شرح القیصری علی فصوصالحکم (حسنزاده الآملی):
(و لا قدّسته فغلب علیها3 ما ذکرناه4، و حکم علیها5 هذا الحال6، فقالت من حیث النشأة7: أَ تَجْعَلُ فِیهٰا مَنْ یُفْسِدُ فِیهٰا)8.
أی ما وقفت الملائکة مع الأسماء التی تخصّ الملائکة، و سبّحت الحقّ بها و قدّسته، فغلب علیها - أی على الملائکة - ما ذکرناه من عدم الوقوف مع ما أعطته مرتبة الإنسان الکامل، و مع ما اقتضته حضرة الحقّ منها من العبادة و الانقیاد لکلّ ما أمر اللّه به، و حکم علیها - أی على الملائکة - هذا الحال؛ أی عدم الوقوف، فقالت من حیث النشأة؛ أی من حیث نشأتهم الخاصّة بهم أَ تَجْعَلُ فِیهٰا مَنْ یُفْسِدُ فِیهٰا وَ یَسْفِکُ اَلدِّمٰاءَ9.
و لا ینبغی أن تحمل النشأة هنا على النشأة العنصریّة الإنسانیّة، لیکون معناه: فقالت هذا القول من حیث النشأة الجسمیّة التی هی لآدم، مع غفلتهم عن النشأة الروحیّة و
________________________________________
(3) . أی على الملائکة (جامی).
(4) . من عدم وقوفهم مع الأمور الثلاثة (جامی).
(5) . أی على الملائکة (جامی).
(6) . أی غلبة ما ذکرناه علیهم أو ما ذکرناه، و هو عدم وقوفهم معها (جامی).
(7) . التی تخصّهم بلسان التنافی و التنافر، الذی بین الوحدة و البساطة الملکیّتین و بین الکثرة و الترکیب الإنسانیّتین (جامی).
(8) . البقرة (2):30.
(9) . البقرة (2):30.
جلد: 1، صفحه: 257
المرتبیّة؛ لأنّ1 قوله2: (فلو لا أنّ نشأتهم تعطی ذلک ما قالوا فی حقّ آدم ما قالوه)، تصریح بأنّ المراد بالنشأة هنا هی النشأة التی تخصّهم؛ أی قالت الملائکة من حیث نشأتهم التی هم علیها: أَ تَجْعَلُ فِیهٰا مَنْ یُفْسِدُ فِیهٰا.
و التسبیح أعمّ من التقدیس؛ لأنّه تنزیه الحقّ عن نقائص الإمکان و الحدوث، و التقدیس تنزیهه عنها و عن الکمالات اللاّزمة للأکوان؛ لأنّها من حیث إضافتها إلى الأکوان تخرج عن إطلاقها و تقع فی نقائص التقیید.
(و لیس إلاّ النزاع3، و هو عین ما وقع منهم، فما قالوه فی حق آدم هو عین ما هم فیه مع الحقّ).
أی، لیس هذا المعنى الذی غلب و حکم علیهم و هذا4 القول فی حقّ آدم، إلاّ المنازعة و المخالفة لأمر الحقّ، و هو - أی النزاع - عین ما وقع منهم مع الحقّ، فما قالوه فی حقّ آدم من النقص و المخالفة، هو عین ما هم فیه مع الحقّ؛ إذ لیس ذلک النقصان المنسوب إلى آدم إلاّ المنازعة و المخالفة للحقّ5، و هو أی ذلک النقصان عین ما وقع منهم حالة الطعن فیه.
(فلو لا أنّ نشأتهم تعطی ذلک6، ما قالوا فی حقّ آدم ما قالوه و هم لا یشعرون).
أی فلو لا أنّ نشأتهم التی حجبتهم عن معرفة مرتبة آدم تعطی ذلک النزاع، ما قالوا فی حقّ آدم ما قالوه و هم لا یشعرون أنّ استعداداتهم و ذواتهم تقتضی ذلک الذی نسبوا إلى آدم، کما قیل: «کلّ إناء یترشّح بما فیه».
