شرح القیصری علی فصوصالحکم (حسنزاده الآملی):
(فسرت الشهوة4 و5 فی مریم6، و خلق جسم عیسى من ماء محقّق من مریم،
________________________________________
(4) . اعلم أنّ النفخ الجبرئیلی له حیثیتان: إحداهما جهة حمله کلمة اللّه و نقله إیّاها إلى مریم، و هی الصادرة عنه من حیث صورته الوجودیّة الملکیّة، و الأخرى جهة بخاریّته و سرایة رطوبته منها فی مریم، و هی الصادرة عنه من حیث صورته الکونیّة و هذه الجهة هی المشار إلیها فی نظمه المصدّر به الفصّ، و إلیه أشار بقوله: فسرت الشهوة (ص).
(5) . اعلم أنّ أکثر هیجان الشهوة فی النساء وقت النقاء من الحیض و کان انتباذ مریم علیها السّلام من قومها للاغتسال وقت انقطاع الدم، فکان الوقت وقت غلبة الشهوة و دنوّ جبرئیل علیه السّلام منها فی صورة الشابّ الحسن الوجه، و تصوّرها أنّه وقت إنجاز وعد ربّها لِأَهَبَ لَکِ غُلاٰماً زَکِیًّا فاجتمعت الأسباب الموافقة لما قدّر اللّه من غلبة الشهوة و تمنّی ما بشّر اللّه بها و فرح بمداناة الشابّ الملیح، فتحرّکت الشهوة کما فی الاحتلام بعینه، فاحتملت و جرى ماؤها مع النفخ إلى الرحم النقیّ الطاهر فعلقت، و خلق من ماء محقّق من مریم و من ماء متوهّم متخیّل من نفخ جبرئیل؛ لأنّ النفخ من الحیوان رطب فیه أجزاء لطیفة مائیّة بالفعل مع أجزاء هوائیّة سریعة المصیر إلى الماء، فاجتمع الماءان: المحقّق و المتکوّن بتوهّمهما من مادّة النفخ فتکوّن جسم عیسى علیه السّلام (ق).
(6) . بذلک النفخ الحاصل من الصورة الاعتدالیّة البشریّة تمثّلا عند انبساطها (ص).
جلد: 2، صفحه: 921
و من ماء متوهّم من جبرئیل سرى فی رطوبة ذلک النفخ من الجسم، لأنّ النفخ من الجسم الحیوانی رطب لما فیه1 من رکن الماء).
اعلم، أنّ للشهوة روحا معنویا و هی المحبة الذاتیة التی کانت سببا لوجود العالم کما قال: «فأحببت أن اعرف2... الخ»، فلمّا تعلّق ارادة اللّه بایجاد عیسى علیه السّلام من مریم، تحرّکت الشهوة الکامنة فیها بأمر اللّه، و نفخ الروح الأمین - حین تمثله بالصورة البشریّة - فیها ماء یشبه البخار؛ فإنّ فی النفس أجزاء صغارا مائیة مختلطة بالأجزاء الهوائیّة، فخلق جسم عیسى من ماء محقّق من مریم و من ماء متوهّم من جبرئیل.
و إنّما جعله متوهّما؛ لأنّ النافخ روح متمثل و المنفوخ أیضا معنى جزئی، تمثّل بصورة البخار الحسّی فی العالم المثالی.
و من شأن الوهم إدراک المعانی الجزئیّة، فکان متوهّما لا محسوسا محضا، و لا معقولا صرفا.
و أیضا أنّ مریم لمّا شاهدت عرفا أنّ الانسان لا یتولّد إلاّ من منی الرجل و المرأة، توهّمت أنّ لهذا المتمثل ماء کماء الرجل المولّد للولد، فتأثّرت تأثرا تامّا بوهمها فحصل جسم عیسى.
فعلى الأوّل: تکوّن جسمه منهما.
و على الثانی: تکوّن من الماء المحقّق، و الماء المتوهّم کالشرط لذلک التکوّن، و أطلق التکوّن منهما مجازا.
فإن قلت: کیف یمکن حصول الولد من ماء الأنثى وحده، و لیس لها حرارة تامّة صالحة للتولید3، و هی من شروط التکوین؟!
