هو عدم لنفسه وهو الذی لا یتقید أصلا وهو المحال ،
والعلوم الثالث هو البرزخ الذی بین الوجود المطلق والعدم المطلق وهو الممکن، وسبب نسبة الثبوت إلیه مع نسبة العدم هو مقابلته للأمرین بذاته.
وذلک أن العدم المطلق قام للوجود المطلق کالمرآة فرأی الوجود فیه صورته فکانت تلک الصورة عین الممکن ، فلهذا کان للممکن عین ثابتة وشیئیة فی حال عدمه ولهذا خرج على صورة الوجود المطلق .
ولهذا أیضا اتصف بعدم التناهی فقیل فیه إنه لا یتناهی ، وکان أیضا الوجود المطلق کالمرآة للعدم المطلق فرأى العدم المطلق فی مرآة الحق نفسه .
فکانت صورته التی رأی فی هذه المرأة هو عین العدم الذی اتصف به هذا الممکن ، وهو موصوف بأنه لا یتناهی کما أن العدم المطلق لا یتناهی ، فاتصف الممکن بأنه معدوم ، فهو کالصورة الظاهرة بین الرائی والمرأة ، لا هی عین الرائی ولا غیره
وقد علمنا أن العالم ما هو عین الحق وإنما هو ما ظهر فی الوجود الحق ، إذ لو کان عین الحق ما صح کونه بدیعا ، کما تحدث صورة المرئی فی المرآة ، ینظر الناظر فیها، فهو بذلک النظر کأنه أبدعها مع کونه لا تعمل له فی أسبابها، ولا یدری ما یحدث فیها .
ولکن بمجرد النظر فی المرآة ظهرت صور ، هذا أعطاه الحال ، فما لک فی ذلک من التعمل إلا قصدک النظر فی المرآة .
ونظرک فیها مثل قوله « إنما قولنا لشیء إذا أردناه » وهو قصدک النظر « أن نقول له کن » وهو بمنزلة النظر « فیکون » وهو بمنزلة الصورة التی تدرکها عند نظرک فی المرآة ،.
ثم إن تلک الصورة ما هی عینک الحکم صفة المرآة فیها من الکبر والصغر والطول والعرض ، ولا حکم لصورة المرآة فیک فما هی عینک ولا عین ما ظهر ممن لیس أنت من الموجودات الموازیة لنظرک فی المرآة ، ولا تلک الصورة غیرک ، لما لک فیها من الحکم .
فإنک لا تشک أنک رأیت وجهک ، ورأیت کل ما فی وجهک ظهر لک بنظرک فی المرآة من حیث عین ذلک لا من حیث ما طرأ علیه من صفة المرآة ، فما هو المرئی غیرک ولا عینک ، کذلک الأمر فی وجود العالم الحق .
أی شیء جعلت مرآة أعنی حضرة الأعیان الثابتة أو وجود الحق، فإما أن تکون الأعیان الثابتة الله مظاهر ، فهو حکم المرآة فی صورة الرائی ، فهو عینه وهو الموصوف بحکم المرآة ، فهو الظاهر فی المظاهر بصورة المظاهر.
أو یکون الوجود الحق هو عین المرآة ، فترى الأعیان الثابتة من وجود الحق ما یقابلها منه ، فترى صورتها فی تلک المرآة و یترائی بعضها البعض ، ولا ترى ما ترى من حیث ما هی المرآة علیه ، وإنما ترى ما ترى من حیث ما هی علیه من غیر زیادة ولا نقصان .
وکما لا یشک الناظر وجهه فی المرآة أن وجهه رأی ، وبما للمرآة فی ذلک من الحکم یعلم أن وجهه ما رأى .
فهکذا الأمر فانسب بعد ذلک ما شئت کیف شئت ، فإن الوجود للعین الممکنة کالصورة التی فی المرآة ، ما هی عین الرائی ولا غیر الرائی ، ولکن المحل المرئی فیه به و بالناظر المتجلی فیه ظهرت هذه الصورة ، فهی مرآة من حیث ذاتها والناظر ناظر من حیث ذاته والصورة الظاهرة تتنوع بتنوع العین الظاهرة فیها .
کالمرأة إذا کانت تأخذ طولا ترى الصورة على طولها والناظر فی نفسه على غیر تلک الصورة من وجه ، وعلى صورته من وجه ، فلما رأینا المرآة لها حکم فی الصورة بذاتها ورأینا الناظر یخالف تلک الصورة من وجه .
علمنا أن الناظر فی ذاته ما أثرت فیه ذات المرآة ، ولما لم یتأثر ولم تکن تلک الصورة هی عین المرأة ولا عین الناظر ، وإنما ظهرت من حکم التجلی للمرآة ، علمنا الفرق بین الناظر وبین المراة وبین الصورة الظاهرة فی المرآة التی هی غیب فیها ، ولهذا إذا رؤی الناظر یبعد عن المرآة یرى تلک الصورة تبعد فی باطن المرآة ، وإذا قرب قربت .
وإذا کانت فی سطحها على الاعتدال ورفع الناظر یده الیمنى رفعت الصورة الید الیسرى ، تعرفه إنی وإن کنت من تجلیک وعلى صورتک فما أنت أنا ولا أنا أنت ، فإن عقلت ما نبهناک علیه فقد علمت من أین اتصف العبد بالوجود، ومن هو الموجود، ومن أین اتصف بالعدم، ومن هو المعدوم ومن خاطب ومن سمع ومن عمل ومن کلف .
وعلمت من أنت ومن ربک وأین منزلتک ، وأنک المفتقر إلیه سبحانه وهو الغنی عنک بذاته.