________________________________________
(1) . دلیل قوله: «و لا ینبغی».
(2) . أی قول الشیخ (ره) فیما بعد هذه العبارة.
(3) . و لیس ما ینسبونه إلى آدم من الإفساد و سفک الدماء إلاّ النزاع و المخالفة لأمر الحقّ، و هو - أی ذلک النزاع - عین ما وقع منهم مع الحقّ و اعتراضهم علیه فی جعله آدم خلیفة، فما قالوه فی حقّ آدم مع الحقّ من النزاع و المخالفة، هو عین ما هم فیه مع الحقّ منها حال اعتراضهم على الحقّ و الطعن فی آدم (جامی).
(4) . خ ل: هو.
(5) . أی ما نسبت الملائکة إلى آدم من النزاع و الفساد و النقص؛ لکون أنفسهم متّصفة به، لأنّ قولهم: «أتجعل فیها» عین النزاع مع الحقّ.
(6) . أی ذلک النزاع مع الحقّ سبحانه، و یقتضی ذلک الاعتراض علیه ما قالوه فی حقّ آدم مع الحقّ سبحانه (جامی).
جلد: 1، صفحه: 258
و هذا تنبیه على أنّ الملائکة الذین نازعوا فی آدم لیسوا من أهل الجبروت1، و لا من أهل الملکوت السماویّة؛ فإنّهم - لغلبة النوریّة علیهم و إحاطتهم بالمراتب - یعرفون شرف الإنسان الکامل و رتبته عند اللّه، و إن لم یعرفوا حقیقته کما هی، بل2 ملائکة الأرض و الجنّ و الشیاطین الذین غلبت علیهم الظلمة و النشأة الموجبة للحجاب.
و فی قوله: إِنِّی جٰاعِلٌ فِی اَلْأَرْضِ خَلِیفَةً3 بتخصیص الأرض بالذکر - و إن کان الکامل خلیفة فی العالم کلّه فی الحقیقة - إیماء أیضا بأنّ ملائکة الأرض هم الطاعنون؛ إذ الطعن لا یصدر إلاّ ممّن هو فی معرض ذلک المنصب4، و أهل السماوات مدبّرات للعالم العلویّ بالقصد الأوّلی، و للسفلیّ بالقصد الثانی.
و إذا حقّقت الأمر و أمعنت النظر، تجدهم فی هذه النشأة الإنسانیة أیضا أنّهم5 هم المفسدون کما قال تعالى أَلاٰ إِنَّهُمْ هُمُ اَلْمُفْسِدُونَ وَ لٰکِنْ لاٰ یَشْعُرُونَ6، ألا ترى أنّ القوّة الشهویّة و الغضبیّة - اللّتین هما ملکان من ملائکة الأرض7 - هما اللّتان تغلبان على النفس الناطقة، و یجعلان لها أسیرا منقادا لأفاعیلهما و أغراضهما، و عند ذلک تصیر النفس أمّارة بالسوء، فهم المفسدون فی الحقیقة.
و کون السفک و الفساد صادرا8 من القوى الجسمانیّة لا الروحانیّة و القلبیّة، دلیل
________________________________________
(1) . قال صابر الدین: قد ظهر مما بیّن أنّ منشأ مقابلة الملائکة لآدم و معارضتها له، أنّما هو نشأتها المجرّدة المقدسة المائلة إلى طرف الإطلاق العدمی، المقابل للتقیید من الجمعیّة الاعتدالیّة القابلة لظهور الإطلاق الحقیقی التی لآدم؛ فسقط ما قیل هناک: إنّ الملائکة الذین نازعوا آدم هم ملائکة الأرض و الجنّ و الشیاطین لا غیر، کیف و هم مسخّرون تحت قهرمان أمره و ضبطه الجامع بقوله تعالى: وَ سَخَّرَ لَکُمْ مٰا فِی اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِی اَلْأَرْضِ جَمِیعاً (الجاثیة (45):13).
فلو خصّص نوع منها بتلک المقابلة لکان أهل الجبروت أولى بذلک من غیرهم على ما لا یخفى.
(2) . إضراب من لیست.