________________________________________
(1) . أی فی النفخ الذی هو الهواء المتحرّک تکون رکن الماء، أی الرطوبة، و الرطوبة تکون أصلا و ظاهرا فی الماء بخلاف برودته، فوجد الماء من هذا التوهّم فی مریم علیها السّلام فخلق عیسى علیه السّلام من المائین أو المراد أنّه علیه السّلام خلق من ماء محقّق و من النفخ الذی یتوهّم أنّه ماء لرطوبة النفخ.
(2) . جامع الأسرار و منبع الأنوار ص 159، 102؛ أسرار الشریعة و أطوار الطریقة و أنوار الحقیقة ص 45.
(3) . قال الشیخ الرئیس أبو علی سینا رحمه اللّه فی الشفاء: «لیس للمرأة بالحقیقة منیّ و إنّ مادّة المرأة التی تسمّى منّیا لیس فیها قوّة مولّدة بل متولّدة...».
الشفاء ج 1 ص 432، فصل 3 مقاله 9.
جلد: 2، صفحه: 922
و أیضا منی الرجل کالبذر الذی به یتولّد الولد، فعند عدمه لا یمکن حصول الولد!.
قلت: لم لا یجوز أن یفیض علیها عند ظهور الروح الأمین عندها من اللّه تلک الحرارة الغریزیّة الصالحة للتولید، خصوصا عند ارادة الحقّ تعالى منها ذلک، و قد قال رسول اللّه صلّى اللّه علیه و آله و سلم: «إذا أراد اللّه بعبد خیرا هیّأ أسبابه» بل فی قدرة القادر المطلق أن یوجد من غیر وجود الوالدین کآدم و عزیر، و من غیر وجود المرأة کایجاد حواء من آدم.
و کون منی الرجل کالبذر لا ینافی أن یکون منی المرأة أیضا ذلک البذر، و لا دلیل لأحد على عدمه، بل الدلیل ثابت على وجوده، هو أنّ لنفس کلّ منهما قوّة ما یولّد المثل، فالمنی الّذی حصل منها إن لم یکن صالحا لتولید المثل لا یکون فیه تلک القوّة، غایة ما فی الباب أنّ تلک القوّة فی نفس الرجل أقوى.
و قد تکون نفس المرأة أقوى تأثیرا من نفوس کثیرة من الرجال، خصوصا إذا صارت مرآة للتجلّیات الإلهیّة، فإذا أرادت النفس التی هذا شأنها حصول النتیجة أثّرت فی بدنها، فحصلت الحرارة الغریزیة الصالحة للتولید، کما مرّ «أنّ العارف بهمّته یخلق ما یشاء لکونه متّصفا بالصفات الإلهیّة».
و العادة التی هی السنة الإلهیّة لا تمنع القدرة الخارقة لها، فبولادة عیسى من غیر أب ثبتت1 الأقسام الأربعة التی للولادة و هی حصول الولد من غیر أبوین2، و حصوله بهما، و بالذکر وحده3، و بالانثى وحدها4، فسبحان الّذی هو على کلّ شیء قدیر.
(فتکوّن جسم عیسى5 من ماء متوهّم و ماء محقّق).
________________________________________
(1) . خ ل: تمّت.
(2) . آدم علیه السّلام.
(3) . کحوّاء علیها السّلام.
(4) . کعیسى علیه السّلام.
(5) . إن قیل: إنّما یکون الماء متوهّما إذا لم یکن له صورة فی العین، و حیث بیّن أنّ النفخ من الجسم الرطب الحیوانی مشتمل على رکن الماء بالفعل کیف یکون متوهّما؟
قلنا: إنّ الماء و إن کان له وجود عینی و صورة شخصیّة فی النفخ المذکور، و لکن من حیث إنّه یصلح لأن یکون مبدأ لتکوّن جسم إنسانىّ هو معنى جزئیّ أنّما یدرکه الوهم، بل الوهم هو الذی حصّل للماء المذکور ذلک المعنى، على ما لا یخفى.
فهذا الوهم من مریم علیها السّلام لا من جبرئیل، کما توهّمه البعض بأنّه سلطان العناصر؛ لأنّه لو کان کذلک حصل بسلطنته ذلک الماء محقّقا لا متوهّما، و لا یطلق على الملک التوهّم إلاّ بضرب من التمحّل (ص).
جلد: 2، صفحه: 923
قوله: (و خرج على صورة البشر1 من أجل أمّه، و من أجل تمثّل جبرئیل فی صورة البشر، حتّى لا یقع التکوین فی هذا النّوع الانسانی إلاّ على الحکم المعتاد2).