فسبحان من ضرب الأمثال وأبرز الأعیان دلالة علیه أنه لا یشبهه شیء ولا یشبه شیئا ، ولیس فی الوجود إلا هو ، ولا یستفاد الوجود إلا منه، ولا یظهر الموجود عین إلا بتجلیه.
فالمرأة حضرة الإمکان والحق الناظر فیها والصورة أنت بحسب إمکانیتک ، فإما ملک وإما فلک وإما إنسان وإما فرس ، مثل الصورة فی المرآة بحسب ذات المرآة من الهیئة فی الطول والعرض والاستدارة واختلاف أشکالها مع کونها مرآة فی کل حال .
کذلک الممکنات مثل الأشکال فی الإمکان والتجلی الإلهی یکسب الممکنات الوجود والمرآة تکسبها الأشکال ، فیظهر الملک و الجوهر والجسم والعرض ، والإمکان هو هو لا یخرج عن حقیقته ، وأوضح من هذا البیان فی هذه المسألة لا یمکن إلا بالتصریح ، فقل فی العالم ما تشاء و انسبه إلى من تشاء بعد وقوفک على هذه الحقیقة کشفة وعلما .
راجع الفتوحات ج3/ 46 , 80 , 352 . - ج4/ 316.
"" أضاف الجامع :
یقول الدکتور أبو العلا عفیفی:
" وحدة الوجود التی یقول بها ابن العربی الطائی الحاتمی لیست وحدة وجود مادیة تنکر الألوهیة ولوازمها أو تنکر القیم الروحیة ،
بل العکس هو الصحیح : أی أنها وحدة وجود تنکر العالم الظاهر ، ولا تعترف بالوجود الحقیقی إلا لله - الحق . أما الخلق فظل للوجود الحق ولا وجود له فی ذاته ".
تقول د. سعاد الحکیم فی وحدة الوجود عند الشیخ الأکبر ابن العربی الطائی الحاتمی
" إن عبارة وحدة الوجود لا تدخل ضمن مصطلحات ابن العربی ، إذ أنها من ناحیة لم ترد عنده مطلقا ،
ومن ناحیة ثانیة هی تشکل تیارا فکریا له جذوره البعیدة فی تأریخ النظریات الفلسفیة ،
ولکننا لم نستطع أن نتغافل عن بحثها بحجة أنها تدخل ضمن نظریات شیخنا الأکبر بالنظر لأهمیتها عنده ، إذ فیها تتبلور مصطلحاته وتتکشف ، ویتجلى وجه ابن العربی الطائی الحاتمی الحقیقی ، فنلمس فیه الفکر والمنطق إلى جانب الشهود والتصوف ".
إن عبارة وحدة الوجود ابتدعها دارسو ابن العربی الطائی الحاتمی ،
أو بالأحرى صنفوه فی زمرة لقائلین بها . إذ أن الباحث لا یلتقط فکر مفکر إلا بتحلیله إلى عناصره البسیطة ، وإعادة ترکیبه ترکیبا یتلاءم وینضبط مع التیارات الفکریة المعروفة . وبالتالی استدل الملتمس وجه ابن العربی الطائی الحاتمی من جمل أمثال :
( الوجود کله واحد ) ، ( ما ثمة إلا الله ) ، ( ما فی الوجود إلا الله ) ، إلى القول بأنه من وحدة الوجود ، وحدة تفارق وحدة المادیین بتغلیب الجانب الإلهی فیها .
ولکن ما حقیقة موقف ابن العربی الطائی الحاتمی من الوحدة الوجودیة ؟
وما نسبة التفکیر النظری إلى الشهود الصوفی فیها ؟
( وحدة وجود ) أم ( وحدة شهود ) ؟
کثیرا ما یتوقف الباحث أمام نتائج ابن العربی الطائی الحاتمی متسائلا :
أوحدة وجود عنده أم وحدة شهود ؟
ثم لا یلبث ان یقرر انها وحدة وجود ، من حیث أنها لم تبرز فی صیحة وجد ، بل کانت نتیجة باردة لتفکیر نظری .
ویعود تردد الباحث بین الوحدتین إلى أنهما یتطابقان فی النتیجة ، فکلتاهما ترى :
إن الوجود الحقیقی واحد وهو الله .
ولکن صاحب وحدة الشهود یقولها فی غمرة الحال ، على حین یدافع عنها ابن العربی الطائی الحاتمی فی صحو العلماء وبرود النظریین .
والحقیقة أن وحدة ابن العربی الطائی الحاتمی تختلف عن وحدة شهود غیره بسبب جوهری ، وهو أن الشیخ الاکبر لم یقطفها ثمرة فیض فناء فی الحق ، فناء افناه عن رؤیة کل ما سوى الحق .
ولم یقل بعدم کل ما سواه ، إن ابن العربی یرى الکثرة ، وشهوده یعطیه الکثرة ، وبصره یقع على الکثرة . إذن الکثرة عنده موجودة .
وهنا نستطیع ان نقول : أن ( وحدته ) على النقیض من وحدة الشهود ، تعطی : کثرة شهودیة . فالنظر یقع على کثرة عنده . وهذا ما لا یمکن أن ینطبق على وحدة الشهود .
ولکن ابن العربی الطائی الحاتمی لا یقف مع الکثرة الشهودیة أو بتعبیر أدق المشهودة ، بل یجعلها ( کثرة معقولة ) لا وجود حقیقی لها .
وهی - إذا امکن التعبیر بلغتنا - خداع بصر . وبلغة ابن العربی الطائی الحاتمی : خیال . ""
ص 460