(3) . البقرة (2):30.
(4) . أی الخلافة.
(5) . أی الملائکة الأرضیّة.
(6) . البقرة (2):12.
(7) . إطلاق الملک علیهما، کلام فی غایة الجودة، فراجع کتابنا هزار و یک نکته النکتة 114.
(8) . خ ل: صادرین.
جلد: 1، صفحه: 259
واضح على ما ذهبنا إلیه: من أنّ أهل الجبروت و الملکوت السماویّة لا یتنازعون مع الحقّ، و لا یخالفون أمره و نهیه؛ إذ القوى الروحانیّة و القلبیّة لا یتأتّى منها ما یخالف أمر اللّه، فافهم.
تنبیه
اعلم: أنّ هذه المقاولة تختلف باختلاف العوالم التی یقع التقاول فیها.
فإن کان واقعا فی العالم المثالیّ، فهو شبیه المکالمة الحسّیة1، و ذلک بأن یتجلّى لهم الحقّ تجلّیا مثالیّا، کتجلّیه لأهل الآخرة بالصور المختلفة، کما نطق به حدیث التحوّل2.
و إن کان واقعا فی عالم الأرواح من حیث تجرّدها، فهو کالکلام النفسیّ، فیکون قول اللّه لهم إلقاؤه فی قلوبهم المعنى المراد، و هو جعله خلیفة فی الأرض غیرهم3، و قولهم عدم رضاهم بذلک و إنکارهم له الناشئان من احتجابهم برؤیة أنفسهم، و تسبیحهم عن مرتبة4 من هو أکمل منهم، و اطّلاعهم على نقائصه دون کمالاته.
و من هذا التنبیه یتنبّه الفطن على کلام اللّه و مراتبه، فإنّه عین المتکلّم فی مرتبة5، و معنى قائم به فی اخرى6 کالکلام النفسیّ، و أنّه مرکّب من الحروف، و معبّر بها فی عالمی المثالیّ و الحسیّ بحسبهما، کما بیّنا فی رسالتنا المسمّاة ب «کشف الحجاب عن کلام ربّ الأرباب» و اللّه أعلم.
(فلو عرفوا7 نفوسهم لعلموا، و لو علموا لعصموا).
________________________________________
(1) . کمکالمة عالم الرؤیا.
(2) . شرح ابن أبی الحدید ج 3 ص 226.
(3) . أی غیر الملائکة.
(4) . متعلّق بقوله: «احتجابهم».
(5) . أی مرتبة الذات.
(6) . فی عالم الأرواح.
(7) . أی فلو عرفوا نفوسهم و نشأتهم التی تخصّهم لعلموا أنّ ما قالوه هو النزاع مع الحقّ سبحانه، الذی هو من لوازم نشأتهم و أحکام نفوسهم. و لو علموا ذلک لعصموا من الإقدام على النزاع فإنّهم من الملائکة الذین لا یعصون اللّه ما أمرهم. فلو علموا [أنّ] ما قالوه نزاع مع اللّه سبحانه و عصیان لأمره، ما وقع منهم ذلک القول و إنّما وقع منهم لذهولهم عن هذا المعنى. - - و أیضا لیس من مقتضى الإنصاف إذا اطّلع أحد على أمر مذموم فی نفسه أن یطعن به غیره و یجرحه (جامی).
جلد: 1، صفحه: 260
أی لو عرفوا ذواتهم و حقائقهم لعلموا لوازمها: من کمالاتها، و نقائصها، و عدم علمها بمرتبة الإنسان الکامل، و بأنّ للّه تعالى أسماء ما تحقّقوا بها، و لو علموا ذلک لعصموا من نقائص الجرح لغیرهم و تزکیة أنفسهم.
و لمّا کان العلم الیقینیّ موجبا لخلاص النفس عن الوقوع فی المهالک غالبا، قال - رضى اللّه عنه -: (و لو علموا لعصموا).
- و أیضا لیس من مقتضى الإنصاف إذا اطّلع أحد على أمر مذموم فی نفسه أن یطعن به غیره و یجرحه (جامی).