جواب سؤال مقدّر، و هو قول القائل: لمّا کان النافخ جبرئیل و الولد سرّ أبیه، کان الواجب أن یظهر عیسى على صورة الروحانیین، فقال: إنّما کان على صورة البشر؛ لأنّ الماء المحقّق کان من امّه و هی بشر، و لأجل تمثّل جبرئیل عند النفخ بالصورة البشریّة، و الصور التی تشهدها المرأة و تتخیّلها حال المواقعة لها تأثیر عظیم فی صورة الولد، حتى قیل: إنّ امرأة ولدت ولدا صورته صورة البشر و جسمه جسم الحیة، و لمّا سئل عنها أخبرت بأنّها حین المواقعة رأت حیة.
ثمّ علّل الشیخ تمثل جبرئیل بصورة البشر بقوله: (حتّى لا یقع التکوین) أی: الایجاد فی هذا النّوع إلاّ على السنّة المعتادة.
و أیضا الصورة الانسانیة هی أشرف الصور، و أیضا3 لو کان على صورة غیرها لما حصلت المناسبة بینه و بین العباد المبعوث الیهم، لکنّه واجب أن یخلق علیها للدعوة، کما قال: وَ لَوْ جَعَلْنٰاهُ مَلَکاً لَجَعَلْنٰاهُ رَجُلاً وَ لَلَبَسْنٰا عَلَیْهِمْ مٰا یَلْبِسُونَ4.
فخرج عیسى5 یحیی الموتى لأنّه روح إلهی6 و7، و کان الاحیاء للّه و النفخ
________________________________________
یکون مبدأ لتکوّن جسم إنسانىّ هو معنى جزئیّ أنّما یدرکه الوهم، بل الوهم هو الذی حصّل للماء المذکور ذلک المعنى، على ما لا یخفى.
فهذا الوهم من مریم علیها السّلام لا من جبرئیل، کما توهّمه البعض بأنّه سلطان العناصر؛ لأنّه لو کان کذلک حصل بسلطنته ذلک الماء محقّقا لا متوهّما، و لا یطلق على الملک التوهّم إلاّ بضرب من التمحّل (ص).
(1) . دون الملک (جامی).
(2) . أی الذی جرت به العادة غالبا، و هو تولّده من شخصین إنسانیّین (جامی).
(3) . أی و إنّما کان على صورة البشر لأنّه لو کان على صورة....
(4) . الأنعام (6):9.
(5) . بحیث کان یحیی الموتى (جامی).
(6) . و من خصائص الروح الإحیاء (جامی).
(7) . کما سبق بیانه من أنّ معنویّة تلک الکلمة و روحها أنّما حصل من الحضور الذی حصل لمریم علیها السّلام مع اللّه بجمعیّة منها تامّة عند رؤیتها الصورة البشریّة فى أیّام انتباذها من القوم مکانا شرقیّا، یعنى أیّام نقائها من الحیض، فإنّ فیها مزید هیجان لشهوة النسوان و زمان وقوعها فی مکان یشرق فیها نیّر الإظهار و الإشعار.
ثمّ إنّ أمر التوهّم و التحقّق - اللّذین فی أصل خلقة الکلمة العیسویة - لهما دخل فی سائر أحکامها؛ و لذلک قال: و کان الإحیاء للّه و النفخ لعیسى علیه السّلام (ص).
جلد: 2، صفحه: 924
لعیسى، کما کان النفخ لجبرئیل و الکلمة للّه لمّا کان وجود عیسى علیه السّلام بالنفخ الجبرئیلی بلا واسطة أب بشری، و روحه أیضا من الحضرة الإلهیّة بلا واسطة روح من الأرواح أو اسم من الأسماء، حصل فی الوجود الخارجی متّصفا بالصفة الإلهیّة، و هو احیاء الموتى، لغلبة لاهوته على ناسوته و روحانیته على جسمانیته، حتّى قیل فیه: إنّه «روح اللّه»، و لذلک ارتفع إلى السماء، مقام الملائکة.
و إنّما أضاف الاحیاء إلى اللّه و النفخ لعیسى و إن کان فی الظاهر لا یحصل إلاّ منه؛ لأنّ الصفات الکمالیة بالأصالة للّه و بالتبعیة لغیره، لذلک أضاف «النفخ» إلى جبرئیل، و أضاف «کلمته» إلى اللّه.